رسالة الخليج
مهزلة ثقافية اسمها «مهرجان أمير الشعراء»
ها هي أبوظبي من خلال "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث"، المؤسسة الثقافية الأوحد القيمة على تلميع الإمارة النفطية بغية تصديرها كواجهة للثقافة في العالم العربي، تجرّد الراحل أحمد شوقي من إمارة الشعر العربي، هو الذي لم يسع إلى اللقب وإن سعى اللقب إليه، واعدة بمنح اللقب مع أكداس من الدراهم لشاعر عربي جديد يتم اكتشافه كما يُكتشف حقل نفطي جديد، أو كما يكتُشف أشباه النجوم في برامج تلفزيون الواقع التي جعلت من الابتذال قيمة يُعتدّ بها ويُتهافت عليها. كل هذا ضمن مسعى الإمارة الحثيث لانتزاع لقب "عاصمة الثقافة" بأي ثمن، حتى وإن اقتضى الأمر حرق مراحل لا من التطور التاريخي فحسب، وإنما من الارتقاء الحضاري والبشري، متناسين أن هذا الارتقاء لا يتأتّى إلا على مدى حقب من التفاعل وليد المجتمع وتشابكاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية "الصحية" حتى في صداميتها، وليس من الاتّجار بالقيم الثقافية واسترخاص الذائقة وابتذال جوانب الثقافة وتسطيحها وفصلها عن جذورها وسلخها عن تاريخها بصورة متعسفة والتعاطي معها باعتبارها "سلعة" تخضع لسعر السوق. وأي سوق! وكانت "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث"، ممثلة بمديرها العام محمد خلف المزروعي، قد زفّت لعشاق الشعر في مشارق الأرض ومغاربها، رغم اختلاف هؤلاء العشاق على شكل "الحبيبة" (أي شكل القصيدة)، نبأ انطلاق "احتفالية" أمير الشعراء ضمن هرج ومرج فعاليات معرض أبوظبي للكتاب في إبريل الماضي، على أن الصورة النهائية للمسابقة / المهرجان لم تتبلور إلا مؤخراً في مؤتمر صحفي حُشدت له تغطية إعلامية أنذرت بأن الحدث من شأنه خلق حالة شعرية لا سابق لها تتخطى الهدف المعلن، على سذاجته، ألا وهو إعادة الاعتبار للشعر، ديوان العرب! وبحسب الأهداف الرنانة الطنانة، ذات الوقع المحبب على الأذن الشغوف بالأدب المدفوع ثمنه، لفتت "البروباغندا" الخاصة بمسابقة إمارة الشعر إلى الأهداف المرتجاة من هكذا فعالية. فأشارت إلى أنها تسعى إلى "النهوض بشعر العربية الفصحى والارتقاء به وبشعرائه وتثبيته على واجهة الأدب العربي" (لاحظوا الوقع المهيب لهذه الكلمات حتى لكأن لها صوتاً يشبه صوت قرع الطبول إيذاناً ببدء معركة)، كما تسعى إلى "إحياء الدور الإيجابي للشعر العربي في الثقافة العربية والإنسانية وإبرازه كرسالة محبة وبشير سلام" (وهو هدف مصوغ بعبارات لا تقل فخامة عن سابقه)، بالإضافة إلى "استقطاب أكبر عدد ممكن من شعراء العربية الفصحى مشكّلين محكاً ثقافياً فاعلاً على أرض أبوظبي عاصمة الثقافة العربية"، و"اكتشاف المواهب العربية التي لم تتح لها فرصة الظهور الإعلامي مسبقاً وتقديمها بشكل لائق غبر شاشة قناة أبوظبي" (كي لا تظل الشاشة حكراً بالتالي على نجوم الخلاعة من رقص وغناء وما لفّ لفهما)، و"التعرف عن قرب على هموم وشجون الكتاب العربي"، و"إثراء المكتبة الثقافية العربية بكتب وإصدارات خاصة بالشعر الفصيح بعد أن تقلص عددها طبقاً للإحصائيات والأرقام" (هنا لا توجد إشارة إلى مصدر هذه المعلومة كما لا يتم إيراد أي إحصائيات وأرقام. مما يعني أن واضع البروباغندا نسي أو تناسى أن ثمة "إسهالاً" في كتابة الشعر الفصيح، الذي قد لا يكون ذا إحساس فصيح بالضرورة، واستسهالاً في نشره!) أما الهدف الأخير الذي يكاد يكون الأخطر، الذي يهدد قامات الشعر في وطننا العربي بالخسف بكل تأكيد فهو "تغيير خارطة الأدب العربي بعد مشاكلات الإعلام الحديث وإعادة ترتيب أوراق الساحة الشعرية الفصحى بما يضمن لها رجالاً قادرين على حمل راية الفكر العربي الأصيل". فلنحمد الله ونسبح بحمده في المنام قبل القيام لأن سطوة المال ستكون قادرة أخيراً على تغيير خارطة الأدب العربي، إذ أجهضت رؤيانا المستقاة من أحلامنا الدؤوب، وقد استحالت هذه الأحلام أبقاراً عجافاً، وفشلت نضالاتنا الفردية المسلحة بالكلمة، التي تظل فقيرة وجائعة رغم غناها، في "توفير" رجال أشداء في الشعر قادرين على حمل راية الفكر العربي الأصيل التي سقطت، على ما يبدو، في إحدى معارك الشعر المحتدمة. وها قد جاء البترودولار ليعيد صنع الرجال كما يعيد صوغ الشعر! على أن المهزلة تمضي أبعد في تحديد معايير الشعر "الفصيح" لتقتصر المشاركات على "قصيدة الفصحى العمودية التقليدية، والشعر الحرّ أو قصيدة التفعيلة، ولا تقبل قصيدة النثر". وهكذا، شاء القائمون على المسابقة، شطب قصيدة النثر، واجتثاث مرحلة تاريخية شهدت، ولم تزل، سجالاً فكرياً أغنى الساحة الشعرية في الوطن العربي، رغم ما علق بها من أصوات زاعقة ملأت الساحة ضجيجاً، لبعض الوقت، ورفدها بعافية كتابية من نوع ما، ذلك أن ما تواتر في خضم تفاعلات قصيدة النثر وما برز منها ليبقى ومن ثم يُبنى عليه أثبت، قطعاً، أن البقاء هو للحالة الشعرية الأصلح، بمنطق الأجمل وبمنطق الكينونة القابلة للحياة. المفاجأة في المؤتمر الصحفي الذي عقد لكشف تفاصيل المهرجان الشعري التلفزيوني ما أُعلن بشأن تقدّم أكثر من 5400 "متشاعر" من 23 دولة عربية وأجنبية، حيث يوجد المهاجرون العرب، للتنافس على لقب "أمير الشعراء"، الأمر الذي يجعلنا نتوجه إلى الخالق بآيات الشكر والثناء لنفح روح الخلق الشعري في نفوس الآلاف التواقة من بني لغة الضاد؛ ذلك أنه إذا كانت المسابقة، في دورتها الأولى وخلال وقت قياسي من الإعلان عنها قد نجحت في استدراج أكثر من خمسة آلاف فكيف سيكون الحال حين تستحيل المسابقة إلى "ظاهرة ثقافية" تنجح في فرض نفسها غصباً عن أنف تاريخ طويل من السجال الشعري الذي لم يُنهك تماماً بسطوة المال؟ نستطيع أن نحلم إذن أنه سيكون لكل مواطن عربي شاعر، كما يوجد حالياً مغن "رقيع" وخليع لكل مواطن! على أن لجنة تحكيم المسابقة (وهي مؤلفة بالمناسبة من أسماء جلّها على هامش النقد كما هي على هامش الشعر) استطاعت، بجهد جهيد كما أعلنت، فرز كافة المساهمات التي تلقتها وفلترتها إلى 300، قبل تصفيتها في مرحلة الفرز الأخيرة إلى 35 مساهمة لـ35 شاعراً، هم أمل الأمة الذين سينقذون الشعر العربي من رقدته ورقاده، وسيعيدون له شرعيته التي اغتصبها الشعراء الذين تغصّ بهم وبأصواتهم ساحة الشعر الحالية "العقيمة"! لكن اللعبة "تحلوّ" في الخامس عشر من يونيو الجاري عند انطلاق مسابقة "أمير الشعراء" تلفزيونياً مع بث "المنافسات الشعرية" على الهواء مباشرة عبر تلفزيون أبوظبي بواقع حلقة أسبوعياً على مدى عشرة أسابيع، يصوّت خلالها جمهورنا العربي الواعي الذي لا يعرف العصبية كما لا يعرف الجهل، المطلّع تمام الإطلاع على واقع الشعر العربي المؤلم، لاختيار الأفضل (طبعاً من خلال الالتزام بمعايير الكلمة الأصيلة لا بمعايير القبيلة أو الجنسية!!) قبل أن يتأهل خمسة من أصل الـ35 متشاعراً، يشكّلون "صفوة فرسان الشعر الفصيح" إلى الحلقة النهائية، التي ستشهد ولا شك احتداماً وقصفاً شعرياً لا سابق له ليقول جمهورنا العربي الذي نفخر بسداد حكمه وصواب منطقه وسوية رؤيته كلمته، جنباً إلى جنب مع كلمة اللجنة التي لا تثق على ما يبدو تمام الثقة برجاحة وحكمة وصوابية حُكم جمهورنا العربي ذي العلم الوفير والعقل السديد، بحيث يتم تتويج "أمير الشعراء" بالاعتماد على تصويت كل من الجمهور ولجنة التحكيم، علماً بأن لقب "أمير الشعراء" لقب ثمين، لا ينطوي على قيمة معنوية فقط، وإنما يقدر بمليون درهم إمارتي للشاعر الذي ينتزع اللقب، لكن المليون يظل مبلغاً زهيداً بالنظر إلى أن أمير الشعر الذي اختارته جحافل الأمة العربية التواقة للشعر هو بمثابة المسيح الشعري المنتظر، "مخلص" الأمة من تدهورها الشعري. أما الفائز الثاني والثالث في التصفية النهائية للتصويت الجماهيري التلفزيوني فهما وإن لن يتوجا بالإمارة فسيخرج الثاني بنصف مليون درهم والثالث بـ300 ألف درهم، في حين ينال صاحب المركز الرابع 200 ألف درهم و100 ألف درهم ترضية لصاحب المركز الخامس! وإذن فلنبدأ من الآن بشحن بطاقات هواتفنا النقالة وتجنيد كافة الاتصالات التكنولوجية المتاحة لنا تمهيداً لإعطاء صوتنا لشاعر الأمة المرتقب في مبارزة شعرية قد ترفع قامات جديدة، كما قد تخسف قامات قديمة، مثل محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وأنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم من "أشاوس" الشعر العربي ممن فرضوا أنفسهم بسطوة الشعر.. الشعر، لا بسطوة تلفزيون الواقع "السحري"، ففاتهم أن تنتخبهم جماهير الأمة العربية تلفزيونياً، أو يتم الاقتراع عليهم بطريقة ديمقراطية في ظاهرة قد تتحول إلى ما يشبه "دوري الشعر" على غرار "دوري الكرة"! هذا وتأتي مهزلة "مهرجان أمير الشعراء" تكملة لمهزلة سابقة تحت عنوان "شاعر المليون"، وذلك حين نظمت "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث" قبل شهرين مسابقة لاختيار أمير الشعر النبطي في الخليج والوطن العربي، بهدف توسيع قاعدة الشعر النبطي في المنطقة العربية، من منطلق أن الشعر النبطي جزء أصيل من تراث المنطقة وداخل في صلب الذائقة الأدبية لأبناء المنطقة، كما أنه أحد مقومات الوجدان الشعبي ومن ركائز التراث المحكي الخليجي. وهو منطلق يبدو صحيحاً ومشروعاً إذا ما تُرجمتْ هذه الأهداف في إطار يكفل التعبير عنها بأصالة ترتقي وأصالة القيمة الشعرية المعنية، بعيداً عن المظاهر الاحتفالية التي كرّست اغتراب الخليجي والبدوي عموماً عن إرثه بدل أن تدنيه منه كما حدث؛ ذلك أن "شاعر المليون" كبرنامج منافسات تلفزيوني أجّج عصبية غير مسبوقة، سواء لجهة نظم الشعر النبطي الذي احتفى بشرف قبيلة على حساب شرف قبيلة أخرى، أو لجهة استقبال الشعر من قبل جمهور "قِبَلي" شوفيني متعصب، وهو ما تبدّى من "المسجات" التي تبادلها المصوتون، كشتائم وشتائم مضادة، عبر الفضائيات أو المعارك الكلامية التي شهدتها بعض منتديات الانترنت، التي كشفت عن ولاء أعمى وأحمق للقبيلة من منظور ضيّق له علاقة بأي شيء إلا الشعر، نبطياً كان أم فصيحاً! وإذن.. إلى أولئك الذين يبكون ويتباكون على برامج مثل "سوبر ستار" و"ستار أكاديمي" و"ألبوم" و"نجم الخليج" وغيرها من برامج الهواة غير الواقعية، التي خرّجت، ولا تزال، نجوماً يوميين في فنّ الغناء الهابط، ها قد أتاكم "سوبر ستار الشعر العربي"، الذي يعد بخلاعة أقل ربما، لكن هذا لا يعني أنه سيجنّبكم السقوط إلى أعلى. إلى أولئك المؤمنين الذين لا يزالون يقبضون على الكلمة كالقابض على الجمر، وقد احترقوا بلهيبها شكلاً وقيمة ومعنى، اسمحوا لنا أن نزعزع إيمانكم.. اسمحوا لنا أن نستل حتى الأمل ذا الضوء الخافت في نفوسكم.. اسمحوا لنا ألا نطمئنكم على غدكم الشعري القادم.. من اليوم فصاعداً، لم يعد الشعر بخير!
ها هي أبوظبي من خلال "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث"، المؤسسة الثقافية الأوحد القيمة على تلميع الإمارة النفطية بغية تصديرها كواجهة للثقافة في العالم العربي، تجرّد الراحل أحمد شوقي من إمارة الشعر العربي، هو الذي لم يسع إلى اللقب وإن سعى اللقب إليه، واعدة بمنح اللقب مع أكداس من الدراهم لشاعر عربي جديد يتم اكتشافه كما يُكتشف حقل نفطي جديد، أو كما يكتُشف أشباه النجوم في برامج تلفزيون الواقع التي جعلت من الابتذال قيمة يُعتدّ بها ويُتهافت عليها. كل هذا ضمن مسعى الإمارة الحثيث لانتزاع لقب "عاصمة الثقافة" بأي ثمن، حتى وإن اقتضى الأمر حرق مراحل لا من التطور التاريخي فحسب، وإنما من الارتقاء الحضاري والبشري، متناسين أن هذا الارتقاء لا يتأتّى إلا على مدى حقب من التفاعل وليد المجتمع وتشابكاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية "الصحية" حتى في صداميتها، وليس من الاتّجار بالقيم الثقافية واسترخاص الذائقة وابتذال جوانب الثقافة وتسطيحها وفصلها عن جذورها وسلخها عن تاريخها بصورة متعسفة والتعاطي معها باعتبارها "سلعة" تخضع لسعر السوق. وأي سوق!
وكانت "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث"، ممثلة بمديرها العام محمد خلف المزروعي، قد زفّت لعشاق الشعر في مشارق الأرض ومغاربها، رغم اختلاف هؤلاء العشاق على شكل "الحبيبة" (أي شكل القصيدة)، نبأ انطلاق "احتفالية" أمير الشعراء ضمن هرج ومرج فعاليات معرض أبوظبي للكتاب في إبريل الماضي، على أن الصورة النهائية للمسابقة / المهرجان لم تتبلور إلا مؤخراً في مؤتمر صحفي حُشدت له تغطية إعلامية أنذرت بأن الحدث من شأنه خلق حالة شعرية لا سابق لها تتخطى الهدف المعلن، على سذاجته، ألا وهو إعادة الاعتبار للشعر، ديوان العرب!
وبحسب الأهداف الرنانة الطنانة، ذات الوقع المحبب على الأذن الشغوف بالأدب المدفوع ثمنه، لفتت "البروباغندا" الخاصة بمسابقة إمارة الشعر إلى الأهداف المرتجاة من هكذا فعالية. فأشارت إلى أنها تسعى إلى "النهوض بشعر العربية الفصحى والارتقاء به وبشعرائه وتثبيته على واجهة الأدب العربي" (لاحظوا الوقع المهيب لهذه الكلمات حتى لكأن لها صوتاً يشبه صوت قرع الطبول إيذاناً ببدء معركة)، كما تسعى إلى "إحياء الدور الإيجابي للشعر العربي في الثقافة العربية والإنسانية وإبرازه كرسالة محبة وبشير سلام" (وهو هدف مصوغ بعبارات لا تقل فخامة عن سابقه)، بالإضافة إلى "استقطاب أكبر عدد ممكن من شعراء العربية الفصحى مشكّلين محكاً ثقافياً فاعلاً على أرض أبوظبي عاصمة الثقافة العربية"، و"اكتشاف المواهب العربية التي لم تتح لها فرصة الظهور الإعلامي مسبقاً وتقديمها بشكل لائق غبر شاشة قناة أبوظبي" (كي لا تظل الشاشة حكراً بالتالي على نجوم الخلاعة من رقص وغناء وما لفّ لفهما)، و"التعرف عن قرب على هموم وشجون الكتاب العربي"، و"إثراء المكتبة الثقافية العربية بكتب وإصدارات خاصة بالشعر الفصيح بعد أن تقلص عددها طبقاً للإحصائيات والأرقام" (هنا لا توجد إشارة إلى مصدر هذه المعلومة كما لا يتم إيراد أي إحصائيات وأرقام. مما يعني أن واضع البروباغندا نسي أو تناسى أن ثمة "إسهالاً" في كتابة الشعر الفصيح، الذي قد لا يكون ذا إحساس فصيح بالضرورة، واستسهالاً في نشره!) أما الهدف الأخير الذي يكاد يكون الأخطر، الذي يهدد قامات الشعر في وطننا العربي بالخسف بكل تأكيد فهو "تغيير خارطة الأدب العربي بعد مشاكلات الإعلام الحديث وإعادة ترتيب أوراق الساحة الشعرية الفصحى بما يضمن لها رجالاً قادرين على حمل راية الفكر العربي الأصيل". فلنحمد الله ونسبح بحمده في المنام قبل القيام لأن سطوة المال ستكون قادرة أخيراً على تغيير خارطة الأدب العربي، إذ أجهضت رؤيانا المستقاة من أحلامنا الدؤوب، وقد استحالت هذه الأحلام أبقاراً عجافاً، وفشلت نضالاتنا الفردية المسلحة بالكلمة، التي تظل فقيرة وجائعة رغم غناها، في "توفير" رجال أشداء في الشعر قادرين على حمل راية الفكر العربي الأصيل التي سقطت، على ما يبدو، في إحدى معارك الشعر المحتدمة. وها قد جاء البترودولار ليعيد صنع الرجال كما يعيد صوغ الشعر!
على أن المهزلة تمضي أبعد في تحديد معايير الشعر "الفصيح" لتقتصر المشاركات على "قصيدة الفصحى العمودية التقليدية، والشعر الحرّ أو قصيدة التفعيلة، ولا تقبل قصيدة النثر". وهكذا، شاء القائمون على المسابقة، شطب قصيدة النثر، واجتثاث مرحلة تاريخية شهدت، ولم تزل، سجالاً فكرياً أغنى الساحة الشعرية في الوطن العربي، رغم ما علق بها من أصوات زاعقة ملأت الساحة ضجيجاً، لبعض الوقت، ورفدها بعافية كتابية من نوع ما، ذلك أن ما تواتر في خضم تفاعلات قصيدة النثر وما برز منها ليبقى ومن ثم يُبنى عليه أثبت، قطعاً، أن البقاء هو للحالة الشعرية الأصلح، بمنطق الأجمل وبمنطق الكينونة القابلة للحياة.
المفاجأة في المؤتمر الصحفي الذي عقد لكشف تفاصيل المهرجان الشعري التلفزيوني ما أُعلن بشأن تقدّم أكثر من 5400 "متشاعر" من 23 دولة عربية وأجنبية، حيث يوجد المهاجرون العرب، للتنافس على لقب "أمير الشعراء"، الأمر الذي يجعلنا نتوجه إلى الخالق بآيات الشكر والثناء لنفح روح الخلق الشعري في نفوس الآلاف التواقة من بني لغة الضاد؛ ذلك أنه إذا كانت المسابقة، في دورتها الأولى وخلال وقت قياسي من الإعلان عنها قد نجحت في استدراج أكثر من خمسة آلاف فكيف سيكون الحال حين تستحيل المسابقة إلى "ظاهرة ثقافية" تنجح في فرض نفسها غصباً عن أنف تاريخ طويل من السجال الشعري الذي لم يُنهك تماماً بسطوة المال؟ نستطيع أن نحلم إذن أنه سيكون لكل مواطن عربي شاعر، كما يوجد حالياً مغن "رقيع" وخليع لكل مواطن!
على أن لجنة تحكيم المسابقة (وهي مؤلفة بالمناسبة من أسماء جلّها على هامش النقد كما هي على هامش الشعر) استطاعت، بجهد جهيد كما أعلنت، فرز كافة المساهمات التي تلقتها وفلترتها إلى 300، قبل تصفيتها في مرحلة الفرز الأخيرة إلى 35 مساهمة لـ35 شاعراً، هم أمل الأمة الذين سينقذون الشعر العربي من رقدته ورقاده، وسيعيدون له شرعيته التي اغتصبها الشعراء الذين تغصّ بهم وبأصواتهم ساحة الشعر الحالية "العقيمة"! لكن اللعبة "تحلوّ" في الخامس عشر من يونيو الجاري عند انطلاق مسابقة "أمير الشعراء" تلفزيونياً مع بث "المنافسات الشعرية" على الهواء مباشرة عبر تلفزيون أبوظبي بواقع حلقة أسبوعياً على مدى عشرة أسابيع، يصوّت خلالها جمهورنا العربي الواعي الذي لا يعرف العصبية كما لا يعرف الجهل، المطلّع تمام الإطلاع على واقع الشعر العربي المؤلم، لاختيار الأفضل (طبعاً من خلال الالتزام بمعايير الكلمة الأصيلة لا بمعايير القبيلة أو الجنسية!!) قبل أن يتأهل خمسة من أصل الـ35 متشاعراً، يشكّلون "صفوة فرسان الشعر الفصيح" إلى الحلقة النهائية، التي ستشهد ولا شك احتداماً وقصفاً شعرياً لا سابق له ليقول جمهورنا العربي الذي نفخر بسداد حكمه وصواب منطقه وسوية رؤيته كلمته، جنباً إلى جنب مع كلمة اللجنة التي لا تثق على ما يبدو تمام الثقة برجاحة وحكمة وصوابية حُكم جمهورنا العربي ذي العلم الوفير والعقل السديد، بحيث يتم تتويج "أمير الشعراء" بالاعتماد على تصويت كل من الجمهور ولجنة التحكيم، علماً بأن لقب "أمير الشعراء" لقب ثمين، لا ينطوي على قيمة معنوية فقط، وإنما يقدر بمليون درهم إمارتي للشاعر الذي ينتزع اللقب، لكن المليون يظل مبلغاً زهيداً بالنظر إلى أن أمير الشعر الذي اختارته جحافل الأمة العربية التواقة للشعر هو بمثابة المسيح الشعري المنتظر، "مخلص" الأمة من تدهورها الشعري. أما الفائز الثاني والثالث في التصفية النهائية للتصويت الجماهيري التلفزيوني فهما وإن لن يتوجا بالإمارة فسيخرج الثاني بنصف مليون درهم والثالث بـ300 ألف درهم، في حين ينال صاحب المركز الرابع 200 ألف درهم و100 ألف درهم ترضية لصاحب المركز الخامس!
وإذن فلنبدأ من الآن بشحن بطاقات هواتفنا النقالة وتجنيد كافة الاتصالات التكنولوجية المتاحة لنا تمهيداً لإعطاء صوتنا لشاعر الأمة المرتقب في مبارزة شعرية قد ترفع قامات جديدة، كما قد تخسف قامات قديمة، مثل محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وأنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم من "أشاوس" الشعر العربي ممن فرضوا أنفسهم بسطوة الشعر.. الشعر، لا بسطوة تلفزيون الواقع "السحري"، ففاتهم أن تنتخبهم جماهير الأمة العربية تلفزيونياً، أو يتم الاقتراع عليهم بطريقة ديمقراطية في ظاهرة قد تتحول إلى ما يشبه "دوري الشعر" على غرار "دوري الكرة"!
هذا وتأتي مهزلة "مهرجان أمير الشعراء" تكملة لمهزلة سابقة تحت عنوان "شاعر المليون"، وذلك حين نظمت "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث" قبل شهرين مسابقة لاختيار أمير الشعر النبطي في الخليج والوطن العربي، بهدف توسيع قاعدة الشعر النبطي في المنطقة العربية، من منطلق أن الشعر النبطي جزء أصيل من تراث المنطقة وداخل في صلب الذائقة الأدبية لأبناء المنطقة، كما أنه أحد مقومات الوجدان الشعبي ومن ركائز التراث المحكي الخليجي. وهو منطلق يبدو صحيحاً ومشروعاً إذا ما تُرجمتْ هذه الأهداف في إطار يكفل التعبير عنها بأصالة ترتقي وأصالة القيمة الشعرية المعنية، بعيداً عن المظاهر الاحتفالية التي كرّست اغتراب الخليجي والبدوي عموماً عن إرثه بدل أن تدنيه منه كما حدث؛ ذلك أن "شاعر المليون" كبرنامج منافسات تلفزيوني أجّج عصبية غير مسبوقة، سواء لجهة نظم الشعر النبطي الذي احتفى بشرف قبيلة على حساب شرف قبيلة أخرى، أو لجهة استقبال الشعر من قبل جمهور "قِبَلي" شوفيني متعصب، وهو ما تبدّى من "المسجات" التي تبادلها المصوتون، كشتائم وشتائم مضادة، عبر الفضائيات أو المعارك الكلامية التي شهدتها بعض منتديات الانترنت، التي كشفت عن ولاء أعمى وأحمق للقبيلة من منظور ضيّق له علاقة بأي شيء إلا الشعر، نبطياً كان أم فصيحاً!
وإذن.. إلى أولئك الذين يبكون ويتباكون على برامج مثل "سوبر ستار" و"ستار أكاديمي" و"ألبوم" و"نجم الخليج" وغيرها من برامج الهواة غير الواقعية، التي خرّجت، ولا تزال، نجوماً يوميين في فنّ الغناء الهابط، ها قد أتاكم "سوبر ستار الشعر العربي"، الذي يعد بخلاعة أقل ربما، لكن هذا لا يعني أنه سيجنّبكم السقوط إلى أعلى.
إلى أولئك المؤمنين الذين لا يزالون يقبضون على الكلمة كالقابض على الجمر، وقد احترقوا بلهيبها شكلاً وقيمة ومعنى، اسمحوا لنا أن نزعزع إيمانكم.. اسمحوا لنا أن نستل حتى الأمل ذا الضوء الخافت في نفوسكم.. اسمحوا لنا ألا نطمئنكم على غدكم الشعري القادم.. من اليوم فصاعداً، لم يعد الشعر بخير!