ترسم لنا القاصة التونسية الشابة حدثاً يومياً يجري صدفةً لتدلف منه إلى عالم الطفولة وعبثها البريء، وهي تتلمس وتكتشف الجسد بالتجربة والاحتكاك بين طفل وطفلة يفترقا منذ الطفولة ليلتقيا أيام الجامعة، مشعلة تلك العلاقة البريئة من خلال قبلة في أجواء مناسبة حيث يدرسان الفن المسرح والتشكيل بأجواء تعرفها القاصة طالبة كلية الفنون كما ذكرت في رسالتها التعريفية.

من النسيان تولد الذاكرة

خلود العدولي

جلس على مقعد في المحطة منتظرا قدوم الحافلة. كان يعرف بأنها ستتأخر ربع ساعة أو أكثر وسيضطر للاعتذار مجددا للأستاذ بالإضافة إلى فقدان مقدمة المحاضرة. فتح محفظته ليختار كتابا فوجد بحوزته عدة عناوين لفرجينيا وولف كان قد اقترضها من مكتبة الجامعة. تصفح رواية "الأمواج" لفترة قصيرة إلى أن سمع صوت الحافلة القادمة وهي تصدر أصواتها الاعتيادية المزعجة. لم يجد مقعدا شاغرا وتكرر يومه في إعادة ساخرة للأحداث. فكر في الامتحانات التي عليه أن يجتازها الأسبوع القادم وقرر تكريس نهاية الأسبوع للمراجعة في المكتبة. بعد دقائق، صعدت مجموعة من الفتيات إلى الحافلة. كن في حوار شيق، يتضاحكن بصوت عال مما جعل الجميع يلتفت إليهن. وقفت الفتيات في صمت مفاجئ أمام عمر مباشرة. ظل يحدق فيهن بنظرته الفارغة.

ما جدوى هذه الامتحانات التي لا تكف عن التكرار؟ ما الجديد في المنلوغ المسرحي الذي بهت يوما بعد آخر؟

اللعنة ! الشامة السوداء ! هناك على العنق الأبيض... نعم تلك صاحبة الشعر الكستنائي القصير... ذات الأقراط البيضاء المتدلية.. لديها شامة سوداء؟؟ الشامة القديمة الي تساقطت فوقها قطرات الماء وطاف حولها البخار.

اتقدت نظرته، صارت في شكل فك جائع. حاول تخبئة فضوله قليلا. فتح كتابه من جديد وهو واقف. سعل ثلاث مرات وأعاد الكتاب إلى المحفظة.. إني أجن، سأجن! إنها هي "سارة الغريبي " ذات الخمس سنوات.. إنها هي ولا احد غيرها: آه!صاحبة الجسد الصغير الأبيض. مازلت أتذكر.. كيف يمكن أن أنسى. كنا نلهو معا كل جمعة بسطول الحمام العمومي. نعبأها بالماء طيلة ساعات ونتراشق بالقطرات المدغدغة حتى نتعب. سارة الغريبي .. صديقة الطفولة الأولى وصاحبة النظرات الشقية. لقد اشتكت لي ذات مرة من شامتها السوداء وقالت :"أنظر إنها تبدو بشعة، خاصة في الضوء. حاولت إزالتها بكل ما أستطيع"

قلت "لكنها تبدو جميلة وتقول امي بأن هذه الشامات سر من أسرار الجمال القديمة. بالإضافة إلى أنها لا تؤذي "

وجد مقعدا شاغر أخيرا في الجزء الأخير من الحافلة. جلس، اتصل بصديقه سامر "هل بدأت المحاضرة؟ "لا. أظن أن الأستاذ متغيب"

"حسنا أتمنى ذلك. أنا في طريقي إلى الجامعة. أراك بعد قليل" "أنتظرك إلى اللقاء"

ما الذي تفعله سارة هنا؟ لما لم أرها منذ خمسة عشرة سنة. لما لم تراسلني عندما انتقلت إلى حي آخر. لكنها كانت في الخامسة وكنت في الخامسة أيضا! فكيف ستراسلني؟؟ لم تتكبد أمها عناء السؤال عن عائلتنا. حملت أبنائها وزوجها المقعد إلى الحي الجديد بصمت. لم أعرف حينها سبب نقلتهم المفاجئة. حدق في رقبتها.. وجهها مستدير الآن بخدود براقة.. أثدائها ممتلئة.. شامتها ازدادت سوادا.. أما شعرها فهو قصير كعادته.. شفاهها تخبرك عن تاريخ قصير من الابتسامات وتاريخ حديث من القبل.. هل يجب أن احدثها؟ ما الذي ستعتقده؟ هل سأقول لها بأننا كنا رفاق الحمام العمومي؟؟ بأننا شاهدنا أثداء النساء الضخمة وضحكنا بكل بلاهة... وبأننا غمسنا ايدينا في سطل من الماء البارد ثم سكبناه على أجسادنا في ذلك الشتاء القارس؟؟ يمكن أن أخبرها بأنني أنقذتها عندما همت بالسقوط على أرضية الحمام الزلقة وأمسكت بجسدها إلى أن سقطنا معا. ما الذي سأقوله لها! سأقدم نفسي :عمر بن حسين، طالب سنة أولى مسرح وفنون ركحية أم سأقول أني ذاك الشقي الذي لم يحب إلى الآن؟؟ لم يلمس فتاة إلى الآن! ما الذي سأقوله أيها القدر القذر؟ ما الذي يمكن أتفوه به أمام جسد قد يعرفني وشخصية قد لا تتعرف علي! كيف يمكن أن أعري شخصي أمامها دون أن تستفيق ذاتي الحقيرة من سباتها؟؟ شعرها القصير المبعثر.. مشاهد من علاقتي بمورفين الحب :مقصّف ذو أطراف متداخلة.. أنا الذي لا أدري ماالذي يجب التأكد منه في ذاتي؟؟ ما الذي يجب إصلاحه حتى أطلق هذه المشاعر المتداخلة. مشاعر مقصّفة تماما يمكن أن أحررها بمقص ذي قص مستقيم، ويمكن أترك هذه المشاعر في طولها العفوي إلى حد النطق بكل سهولة. شفتاها سراب.. لا شيء بينهما ولا شيء يتخللهما غير الفراغ.. غير الذي ينتظرني بعد النزول من هذه الحافلة. أحلامي مسرحية من سراب.. أي ركح ذاك الذي سيعري خشبته من أجلي؟؟ أي مسرح سوى طريق من العبث المستمر.. هذا مؤلم! نعم.. العجز عن الكلام مؤلم! لما لا تصدر هذه الأصوات في شكل ذبذبات حتى تتمكن سارة من سماعي؟ أثداؤها.. ما تكور من انتظارات في مخيلتي الصغيرة.. انتظارات مؤجلة.. ما الذي سأخاطبه فيها؟؟ قد يتذكرني ردفيها أكثر مما تتذكرني عيناها؟؟ قد ينبت للنهد ذاكرة وينقذني من الهزيمة أمام لعنة التذكر! ما الذي يجب أن أتذكر بالذات؟؟

وقفت الحافلة أمام حرم الجامعة، أفاق عمرمن تخيلاته على صوت سارة:"هل تدرس بهذه الجامعة؟؟"

بكل تردد: "نعم، هنا أدرس"

تابعت حديثها وهي تنزل رفقة صديقاتها الثلاث وعمر من الحافلة "هل يمكن أن تساعدنا في إيجاد المكتبة؟؟ نحن بصدد البحث عن كتاب عن الفن التشكيلي وعلاقته بالمسرح والتيارات المسرحية، مكتبتكم تحوي هذا الكتاب وقد أتينا للبحث عنه"

لم يتخلص بعد من تردده ماالذي يمكن أن يتفوه به في مثل هذا الموقف.. حسنا.. سارة هل يمكن أن امليك الكتاب سطرا.. سطرا.. تحت ماء الحنفية؟؟ او ربما يمكن أن تكوني فنا تشكيليا وأكون مسرحا.. ويتسنى لنا الوقت لتباحث علاقتنا المشتركة في رغوة الصابون؟؟يمكن كذلك أن يخرج حديثنا في شكل فقاعات مائية إذا نزلت معي للحوض.. هيا أي شيء؟؟ أي شيء يمكن أن يذكرك بي؟

"بالتأكيد.. يمكنني أيضا أن أساعدك في البحث عن الكتاب. أنا خبير في المكتبة وأقضي معظم وقتي هناك، بالإضافة إلى أنك ستدهشين عند رؤية المكتبة. إنها شاسعة وتحوي آلاف الكتب. "

"شكرا.. سيكون هذا ممتعا. لن ننسى لك هذه الخدمة لأننا بحاجة لهذا الكتاب في امتحاننا النهائي. "

"كلية الفن التشكيلي؟ أليس كذلك؟"

"نعم، انا سارة الغريبي وهؤلاء صديقاتي: ليلى، أحلام وخديجة. جميعنا طالبات في كلية الفن التشكيلي.. هل لي أن أسأل عن اسمك؟"

"آه!.. نعم.. نعم آسف.. عمر بن حسين وبطبيعة الحال أدرس المسرح والفنون الركحية. "

تقدمت المجموعة إلى بهو الجامعة حيث تقف مجموعات لا نهائية من الطلبة.. هؤلاء اللذين لا تظهر على وجههم ملامح المسرح.. ولا ملامح الممثلين.. إنهم لا يدركون شيئا عن مسرحة الحياة! عن امتصاص الحياة كخشبة ناطقة حتى! إنهم يشتغلون بدوام كامل في مكْننة المسرح سائرين على خطى أساتذتهم الأفاضل.

"يجب أن ننقسم إلى مجموعتين الآن. أنا وسارة وليلى سنبحث في الجزء الشرقي.. أحلام وخديجة يجب أن تبحثا في الجزء الغربي"

العنوان كان كالآتي "المقاربات التشكيلية في فنون المسرح" وعنواني كان سارة. ما الذي تخبئه هذه المخلوقة الصغيرة؟؟ لما لا تتوقف الذاكرة عن وصفها ك"صغيرة"!

"المكتبة شاسعة جدا ياسر. أظن أن إيجاد الكتاب قد يطلب منا عدة ساعات.. إن لم يكن اليوم بأكمله. "

"لا تقلقي.. قلت لك أنني أقضي معظم وقتي هنا.. انظري هذه الرفوف السبعة لا فائدة من البحث فيها. لقد فتشتها كتابا كتابا منذ أشهر. "

"هذا رائع. أظن أنك تعشق القراءة؟"

"نعم، صموئيل بكيت، اوسكار وايلد، شكسبير، موليار.. مسرح كما تعرفين. لكنني أعشق الفلسفة. "

ظل البحث متواصلا لعدة ساعات.. شامتها ساطعة بما أن الرفوف بيضاء.. تتعمد أحيانا الانحناء للبحث في الرفوف السفلية.. يتشكل جسدها كنصف دائرة مهووس بشطره المفقود.. الشامة فاقدة للذاكرة بعض الشيء .. كيف تنسى؟ كيف يمحوا الوقت لمساتي وتبقى الشامة صامدة! كيف يتشكل العالم بشكل دائري في عنقها؟؟ دورة الحياة التي تبدو سوداء فوق مسطح أبيض؟؟ إذا أنا في الأسود الآن! فأين الأبيض؟؟ هي خبيرة في الفن التشكيلي يجب أن تجيني: أين أنا من المسطح الأبيض؟ هراء! يجب أن ابحث عن الكتاب وأتناسى أنني رأيت "سارة الغريبي " ربما لا تكون هي.. ربما هي شبيهتها؟؟

"هل وجدت شيئا بعد، عمر؟ أنا بحثت في ستة رفوف الآن ولم أتوصل لشيء. الرف السابع لتاريخ الدراما لذا لا أظن بأنه يحوي الكتاب"

"لا شيء بعد، وبما أن خديجة وأحلام لم تأتيا إلى الآن أظنهما لم تجدا شيئا أيضا"

أطوقها بين ذراعي.. أفتحها ككتاب.. أخرج من عنقها أقلام الرصاص وأروي عطشها بألوان مائية .. أوقف فيها السرد وأفتح مع شعرها كبّة من الحوار الداخلي.. ما الذي يمكن أن افعله.. أهز جسدها الصغير مجددا.. أقضم شامتها وأحقق لها أمنيتها الطفولية القديمة.. لعلها صارت مقتنعة الآن بأنها علامة جمال.. إنها شامة جذابة..

"سارة.. سارة!"

"نعم، عمر.. هل يمكن أن نرتاح قليلا ثم نعود للبحث. لقد أصبت بالعماء جراء تقليب هذه الكتب. "

"لا داعي للراحة. لقد تمت المهمة"

"هل وجدت الكتاب. هل هذا صحيح؟؟"

"نعم وجدته وهو عند أمين المكتبة الآن"

"و لما لم تأت لي به؟؟ أهو ممنوع من الاقتراض؟"

"لا ليس الأمر كذلك. دعينا نلعب لعبة صغيرة أو لنعقد اتفاقا :الكتاب مقابل قبلة. هذا كل ما أطلب. "

"ماذا! قبلة... ولكن"

"من دون تردد.. أرجوا ان تفعلي هذا والآن.. أرجوا ان لا تفكري بطريقة سيئة .. يمكن أن اشرح لك بعد القبلة"

آخر.. المطاف .. قد تحدث .. قد يحصل شيء ما.. يستفيق شيء ما.. أحس بشكل ما يرسم فوق شفتي .. تحررت الذاكرة .. تنتشر الأفلام القديمة على السطح في تراص .. يتساقط البخار المقدس القديم فوق شفتي .. تتحرر الحنفيات من قدر الانغلاق .. تفتح على مصرعيها فوق جسدينا .. انغلاق الشفتين ثقب في ذاكرة ميتة .. انفتاحهما في آخر القبلة هبوب لريح من الذكريات العاصفة.

قبلته .. نظرت في عينه بعد ذلك للحظات .. شيء ما تراكم في عينيها .. إلى الآن لازالت تمسك يده وتنظر إليه ... تبحث عن كلمات مناسبة .. شفتيه رحم جديد لذاكرة مجهضة .. وبصوت طفولي .. قالتها ببطيء شديد .. كأنها تخيط أطراف الوقت الممزق من جديد:" أنت.. عمر! عمر بن حسين!.. عمر.. إنه أنت.. إذا تبا للكتاب الآن!"