كالمحموم يهمس ويده تحمل مدية مدماة النصل: الجثة بكبرياء منتصبة أمامي. يتراءى له صاحبها يفوه ساخرا، متشفيا: إنك عاجز عن سحق نملة، وعيناك ستظلان تحملقان إلى الأرض... لا يمكن إثبات شيء للعدم، لكنه يشعر برأسه خفيفا مثل غيمة. أما تلك القطرة- قطرة العزلة و الصمت- التي تلد قطرات تجعله يتخيل مسامير تدق بهمة على دماغه، فلا يبالي بها حتى يصم عنها؛ فأمر القتل لا يستدعي كبير عناء، ورغبة الكتابة تشتد، وحميا الجرأة تبدأ في السطوع في دخيلته، فما خُيب، وما احتاج إلى الآخر، وإدراك جميل يغشاه: الربيع آت، والعشب ينمو بمفرده، والصمت في نعومته قد يبعث الكاذب الختال، أو الرائي النير، أو الزمن اللعيب، أو الطفل ذا العين الشرهة، فما ولادة الصمت الآن؟( ما ولادة الصمت الآن؟! أتكذب؟! ما ولادتك أنت أيها الطفل المتنمر الزاعق المُدمي حلمة أمك الراغب بمهدنة الفردوس؟!) لا يدري، غير أنه مطمئن إلى هذه النعومة، ومستنيم إلى إيقاع صرار الليل، الآتي من الخارج، وكأنه يردد بزهو حقيقة اكتشفها للتو: الحياة لا تستحق كل هذا العناء... !فيبتسم وصورة سدهارتا قذرا وهزيلا وجالسا جلسة اللوتس في خياله، ويُسر إلى نفسه: سأسحق من الآن نملا، وصراصير، وما يثقل الكاهل من أعباء أستحيل بها راكدا على الفراش، باهتا بأوراق بيضاء، ودماغ منضغط في هذا المكان... ويحلم بوجوه كثيرة بين الحياة والموت تتساقط من السماء كالمطر بطيئة، فيعرف صاحب ذاك الوجه العالق بين أفنان شجرة، وصاحبة ذاك الوجه الوحِل، تتساقط الوجوه بصمت، يتلمسها بعناية، ويبحث عن مكامن الجمال والقبح فيها... – يا لنشوة الإلهام! ينتشي فرحا كما لو أنه رأى قمرا في دلو عتيق، ثم تلاشى مع الماء، بعد أن انخلع قاع الدلو( تتساءلين أيتها القارئة الحمقاء عن معنى القمر الذائب؟! الزن لا يبحث عن المعنى، فاحلمي وأنتِ تمشين ونحِّي تفاهة عبارة: الزن لا يبحث عن المعنى، ولا تفكري ونَفَسك يتأوَّد كالمُحتضرة في عبارة: الزن لا يبحث عن معناك، احلمي بتلك الراهبة الحسناء التي أفنت ريِّق شبابها في لغز: الزن لا يبحث عن معنى ما، احلمي بالقمر الذائب، احلمي بالجمال دون أن تجيبي عن تلك الأسئلة اللذيذة التي كانت تحيرك فتنضجك... آه من سخف اليد الراعشة وألم غوايتها...!) أو كالفيل الذي بلا حبل ولا وتد يعكران الصفو بمتاهة التكرار والجمود، وأصبح الهواء الذي يتنفسه، ومفيدا لعاهل مملكته، فقد عمي عن الحبل والوتد، وفُك الوثاق، وكف عن النهيم( هدأ الفيل، وبدأ يخدم الناس كالآلة، إذ صار يحمل براميل المياه، وينقل الناس في أسفارهم، وينشر سعادته في ربوع المملكة كما تقول الأسطورة. أما رسالة الزن... أهي في عينه الحزينة؟ في مشيته الكئيبة؟ في فم ذاك الراهب الغاوي؟ لا تدرين). إن يقظة ما تصيبه، هي مثل لطمة انتباه من معلم ما، وقد يتحول إلى تابع من أتباع الزن الباسمين، اللطفاء، الأخيار، اللزجين طورا، المنسابين طورا، الموصومين بالبلاهة (هكذا ترينهم أيتها القارئة)، غير أنه لن يجلس بعد الآن جلسة اللوتس،فهي تمرضه، تُدوِّمه، تُرحله دون هزة قدم، - هذا يؤلم ألم قطرة العزلة والصمت، مؤلم أن تجمد منتظرا المجهول، مُهَددا، دون هزة قدم، هكذا يقول، سأحمل أبدا هذه المدية المدماة النصل، هكذا يقول في المرآة بتشكك. أما رؤاه، فحكايات قد تجمل أكثر، يحكيها الراهب العجوز القبيح لتلميذة شابة فاتنة، والحكايات لا تحمل إلا ومضة بلا فكر عتيد- عنيد، والخير فيها قد يكون شرا مرتديا أبهى حلة لديه، أو لا خير و لا شر يتدابران، إنها حكايات جميلة للتسلية وللعبور إلى ضفة الرؤية الأزلية الواضحة، تجعل هذا الغاوي يتأمل بعين الشفة السفلى الثخينة الندية، والوجنة الطازجة الشهية، والعين الحزينة في كبريائها وهياجها الخفيف، وهو جالس في مقهى ورِجله ممددة لها حتى تلمع له حذاءه، ولا ينفره الرأس الحليق، بل يمنحه سلاما ونقاء، و الأغرب أنه يراه يُزيد من حسن الشابة وفتنتها، فيشتعل شهوة، ويدفعها بخبث، بعد صلاة الصمت الطويلة، إلى الكلام:
- هل أفرغت كأسك يا ابنتي؟
- ربما ما تزال مملوءة بما أستحليه وما أستمرئه.
- لماذا اخترت الدير إقامة لك يا ابنتي؟
- لا يهمني إدراك الكأس المفرغة. ما يهمني نور عينك. إني أريده بشدة. لهذا السبب طالت إقامتي بالدير، وجعلني أتسلل غير مرة إلى غرفتك، ومتى أعجز عن مرادي أحلم بأني ساملة عينك، وأكتب خربشات تضايقني.
- أي نور يا ابنتي؟
- تعرف جيدا أني لست ابنتك، وأعرف جيدا أنك لست والدي، فما الغاية من زيادة جرعات التضليل؟!
- أي نور؟
- إنه البداهة، البساطة, الجمال, القوة, السخرية من الآتي، الشهوة البريئة، يد الفيل...
- يكفي يا ابنتي!
- قلت: كفى تضليلا !
- أقول يكفي يا ابنتي! ( يصمتان برهة) يد الفيل! لقد صرت مجنونة... اعلمي. إن النور لا يسرق، و لست بحاجة إلى أذيّتي، وافعلي كما أفعل: عندما أجوع آكل، وعندما أتعب أنام، وعندما أرغب في الكتابة لا أكتب.
- هل صوتك هذا حقيقتك؟
- ... صوتي هذا حقيقتي يا ابنتي!
- كلا !إن صمتك أجمل. صمتُك حقيقتُك.
- أنت الأدرى.
وبعين أخرى يتأمل ما يفوه به صورا، ومغزى ساحرا يستخفي للذي يقول بأن الراية متحركة، أو يقول بأن الريح متحركة، ويُطل للذي يقول بأن الذهن متحرك.. ويحلم صاحب الجثة بوجوه في أعمال فنية، إنها وجوهه التي بين الحياة و الموت: وجهُ قبيح في لوحة حمراء بعين الدهشة البريئة، وجهُ حسناء غارقة في لوحة زرقاء، وجهُ بارد في لوحة بيضاء بيد هادئة، ولا شيء إلا بريق عين يكشف سرا.. ويحلم بالذي ابتسم للهواء ويده تُربت على كتفه، فيسبب له أرقا دام أسابيع، ويحلم بالتي مدت له ثديا ساخنا ليلتذ وينام برائحة غاوية مخدرة تجعله يسلس لها، دون أن يلتفت ولو مرة واحدة، ويحلم بالذي ينظر إليه باحتداد، وكأنه سيده، أو الأجدر بالوجود، ثم يشيح ببصره عنه، ثم يسلم عليه بحرارة، ويتجرأ لاثما جبينه، فيجعله يشم رائحة العفن... وشيئا فشيئا عيناه القاسيتان تتدانيان لكي تمتزجا وتصيرا عينا واحدة, فيهلع فاغرا الفاه، مُسقطا مديته، ولا يدري كيف يوقف هذا التداني الغريب، ويغمض، خطفا، عينيه خشية أن يقابل مسخا، ويُكوِّر قبضته اليمنى في حالة دفاع عن النفس، والجثة في المرآة تبتعد، تبتعد... ينتبه للدم المتقطر من معصمه، ويتناسى صورة العين الواحدة، ويُردّد، وكأن صرار الليل قد ازدهاه: سأقتل، أقتل، قتل... يردد كالمهووس وألم حاد يسري في جسده ويُثقله.. يفتح باب غرفته بعنف، ويصرخ بتصميم: سأقتل! سأكتب! أقتل! أكتب! قتل! كتابة!... والكاتب الجميل الذي يسكنه, منذ يفاعته، يفكر كيف يقنع قارئته، ذات الرأس الحليق، بجرائم لا مناص منها ( كقتل ذاك الراهب)، وبأن تلك الراية الخفاقة التي على العمود المركز، وسط ساحة المدينة، لا تتحرك...
هو في الخارج ومقصده تلك الحانة القريبة. سيلمِّع حذاء ذاك الراهب، وسيحاول أن يصوغ نصا جميلا بيد ذاك الفيل، ولا مدية في اليد.
31\08\2012
هامش تعريفي:
- سدهارتا: الاسم الأصلي لبوذا.
- جلسة اللوتس: جلسة يجلسها أتباع الزن نشدانا للتأمل.
- الزن: مذهب يتبعه البوذي لإيقاظ بوذا الموجود في النفس.
- هذا النص يحوي إشارات لحكايات و عبارات معروفة من الزن.