يحاول القاص العراقي في هذا النص رصد ما جرى في بعد الاحتلال الأمريكي 2003 مستخدماً تقنية غريبة، إذ يسرد لنا حياة عائلة عراقية بعين ذبابة الكترونية تسربت من مختبرها مع القوات الغازية، وعن طريق تنقلها بين المعسكر الأمريكي والبيت العراقي يتعرف القارئ على الخراب والألم الذي تسببه الحروب

ذبابة من بلد الكتروني (رواية)

نهار حسب الله

كلمة المؤلف:
لا أود استعراض الفكرة وكشف أسرارها لأنني لا أرغب في إفساد متعة القارئ، لكن لابد لي من ان أوضح سبب اختياري لعنوان "ذبابة من بلد ألكتروني" ذلك ان الفكرة تحمل نوعاً من الفنطازيا، باطار خيالي وواقعي معاً، تستقصي ظواهر المجتمع العراقي وما حل به من أزمات وتناقضات ما بعد تغيير النظام الحاكم والحرب العراقية الامريكية 2003.

ما دفعني وحفزني الى كتابة هذه الرواية الكشف عن الحرية المطلقة التي هي اسم على غير مسمى، والتعبير عن مفهوم الحرية في زمن الاحتلال، او التحرر عن طريق المحتل، على أمل استقصاء حقيقة ما (حصده) الشعب العراقي بعد التغيير والخلاص من الدكتاتورية.

كان لابد لي ان اكتب بمداد وجع هذا الشعب الذي لم يعرف معنى السكينة والرفاه، ومن هنا جاءت رغبتي في الكتابة عن واقع اجتاحه الدمار وسيطر على انفاسه القلق المزمن.

الإهداء
إلى جراحاتنا التي لم تفتح بعد..

الى بلادنا المسروقة..

إلى أحلامنا المُحترقة

إليهما وهما في مكان آخر، إليهما وهما في أحضان التراب

الى الحاضرين الغائبين اختي آفاق وأخي أزل

(1)

حانت ساعة الصفر، ساعة الحصاد بالنسبة للشيطان، إنها الساعة الثالثة من فجر يوم العشرين من شهر آذار 2003.

صافرات الإنذار كانت غارقة  في سبات عميق جداً، ولم تتمكن من سبق الفاجعة والتنبيه إليها..

الصواريخ الالكترونية مزقت سماء بغداد الهادئة، لتحوَل نوم عدد من العوائل إلى خلود أزلي، ولتعلن عن بدء يوم أحمر، يوم تغيير العراق وإطلاق العنان لحرية القتل العشوائي الذي يبيح كل وسائل التعبير الدموي ونشر الفوضى.

استمر القصف المبرمج بأحدث وسائل التكنولوجيا المتطورة ،حتى فتحت السماء ابواب صباح يقطرُ ألماً وحزناً على أهل العراق.. هو صباح جديد يحمل في طياته خراباً وجراحاً وأفراحاً وجملة أحاسيس متناقضة من شخص لآخر.. فقد كان بعضنا يرغب وينتظر بفرح وسعادة ساعة الخلاص من النظام السابق، ومنا من كان يدرك المفهوم الحقيقي للتغيير.

امتدت ظلمة الخوف، حتى صار جليس ليالينا الطويلة، كان يقلقنا ضياع المستقبل والندم على الماضي، وسرعان ما فَقدت الحياة صوتها الجميل، وتناثرت أبيات الشعر مع دوي الانفجارات القاسية، وبدت بغداد صامتةً وكأنها مقابر بشوارعها الحزينة.

بعد ان أنهت الطائرات الحربية مهمتها ونفدت ذخيرتها كلها، عادت طائرة (الأباتشي) إلى موقعها سالمة.

وفي طريق العودة.. تنبَه الطيار الحربي إلى وجود طنين في حجرة القيادة.. فتش عن مصدر الصوت بعيون ونظرات سريعة مرتبكة، وسرعان ما اكتشف ذبابة قانطة في الطائرة.

لم يعر لها أي اهتمام وعمد الى إهمالها واستأنف تحليقه تجاه القاعدة مخترقاً الغيوم بأقصى سرعة.

(2)

لم تكن الذبابة محتلة ولا محررة هي الاخرى، وإنما استقلت الطائرة عن طريق السهو أو المصادفة.

كانت تحس بالضجر من عالمها التكنولوجي في الولايات المتحدة الامريكية.. بوصفها مخلوقاً للتجارب والاختراعات الطبية والحيوية الحديثة، تعيش حياة مدللة في مختبر للابحاث تحت عناية تامة توفر لها متطلباتها كلها إلا حريتها في الطيران والتحليق حيثما تشاء.

وبعد احتجازها في المختبر ولمدة طويلة أدركت ان هذا السجن يفقدها الاحساس بعالمها الخارجي، لا بل صارت تحلم برؤية عالم طبيعي مثل ذاك العالم الذي كانت تعيشه قبل زجها في سجن التجارب والأبحاث البشرية.

قررت الخلاص والهروب لتعاود مسار حياتها الطبيعية..

استغلت غفلة عامل المختبر الذي ترك الباب مفتوحاً لبرهة من الزمن.

حلَقت دونما تفكير بالمكان البديل هاجرةً الترف والدلال الذي كانت تعيشه مفضلةً الحرية.. مسوغة سهوها أو المصادفة التي تواجهها الآن.

غادرت المختبر وكأنها صاروخ فضائي منطلق إلى كوكب آخر من دون عودة.

طارت بفرح غامر تحت أشعة الشمس التي بدت غريبةً عنها..

اغمضت عينيها للحظات قليلة، ولما استعادت الرؤية وجدت نفسها تدخل عن طريق الصدفة معسكراً للجيش الامريكي..

جالت فوق أرتال من الجنود الدؤوبين على التدريبات العسكرية العنيفة التي لا تخلو من النظام والانضباط الصارمين.. جنود تعشق اسلحتهم الفتاكة وتصويباتهم الاهداف دونما تمييز.

غيَرت مسارها تجاه الآليات العسكرية.. تاركة خلفها صرخات الجنود وأناشيدهم الحماسية التي كانت ترصدها على الرغم من تواضع حاسة السمع لديها.

أرهقها الطيران المتواصل الذي لم تزاوله منذ زمن بعيد، الامر الذي أصاب جناحيها الرقيقين بالوهن.

هبطت بهدوء.. كانت استراحتها على اطنان من الاعتدة الثقيلة منها والخفيفة.

أمعنت النظر في ارجاء المكان، ركزت رؤيتها إلى طائرة الأباتشي المتوقفة على مقربة منها..

بدت لها وكأنها حشرة عملاقة من فصيلة الذباب.. دعاها فضولها الى الاقتراب منها والغطس في داخلها من دون معرفة مسبقة بان هذه الطائرة تنتظر الاوامر للبدء بصنع الموت في بغداد.

إرهاقها هذا.. أصابها بإغماءة بسيطة أجبرتها على الاسترخاء في حجرة القيادة غير آبهة بضجيج صوت محرك الطائرة الحربية  الذي يصم الآذان، وبعد ساعات قليلة انطلقت  طائرة الاباتشي من القاعدة الامريكية متوجهة إلى دولة مجاورة للعراق تأهباً لبداية الحرب.

(3)

كان القصف الحربي على المدن العراقية قمة في التكثيف، وبدا السلاح الامريكي الحديث وكأنه ثور هائج يعمد إلى تخريب كل شيء.

عشرون يوماً من الحرب أذابت سكينة بغداد كالجليد، وحولتها إلى انهار من الدم.

 ومع بداية يوم التاسع من نيسان  2003 هبطت طائرة (الاباتشي) الاولى بحماية ودعم المدرعات الحربية الامريكية على أرض بغداد معلنةً سيطرة (قوات التحالف) على المدينة.

فُتح باب الطائرة واستعجل الجنود نزولهم إلى ارض بغداد.

كانت الذبابة الباحثة عن الحرية قد هرعت للنزول هي الاخرى من دون مرأى ومسمع المقاتلين.

تجولت بارتفاع منخفض فوق ساحة الفردوس، وتوقفت على رأس التمثال من دون علمها ودرايتها بشخصية صاحبه، ركزت النظر على اناس بدو اغراباً عن عالمها.

تنبهت للمطالبين باسقاط النصب.. سارعت بالابتعاد عن الساحة خوفاً من ان يلاحظ وجودها المتجمهرون، مفتشةً عن الاماكن الاكثر هدوءاً، تنقلت من شارع لآخر، حتى ابتعدت عن المتظاهرين.

كانت احياء بغداد خالية شاحبة يملؤها سكون غريب، كأنها مدينة اشباح بلا انفاس ولا احساس.

غيرت مسار بحثها متجهةً إلى المجهول، بغية ملاحظة أية حركة، وأي ضوء. كانت تحدق في أنحاء محيطها بعيون مستفهمة متطلعة.

تنبهت إلى وجود بصيص نور بعيد.. اعتزمت التوجه إلى مصدره على الرغم من ارهاقها الشديد، كان الوميض اكثر بعداً مما كانت تتصور..

اقتربت  منه حتى بدا أمامها ضوء شاحب ينبعث من  مصباح نفطي لبيت تبدو عليه البساطة.

استعجلت الدخول من خرم الباب بحذر شديد، أرغمت نفسها على كتم طنينها خشية ان يسمعها أحد، فتشت عن مكان دافئ يأويها ويستر وجودها حتى إنبلاج الفجر..

لم تجد أمامها سوى المطبخ المكتظ بالمأكولات والفواكه المتعفنة بسبب انقطاع التيار الكهربائي لحقبة طويلة... أكلت حد التخمة واستغرقت في سبات عميق حتى الصباح.

(4)

ابتدأت الذبابة القادمة من بعيد تجوالها في فضاءات البيت، تتنقل بين الغرفة والاخرى، كاتمةً طنينها.

توقفت عند رؤية  الأم التي بدت وكأنها حجر أسود قاتم، كونها اعتادت على ارتداء السواد.

كانت تُلّمع صورة جدارية بهدوء غامض دونما كلمات ولا انفاس.. تلمَعها على الرغم من معرفتها الاكيدة بانها نظيفة نظرة حد اللمعان.

وبينما هي منشغلة بتنظيف الصورة بقطعة من القماش الابيض المعطر.. انفجرت دموعها فجأة وكأنها بركان هائج، لترسم جداول حارقة على وجنتيها وتحول وجهها إلى تمثال أثري نحت في زمن غابر.

تصاعدت الآهات والحسرات وسرعان ما تلاشى ذلك السكون الذي اوقف الذبابة عن تحليقها، تلمست الأم الصورة بكف يدها ومسحتها بلطف وحنان، انتزعتها  من الجدار وضمتها بقوة إلى صدرها وكأنها تعانق صاحب الصورة.

أوجاع حولت العالم إلى عويل وبكاء .. بدأت تخاطب الصورة بصوت متقطع أجش وكأنه يخرج من قاع البحر:

-   تأخرت كثيراً يا بني ، يا قرّة عيني...

 لمَ طال غيابك يا حبيبي؟

أين انت الآن  يا علي، لقد اشتريت لك ملابس جديدة ودفعت الثمن بالآجل المريح..

فهل لك ان تستعجل العودة إلى احضاني قبل حلول العيد.. رؤياك هي العيد يا بكري

لم تقل لي يوماً انك ستغيب عني.. انت لا تستفيق صباحاً إلا على صوتي.

لقد جهزت لك الحمام الساخن وأعددت لك طبقك المفضل من  البطاطا بالبيض الذي تحبه.. فهل ستأتي اليوم، نعم... قل نعم بالله عليك، لن آكل شيئاً ولن أسمح لأحد من اخوتك ان يأكل حتى تأتي وتأخذ حمامك الذي يستمر طوال مدة  حفلة السيدة أم كلثوم (فات الميعاد) التي أدمنت على سماعها وانت تستحم بفرح غامر.

صوت أبو علي القادم من الحديقة يقاطع حديثها مع الصورة:

أم علـــــــــي .. أين انت؟

نعم.. نعم ابو علي أنا هنا ، امرك ؟

اين الشاي وقدح الماء وقرص ضغط الدم المزمن؟

ثوان واكون يمك (بجانبك).

(5)

الذبابة تحث جناحيها للانتقال إلى الأب الذي يداعب نباتات حديقته.

تقترب منه، لتتوقف على غصن شجرة توت قريبة ، تجده رجلاً يقترب عمره من الثمانين، له لحية ثلجية وعيون تكاد لا تفتح جفونها، ووجه يحمل ابتسامة خجولة، عقيمة اغتالها الحزن وحولها إلى ذكريات قديمة، يستذكرها كلما تذكر تلك الأيام التي كان فيها معلماً لمادة اللغة العربية قبل خمس وعشرين عاماً، يتذكر ابتسامته مع بقايا ذاكرة الزمن الجميل مع عائلته البسيطة المُتآلفة.

كان جالساً على كرسيه الخشبي القديم، مركزاً نظراته إلى وردة اختلف شكلها ولونها الناصع البياض، حتى باتت ذابلة مشوهة متساقطة الاوراق، شبه ميتة.

تستعجل طلبه حبيبة عمره وشريكة حياته (نجلاء) حاملةً له الشاي بالهيل كما يحبه وقرص ضغط الدم اليومي مع قدح الماء الذي بدا ساخناً بسبب انقطاع التيار الكهربائي.

يستفهمها قائلاً وهو يتطلع اليها: 

-       ما لوج

-       هك اليوم شاحب يا نجلاء ... هل كنت تبكين؟

تحبس ألمها في صدرها وتأخذ شهيقاً وزفيراً عميقين لتلملم حروفها وتتلعثم كلماتها:

لا انه الغبار فقط.. فالاتربة في كل مكان واليوم هو يوم التنظيف، لا تشغل فكرك بشيء.. تحني رأسها لتقبله وتمد يدها لتمسح شعره وتبتسم كعادتها وتعود لمزاولة أعمالها.

مع ابتعاد خطواتها شرد فكره للحظات قصيرة، استحضر فيها ذكرياته مع الحبيبة (نجلاء) التي كان يتبع خطاها حيثما سارت كظل لها.

تَذكر رسائل الغرام التي كان يعيش فيها سهاد الليل من أجل اقتناء مفرداتها، ليبعثها إليها صباحاً بأيدي أطفال الحي.. وليبق منتظراً إشراقة وجهها الملائكي عندما كانت تخطر مع رفيقاتها قرب منزله وابتسامتها البراقة معلنة فرحها بكلماته المرسلة.

تنقلت به رحلة الماضي إلى لحظة ولادة ابنه البكر علي، وكيف استقبل الخبر عندما خرجت اليه القابلة حاملة بين ذراعيها طفلا ملفوفا بلفافة بيضاء كالثلج ..

-  ابشري......

ولد، الف مبروك.

كانت تلك اللحظة من أروع لحظات حياته، تَذكر انه اعطى القابلة كل ما كان في جيبه من نقود.

ابتعدت به الذاكرة إلى يوم اصطحاب ابنه إلى المدرسة الابتدائية  في الحي، كان احساسه لا يوصف وهو يراقب طفله حاملاً حقيبة كتبه ومزهواً بالزي المدرسي الجميل الذي خاطته  له نجلاء بكل الحب.

استعرض في ذاكرته لحظات جميلة مرت بسرعة وكأنها شريط سينمائي، غير ان عاصفة ترابية مفاجئة أعادته الى الواقع الموجع المليء بالمرارة؛ ليعيش صدمة غياب ابنه منذ اليوم الاول للحرب.

هواجس واحاسيس بالتشاؤم تسيطر على مخيلته.. ينهض من كرسيه الخشبي، ليقترب من وردته الذابلة ويخاطبها قائلاً:

-    هل استشهد علي في ميدان الحرب، هل مازال على قيد الحياة، هل هو مصاب ام اسير في سجن مظلم ، بحق كل قطرة ماء سقيتك اياها لا تخفي شيئاً من الحقيقة... هل سيعود اليوم ام غداً، ربما يعود وقت يشاء سأنتظره حتى ولو بعد عام.

غادرني مرغماً قبل الحرب بأيام قليلة متوجهاً ببدلته العسكرية إلى الخط الاول في ميدان الحرب.. ودّعني وانا اعي جيداً ان الجيش في حالة تأهب قصوى، وان الحرب قادمة لامحالة.... آآآآآآآآه لو كنت منعته.. لكان في أحضاني الآن.

لقد عاد أقرانه الجنود وقالوا انهم لم يشهدوا وجوده،  ربما نُقل إلى مكان آخر، آه يا ولدي ،  أين انت يا علي.. اتعبني انتظارك، وصار موتي ينتظر قدومك، بدأت أخاف مغادرة انفاسي قبل رؤياك.. لدي كلام ووصايا مهمة يجب ان اخبرك بها.. فأنت ولدي الاكبر.

تشتد وتيرة تساؤلاته وغضبه من المجهول ليصل به الأمر الى اقتطاع الوردة من مكانها ليغطي بها على دموعه المنسكبة.

طرقات على  الباب الخارجي تخاطبه بصوت مرتفع..

يقول في نفسه:

- انه صوت الباب... يارب علي.. ياربي هل عاد، نعم.. نعم انه هو وهذه طرقاته على الباب كنغمة مميزة.

-  من الطارق.. (يقولها راكضاً بلهفة  نحو الباب)

- افتح يا بابا.. انا يوسف.

مع سماع صوت ابنه يوسف أسدل الحزن ستارته وأعلن عن تساؤلات جديدة:

-  هل وجدت أخوك يا يوسف، هل عرفت مكان وجوده، هل رآه أحد؟

- لا ابداً يا بابا.. اهدأ ارجوك؛ سيعود قريباً، حتما سيعود.. آثار الحرب مازلت مسيطرة على مفاصل الحياة، والبحث مايزال عابثاً مشتتاً، لكن تأكد انه حي يرزق وسيعود إلى احضانك قريباً.

قال يوسف كلماته الاخيرة وسار للداخل بخطى باردة يائسة، تاركاً نار الازمة تأكل قلب أبيه التواق لرؤية ولده الأكبر.

لم يكن جواب يوسف المتواضع تعبيراً عن لا مبالاة أو إهمال لمشاعر والده؛ وإنما بدا وكإنه مثل نبتة الصبار التي ادمنت الصبر على العطش ..

كان يحمل في قلبه آلاماً وجراحاً طفح منها قيح الحزن، فعلى الرغم من ضياعه بعد فقدان (علي)، اخوه وصديقه، إلا انه كان يعيش جراحاً امتدت الى اعماقه وإلى ابعد من الوصف، وهو طفلته الصغيرة والوحيدة (أمل) التي لم تتجاوز ربيعها الثالث.

أمل هي امله ودنياه ،  طفلة ضحوكة تلازمها الابتسامة ولا يغادرها المرح الذي كان يملأ البيت بضحكات لا نهاية لها، تتحرك وتتحرك اشعة الشمس راسمة خطوطاً ذهبية وصباحات مشرقة في كل مكان ومع اية نسمة هواء تداعب خصلات  شعرها الذهبي المتموج .

غير ان السعادة اعلنت بخلها تجاهها وسرعان ما انقلبت حياتها وحياة امها (وفاء) وابوها يوسف إلى عالم مظلم يفتقر إلى ضياء القمر.

قبل الحرب بأيام معدودة.. لوحظ ومن دون مقدمات سكون (أمل) وخمولها الشديد وكأن طاقتها وحيويتها بدأت تنفذ، كما ان الحمى لم تغادرها وكأنها صيف آب اللاهب.

تلاشت ابتسامتها الاخاذة البريئة، وتحولت ضحكاتها إلى آهات دائمة، تفاقمت حالتها وصارت تنزف من أنفها على نحو يومي ومن دون أسباب..!

يوسف وزوجته كانا يراقبان حالتها بقلق دفعهما الى الأطباء الاختصاصيين في شتى مستشفيات العاصمة، أجريا لها التحاليل والفحوصات الشاملة إلى ان ظهرت نتائج تحليل الدم فقلبت موازين الحياة رأساً على عقب، حيث ثبت فيها ان (أمل) مصابة بمرض سرطان الدم (اللوكيميا).

حاول يوسف الاحتفاظ باحساسه الهادئ ووعيه وإدراكه وهدوئه المعتاد، ولكن حدة الصدمة أفقدته صوابه.. وبدت أحلامه وآماله تتبعثر وتتساقط مع تساقط كل شعرة ذهبية من رأس أمل.

تحول إلى مخلوق آخر.. صارت حياته شروداً دائماً، مع نواح يشرخ القلب.. وأمطار تشكل فيضانات عاتية من الدموع.

وعلى الرغم من الازمات النفسية والاقتصادية التي تعيشها العائلة، كان (يوسف) يفتش عن اي مصدر رزق ثابت محاولاً الخلاص من إدمان البطالة والعوز اللذين باتا ينخران جسده وعقله وإحساسه.. ظل يبحث عن اي  عمل وفي جعبته شهادة الهندسة بتقدير جيد جداً.

(6)

شعور بالضيق  بدأ يعتري الذبابة اللاجئة للحرية، احساس يكاد يسيطر عليها ويحوَلها إلى كتلة من اليأس، بوصفها لم تشهد حياة كتلك التي تعيشها اليوم في بيت ابو علي.

كانت بهجتها بالطيران كبيرة إلا انها بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئاً، لا بل صارت تشكل إحساساً بالندم القاتل.. ندم يتوسل العودة إلى سجن الابحاث.

تنبهت الى نافذة الغرفة التي فتحتها (وفاء) في الطابق العلوي بغية تغيير الهواء.. حلقت نحوها مغادرة وطأة العذاب والبؤس التي يعيشها أبو علي وعائلته في هذا المنزل.

ارتكزت صامتة على النافذة بعيون حذرة وظلت تمارس طبيعتها وتهز جناحيها بسرعة لا تثير انتباه احد.. تراقب وتحدق وترصد كل ثابت ومتحرك في الداخل.. امعنت النظر إلى (وفاء) التي بدت ضعيفة البنية تتملكها الكآبة، كان اليأس يتفجر من قسماتها.. فتبدو وكانها شجرة قديمة قُدر لها ان ترمز إلى الحِداد والألم.

كانت تتنقل في غرفتها الصغيرة، تحوم حول فراش وحيدتها النائمة بفعل تأثير المخدر تحت قساوة الالم، تتخطى حولها متأنية حتى لا تربك نومها القلق.

تنظر إليها بعيون صبورة يملأها  ترقب مجهول وخوف يتضخم مع كل هاجس ألم يصدر عن صغيرتها.

يقاطع (يوسف) لحظات تأملها وهو يهمس مستفهماً عن حالة طفلته الصحية؟

كيف هي اليوم؟

- لم تنم حتى انشق الفجر عن شياطين الالم التي كانت ساهرة معها، تنتف شعرها تارة وتبكيها تارة اخرى، وترقص على نزفها طوال ساعات الليل.

الذبابة تعلن عن عدم اهتمامها بحديثهما منتقلة إلى فراش (أمل)، تهبط على مقربة منها، تتأمل وجهها الذي لم يزل ملائكياً بريئاً على الرغم من شحوبه واصفراره.

توجهت عمدأ الى مداعبتها بشفقة.. وبدأت تخطوعلى وجنتيها وكانها تحاول دغدغتها.

كانت تعبث وتتحسس شعرها الذهبي، لكي تدفعها الى فتح عينيها المتعبتين لتستقبل وجودها بابتسامة لا تخلو من الوجع، ثم تغمضهما على عجل، متجهةً إلى عالم الاحلام.. الذي باتت الذبابة جزء منه حاملة اياها على ظهرها منطلقةً بها في السماء وبين الحقول والمزارع  والورود والفراشات الملونة، ونظرات الاطفال التي تطاردها بعيون حاسدة متحسرة اينما ذهبت مع الذبابة.

غير ان أزمة من عذابات المرض تغير مسار حلمها الطفولي لتعيدها إلى واقع مرّ تسيره صرخات الألم..

هرع إليها كلا الابوين في محاولة منهما لأستكشاف موقع الوجع الحقيقي.. الأمر الذي اجبر الذبابة على مغادرة الغرفة.

(7)

اعتادت الحشرة المستوطنة في بيت (ابي علي) على التجوال في كل مكان وفي أي وقت تشاء من دون كلل، ملاحقةً أية حركة.

انتقلت إلى داخل البيت مفتشةً عمن لم تره بعد.. باحثة عن وجوه تجيد الضحك او الفرح، لترصد تحركات (سارة) تلك الشابة الفاتنة الآسرة بشعرها الليلي المعتم الطويل المنسدل إلى أسفل خصرها وعينيها السوداوين الأخاذتين وجسدها الرشيق الذي بات كإنه لوحة رسمت بريشة فنان يعشق صور النساء الجميلات، وهي في ألق شبابها الذي لا يتجاوز العشرين ربيعاً.

كانت تغسل وجهها وتنشف دموعها، لتستر ألمها أمام ذويها ولتعاود الانزواء في غرفتها، التي صارت ملاذها الوحيد بعد رحيل اخيها (علي).

سارت بخطوات ثقيلة تجاه الغرفة، وكإنها تحمل اوزاناً كبيرة وتخطو بها على جمر لاهب، تتبعها الذبابة بفضولها المستكشف واللامنتهي.

كانت واقعية في مصابها اكثر من عائلتها الحزينة، فهي تدرك جيداً ألا أمل يرتجى من عودة (علي)، فيما تنساب إلى مخيلتها افكار ومشاهد مرعبة تجسد موته بصور عدة كأي شريط سينمائي لأفلام الحرب.. مشاهد تجعلها تغوص مع مصابيح الأمل في العدم، مصابيح أطفأ لهيبها اليأس وانبثق منها سواد الظلمات والجمود.

تدهمها حالات قاتمة.. تعيش معها تلك المشاعر الخيالية التي تحس بوطأة الواقع.. أحاسيس تحولها إلى سعفة هاوية من نخلة جفاها الماء، وقتل ثمارها.

الذبابة.. ماتزال شاهد على مأساة هذا البيت، تتأمل الرؤى الكئيبة وهي تجول في أروقته، كاظمة طنينها تارة وعابثةً باطلاقه تارة أخرى محاولة تشويش أفكار سارة، معطلة خيالها المتشائم..

تخلت سارة عن عزلتها في محاولة لوضع حد لانزعاجها من طنين الذبابة الذي قتل هدوء الغرفة، وفتحت لها النافذة لترغمها على الخروج إلى الحديقة مرة أخرى.

بعد ان اطلعت الذبابة على كل مَن في المنزل؛ لم تجد فيه إلا كتلاً متنقلةً من الهم والوجع، صارت تحاول التآلف معهم والتعاطف مع مشكلاتهم، وباتت تميز الجميع وتعي ان لكل واحد منهم شخصيته الخاصة وتفكيره وطريقته في التعبير عن مشاعر الحزن والألم.

اقتربت من الأب الذي مازال قابعاً في حديقته منذ ساعات الصباح الاولى، يستجوب النباتات عن مكان فقيده.

منذ شروق الشمس وهو يحلم بصورة أو بأخرى.. عودة ولده الأكبر إلى أحضانه.. يترقب طرقات الباب، يتبع كل صوت يمر من على الشارع عله يحمل اسم (علي)..

مرّ منتصف النهار ثقيلاً وما من صورة تقبل الانسجام مع ألوانها لتكون حلماً من احلامه، حلماً جميلاً يسيطر على حجم الفاجعة ويغير مسارها، وينقذ مصير عائلة من الضياع.

كان يحاول تهدئة حركة قلبه الصاخبة ويتوسل ضرباته علها تهجع قليلاً، ضربات قلبه التي اتحدت مع عقارب الزمن لتشن حرباً ضارية على فكره ولتبدو له في سباق سريع، وركض متواصل يعمد الى تمزيق أحلام واهية رسمها كنسيج العنكبوت لرؤيا ابنه علي.

(8)

كان الوقت نهاية العصر والشمس تلون رؤوس جدران البيت وتكسو حديقته بضياء براق، بينما كانت الذبابة تحوم سعيدة بحريتها تارة وتعيسةً من عالم الحزن الذي زُجت فيه من دون علم تارة أخرى.

كانت تتجول وتفتش كعادتها في أروقة البيت بطنينها المتقطع وطيرانها العبثي عن اي شيء يثير الانتباه كما حصل عندما دخل صوت جديد على مسامعها مداهماً حاسة سمعها الضئيلة ومقاطعاً تجوالها الفضولي دافعاً اياها الى البحث عن مصدره يتملكها شعور بالسعادة.

-         ام علي...ام علـــي.

سمعت نجلاء النداء على الرغم من شرود فكرها وإرهاقها من طول انتظار المجهول.. كان صوت جارتها (أم محمد) المنبعث من  الجدار القميء العتيق الذي يفصلهما عن بعض، سارت بخطى ثقيلة كئيبة تجاه جارتها ورفيقتها القديمة (ام محمد) التي لم يكشف الحائط مع قصره عن شيء سوى عن وجهها المتعب، وعينيها الخضراوين المهمومتين المتعبتين بعد أن كشف التعب أوردتهما.

-         أهلاً ام محمد.

-         أهلاً عيني ام علي.. كيف حالك اليوم.. هل هناك اخبار جديدة ؟

لم تقل نجلاء شيئاً عن ليالي سهادها، ولا عن اللهفة والشوق اللتين زرعتا في صدرها مع غياب بكرها (علي).. غير ان الدموع والحسرات نطقت نيابة عنها بلغة خاصة لتفضح ألمها ولتجدد لوعاتها.

-         ام علي اطمئني.. سيعود بالسلامة انشاء الله، انا اشعر بارتياح تجاه مصيره (قلبي بارد عليّ) وانا ادعو الرب لعودته كل صلاة، وآمالي كبيرة برب العباد.

-         لكن الصبر سحقني ولم اعد اطيق الاحتمال.. قلقي عليه يزداد مع كل دقيقة تمضي.

صاعقة الصمت داهمت حوارهما لتحوله إلى غموض مرتقب.. صمت يرغم (ام محمد) على تغيير مسار الحديث لتنبش من دون عمد جرحاً آخر.

-         أين أمل .. لم أرها منذ مدة.. هل تحسن حالها؟

أجابت نجلاء بصوت بائس حزين:

-         وضعها الصحي يزداد سوءاً يوماً بعد آخر.. وعلاجها غير شافٍ بالمرة، شعرها بات يتساقط كأحلامنا القديمة؛ وابتسامتها الجميلة تحولت إلى نوبات وجع لا نهاية لها.

غَير الحوار مساره.. وقد تحول إلى ثرثرة نسائية عابرة لم تعر له الذبابة الساكنة على الجدار الفاصل بين الجارتين أي اهتمام..

كانت الذبابة تحملق بعيون مستكشفة سر قصر قامة (أم محمد).. حلقت على مقربة منها لتتنبه إلى كرسيها المتحرك، الذي صار سنداً لها بعد إصابتها بجلطة دماغية كانت سبباً في شلل اطرافها السفلى.

انهت الجارتان حديثهما مودعتين بعضهما البعض بكلمات الوّد وبعض الادعية، لتعود كل منهما الى مزاولة أعمالهما المنزلية.

لم تكتفِ الذبابة بهذا القدر من الفضول، وإنما زادته لتحل ضيفة على (ام محمد)..

ظلت تسابق كرسيها المتحرك أينما اتجه، تتبع صوت عجلاته المتعبة والمتثاقلة من حملها طول النهار.. كانت تترقب رؤية ابناء تلك السيدة المقعدة.. تبحث عن وجود اي منهم بين فراغات البيت، إلى ان تأكدت ان البيت خالٍ إلا من السيدة المقعدة.

حل الليل وصارت خيوط النوم ترتسم وتسيطر على عالم (ام محمد) لتدخلها ككل يوم في صراع مع كرسيها، صراع لا ينتهي إلا بنزولها منه والانتقال إلى فرشتها البسيطة على بلاط الغرفة لتخلد في نوم عميق.

سكون الليل لم يُهجع الذبابة المرهقة طوال ساعات النهار، ظلت تنتظر ظهور كل جديد في بيت تنخره الوحدة.

كانت تلك الليلة خرساء صماء كعادتها على الرغم من وجود الذبابة، التي عطفت على (ام محمد) وعملت على حبس طنينها مستمتعةً بمتابعة شخيرها المتقطع وصوت عقارب الساعة المزروع على جدار الغرفة.

(9)

ولد صباح جديد مع انطلاق صوت آذان الفجر المنبعث من مسجد الحي الكائن في آخر الشارع، ملتحماً ومتناغماً مع صوت العصافير العابثة باوراق اشجار الحديقة.. باحثة عن رزقها.

استيقظت (أم محمد) من دون كلل متحدية امراضها، لتؤدي صلاتها بتضرع وخشوع من على كرسيها المتحرك، كانت حركاتها غريبة بعض الشيء على انظار الذبابة القانطة منذ الليلة السابقة على الساعة الجدارية، حيث اعتقدت في الوهلة الاولى انها تؤدي التمارين الرياضية الصباحية، غير ان دعاءها الباكي المتوسل بالفرج، شتت فكرها.

-         يا إلهي.. يا مجيب، الهمنا صبر نبيك ايوب ..  يا مالك السماء أعد  إلينا (علياً) آمناً سالماً إلى احضان امه..

يا مشافي يا سامع الدعاء.. ارحم طفلتي (أمل) التي لم انجبها وارفع الضر عنها يا ارحم الراحمين يا الله..

ربي.. خلقتني عاقراً وما من اعتراض على حكمة خلقك يا الله .. فهل ستحرمني من رؤيا من احب..

تعاطفت الذبابة مع كلماتها وصوتها الاجش واستوقفتها كلمة (عاقر)، واستفهمت عن أصل كنيتها (أم محمد) ولم تفهم ما المقصود منها.

كانت (فردوس) عاقراً ولم يكن لـ (محمد) وجود في أحشائها، غير انه كنية اختارتها لها نسوة الحي، بعد ان نذرت على نفسها في بداية زواجها ان طفلها الاول سيحمل اسم (محمد).

إلا انها تقبلت الكنية وعاشت معها منذ اكثر من عشرين عاماً من دون ان تنجب، حتى تلاشى اسمها الحقيقي الذي جاءت به أيام شبابها إلى الحي.

كانت طيبة القلب محبوبة لدى الجميع، تعشق أطفال الشارع كلهم ، تقضي ساعات من الجهد والتعب على الرغم من معاناة امراضها وشلل اطرافها لتصنع الحلوى للاطفال صباح كل يوم، وهي تراقب ابتسامتهم البريئة.

تعيش في بيتها العتيق الذي توارثته عن عائلتها، الذي يغلب عليه طابع الوحدة بعد ان انفصلت عن زوجها وحبيب عمرها الذي تحدت به الكون، بعد زواج لم يدم ستة أشهر.. طلقها وانفصلا نهائياً بعد ان اثبتت التحاليل الطبية استحالة انجابها.

بعد ان قضت ليلة كاملة مع (ام محمد) عادت الذبابة إلى بيت (ابو علي) مفتشة عن أحداث وأخبار جديدة.

(10)

لم تكن علاقة يوسف بأخيه الغائب (علي) علاقة اخوة فحسب، وإنما كانت علاقة خاصة تجمعهما الصداقة والألفة إلى حد كبير، كانا يعيشان كشغاف القلب ونبضه؛ ولم يكن للخصام مكان بينهما على مدى تواجدهما مع بعض.

غير ان رداء الهم تَلبس يوسف وزرع في صدره سهام الوجع، وسرعان ما تلاشت أحلامه وتبعثرت بقايا ذكراه مع (علي).

بات يحس بأن عقارب الساعة تستعجل دورانها وتدفع بعجلة الزمن نحو الأمام، لتتخبط وتتزاحم حسابات الأيام التي غاب فيها خله وسنده ؛ صار يشعر بأن القلق يخترق هواجسه لينبهه باحساس الموت الذي يكدر خاطره ويعكر مزاجه.

مع تراكم تخيلاته التي لا تخلو من المرارة، وصل إلى قناعة شبه تامة، قناعة شكلت اسراراً لا تسر من يسمعها.. لتحيله إلى إيمان أقرب إلى اليقين يجسد موت (علي).

ضاقت به السبل وغابت التعابير والكلمات عن وجهه ، حتى قرر التفتيش عن جثمان فقيده.

كان البحث عن ميت أو تآئه أمر معقد في تلك المرحلة الزمنية من تاريخ البلاد، لدرجة إنه لم تتبق اية مؤسسة حكومية إلا وتعرضت للنهب والسلب والتخريب.

بعد ان فقد يوسف الأمل.. أعد نفسه وحث خطاه متجها إلى مستشفى (مدينة الطب) بغية التفتيش عن اخيه، عله يكون بين قتلى وجرحى الحرب، او يستنشق أنفاسه فاقداً الوعي جراء قوة اصوات القذائف والمدافع... عسى ان يكون حياً يرزق.

لم تفارق الذبابة (يوسف) وإنما تابعت خطواته بفضولها المعتاد، وتجولت معه في ردهات المستشفى وتفحصت طوابقها كلها ، لترصد أجساماً متفحمة وأجساداً كانت تتوسل الموت ان يستعجلها من شدة الألم..

كان عدد من الذباب يتجمع حول أحد الجرحى، ويستمتع بجماته القاسية على جراحه، ويتلذذ بامتصاص دمائه التي أخفت لون وتعابير وجهه، غير آبهة بصرخاته من قسوة الوجع.

لم يكن الحدث مقززاً ومخيفاً فحسب، وإنما كان اسطورياً بالنسبة إليها، لأنها لم تشهد مثيلاً له في قصرها العاجي بالولايات المتحدة الامريكية.

انتابها الخوف والقلق من أن تتحول في يوم ما كتلك الحشرات الدموية، لتعاود الاقتراب من (يوسف) الذي ظل يفتش هنا ويمرر نظراته هناك.. إلى ان داهمته رائحة الدم المتخثر المختلط  بانواع من العقاقير والأدوية.

استوقفه طبيب تبدو عليه ملامح  القسوة، كان أصلع الرأس، يرتدي نظارته الطبية بعدستيها الكبيرتين وكمامة بيضاء أخفت ملامح وجهه، كان قصير القامة برداء أبيض قصير ملطخ بدماء الضحايا.. بدا له وكانه جزار في مذبحة المواشي..

خاطبه بلهجة صارمة متعالية وهو يركز نظراته على أوراق كانت في يده:

-         كيف دخلت إلى هنا، ومن الذي أجاز لك التجوال بين المرضى، هل لديك مريض هنا؟

-         عذراً سيدي.. أنا أبحث عن مفقود عله يكون بين الجرحى.

-         ما صلتك بصاحب الشأن؟

-         أخي... وقد فُقد مع بداية الحرب.

مدَ الطبيب يده إلى يوسف مقدماً له ورقة وقلماً:

-         أكتبْ أسمه الكامل وعمله وتاريخ فقدانه، وأية علامة دالة في جسده (ان وجدت) لأن أغلبية من في المستشفى يعانون تشوهات... وأنتظرني في الاستعلامات وكف عن ازعاج المرضى.

دَون (يوسف) كل ما طلبه الطبيب، ونفذ أوامره وقبع في استراحة المستشفى التي بدت وكأنها سوق شعبي أو تجمع لللاجئين، تتعالى فيه أصوات الحاضرين وتتحرك أقدامهم بضربات قوية وكانها تحفر آباراً في باطن الارض.

دموع هنا، وعويل هناك.. توابيت فارغة وأخرى محملة تتحرك بسرعة وكإنها بضائع استعجل التجار تكديسها في مخازن خاصة، خوفاً عليها من التلف.

مضت الساعات وانقضى منتصف النهار ولا زال (يوسف) صابراً منتظراً في مكانه، مذهولاً بآلام من حوله، مترقباً إجابة الطبيب.. التي توقعها سيئة في جميع الأحوال، لان أخاه إذا كان موجوداً؛ فسيكون في حالة خطرة، وان لم يكن داخل المستشفى سيزداد الأمر تعقيداً.

نفذ صبره وطال انتظاره ونال منه التعب... حتى تقدم نحوه الطبيب بخطى مترنحة غير آبه بمعاناته.

هرع إليه لاهثاً مصفر الوجه بائساً ومستفهماً:

-         أبشر دكتور؟

-         غير موجود في احصائية كشف المرضى... إلا اني اعتقد انك ستجده في دائرة الطب العدلي؛ إذهب إلى هناك واطلب مشاهدة صور الحاسبة الالكترونية التي تضم صور الموتى.. ربما يمكنك التعرف عليه هناك.

كلام الطبيب وبرود أعصابه.. عجل ارتباك وغضب يوسف، إلا إنه كظم غيظه وغادر المكان من دون ان ينطق كلمة واحدة، متوجهاً إلى دائرة الطب العدلي يحمل أفكاراً شتى وسحابة محملة بمشاهدة مروعة واحزان وآهات لا تنتهي.

كان يود ان يعطل خطاه حتى لا تصل إلى ذلك المكان، فيما كانت تندفع إلى الامام من دون تحكم وكأنها مبرمجة الكترونياَ وبدت الشوارع المذعورة تتراكض تحت قدميه المرتجفتين من شدة الانفعال والقلق.

وصل إلى بوابة الدائرة، وكان في استقباله رجال الأمن الذين عطلوا دخوله بسبب نهاية الدوام الرسمي.

(11)

وصلت (أمل) لمرحلة الموت السريري بعد ان تفاقمت حالتها الصحية وبات سرطان الدم ينخر في جسدها ويعبث في طفولتها على هواه.

كانت العائلة تحيط سريرها من جميع الجهات بوجوه مأساوية عندما دخل (يوسف) عائداً من مشوار بحثه عن (علي).

كان الجميع ينتظرون المجهول.. ويسكن كل واحد منهم في عالم من الخيبات، لم يكن للام إلا الدموع التي كانت تنهال على وجهها وتغرقه أما الاخت فقد كانت تقلب بين يديها منشفة مخضبة بدماء الطفلة، بينما سئمت (وفاء) دموعها التي لم تتوقف عن التساقط وشكواها الحارقة الباحثة عن سبيل لشفاء وحيدتها، أما الاب فقد كان يهمس في اذنها ببعض الآيات القرآنية والادعية المتوسلة بالشفاء.

هول المشهد جعل (يوسف) عالقاً في مأزق البوح بالمأساة أو السكوت عنها، غير إنه تمالك نفسه وحبس أنفاسه معانقاً (أمل)، ساتراً تعابير وجهه حتى لا يزيد أوجاع من حوله، إلا إن تساؤلات زوجته اللحوحة (وفاء) عن اسباب اصفرار وجهه ارغمته على كشف جولة بحثه عن (علي).

طبول الموت بدأت تدق وتصدح في ارجاء البيت بصوت لا يمكن إخراسه..

استقبل الجميع احتمال وجود ابنهم (علي) في المشرحة.. مَزقت الام ثوبها الاسود وكشفت عن نهديها ولطمت على وجهها وصدرها بقوة جنونية، سقط الاب على الارض من دون وعي وكانه صخرة وبدت سارة كالمجنونة؛ كثة الشعر زرقاء الوجه تجتاحها موجات من العويل والبكاء.

لم تكن الذبابة شاهداً على الاحداث التي تعصف بالعائلة فحسب، وإنما كانت متفاعلة مع كل ما تراه، تتأثر بأزمات العائلة وتعيش تراكمات الفواجع عليها.

كثيراً ما كانت تقارن بين العالمين المختلفين اللذين زجت فيهما من دون رغبتها... سواء في مركز الابحاث  الذي كانت تسكن في الولايات المتحدة الامريكية، حيث الانفتاح والتكنولوجيا.. او في بيت (ابي علي) في العراق حيث الظلم واليأس والقهر والخراب.

خيم السكون على كل من في البيت وبدا الوقت ثقيلاً محملاً بالازمات والاخبار القاتمة.. بعدما استوعب الجميع كلام (يوسف) الذي كان صعب الهضم والاستيعاب والقبول.. على الرغم من كونه كان واقعياً في تلك المرحلة تحديداً.

بانت مراسيم العزاء على وجوه الجميع وشكلت من العيون غيوماً سوداء محملةً بالدموع بدلاً من زخات المطر لاستقبال جثمان فقيدها الذي مازال مشكوكا في أمر موته، وبدأ كل فرد في العائلة يتصرف من دون وعي ولا دراسة... عمل الاب على إبلاغ الاقارب والاصدقاء، فيما التمت  نساء الحي حول الام من أجل مواساتها والتخفيف عنها بمصاب ابنها البكر، أما (يوسف) فقد كان يبحث في وجوه من حوله عن إمكانية اقتراض بعض الاموال من أجل إتمام مراسيم الدفن.

ابتعدت الشمس عن السماء وخيم الليل في ارجاء المدينة، وانتشر السكون في كل مكان إلا في بيت ابو علي؛ ظل مُناراً من دون أنفاس.. قنط الجميع في غرفة واحدة بوجوه شاحبة.. يترقبون إشراقة جديدة، صباحاً جديداً قد يكون فاصلاً بين حياة أو موت (علي).

لم تكن ليلة (يوسف) كسابقاتها من الليالي، وإنما كانت ليلة غاب فيها النوم وسيطرة فيها الكوابيس والأفكار السوداوية المرعبة على مخيلته، بسبب فضاعة المشاهد التي التصقت في ذهنه، ورائحة الدم المتخثر التي بات يشعر بأنها عالقة في جسده.

(12)

ثقل الهم وتراكم أوجاع المحيط الجديد الذي لجأت إليه الذبابة طلباً للحرية شكل مفاجآت مرة غير متوقعة لديها.

عاشت مأساة عائلة أنهكها الظلم واعتراها الألم، كان هذا المخلوق الصغير قد رصد أحاسيسهم لحظة بلحظة، إلى ان نفذ الصبر وفقدت الذبابة متعتها بمفهوم التحرر والحياة الطبيعية.

بدأت تفتش عن أسباب تسوغ لها هجرتها لذلك الهناء والعز والحياة الرغيدة التي كانت تعيشها في مركز الأبحاث، لم تجد أمامها سوى الإحساس بالندم القاهر الذي أطلق بدوره قرار العودة إلى ذلك السجن المثالي، اعتزمت الرحيل مستغنية عن حريتها التي ناضلت من أجل الوصول إليها، وقررت الرجوع لاعنةً جناحيها اللذين ادخلاها في وهم جمال التحليق والطيران، نادبة حظها الشؤوم الذي خانها في اختيار مكان مناسب تزاول من خلاله حياة سوية هادئة اسوة ببقية الحشرات.

تنقلت في أرجاء البيت ببطء شديد، مطلقة العنان لطنينها الذي عمدت على كبته طيلة إقامتها. كانت تمر بالغرف جميعها مودعةً إياها وكأنها تعلن عن رحيلها.

أنهت جولتها الاخيرة وابتعدت عن تلك الوجوه التي خاصمت الابتسامة والتفاؤل، والتي لم تعرف في حياتها سوى القهر والظلم، وانطلقت في فضاءات مجهولة من دون التفكير في مكان بديل.

لم يكن الأمر يسيراً على الذبابة.. فهي تطير اذ تجهل، او على مزاجية  تيارات الهواء التي كانت تنفيها ما بين الشرق والغرب.

صارت تتوسل الأماكن وتنتقل من شارع لآخر علّها تلمح ذلك المخلوق الذي نقلها إلى بغداد عبر (طائرة الاباتشي).

كانت تمرر نظراتها إلى كل ثابت ومتحرك على إمل مصادفة اولئك الجنود الذين جاءوا معها، او اي دليل يساعدها في الخلاص.

استمر طيرانها لساعات طويلة حتى نال منها التعب والارهاق، ليستقبل هبوطها الاضطراري غصن شجرة مزروعة على جانب الطريق، وبين الشعور بالحيرة والوهن الشديد تنبهت لأزيز طائرة يصدح في السماء ويقترب منها شيئاً فشيئاً، ليهز اغصان الشجرة ويحركها رغماً عنها.

مع ذلك الصوت دهمها إحساس الحنين إلى عالمها السابق الذي تتوق للرجوع إليه والخلاص مما تعانيه الآن.

بدأت اشراقات الامل ترسم طريق عودتها وتحل ازمات ضياعها، صارت تشعر بالامان وكانها فقدت الاحساس بالغربة.. غير ان الطائرة مرت بسرعة من فوقها غير آبهة بوجودها. 

لم تستسلم الذبابة لاهمال الطائرة لها، وإنما عزمت على اللحاق بها على الرغم من موجات التعب التي تسيطر عليها.

شدت عزمها وحلقت كما لو انها تسابق نفسها راصدة الطائرة، رافعة طنينها الذي بدا وكأنه يتوسلها التوقف، إلى ان تلاشى أزيزها في الفضاء ليعلن عن خيبة جديدة، إلا إنها استأنفت التحليق بالاتجاه نفسه على الرغم من عدم رؤيتها اي بصيص أمل في الافق.

طال مسارها المهجول حتى شحوب  الشمس التي صار قرصها يتآكل شيئاً فشيئاً، ليغيب معه ضوء النهار ويرغمها على استراحة إجبارية على عمود كهربائي.

حل الغسق عجولاً وكشف القمر عن ضوئه الشبحي الباهت، وسرعان ما فرض الليل سيطرته على سماء بغداد وأرغم سكانها على التزام الصمت الذي لم يكن غريباً على أهل المدينة منذ بداية الحرب، وعلى الرغم من سكونه المخيف هذا؛ عَجز عن كتم طنين الذبابة الذي بدا كعويل يشرخ القلب.

تذوقت المرارة وعاشت المأساة، كانت تشعر بالوحدة والضيق والكآبة مع مرور كل دقيقة كمن فقد حنان الوطن وتاه في قارة من الضياع.

شردت في خيالها وظلت تفتش عن حلول لهذا اللغز العصي على الحل، اسهبت في سبات الليل وصارت ترصد النجوم عَلها تكشف عن طائرة (الاباتشي).. طالت نظراتها إلى السماء حتى دخل فجر جديد لترف بجناحيها الرقيقين الشفافين في رحلة بحث جديدة شاقة لا تخلو من الصعوبة.

عاودت التحليق بالاتجاه ذاته تحمل معها هموماً ثقالاً وجراحاً عميقة، اندفعت بسرعة غير عادية كصاروخ ينتظر ما يوقفه.

ترتفع في الهواء تارة وتنخفض تارة اخرى وهي تدقق النظر فيما حولها، حتى داهمها ذلك الأزيز مرة اخرى، إلا ان الصوت كان مندفعاً من الارض وكان اقرب إلى مسامع الذبابة من المرة السابقة.

ارتباك اللحظة ألزم الذبابة على التوقف برهة من الوقت، لتبدو وكانها مخلوقة متجمدة في السماء، عطلت حركتها بغية التعرف على مصدر الصوت قبل ان يتلاشى عنها.

كانت الذبابة تطير على مقربة مما تبحث عنه، فهي تحلق فوق معسكر امريكي.. وكانت الطائرة تشد عزمها بصوت مروحيتها الصارخة وتستعد للانطلاق في مهمة جديدة.

بعد ان تجاوزت عاصفة الارتباك، استعجلت الهبوط بالقرب من الطائرة، غير ان قوة عصف مروحيتها دفع بالذبابة إلى نقطة ابعد، وانطلقت الطائرة في السماء تاركة خلفها الغبار والأتربة وهي تعبث بالذبابة ويعكر وجودها صفاء الصباح..

تاهت الذبابة بين رذاذ الغبار مما تسبب لها عجزاً مؤقتاً عن الحركة والطيران.

ابتعدت الطائرة عن الانظار، فيما ظلت الذبابة تعاني شللاً في اجزائها.. لتتركها قابعة تراقب الاشياء من حولها وتعود بذاكرتها إلى يوم امتطت طائرة (الاباتشي) وجاءت إلى بغداد.. حيث شهدت المظاهر العسكرية نفسها قبل مجيئها.

على الرغم من وهنها وإرهاقها الشديد، صارعت نفسها محاولة الطيران مرة اخرى من اجل استطلاع المكان.. كانت تخطو خطى معقدة لا تخلو من الصعوبة والالم، تنبهت للغة الاوامر التي يعتمد عليها الجنود، كانوا يتحركون كجنود لعبة الشطرنج، ينفذون التوجيهات دونما اعتراض ولا تذمر، يخضعون لتدريبات قاسية قد تؤدي إلى الموت منها في (يوم الكوبرا) الذي يلعبون فيه مع أفاعي الكوبرا ويرغمون على أكلها حيةً بعد الانتهاء من التدريب، ويتمرن الجنود على مقاومة العطش فضلاً عن تدريبات قتالية وبدنية شاقة.

أفزع الذبابة.. الطلق الناري الناجم عن تطوير مركز التصويب لدى الجنود وأرغمها على الابتعاد، لتتوقف بعد ذلك بالقرب من أرتال  الآليات العسكرية المركونة في ساحة المعسكر.

كان المشهد اسطورة بالنسبة إليها، ذلك انها لم تكن تتخيل انه من الممكن نقل كل هذه الاليات بأحجامها العملاقة كما نقلت هي الاخرى إلى بغداد، استعجلت الانتقال إلى مكان أكثر أمناً على أمل انتظار الطائرة التي ستعيدها إلى عالمها الأول.

صخب الموسيقى العسكرية التي كانت تعزفها فرقة من الجنود الهواة خفف من توتر وقلق الذبابة، لتعود إلى عالمها الهادئ ولتعيش مع الألحان وهي في حالة من الاسترخاء والنشوة.

ظلت الذبابة تستمتع وتتلذذ بالانغام إلى ان تنبهت لدموع إحدى المجندات التي كانت  جالسة  خلف جدار كونكريتي  مفترشة الارض ومنهمكة بكتابة رسالة ما وهي تملأ الأوراق دموعاً توزعت فوق الحبر الازرق..

كانت شابة تتألق جمالاً وتمتاز بوجه قمري ابيض وشعر تظهر منه بعض الخصلات المتطايرة من تحت القبعة العسكرية وعينان زرقاوان دامعتان، لم تكن تتجاوز ربيعها الثاني والعشرين.

اقتربت الذبابة من المجندة بفضولها المعتاد، وظلت تحوم حولها محاولة اكتشاف اسرارها، فيما كانت المجندة تراجع حروف رسالتها بصوت متقطع مختنق:

-         إلى والدي وصديقي العزيز ومعلمي الدائم...

يسعدني أن أبعث إليك برسالة عيد ميلادك وأتمنى أن تكون سعيداً وبصحة جيدة..

كم كنت أتمنى لو انني معك في هذا العيد كي نكون جالسين حول المدفأة نتجاذب أطراف الحديث على مائدة العشاء التي لا مثيل لها، كم اشتاق الى طعام امي  اذ ملّت نفسي طعام مطعم الجيش الذي يخلو من الطعم والرائحة .

أتمنى ان تكون رسالتي السابقة قد وصلت الآن، ربما تتساءل هل أنا بخير، وهل أتدبر أموري جيداً في العراق؟ في الحقيقة الحياة هنا مختلفة كثيراً عما كنت اتوقع، ولا أود ان اقلقك.. أنا مشتتة قليلاً ولا أقوى على التركيز، وقد اشتقت الى العودة كثيراً، وأفتقد شواطئ بلدتي الجميلة والناس.

هل تعلم إنه لايوجد بحر هنا!! لقد ظننت عكس ذلك، وانني سأرى المياه الصافية والرمال الصفراء في كل مكان أذهب إليه، فهذا ما سمعته عن بلاد العرب، ورأيته عند نزولي في البلد المجاور للعراق قبل نقلي إلى وحدتي في العاصمة بغداد، غير إني لم أرَ سوى مدينة مشتتة سحقها الدمار والخراب ونال منها الجوع والكبت.

أذكر انني سكنت الايام الاولى في احد القصور التي كانت مُلكاً للرئيس السابق، وشعرت انني اميرة فيها، وكان كل افراد وحدتي يحسون الشعور نفسه.. وبعد ذلك نقلت إلى الفندق وكان كل واحد يُري الآخر التذكارات التي جمعها من ذلك المكان الساحر، كي يحملها معه لتكون شاهداً على بطولته في أرض المعركة.

كان عملي سهلاً في بداية المطاف، وبدا اننا نجحنا في المهمة بسرعة، وسرعان ما بدأ الشعور بالخوف يأكل جزيئات دمي لدرجة اني أشعر الان بأني مجرد دمية خالية من الروح.

أبي العزيز...

بدأت اعيش معنى الخوف وصرنا نتعرض لهجمات قوية شرسة من قبل مجهولين، ونتوجه بقية الايام نحو مداهمات عشوائية للقبض عليهم.

ذات يوم داهمنا منزلاً، وبدأ زملائي بتحطيم كل شيء فيه وضربوا صاحب المنزل وابنه الشاب بأعقاب البنادق حتى غابا عن الوعي، لأنهم لا يفهمون لغتنا، وأنا واقفة لا أجيد التفكير، وتنبهت إلى صوت زميلي يقول: (يبدو ان العجوز قد مات).

ان المشكلة الاساسية يا والدي إننا بقينا نفتش في البيت حتى اقتنعنا بأنه كان خالياً من السلاح.. غادرت عجلاتنا المكان تاركة بلاط البيت مغظى بدماء الابرياء.

تكررت هذه العملية أكثر من مرة، وهكذا كان من الطبيعي ان تزداد الهجمات علينا وان يزداد كره الشعب لوجودنا.

بدأ مسلسل العنف والعنف المضاد، أدركنا اننا استخدمنا القوة على نحو مفرط للغاية، حتى بدأ الناس ينقلبون ضدنا، وبدأت تظهر من قبل جنودنا أثناء المداهمات حوادث السرقة والتحرش والاغتصاب والقتل العشوائي.

أبي الحبيب... انا خائفة حد الرعب من ثورة هذا الشعب فهو شعب يمتاز بالطيبة المفرطة والصبر على ما لا يمكن الصبر عليه ولكنه سر الغضب والانتفاضة.

أشعر إن الموت آتٍ لا محالة... سامحني يا والدي على ما اقول لكني قد أغادر الحياة في أية لحظة.. ومن دون النطق بكلمة الوداع.

محبتي لك دائماً... وكل عام وانت بالف خير.

الحزن والخوف الذي حملته رسالة المجندة أنسى الذبابة الاستمتاع بالموسيقى التي كان يعزفها مجموعة من الهواة في المعسكر.

سئمت الذبابة الدموع والوجوه الباكية وفقد الاحساس بحزن من حولها بعد ان عاشت تراكم الألم وبصورة مفرطة مع عائلة (ابي علي)، لتقرر مغادرة المجندة تاركة نار الملامة التي كانت تنخر فيها.

ظلت تتخبط في انتقالات عجولة وترصد مشاهد وأفكار متناقضة بين الجنود وهي تنتظر عودة طائرة (الاباتشي) من مهمتها، بغية الانزواء بها حتى تصل إلى بر الامان.

طال الانتظار وصار الصبر شديد المرارة، ليدخل الذبابة في دوامة جديدة من اليأس والاحباط.

بدأت تفتش عن أي شيء جديد يلهيها ويقتل حسابات الوقت لديها، لم تجد سوى معاودة التفكير في مصير تلك العائلة المأساوية، وما حل بها من مستجدات.

ظلت تخمن وتضع احتمالات متعلقة بمصير الطفلة (أمل) ومستقبل البحث عن (علي)، ولأنها صارت تعرف طريق المعسكر جيداً كما تعرف الطريق إلى بيت (ابي علي)؛ فقد اندفعت بتطفلها المُلح تجاه البيت لمراقبة أخر المتغيرات.

(13)

غادرت الذبابة المعسكر متوجهة إلى بيت (ابي علي) وكانها في مهمة عاجلة، حلقت بثقة عالية وسيطرة تامة على الطريق الذي ظلته أثناء قدومها إلى المعسكر..صارت تعرف كل مسالكه وكإنها مرت به الف مرة سابقة، بقيت تندفع مسرعة تجاه البيت وهي تضع في خيالها احتمالات انفراج ازماتهم.

لم يكن الدرب عسيراً، وإنما وصلت الشارع المؤدي إلى البيت بكل سلاسة .. وعند دخولها مطلع الشارع دهمها صوت قراءة قرآن كان يصدح في أرجاء الشارع مما ذكرها بصلاة (ام محمد) ومناجاتها إلى الرب وأدعيتها المتوسلة، واعتقدت في الوهلة الاولى انه صوت مسجد الحي الذي ينبه بموعد كل صلاة.. إلا إنها اقتربت من المسجد وتوقفت على أحد جدرانه لتكتشف ان مكبرات الصوت المعلقة على منارته خانسة صامتة..وقد تكون مغلقة، أو مستغرقة في سبات عميق يصعب ان تصحو منه إلا في موعد حلول الآذان.

لم يثر الامر اهتمام الذبابة وعاودت التحليق تجاه البيت لتفاجأ بخيمة كبيرة منصوبة قباله، خيمة قطعت الشارع وحجبت مرور المركبات، كان يعلق على أطرافها مكبرات صوت عملاقة، تنطق بصوت واحد (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون..) ظلت الذبابة تحاول التركيز على الصوت وتقترب من الخيمة شيئاً فشيئاً بفكرها المشدود ونظراتها البلهاء إلى كل ما يحيط بها، حتى وجدت نفسها داخل الخيمة المكتظة بثرثرة الجالسين وموضوعاتهم الهامشية لتدخل في تناقض كبير ما بين الصوت والصورة.

أدارت بصرها يميناً لتجد رجلاً بديناً يتساءل بإلحاح عن موعد وجبة العشاء وهل ستتضمن اللحم والمشويات، غيرت مسار رؤياها نحو الشمال فتنبهت لشاب يحدق إلى ساعته اسرع من حركة عقارب دقائقها وكإنه تأخر عن موعد مهم.. كان يردد مع من كان جواره:

-         لقد مات وانتهى الموضوع لماذا نقضي اوقاتنا في المجاملات.

ثم استوقفها بعد ذلك منظر شيخ طاعن في السن كان يستغفر للفقيد ويدعو له بالرحمة والغفران.

ظل ينمو ذلك النقيض حتى انبهرت الصورة برؤية ابي علي وابنه يوسف وقد بديا وكأنهما شمعتان ذائبتان..

كانا يستقبلان عزاء (علي) من المحبين، بعد ان عثر يوسف على جثته متفسخة في مشرحة الطب العدلي..

(من عادة العراقيين إنهم يقيمون مجالس العزاء في خيمة كبيرة تنصب قبالة بيت الميت ولمدة ثلاثة أيام متتالية تتضمنها وجبتا الغداء والعشاء للمعزين).

كان الحزن منقوشاً في وجهيهما لدرجة انه جفف الدموع على جفنيهما، ونفى الكلمات عن الشفاه وعطل كل الاحساس ليكون صمتاً عميقاً يتناسب مع كم الألم الذي لا يود مفارقة العائلة.

لم ينتبه كل من في الخيمة إلى الذبابة لان فيهم من كان مشغولاً بمواساة أهل المَصاب بعبارات التودد والمجاملة، وآخرون تأثروا على فقيدهم ورضخوا للقدر رغما عنهم فيما كان سواهم قد شغلوا بأحاديثهم الخاصة التي لا صلة لها بالفاجعة.

حدة الصدمة التي أحاطت بالذبابة وارغمتها على استيعاب جرعات الحزن.. لتنتقل الى داخل البيت بغية تفقد بقية افراد العائلة.

كان البيت مكتظاً بالنساء اللواتي  اتشحن بالسواد تعبيراً عن تضامنهن مع (أم علي) ومشاركتها الاذى والقهر الذي حل بها..

العويل والبكاء وأصوات المناجاة والعتب على القدر بصرخات تحمل جبالاً من الغضب، ولطمات ايديهن على اجسادهن ووجوههن تهز جدران البيت لتشكل معزوفة من طراز خاص لا يفهمها إلا من عاش وجع إحساسها.

كانت الذبابة تراقب الحدث عن كثب، وبدا المشهد غريباً عنها لانها لم تشهد مثيلاً له في حياتها السابقة..

بقيت تمرر نظرها بين النساء بحثاً عن أهل الدار، وكلما اقتربت من احدهن أفزعها ندبها ونواحها على الفقيد وضرباتها الحزينة وغير المنظمة التي لا تخلو من القسوة على الجسد، لترغم على الابتعاد مرة أخرى.

تابعت الذبابة جوالتها باصرار عميق حتى حلول المساء، وبدأ مجلس العزاء ينفض، وبدأ الناس بالانسحاب الواحد تلو الاخر.

مع تلاشي المعزين وإقفال مكبرات الصوت وتنظيف خيمة العزاء واغلاقها استعداداً ليوم عزاء آخر، سيطر سكون مخيف على الشارع وحوّل البيت إلى منزل أشباح خال من الروح بعد ما انتفت الكلمات وما عاد للنظرات اي إحساس وبدا الجميع كأنهم صم بكم.

استأنفت الذبابة استكشافها للعائلة التي احتضنتها يوم دخولها إلى بغداد.

كانت الوجوه عابسة كئيبة تقدح منها شظايا براكين الألم، وكان كل واحد منهم يرغم نفسه على دفن جبال الحزن في داخله ويعمل جاهداً للتخفيف عن الاخرين.

ثقل الكارثة غيّر حياة العائلة وشتت أحلامهم وقتل الامل فيهم بعدما كان مزروعاً مع انتظارات مرة ولحظات ترقب عصيبة تتوسل عودة ولدهم، غير ان شيطان الحرب أراد رفع روحه إلى السماء.

كان كلا الأبوين يجتمعان في غرفتهما يقابلان صورة ابنهما الراحل المزروعة على جدارها بحزن ثقيل ودموع حارقة، ويعمد كل منهما الى معانقة وضم الاخر  بين ذراعيه ومواساته.

كانت نجلاء تتمتم لزوجها بصوت متقطع وكلمات تكاد تكون غير مفهومة، مفتشة عن سبل للتخفيف عن حبيب عمرها وشريك حياتها وملاذها الآمن، غير انها لم تجد سوى الدموع الحارقة والقبلات المواسية، فيما كان الاب يحتضنها وكإنه طفل في بداية حياته فقد في غفلة من أمره أعز دمية لديه وصار يسهر الليل باكياً من اجلها.

يعانقها كأم حنون وحبيبة مخلصة وزوجة صالحة، حتى بدت عيونه وكأنها انهار على كتفها.

كانت تمسد له رأسه وتخاطبه قائلة:

-         لقد رحل شهيداً إلى السماء، وهذا هو قرار الرب وما من اعتراض على حكمته.. اللهم أخرجه من ظلمات اللحود إلى جنات الخلود.

أرجوك كف عن الندب والبكاء فالميت يكره الدموع على موته، لا بل يشعر بالذنب تجاه ذلك.

أسألْ الله العلي ان يجعله من اولئك الذين يسميهم القرآن الكريم بالشهداء العليين.

على الرغم من حاسة السمع شبه المفقودة أو الضئيلة لدى الذبابة إلا إنها اكثر الحشرات انتباهاً وذلك بفضل عينيها الواسعتين اللتين تحملان عدداً هائلاً من العدسات المصغرة التي تقسم لها رؤية الاشياء مما كان يعينها على تجسس ومراقبة ما يدور حولها.

اعتزمت على إذابة جليد الحزن الذي اخذ يستشري ويوغل في قلبيهما في تلك الليلة الملغومة بالنواح والبكاء.

وبدأت تحوم في الحجرة كاشفة عن وجودها بينهما، لتهبط على جبين الاب الذي شققه الزمن وتنتقل لتتخطى على وجه الام الغاطس بالدموع بغية شغلهما بتداخلها الفضولي..

وسرعان ما استعجلت الام ابعادها وفتحت النافذة المطلة على الحديقة وبدأت تدفع بها وتفزعها لترغمها على الخروج من الغرفة.

كان الليل بهيماً حالك السواد وكأن السماء غيبت القمر والنجوم و أعلنت الحِداد تضامناً مع استشهاد (علي).

موجات البرد في الخارج منحت الذبابة فرصة الانزواء بين اوراق الشجر حتى انبلاج ظلمات الليل.

 أعلنت الشمس عن إشراقة جديدة وصباح جديد كشف للذبابة مأساة حديقة البيت التي أكلها الجفاف وألحق بها الإهمال أضراراً بالغة لتبدو وكانها صحراء قاحلة شققها العطش وغيب عنها الحياة.

ظلت تحدق بذهول وحيرة لما حل بالحديقة بعد رحيلها.. حتى قاطع دهشتها انفراج نافذة غرفة (أمل) في الطابق العلوي.

شدت عزمها وحثت جناحيها على الاسراع في الانتقال إليها، كانت تواقة لرؤياها والاطمئنان عليها.

حلقت نحو النافذة من دون الانتباه للعازل الحديدي المشبك الذي زرع بعد غيابها على شباك الغرفة ليمنع مرور اي حشرة تتسبب في انزعاج الطفلة وقلق نومها.

ارتطمت بقوة وهوت إلى الارض، يعتريها دُوار تسبب في شلل حركتها.

بقيت تعاني وتنازع الالم وتتقلب على الارض كانها خراف مذبوحة، غير إنها سرعان ما استفاقت من دُوارها وعادت إلى نشاطها، وحلقت مجدداً بحذر شديد بغية تقصي الامر.

اقتربت بحذر من النافذة واكتشفت المشبك الحديدي الذي منعها من الدخول وشكل لديها إصابة لتتوجه بعد ذلك سالكة طريقاً آخر إلى داخل البيت علها تجد سبيلاً لرؤية (أمل).

ظلت تحوم في محيط البيت غير آسفة على وقتها وجهدها الضائعين، لم يكن لديها شأن في العائلة سوى إرضاء فضولها الذي أخذ يتنامى مع تلاحق الاحداث.

استأنفت تفتيشها عند مدخل جديد نقلها الى قلب المنزل حيث وجدت صورة (أم محمد) بكرسيها المتحرك، فعجلت بالانتقال إليها لتجدها في حالة يرثى لها.

كعادته كان الصمت سيد حياتها.

كانت في السابق تكرس وقتها وتقتل وحدتها بانجاز بعض الاعمال المنزلية الخفيفة وصناعة الحلوى وعلب الكاتو لاطفال الحي، غير ان خبر موت علي أضاف إلى حزنها دنيا من الحزن.

تنبهت الذبابة لوجهها وتحركاتها التي اختلفت كثيراً عن الرؤية الاولى، كانت تدور عجلات كرسيها بخطى وئيدة، لتبدو وكإنها شبح استوطن مقبرة وعشق سكونها.. مما استعجل الذبابة في الهروب تحسباً لاية مفاجأة.

(14)

رضخت العائلة للمأساة رغماً عنها وصار كل فرد فيها يصارع نفسه ويلزمها على تقبل جراح عميقة وحياة مظلمة.

منذ لحظة غيابه في ميدان الحرب، وبعد ان عاش الكل دوامة البحث عن أثره وقبل ان يَعلم الجميع بموته.. كانت سارة أكثر المتيقنين بالكارثة، تتعامل مع الحدث بروح واقعية لا تخلو من الوجع.

لم تكن سارة اختاً له فحسب، وإنما كانت حبيبة مميزة لا يجيد الحديث معها الا بعبارات تتخللها مودة قائمة على الحب والغزل اللامنتهي.

عملت على ان تكون الأقوى سيطرةً على مشاعرها في تلك الازمة، غير ان ذلك الكبت والصبر على الفاجعة لم يدم لما بعد العثور على جثمان (علي) في مشرحة الطب العدلي.

خبر الموت عصف بها كزلزال هَدم كل حياتها وأحالها إلى وضع نفسي بائس.

صارت ترصد صورته ما بين الحلم واليقظة، تسمع مخاطبته ونداءاته العفوية وضحكاته المرحة في كل صوب، تخاطبه وكانه جليس حوارها باذان صاغية كما في السابق:

-                       ليتني كنت طي اللحد قبل فقدانك، ليتني غادرت تعاسة الكون وزيفه معك.

انت تعلم اني اعشق الوحدة واحب الانفراد بنفسي، ولكن ليس عنك يا صديقي.. فلماذا  البعاد.

ترى من سيغازلك ويمرر أصابعه بدفء وحنان على عنقك صباحات الإجازة، ومن سواي سيختار لك الوان ربطة العنق الجميلة ويربطها لك بأناقة؟

هل نسيت يوم طُلب منك الزواج من إحدى بنات الاقارب.. هل تذكر إجابتك حينما قلت انك لن تجد اي امرأة سواي بين نساء الكون تجيد التعامل معك بهذا الكم من الحب والحنان فيما وجدناك ترفض فكرة الارتباط لانك لا تجيد البعد عني.

يا حبيبي صارت حاجتي لرؤياك تؤرقني، لا بل تشكل في داخلي أمراضاً مزمنة لا علاج لها.

ما دمت قررت الغياب فمن سيقابل ويختار لي زوج المستقبل.. ومن الذي  سيرسم لي خطواتي بحرص مثالي، مَن سينقذنا من وحوش الزمن؟

طال الحوار حتى اتعبتها مناجاة طيف عزيز قلبها الراحل، إلى ان غصت بنوبة من البكاء الهستيري الذي ينخر في القلب ويحطمه.

(15)

لم تعد الآثار المدمرة لمرض سرطان الدم الخبيث (اللوكيميا) الذي افترس جسد (أمل)، مقتصرة على نفسيتها وجسدها النحيف وطفولتها البريئة، وانما تسللت تلك التداعيات تدريجيا إلى نفسية أبويها وأثرت سلبا على وضعهما العائلي الذي ازداد قسوة مع مرور الوقت وتفاقم الازمات العائلية.

كان يوسف يردد باستمرار وهو يحتضن وحيدته وأمل حياته ويحبس أنين ألمها بصدره" لن يُصيبنا الا ما كتب الله لنا " ولا يجد سبيلاً للخلاص مما يعانيه سوى الدعاء والتوسل إلى الرب طالباً الفرج.

ثقل المصائب علمت يوسف الصبر على بلواه، مما ساعده على تحمل زمام المسؤولية العائلية التي القيت على عاتقه بعد رحيل علي وتعطل كل من في البيت.

على الرغم من حزنه العميق والانكسارات التي خلفتها رؤية صورة علي في مشرحة الطب العدلي بعد ان فتش عنها بين آلاف من صور الشباب الذين اغتالتهم الحرب والتي كانت مؤلمة حد الرعب، إلا انه شغل فكره وكرس ما تبقى من عمره لعائلته وابنته التي شوهت صورتها نوبات الألم.

كان يمني نفسه بايجاد حل لانتشالها من دائها الخبيث، يحلم برؤياها بعيداً عن سرير الموت، تستأنف تحركاتها وتعبيراتها الطفولية التي كانت تعد بسمة العائلة الوحيدة.

ظل يفتش عن سبل لانقاذها بأكف قطعها العوز وفكر سيطرة عليه البطالة وأحاله الى رماد.

بدأ يتهرب ممن حوله وبات يغض نظره عن تعابير وجوههم الحزينة، بدأ يطرق الباب تلو الآخر باحثاً عن اية فرصة عمل تمده بالرزق الحلال وتسد ظمأ أسرته وتوفر علاجاً ينقذ (أمل) من الضياع.

(16)

عاشت الذبابة عالماً من الحزن مع العائلة التي لم تجد في حياتها سوى الشقاء والمرارة، راقبت حياتهم المأساوية بفضول عالٍ، إلى ان جف بها بحر الصبر وأرضت فضولها.

قسوة الايام التي قضتها في بغداد جعلتها خائفة من غير ان تدري ما يخيفها، بدأت تشعر بطابع الوحدة والغربة، وصارت تتوسل العودة وتتمناها وتطمح لتحقيق رغبتها في الرجوع الى حياتها الطبيعية الخالية من الهم.

ودونما ندم ولا تراجع هجرت العائلة نهائياً مبتعدة عن ضجيج ألمها الصاخب بالمشكلات.. قررت الرجوع والاستقرار في المعسكر على أمل رصد طائرة الحرية (الاباتشي) التي أقلتها الى بغداد وكانت سبب تعاستها.

مرت الايام عجولة، وبدأت الذبابة تؤمن بأن القدر يتعمد إيذاءها ومعاقبتها بقسوة لانها تبطرت على نعمة العيش التي كانت تشهدها في مركز الابحاث في الولايات المتحدة الامريكية، وصلت حد الجزع وصارت آمال العودة إلى عالمها القديم حيث الترف والدلال اللامنتهي تنفرط شيئاً فشيئاً وكانها عنقود عنب ناضج، بعدما تاهت افكارها حينما تنبهت لوجود عدد كبير من طائرات (الأباتشي) في المعسكر، طائرات كانت تقلع وتهبط من دون الاحساس بوجودها.

بدأت تراقب كل شاردة وواردة في المعسكر، وصارت ترصد الروح المعنوية المتدهورة لعدد كبير من الجنود الذين كانوا يتبادلون همومهم وشكواهم بسبب طول مدة عملهم بعيدا عن وطنهم وأهلهم، مما خلق لديهم حالة من الإحباط والاكتئاب.

رضخت الذبابة المنكوبة الحظ للواقع الذي زجت فيه بسبب رغبتها بالتحرر.. بعد ان آمنت بأن معظم من حولها من الجنود يعيشون الاحساس ذاته.

وذات مساء هادئ، تخفت عن انظار الجنود  في وحدة الآليات العسكرية، وفي غفلة من الامر قُطع ذلك السكون وشُغلت العجلات وحمل الجنود المدججون احدث الاسلحة التكنولوجية الفتاكة، لتشكل رتلاً عسكرياً عملاقاً.

استعجلت الذبابة أمرها وهي التي كانت تفتش عن وجود أية ثغرة تخرج من خلالها الى عالم يوفر لها حياة كريمة كتلك التي كانت تعيشها في المختبر، الانضمام الى الجنود ودخلت معهم العربات وهي تتأمل لحظة الخلاص من هذه التجربة المريرة.

اتجه الرتل بحماية جوية سيطرت على سماء بغداد باسرها تحسباً لأي طارئ،  وذلك لأداء مهمة دهم لأحد المنازل التي يعتقد إنها مستودع للاسلحة.

كان القمر خافتاً في ذلك المساء، ومصابيح الشوارع نائمة في بغداد بسبب انقطاع التيار الكهربائي.

وصل الرتل منطقة الحدث وسرعان ما فرض الجنود سيطرتهم على المكان.

كان كل منهم يمتثل للاوامر بحذر وجدية عالية.

بدوا وكأنهم فقدوا النطق واعتمدوا لغة الاشارة فيما بينهم.

اتخذ كل واحد مكانه الخاص، أحاطوا البيت من كل صوب، وأمر المسؤول عن المهمة تفجير باب البيت الخارجي واعتقال كل من فيه.

طبق الجنود تعليمات قائدهم الحرفية غير ان أحدهم كان يحمل معه انطباعاً مشبعاً بالعنف، حيث استغل الأوامر بصورة أكثر دموية، واغتنم لحظة الانفجار ليطلق ضحكات ساخرة ويمنح الترخيص لسلاحه الفتاك ليطلق وابلاً من الرصاص داخل البيت بصورة عشوائية غير آبه بالنتائج، ولم يتوقف إلا بعد ان نفدت الذخيرة من السلاح.

دهم الجنود البيت واكتشف احدهم (فريدمان) إصابة طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، هرع (فريدمان) مهملاً مهمته العسكرية لانقاذ الطفل المغرق بالدماء، فيما استأنف زملاءه عملية اعتقال افراد العائلة..

وبعد التفيش الدقيق والتحقيق مع المعتقلين تبين لمسؤول المهمة ان المعلومات التي جاءوا على أساسها غير دقيقة بما فيه الكفاية، لأن البيت كان خالياً من اي سلاح وإنه يعود لاستاذ جامعي، وهو الأمر الذي أرغم المسؤول على الاعتذار ببرود عميق، فيما ظل (فريدمان) يتوسل الفريق الطبي ايقاف نزف الطفل البريء، إلى ان جاء أمر الانسحاب.

عاد الجميع الى المعسكر، وأخذ كل واحد منهم مكان استراحته، فيما ظلت الذبابة داخل إحدى العجلات منهمكة في سبات عميق استمر لما بعد شروق الشمس، لتستيقظ على ضحكات ذلك الجندي العنيف، الذي كان يروي لزملائه بطولاته في الليلة السابقة.

كان يتحدث عن دماء الطفل الذي اصيب من جراء تهوره غير المنطقي، يتحدث عنه وكانه اغتال ارهابياً يرتدي حزاماً ناسفاً.

ابتعدت الذبابة عن حديثه بعد ان تنبهت لـ (فريدمان)، الذي كان منزوياً في عالم من العزلة والكآبة، يحدث نفسه بصوت مسموع:

-         لقد مضى من العمر الكثير وانا اخدم في جيش الولايات المتحدة بولاء واخلاص، شاركتُ في اشرس الحروب واكثرها خطورة وتنقلت من دولة لاخرى وها أنا اليوم في العراق بعد إنهاء مهامي في إحدى القواعد الامريكية بكوريا الجنوبية.. لقد عشت الكثير من الرعب في حياتي ولكني مازلت محافظاً على انسانيتي العالية وضميري الحي.

كان يحدث نفسه والدموع تغرق وجهه:

ترى ما الذي حل بذلك الطفل المسكين، والذي قارنته بعمر ابنتي الوحيدة.. راح ضحية تهور جندي مراهق مشبع بالدم.

نال مني الشوق لزوجتي الحبيبية وطلفتي الصغيرة التي صرت أرى صرخات ذلك الطفل وتعبيره عن ألم الاصابة في وجهها.

هذه أول مرة في حياتي اشعر بالتقصير والذنب، بدأت اخجل من مصارحة نفسي، صرت أحس بانني فاقد للانسانية، واخاف ان تمر ليلة على عائلتي كتلك التي مرت على الطفل وعائلته مساء أمس.

ترى الى متى سأظل بعيداً عنهما، وكيف لي ان اتخلص من هذا الاحساس المؤلم؟

قطع كلامه بنفس عميق.. وسحب مدفعه الرشاش الذي لم يفارق يده منذ زمن طويل بحيث بدا له وكانه جزء منه، ثبته على صدره واطلق رصاصة مزقته وأودته قتيلاً في الحال.

صوت الرصاصة أفزع الذبابة ودفع بها الى مكان آخر، وفي حالة من القلق رصدت عن بعد تجمهر الجنود حول (فريدمان) الذي تحول الى جثة هامدة.

مع موته، ظلت الذبابة تعلو وترتفع في السماء، وهي تستعرض المشاهد كلها التي احاطتها منذ لحظة دخولها الى بغداد.. لتكتشف اخطاءها في السعي لتحقيق حريتها بالطيران والتحليق، ونبذها كل الايجابيات التي كانت تعيشها من دون تلك الحرية، ولتصل الى قناعة تامة وهي استحالة عودتها الى عالمها الهادئ الجميل في مركز الأبحاث.

 

تمت

بغداد  2012

 

المؤلف في سطور

نهار حسب الله يحيى

قاص وروائي عراقي

ولد في بغداد 1989

يحمل الشهادات الآتية:

·       دبلوم ـ معهد معلمين / بغداد

·       شهادة في الأعلام والعلاقات من جمعية العلم والمعرفة/ بيروت

·       شهادة في التصميم الطباعي والصحفي من الجامعة التكنولوجية / بغداد

العضوية:

·       عضو اتحاد الادباء والكتاب العراقيين

·       عضو اتحاد الصحفيين والإعلاميين العراقيين

·       عضو مؤسسة فكر الثقافية

·       عضو المجلس العراقي للسلم والتضامن

·       عضو المركز الصحفي الاعلامي المشترك (C.I.P.I.S)

مؤلفاته:

·       (ثورة عقارب الساعة)  مجموعة قصصية قصيرة جداً ـ  القاهرة / 2011

·       (ذبابة من بلد الكتروني) رواية ـ دمشق / 2012.

·       (جنون الضحك) مجموعة قصصية قصيرة جداً ـ مخطوطة .

·       ترجمت عدد من قصصه الى اللغة الانكليزية والتركية والفارسية.

للتواصل مع المؤلف:

Nahar_love_2009@yahoo.com

https://www.facebook.com/nahar.hassaballa