"التطبيع" كلمة سال عليها الحبر الكثير، حين طافت على السطح قبل سبعة وعشرون عاما، عندما أطلقت أول معاهدة صلح عربية من قبل الرئيس السادات مع "إسرائيل"، والتي كانت تتضمن اتفاقات للتطبيع الإعلامي والثقافي والعلمي، تعثرت نوعا ما بفعل حاجز شعبي كبير حال دون تقبل الجسم الغريب الذي زرع عنوة، في جسد المنطقة. أوتار كثيرة عزف عليها المطبعون مع اسرائيل منذ عقود، ومعظم مقطوعاتهم كانت تأتي نشازا، فلا تجد سوى الأذن المصابة بالعمى السمعي كي تستقر بها، قد يكون هذا العمى بلاءا من الطبيعة، وقد يكون أيضا نوعا من البلاهة التي تجعل المرء يشطح في خياله، ليجد نفسه في نهاية الأمر غارقا وسط رمال متحركة. هنا كلمات قليلة (قليلة جدا) عن مؤتمر الحائزين على جوائز، كتبت على عجل أو على خجل، خجل من أن تكتب.
تواجد امني كثيف في كل مكان،عسكر يوقفك عند كل خطوة ليسألك عن بطاقتك الصحفية، سياح غادروا المدينة على عجل ، وأنباط يتذمرون من ضيف ثقيل، جاء ليغلق لهم مدينتهم و يعطل أرزاقهم. كان هذا في مدينة البتراء التي بدت وكأنها أفرغت من سكانها.
"مؤتمر الحائزين على جوائز نوبل" اسم المؤتمر الذي جمع عدد من الحائزين على جوائز نوبل على مدار سنتين لمناقشة المخاطر التي تهدد البشرية، وذلك حسب قول الجهات المنظمة لهذا المؤتمر، أما في هذه السنة فلم يختلف المؤتمر كثيرا ولم ينجح إلا في استفزاز مشاعر الناس، عندما استضاف المؤتمر في أول أيامه رئيس وزراء الكيان الصهيوني "اولمرت" ، حيث تزامن ذلك مع ذكرى اغتصاب فلسطين "يوم النكبة الفلسطينية"، تلك التي أدت إلى تهجير أكثر من نصف سكان فلسطين كي يستبدلوا بمشردين جائوا من مختلف أصقاع الأرض.
لم يحز اولمرت على جائزة نوبل، ولم يكن ضمن الشخصيات التي من الممكن أن يستفاد منها في هذا المؤتمر، ذلك إذا سلمنا بأن تلك المؤتمرات من الممكن أن تساهم في حل المشاكل التي تعاني منها المنطقة. لم يتم الإعلان للصحافيين عن حضور اولمرت إلى المؤتمر ، وجاء كالذي هبط فجأة من السماء ، ويبدو أيضا أن منظمي المؤتمر خصصوا تلك الفسحة لاولمرت، ليظهر بشكل حمامة السلام الذي ينشد الأمن والازدهار للمنطقة، حيث جرى حوار بين إيلي ويزل احد منظمي المؤتمر والحائز على نوبل لعمله على ضحايا الهولوكوست، وبين اولمرت، فجاء الحوار مستغربا جدا ولا يمت بأي صلة لموضوع المؤتمر، عندما تركز الحديث على هاجس "إسرائيل" الأمني، وبشكل هجومي على حزب الله والفصائل الفلسطينية (الإرهابية) والديمقراطية الفلسطينية الشبيهة "بديمقراطيات الدكتاتوريين والقتلة"، وبلغت السخرية أوجها عندما قال اولمرت بأنه "لايستطيع النوم كل يوم بسبب معاناة أطفال فلسطين وقلقه عليهم، وأن الفلسطينيين يوجهون الضربات لإسرائيل، لكنه يخشى الرد لئلا يتسبب في قتل هؤلاء الأطفال"! وعن مبادرة السلام العربية التي رفضها من خلال إيماآته الساخرة عند سؤاله عنها، دعا الزعماء العرب للاجتماع في إسرائيل! وفيما بدا انه محاولة واضحة لتطويع الشباب وغسل عقولهم لتقبل الجانب الإسرائيلي، فقد جمع المؤتمر طلاب جامعات عرب من الأردن ومصر والكويت والسعودية ولبنان والمغرب بالإضافة إلى طلاب من إسرائيل، جيء بهم ليتحدثوا عن السلام بشكل ساذج ساوى بين الجلاد والضحية، و يندرج ذلك الآن تحت محاولات تجري حاليا من قبل أطراف عديدة لاختراق الشاب العربي لتصوير إسرائيل بشكل دولة طبيعية تسعى إلى السلام.
عند عودة الصحفيين إلى الفندق الذي وضعوا فيه، وهو بالمناسبة فندق يبعد عن المدينة مايقارب 25 كيلو، بينما وضع الصحفيون الغربيون والإسرائيليون في فندق "الموفنبك" حيث خدمة الخمسة نجوم والأبواب المفتوحة لهم لإجراء الحوارات واللقاءات والأجواء المريحة، أما الصحفيون العرب فعانوا كثيرا من حجب المعلومات وبعد مكان إقامتهم عن المدينة، وكان من شأن هذا أن يطرح تساؤلات كثيرة. عند عودة الصحافيين إلى الفندق المخصص لهم، وتجمعهم في مطعم الفندق لتناول وجبة العشاء، كان بإمكان أي شخص أن يتلقف العديد من الأسئلة الطيارة التي كانت تسبح في الهواء، فكانت قاعة تعج بالأسئلة وبالسخرية.
هل ينقصنا مؤتمرات تسوق إسرائيل كدولة معنية بالسلام؟ وهل ينقصنا مزيدا من التطبيع المجاني الذي لا يستفيد منه سوى الإسرائيليين؟ ما معنى أن يدعى اولمرت إلى المؤتمر، في الوقت الذي تقوم فيه حكومته بمشروع توسيع "القدس الكبرى" وبناء المزيد من المستوطنات؟ هل هو مؤتمر لتسويق إسرائيل كداعية سلام؟ أم أن دعوة اولمرت جاءت لإنقاذه من الوحل الغارق فيه بعد تقرير فينوغراد؟ هل تضغط تلك المؤتمرات فعلا على إسرائيل لإجبارها الخوض في عملية السلام؟ أم أن تلك المؤتمرات لا تقدم سوى المزيد من التنازلات والمزيد من الانبطاح أمام إسرائيل؟ كيف يسهم تطوير علاقات مع إسرائيل في كبح جماح جرائمها التي تنفذها ضمن مخطط صهيوني مدروس؟
وللأسف وكما كان متوقعا فلم يخرج المؤتمر بالكثير، سوى ببعض التوصيات التطبيعية الباهتة والتي لا تمس جوهر المعضلة، نذكر منها على سبيل المثال: "تدريس اللغة العبرية للطلاب العرب والعربية للإسرائيليين" و"إقامة ورش عمل بين الأساتذة العرب والإسرائيليين" و"تنسيق فلسطيني إسرائيلي لتأمين أوضاع صحية ملائمة للفلسطينيين"! و"ضرورة خروج الإيديولوجيات من قطاع العلم والتعليم من خلال مشاركة حقيقية بين الأطراف المتنازعة"، ولا نريد أن نطيل في التوصيات حرصا على مزاج القارئ.
ويبدو أن العالم مازال إلى الآن يخشى من اتخاذ موقف ضد الاحتلال الصهيوني، وذلك بالرغم من علمهم بأن الاحتلال هو خالق مشاكل الشرق الأوسط، كان ذلك واضحا خلال أعمال المؤتمر الذي لم يناقش مشكلة الاحتلال ولم يتحدث عنها إطلاقا، الأمر الذي افرغ المؤتمر من مضمونه، وعكس مقدار السذاجة التي تم التعامل بها من خلال المشاركين في المؤتمر، فما هو نوع البلاهة التي تمتع بها المشاركون، عندما ناقشوا الأوضاع الصحية الرديئة ومشكلة الاقتصاد والبيئية ومشكلة التعليم في فلسطين، دون أن يذكروا الاحتلال المسبب الرئيسي لتدهور الأوضاع الإنسانية في فلسطين. عند سؤال ايلي ويزل منظم المؤتمر والحائز على جائزة نوبل عن عدم ذكر الاحتلال ومناقشته، كونه السبب الرئيسي لكل المشاكل التي تعاني منها المنطقة، أجاب بأن المؤتمر لايبحث في المواضيع السياسية! وأنهم لم يشاءوا أن يسيسوا المؤتمر! وأي غبي في العالم يستطيع أن يستوعب تلك الإجابة؟ هل أصحاب العقول الأذكى في العالم بلغ بهم الاستخفاف بالعقول العربية إلى هذا الحد؟! فما معنى أن تناقش مسألة التعليم في فلسطين ومعظم أطفال فلسطين لايستطيعوا وصول مدارسهم بسبب نقاط التفتيش والاغلاقات المستمرة.
لم يتحدث الإعلام الرسمي الأردني أبدا عن حضور اولمرت للمؤتمر، وعندما تحدث التلفزيون الأردني عن الطلاب الذين حضروا، تم عمل مقابلات معهم اقتصرت فقط على الطلاب العرب دون إظهار الطلاب الإسرائيليين، مما عكس مقدار عدم الثقة بالنفس والشيزوفرينيا التي تتخبط بها بعض الجهات الرسمية. بينما اعتصم المئات من أعضاء ممثلي النقابات المهنية في عمان، لمدة ساعة احتجاجا على زيارة أولمرت إلى الأردن. حيث قاموا برفع لافتات استنكروا فيها زيارة اولمرت التي " لوثت مدينة الأنباط العربية – البتراء"، بالإضافة إلى انتقادهم الحكومة الأردنية وعلى كيفية تعاملها مع الجانب الإسرائيلي المستهزئ دائما، وأعربوا عن موقفهم الرافض لـ "التطبيع" في ظل أوضاع مهينة ومذلة حولت ثقافة الأقوى اقتصاديا وعلميا وعسكريا إلى الثقافة السائدة والمسيطرة والفارضة للرؤى والحلول التي تتوافق مع مصالحها.