يحلل الباحث الفلسطيني هنا رواية متميزة تهتم بما أحدثته من تجديدات سردية في أدب السجون العربية. إذ تكشف عن العلاقة بين تجليات المكان وأهميته في صياغة رؤية الرواية وموضوعها، وعن تقنيات الصمت والجروتيسك وقدرتها على كشف طبقات جديدة من المعاناة والغرائبية في تجربة السجن العربية.

الحياة داخل قوقعة

قراءة في رواية «القوقعة – يوميات متلصّص» لمصطفى خليفة

فياض هيبي

مقدّمة
تزامنت قراءتي لهذه الرواية مع قراءتي لخبر في صحيفة "القدس العربي"  11/9/2013، بعنوان: "فظائع المخابرات الجوية بدرعا: فارّ من العدالة السورية يروي للقدس العربي تفاصيل مفزعة". رغم قصر الخبر المذكور نسبيا إلاّ أنني شعرت كأنني أعيد قراءة الرواية، أو أجزاء منها على أقل تقدير مرة أخرى وبتفاصيلها الدقيقة. في هذا الخبر ما يؤكد صلة الأدب بالواقع، هذه الصلة التي نؤمن بها إيمانا قاطعا والتي لا تنفك تؤكد لنا المرة تلو المرة أن الأدب عامة والأدب الجيد بصفة خاصة لا يمكنه أن يبتعد عن واقعه، فيه ينشأ ومنه ينطلق ليخاطب الشعوب والمجتمعات عامة. ولا أنكر أن الخبر المذكور قد حسم مسألة ضرورة الكتابة عن هذه الرواية وإن كنّا نراها ضرورية في كلّ الأحوال وعن كلّ النصوص التي تستحق ذلك.

قراءتي في الرواية أعادتني مرة أخرى إلى أدب "ينعم" به المشهد الروائي العربي وهو دون شك أدب السجون. ولا نقصد بذلك نفي الأدب المذكور عن المشاهد الروائية الغربية أو الأجنبية وقصره على الرواية العربية فحسب، بل نقصد بذلك حضور هذا الأدب في الرواية العربية حضورا بارزا من ناحية، وعبثية الواقع وسوداويته وتشويهه وغرائبيته في رواية أدب السجون العربية  تحديدا من ناحية ثانية، مما يكسبه صفة "النعمة" مفارقة. كما تحاول هذه القراءة السريعة أن تقف عند إسهامات رواية القوقعة وكاتبها مصطفى خليفة في إثراء أدب السجون وتجديده وتحديثه على مستوى الأسلوب بما يتوافق مع المرجعي الراهن مقارنة مع النصوص السابقة التي تنضوي تحت مسمّى أدب السجون. لا يمكن الحديث عن أدب السجون في الرواية العربية من الناحيتين: التاريخية والنظرية دون ذكر دراسة د. سمر روحي الفيصل: " السجن السياسي في الرواية العربية".(1) فقد ساهمت هذه الدراسة في تحديد ميّزات هذا الأدب ومراحله الهامة: من لحظة الاعتقال التي يتعرض لها السجين مرورا بمرحلة الاستقبال والتعذيب والاعتراف وانتهاء بالفترة التي يقضيها السجين في سجنه وما تحتويه هذه الفترة من علاقات وجدليات وتحولات متطرفة يمر فيها، مؤكدة على التعذيب الوحشي في كلّ مرحلة من هذه المراحل دون استثناء. ولا تحيد رواية القوقعة عن هذه المراحل بالتأكيد من جهة، بل ويحرص خليفة على تسليط الضوء قدر الإمكان على العبثية الفوضوية والسادية والهمجية في التعذيب بصورة تبعث على الاشمئزاز والاستفزاز  في آن معا من جهة ثانية. لكننا نرى أنّ خليفة في هذه الرواية، وزيادة على تقدّم، لا يتوقف عند هذه المراحل فحسب، بل يتجاوزها ليصور ويبدع أساليب وتقنيات جديدة لم نعهدها في أدب السجون وهنا بالضبط تكمن قيمة هذه الرواية ودورها في المشهد العربي بصفة عامة وفي رواية أدب السجون العربية بصفة خاصة. وهذا ما سنحاول الوقوف عنده وتوضيحه فيما تبقى من هذه القراءة.

القوقعة كمكان

تعدّ هذه التقنية من أهم التقنيات التي تضاف إلى أدب السجون وتسعى إلى تحديثه وتطويره على المستوى النظري أولا. فالمكان ركن هام من أركان العمل الروائي ويساهم كما الأركان الأخرى في بناء العمل وصياغة دلالته العامة. وقد أشار الباحثون والنقّاد إلى نوعين رئيسين من المكان في الفن الروائي بصفة عامة هما المكان المغلق والمفتوح. ومما لا شكّ فيه أنّ طبيعة المكان بين مغلق ومفتوح تنسجم مع اتجاه النصّ وفكرته العامة. عندما يدور الحديث عن رواية أدب السجون يحضر الفضاء المغلق تلقائيا نظرا لطبيعة السجن في التقييد والكبت، فالسجن ذاته مغلق والزنزانة مغلقة وحتى الساحات، إن وجدت، لا توحي بالانفتاح والتنفس والحرية ولا تخلو من أثر الانغلاق بتاتا لأنّها جزء من سجن يقوم على التقييد والكبت، فهي (الساحات) متنفس لا أكثر في هذا الانغلاق المحكم والعام. ولا شكّ أن الزنزانة كمكان محكم الإغلاق له حضوره البارز في هذه الرواية، إضافة إلى مكان من نوع آخر يعطي الرواية بعدا دلاليا هامّا ويؤسس لتقنيات جديدة تساهم في إثراء هذا الأدب وتعزيز الجانب الحداثيّ فيه بصفة عامة. ونقصد "بالمكان الجديد" القوقعة. طبيعة هذه الكلمة تؤكّد الانغلاق، فهي عند بعض الكائنات الحيّة آلية دفاعية ضد أيّ خطر خارجي محتمل، فيها "يقوقع" الكائن الحيّ جسمه أملا في الحماية والنجاة.

ولا يبدو هذا المعنى بعيدا بتاتا في مستواه "البشري" فالإنسان ينسحب من عالمه أو المحيط الذي يعيشه "ليتقوقع" وينغلق على ذاته ليدفع عن نفسه كذلك تهديدا أو خطرا ما. وهكذا نرى أنّ الانغلاق صفة ملازمة لهذا " المكان"، ومن الأهمية بمكان أن نؤكّد أن القوقعة في المستوى الإنساني هي قوقعة مفترضة لا حقيقية واقعية كما هو الحال عند بعض الكائنات الحية. هذا ما يجعل من مهمّة الحماية والدفاع مهمّة صعبة دون شكّ. القوقعة في هذه الرواية تضاعف الانغلاق القائم في أمكنتها، فإذا كانت الزنزانة مغلقة بطبيعتها تأتي القوقعة لتزيدها انغلاقا على انغلاق. الزنزانة، على انغلاقها، قد تشكّل متنفسا للسجين، في هذه الرواية خاصة، لأنّ وجود السجين بداخلها يعني الحياة! لأنه بذلك يكون قد خرج "سالما" من "حفلات" التعذيب وكتبت له فرصة أخرى للحياة. فإذا كانت الزنزانة تعني الحياة للسجين (مفارقة) فما الحاجة إذن لمكان آخر أكثر انغلاقا؟ وهنا بالضبط تكمن المفارقة، فالظروف التي عاشتها الشخصية المركزية في هذه الرواية جعلتها تبحث عن أمكنة أكثر انغلاقا لتحصن نفسها داخل الانغلاق العام، هذه المعادلة المركّبة تؤكّد أن طبيعة المكان الأول (الزنزانة) لا تخلو من السوداوية والعبث رغم المتنفس الضيق والمؤقت الذي تمنحه للسجين كما تقدّم وإلاّ لما كانت الحاجة لمكان أكثر انغلاقا كالقوقعة. الحاجة إلى قوقعة تبرهن بما لا يقبل الشكّ أن الأمكنة باختلاف أنواعها في أدب السجون عبثية وسوداوية أولا وقبل كلّ شيء! تبحث الشخصية المركزية من خلال القوقعة عن مهرب وخلاص من المحيط (الزنزانة) الذي بات يشكّل خطرا محدقا يهدّد حياتها يوما بعد يوم، فكانت حركة التقوقع الأولى عندها، إن صحّ التعبير، من الخارج إلى الداخل، بمعنى من المحيط الخارجي في الزنزانة إلى الذات كما هو مبيّن في الرسم التالي:

 تقوقع

المحيط (الخارج)                                داخل الشخصية (نفسها)

وهي الشخصية المختلفة عن المجموع أو التي أعلنت صراحة اختلافها عن المجموع (جماعة الإخوان المسلمين مقابل سجين مسيحي أولا ويصرّح بإلحاده ثانيا) مما جعلها منبوذة وهدفا لمعظم المحيطين بها "لتطهير" المكان من الدنس والكفر والإلحاد على حدّ تعبيرهم. فكان لا بدّ لهذه الشخصية أن تبحث عن مهرب يقلّل من الاحتكاك مع المحيط ويقلّل بالتالي من احتمالات الموت الذي بات قريبا. وهكذا رسمت القوقعة هذه المساحة المفترضة والمطلوبة بين الشخصية والمتربصين بها في المحيط مما ساهم تدريجيا (إضافة إلى عوامل أخرى) في التقليل من جدية التهديد. لم تكتف الشخصية "بالتقوقع" على ذاتها فقط هربا من التهديد المحيط بها إنما عملت على التلصص من خلال القوقعة على هذا المحيط، الأمر الذي أكسب الشخصية مساحة أخرى لقراءة الواقع والمحيط من حولها قراءة متأنية وثاقبة تعينها في إجادة التصرف في مواقف حرجة محتملة: "كسلحفاة أحسّت بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي....أتلصّص، أراقب، أسجّل، وأنتظر فرجا"(2).

هذه الأمكنة "المكبوتة" تفضح الواقع وتعريه بصفته المسئول الأول والأخير عن هذه الحالة، فهذه الممارسات العبثية داخل الأمكنة المغلقة فرضها واقع لا يقلّ عبثية وهمجية، واقع جعل المرء يشكّ في نفسه قبل أن يشكّ في الآخرين وأفرغ من ذاكرته كلّ مفردات الأمن والأمان ليفرض سيطرته وبطشه كنتيجة بديهية لا تقبل النقاش. فإذا كانت روايات أدب السجون بصفة عامة وقفت عند الزنزانة بأشكالها المتعددة في تصويرها للمكان، فإنّ هذه الرواية تعدّت ذلك لتؤسس لأماكن جديدة لم تكن معهودة من قبل في روايات أدب السجون العربيّة من ناحية، ولتساهم عبر هذه الأمكنة الجديدة في فضح الواقع أكثر فأكثر.

تعطي طبيعة القوقعة في هذا النص دلالة أخرى على عبثية الواقع وسوداوية المرجعيّ: " أضحت مقاطعتهم لي تامّة. التهديد لا زال مسلّطا. جلست على فراشي ساهما أتحاشى النظر إلى أيّ اتجاه محدّد. مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين: جدرا صاغه كرههم لي. كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز، وحاولت جاهدا ألاّ أغرق في هذا البحر. والجدار الثاني صاغه خوفي منهم! فتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل، وهو الأمر الوحيد الذي استطعته"(3)  لم يكن الحديث عن مجرد قوقعة تعطي الشخصية المركزية  المساحة المطلوبة بينه وبين السجناء في الزنزانة للتخفيف من حدّة الاحتكاك أولا ومن حدة الحقد والكراهية ثانيا. إنها قوقعة بجدارين يزيدانها سمكا على سمك وبعدا على بعد من الفضاء المحيط، ما زالت الشخصية تستشعر حجم الحقد والكراهية الراسخين في عيون السجناء من حولها فكان لا بدّ من مضاعفة التحصين والبعد معا أملا في النجاة والخلاص أو تأجيل المواجهة المحسومة مسبقا لصالحهم قدر الإمكان. هذا هو الواقع الذي تغدو فيه أكثر الأمكنة انغلاقا أكثرها انفتاحا وأقلها أمنا وأمانا بفعل التشويه والعبثية المتحكمتين فيه. لا يعني الهروب من الواقع الأوسع (السجن والسجان) نجاة وخلاصا، فالحقد المسيطر في الواقع الأضيق (الزنزانة) يفرض التهديد والخوف كأمرين واقعين لا يمكن تجاهلهما بتاتا.

تأتي حركة التقوقع الثانية مفارِقة وأشد وطأة وعذابا من الحركة الأولى، وهذا ما يزيد من التشويه الضبابية في النصّ والمرجعي على حدّ سواء. الحركة الثانية كانت أكثر انغلاقا وعمقا مقارنة مع الأولى، فإذا كانت الأولى من الخارج إلى الداخل، كما تقدّم، فالثانية كانت من الداخل إلى الداخل:

تقوقع

داخل الشخصية (نفسها)                                                الذات

لا بدّ وأن نؤكّد على جغرافيّة القوقعة المختلفة في الحركتين، الأولى كانت داخل السجن والثانية في العالم الخارجي (الحرية). العالم الخارجي من المفترض أن يلغي وجود القوقعة تماما، لأنّه عالم الحريّة المطلقة للسجين مقارنة مع عالم السجن، عالم يتحرّر فيه من كلّ الحقد والكراهية والتعذيب ويبعد شبحي الموت والجنون: " قضيت هناك داخل قوقعتي في السجن الصحراوي آلاف الليالي أستحضر وأستحلب المئات من أحلام اليقظة. كنت أمنّي النفس أنّه إذا قيض لي أن أخرج من جهنم هذه، سوف أعيش حياتي طولا وعرضا وسأحقّق كلّ هذه الأحلام التي راودتني هناك. الآن، ها قد مضى عام كامل. لا رغبة لديّ في عمل شيء مطلقا. أر أن كلّ ما يحيط بي هو فقط: الوضاعة والخسة... والغثاثة! وتزداد سماكة وقتامة قوقعتي الثانية لأجلس فيها الآن...لا يتملّكني أيّ فضول للتلصّص على أيّ كان! أحاول أن أغلق أصغر ثقب فيها. لا أريد ان انظر إلى الخارج. أغلق ثقوبها لأحوّل نظري بالكامل إلى الداخل. إليّ أنا.. إلى ذاتي! وأتلصّص."(4).

لكننا نلاحظ أنّ العالم الخارجي في هذا النص يتساوى مع الداخلي تماما في تشويهه وسوداويته وكأنه امتداد له أو كأنه سجن كبير  حدوده حدود الوطن الكبير، وهنا بالضبط تكمن المفارقة بين واقع عبثي وبين الأمل في واقع تسوده الحرية. خيبة الأمل التي تحدثها هذه المفارقة بالنسبة للشخصية المركزية هي نقد وفضح للواقع في آن معا، واقع تتساوى فيها الأمكنة فلا أمن ولا أمان في السجن ولا خارجه بتاتا، بل يغدو الخارج امتداد للداخل (السجن) ليُفرض منطقا السجن والسجان كواقعين وحيدين لا يقبلا المناقشة ولا البديل. تصرّح الشخصية المركزية في الاقتباس السابق بعبثية الواقع وخيبة أملها التي وصلت حدّا مغرقا في اليأس والإحباط. هناك حالة مستديمة من الهروب إلى الأمكنة المغرقة في الانغلاق ومن العبثية والتشويه والسوداويّة المتحكمة في الواقع. لا تشعر الشخصية بشيء من التغيير مع اختلاف الفضاءات بل تزداد غيريّتها في فضاءات كان يفترض أن تكون بديلا حقيقيا. إنّ حركة التقوقع الثانية تقوم على دفاع ورفض واتهام  في آن معا، دفاع نفسي في الأساس في وجه العبثية المستفحلة ورفض لهذا المنطق الذي يساوي في تشويهه بين كلّ الأعراف والتقاليد والبديهيات والفضاءات، وهو اتهام كذلك لواقع لا صوت فيه يعلو على صوت الجلاد والموت.

تقنية الصمت
تغدو تقنية الصمت نتيجة بديهية وطبيعية للتقنية الأولى – القوقعة التي تفرضها كضرورة حتمية. البعد الذي تحدثه القوقعة يهدف إلى التقليل من إمكانية الاحتكاك والمواجهة وهذا يستوجب الصمت كوسيلة أساسية في تحقيق الهدف المنشود. الصمت يعين الشخصية على المتابعة المتأنية والدقيقة والعميقة لما يجري من حولها، أو هو التلصّص كما تسميه الشخصية. التلصّص يلزم التأني والمراقبة الدقيقة وقدرة هائلة على التركيز، وأهمية تكمن في قدرته على تحييد الشخصية من التورط في متاهات لن تكون في صالحها بأي حال من الأحوال، لأنّ الشخصية قادرة، بفعل المراقبة الدقيقة والتركيز، على أن تقيس الأمور قياسا دقيقا جدا يمكنها بالتالي من اتخاذ قرارات محسوبة بدّقة متناهية. وهذه الخاصية في الصمت ساعدت الشخصية في إبعاد شبح المواجهة واستفحال الحقد ضدها. لكن الصمت ذاته يمكن أن يكون دافعا للجنون
 لأنّه يلغي التواصل "الاجتماعي والإنساني" مع الآخرين ويخلق عالما من الوحدة والعزلة بعيدا عن العالم الآدمي، ولكن يتضح أنّ تقنية الصمت ذاتها،  في ظروف استثنائيّة ومشوّهة كتلك التي يصوّرها هذا النصّ، تساهم في الحفاظ على الجانب الإنساني "العقلاني" للشخصية: " يجب أن لا أجنّ. كان هذا قراري منذ البداية، رغم ذلك كنت احسّ أحيانا أنّني على حافّة الجنون، عندها كنت أغني.. لكن بصمت، أغني بذهني دائما أغاني فرنسيّة، لم أغنّ أيّ أغنية عربيّة. لا أفتح فمي مطلقا، لا أتلفّظ بأيّ حرف..."(5). مثّل الصمت في هذه الحالة وسيلة تحافظ الشخصية من خلالها على "الخيط" الهشّ الي يربطها بواقعها وبآدميتها ويدفع عنها الجنون قدر الإمكان، فيغدو الصمت وسيلة نجاة لا تقل في أهميتها عن أيّ وسيلة أخرى قد تستعين بها الشخصيّة.  إذن يغدو نقيض الصمت (الكلام) وبشكل طبيعي، سببا مباشرا ومضاعفا للموت والهلاك في هذه الظروف المشوّهة. أقول مضاعفا لأنّ الكلام جريمة تستأهل عقوبة الإعدام في عرف السجّان ومنطقه المشوّه، وهو جريمة تؤدي بصاحبها (الشخصية المركزية في النصّ) إلى مواجهة قاتلة مع المتربصين به في الزنزانة الذين لا يحركهم سوى الحقد والكراهية، وهنا بالضبط تكمن أهمية هذه التقنية لأنّها تعين الشخصية على اتخاذ موقف الدفاع والرفض دون أن تحاسب على موقفها هذا. تذكرني هذه الحالة العبثيّة بقول للكاتب الليبي إبراهيم الكوني "ناب الفيل علّة هلاك الفيل، واللسان علّة هلاك الإنسان".

الجروتيسك Grotesque
تقوم هذه التقنية على تصوير المبكي والمضحك معا، هي حالة من التشويه واختلاط المشاعر بصورة غريبة إلى حدّ يصعب على القارئ تحديد طبيعة الموقف أهو إلى البكاء أقرب أم إلى الضحك؟ اضطراب المشاعر هذا يمكّن الشخصية، أولا، من الدفاع النفسي ويعينها على "التنفيس" والتحرر قدر الإمكان من الضغوطات، ويساهم ثانيا من نقد الواقع وفضحه. وتضاف هذه التقنية إلى التقنيتين السابقتين كتقنيات جديدة تعزّز من رواية أدب السجون العربيّة بصفة عامة.  هذه التقنية على قلّتها في هذه الرواية لكنها تملك قدرة هائلة على الرفض والدفاع والنيل من الآخر، هي أشبه بجولة من جولات المصارعة أو الملاكمة التي ينال فيها المهزوم من خصمه بالسخرية لا بالقوة والجسد ويثير ضحك المتفرجين، رغم يقينه بأنّه مهزوم لا محالة. إنّها تعزيز  للمناعة الطبيعية والنفسيّة عند الشخصية للصمود أكثر في وجه الواقع المشوّه والفاسد: "تقدّم الوحش، وقف تحته وأمسك برجليه وأخذ يشدّه إلى الأسفل، كان السجين المعلّق- كالعادة- يلبس ثيابا رثّة، أسمالا، ولذلك عندما شدّه إلى الأسفل انشدّت الشياب وأصبح السجين عاريا بجزئه السفلي، تابع الوحش الشدّ، يشدّ ويشدّ. ونجح أخيرا، مات السجين. لكن فور موته يبدو أن مصرته الشرجيّة قد ارتخت نهائيّا فأفرغ كلّ ما في أمعائه فوق الوحش الذي لا زال يشدّ، وكانت كمية الفضلات كبيرة وسائلة. غطّت الوحش، رأسه، وجهه، صدره، رجع الوحش إلى الخلف وأخذ ينظر إلى الجميع، قهقه المساعد وكان أول من استوعب الأمر، قال وهو يضحك: - كان اسمك لوحش. بس هلق صار اسمك الوحش أبو خَريه"(6). هذه الحالة العبثية المشوّهة الني وصل إليها السجّان والسجين تثير الضحك والبكاء في آن معا، مشهد الفضلات التي غطّت السجّان بالكامل يثير الضحك دون شك وهي فسحة لسجين ينال فيها من جلاّده، لكن مشهده المعلّق بجزئه الأسفل العاري يثير البكاء دون شكّ. هذا الاختلاط في المشاعر لا يغلّب طرفا على آخر أو شعورا على آخر بقدر ما يسعى إلى ترسيخ الفساد والعبثية والوحشية المستشرية في الواقع. فإذا كان الواقع خارج السجن هو ذاته الواقع داخل السحن تماما كما تقدّم، فلا يمكن عندها الحديث عن انتصار لسجين على سجّان ولو اقتصر الانتصار على الانتصار المعنوي والنفسي. وهكذا تكتسب تقنية الجروتسيك أهمية كبيرة لأنّها من اللحظات أو "الجولات" القليلة أو النادرة التي ينال فيها السجين من سجّانه على غير العادة. كما تضيف هذه التقنية بعدا جديدا وحديثا بنظري لأدب السجون في الرواية العربية. لأنّها تمكّن الضعيف والمسحوق والمهزوم من النيل ولو بدرجة ضئيلة جدا من جلاّده كتعبير صارخ عن موقفه الرافض، الموقف الذي لا يمكن للسجّان أن يغيّر فيه شيئا مهما بلغت قسوته وعبثيته.

كما يمكن أن نضيف لهذه التقنية " المسحة الإبداعية في التعذيب"(7) العبارة في حدّ ذاتها تثير المضحك والمبكي معا، فاجتماع الضدين أو القطبين يساهم في هذه الحالة المختلَطة والمضطربة (الإبداع والتعذيب). يتعدّى السجّان أساليب التعذيب التقليدية ليبدع في تعذيبه، وهذا يعكس حالة التراجع التي يعيشها الواقع بصفة عامة ما دامت درجة الإبداع فيه لا تتعدّى حدود الفساد والاستبداد والتعذيب. كلما زاد السجّان قسوة وبطشا زاد السجّان بحثا عن أساليب تمكنه من الصمود في وجه سجّانه، وهذا ما توفّره طبيعة هذه التقنية وغيرها من التقنيات.

تلخيص
قامت هذه الدراسة على بحث مساهمة رواية القوقعة – يوميات متلصّص لمصطفى خليفة في رواية أدب السجون بصفة عامة، من خلال ثلاثة تقنيات أساسية هي : المكان، الصمت والجروتيسك. وقد بيّنت هذه التقنيات الثلاثة كلّها دون استثناء طبيعة المرجعي والمشوّه والعبثي. تقنية المكان في هذه الرواية كانت جديدة وهامّة وتستأهل البحث والدراسة. القوقعة كمكان لم تحفل به الرواية العربية من قبل بصفة عامة ولا رواية أدب السجون بصفة خاصة، مكان يأتي استجابة للتشويه القائم في المرجعي، فهو بذلك وليد الواقع المشوّه. وهكذا تغدو طبيعة هذا المكان الجديد من أقدر الأمكنة على معاينة الواقع العبثي معاينة دقيقة متأنية وعميقة، معاينة لا تخلو من النقد والفضح. فالقوقعة في حركتيها: الأولى والثانية، شرّحت الواقع وفضحت عبثيته وانفلاته. كما بيّنت بما لا يقبل الشك أنّ الفضاءات على اختلاف جغرافيتها متساوية في  تشويهها وفسادها في هذا الواقع كما هو واضح في " حركة التقوقع الثانية". كما تفرض طبيعة هذه التقنية (القوقعة كمكان) التقنية الثانية وهي تقنية الصمت كتقنية حتمية. فلا جدوى للمكان (القوقعة) دون هذه التقنية (الصمت) لأنّه يقوم عليها في الأساس، الصمت الذي يغدو وسيلة من وسائل النجاة والخلاص في واقع يتحكم فيه الموت، فاحتراف الصمت هو احتراف الحياة تماما أو ما تبقى من الحياة. تقنية الجروتسيك (التشويه) من التقنيات التي ساهمت في كسر  "الروتين" أو  التقليدية في رواية أدب السجون العربية، فقد سيطرة منهجية تقليدية واضحة في هذه الروايات التي تصوّر الشخصيات المسحوقة والمهزومة والعاجزة. لم تكن شخصيات هذه الرواية بصفة عامة أفضل حالا من هذه الشخصيات، لكنّها استطاعت أن تعزّز من مناعتها الطبيعيّة والنفسية في حالات خاصة وإن كانت نادرة. حالات أدّت إلى اضطراب المشاعر واختلاطها بين المضحك والمبكي، الأمر الذي يمنح الشخصية متنفسا في وجه الجلاّد. فهي مواقف تثير الضحك والبكاء معا يكون فيها الجلاّد هو الضحية وليس السجين كما جرت العادة ( حادثة السجّان الوحش)(8) ، مواقف تعرّض السجّان للسخرية دون أن يكون ذلك مقصودا أو معبرا عن قدرة في المواجهة عند السجين.

رواية يوميات متلصّص لمصطفى خليفة تؤسس، عبر هذه التقنيات، لرؤية جديدة في رواية أدب السجون في الرواية العربية، رؤية تتبنى تقنيات جديدة ليكون فضحها للواقع أشدّ وأعمق وأوضح من ناحية، وتساهم في تحديث هذا النوع من الأدب وإخراجه قدر الإمكان من المحدودية والتقليدية على مستوى الأسلوب.   

 

قائمة المصادر  والمراجع

المراجع

-                       خليفة، مصطفى. القوقعة- يوميات متلصّص. بيروت: دار الآداب، 2010.

المصادر

-                       1. روحي الفيصل، سمر. السجن السياسي في الرواية العربية. طرابلس: جروس برس، 1994.

-                       2. خليفة، مصطفى. القوقعة – يوميات متلصّص. بيروت: دار الآداب، 2010، ص:78 .

-                       3. م. ن. ، 72

-                       4. م. ن. ، 383

-                       5. م. ن. ، 111

-                       6. م. ن. ، 204

-                       7. م. ن. ، 202

-                       8. م. ن. ، 204