تتناول دراسة الباحث الفلسطيني الذي عرف حبيبي عن كثب وتابع مسيرته حياة هذا الكاتب الفلسطيني الكبير، الذي أثرى الأدب الفلسطيني والعربي بإبداعاته الأدبية المتميزة، ولكن تقاطع مسيرة السياسي مع مسيرة الكاتب جلب إلى حياته الكثير من المشاكل، كما ملأها بالكثير من الشكوك وسوء الفهم.

إميل حبيبي المثقّف الإشكالي

نبيه القاسم

قلت في مقدّمة دراستي لرواية "سرايا بنت الغول":

 -إنّ إميل حبيبي واحد من القلائل الذي نستطيع أن نقول عنه: إنّه بلوَرَ هويّةَ ومسلكَ الجماهير العربية التي بقيت ضمن حدود دولة إسرائيل بعد عام 1948 على مَدار ثلاثة عقود، وهي السنوات القاسية والصّعبة والمصيريّة في تاريخ هذه الأقليّة، وتاريخ شعبنا الفلسطيني والشرق الأوسط كله. هذه السنوات كان إميل حبيبي فيها هو صاحب الصولجان، الآمر النّاهي، القادر على أن يقولَ للأعور أعور، كلمتُه وحدها السّائدة، ولا مَن يقبل بغيرها.[1]

وهذه المكانة المتفرّدة نالها إميل حبيبي، كما يدّعي الباحث الفلسطيني خضر محجز في تقديمه لكلماتي هذه "نتيجة للسلطة المجتمعيّة التي امتلكها، سواء من موقعه كقائد حزبي عربي، وسط فراغ سياسيّ لا يملؤه سواه، أو من موقعه كأديب بارز تحتفل المؤسسة الأدبية بإنتاجه وتروّج له وتفسّره".[2] وسواء صدق خضر محجز في قوله أو لم يصدق، تظلّ الحقيقة التي قلتُها عن مَكانة إميل حبيبي التي نعرفُها نحن الذين عايَشْناه، ورافقناه في دربَ حياته، وتابعنا تطوّرَ تجربته الإبداعية. وكان بالنسبة لنا مالئَ الدنيا وشاغلَ النّاس على مدى عشرات السنين الحاسمة في تاريخ شعبنا العربي الفلسطينيّ في هذه البلاد.

إميل حبيبي في سطور

اعتمدتُ في هذه المعلومات التي تُلخّص المراحل المهمّة في حياة إميل حبيبي، بشكل خاص، على ما ورد في تقديم المجموعة الكاملة لمؤلّفات إميل حبيبي التي أصدرها ابنه "سلام" سنة 2006، وعلى العدد التاسع الخاص من مجلة "مشارف " الذي كُرّس كلّه لذكرى إميل حبيبي.كذلك على كتاب الدكتور محمد البوجي "إميل حبيبي بين السياسة والإبداع الأدبي" وكتاب الكاتب خضر محجز  "إميل حبيبي . الوهم والحقيقة"، وعلى معرفتي الخاصة بإميل حبيبي ومعايشتي للفترة الزمنيّة التي عاش فيها.

·                    ولد إميل حبيبي في حيفا عام 1921 (في 29/8 تاريخ غير مؤكد) وهو ينتمي إلى عائلة عربية فلسطينيّة أصلها من مدينة شفاعمرو. كان والده يعمل في سلك التدريس، لكنه آثر الرحيل إلى حيفا، وعمل في التجارة . وفي حيفا ولد إميل، نشأ وعاش، وانتقلَ عام 1956 للسكن في الناصرة  التي ظلّ فيها حتى وفاته يوم 2 أيار 1996.

·                    في مدارس حيفا تعلّم إميل. وكان الصفُّ الواحد يضم طلابا عربا ويهودا، ممّا عرّفه على الآخر ومَنعه من التّقوقع القومي، وفتّح ذهنَه على العالم الواسع.

·                    شارك إميل في النشاطات السياسية والاجتماعيّة التي شهدتها حيفا في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين.

·                    من 1941 حتى 1943 عمل مذيعا في القسم العربي لمحطّة الإذاعة الفلسطينيّة، وخلال عمله تأثر كثيرا، كما كان يروي، بشخصية المفكر اللبناني عجاج نويهض الذي كان مسؤولا عنه، وقد قلّده في حركاته وصوته وتعامله مع الآخرين.

·                    انضم في عام 1940، وهو في التاسعة عشرة من عمره، إلى صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني. وهو يشرح قصّة دخوله في الحزب الشيوعي بقوله: "لقد دخلتُ الحركة الشيوعيّة ليس عن طريق الصراع الطبقي، إنّما، وهذا هو الأمر المدهش، عن طريق حبّي للإبداع الأدبي. وقُيّضَ لي أنْ أعملَ في بداية حياتي العمليّة "عطشلي"، مساعد لسائق قاطرة بخارية. كانت شغلتي أنْ أعبّئ الفحمَ في وجار النار حتى لا تنطفئ ويستمر البخار في الخروج من الماء. وكان قائد القاطرة شابا شيوعيّا – في الحزب الشيوعي السرّي في ذلك الوقت. كان هذا العام 1939 أو 1940. وكنت أشتغل، وأتعلّم الهندسة البترولية بالمراسلة في جامعة لندن. وكان عملي المشاركة في بناء مصفاة البترول في حيفا، اشتغلتُ في بنائها ثم عملتُ فيها. أما هو سائق القاطرة واسمه صادق جراح، فقد كان يستميلني ويُعاملني باحترام. ففتحتُ له قلبي، وقلتُ له إنني أكتب القصة. فشجّعني قائلا: إذا دخلتَ الحزبَ الشيوعي ننشر لك القصص، فدخلتُ الحزب. لذلك فأنا أحمل البطيختين معا." [3]

·                    على أثر الانقسامات في صفوف الحزب الشيوعي عام 1943 أقام إميل حبيبي مع رفاق عرب "عصبة التحرر الوطني" التي أعلنت ميثاقها الوطني عام 1944 وأسماء أعضاء لجنتها المركزيّة، ومواقفها الوطنية المناصرة للمطالب العربية والرّافضة للتقسيم. وأصبحت جريدة "الاتحاد" جريدة العصبة الرسمية.

·                    بعد قيام الاتحاد السوفييتي بتأييد قرار الأمم المتحدة  بتقسيم فلسطين غيّرت "عصبة التحرر الوطني" موقفها وأيّدت القرار، وكان إميل حبيبي أبرز الدّافعين لهذا التغيير والتأييد، على عكس إميل توما الذي رفض القرار وهاجمه. ويقول إميل حبيبي في ذلك: "قُيّض لي أنْ أكونَ الشخصَ في "عصبة التحرّر الوطني" الذي طُلب مني أنْ ألقي تقريرا في اجتماع اللجنة المركزيّة الخاص نهاية عام 1947، دعونا فيه شعبنا إلى الموافقة على قرار التقسيم. أنا أعتزّ بهذا الموقف. والمسؤول عن عدم موافقة شعبنا على قرار التقسيم، عن مأساتنا في ذلك الوقت، هو الجامعة العربية."[4]

·                    قامت الجماهير العربية الغاضبة بمهاجمة مقار العصبة وإحراقها ومُطاردة أعضائها عام 1948، ممّا دفع بالعديد منهم إلى مغادرة البلاد ، وقد غادر إميل حبيبي البلاد إلى لبنان.

·                    بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عاد إميل حبيبي في شهر تموز 1948 إلى البلاد، وعمل بجد ونشاط على توحيد صفوف الحزب الشيوعي. وبالفعل عادت الوحدة إلى صفوف الرفاق وأعلن قيام الحزب الواحد للجميع باسم "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" عام 1949.

·                    مثّل إميل الحزب الشيوعي في الكنيست مدّة 19 عاما من 1952 إلى 1972 حين استقال من الكنيست ليتفرّغ لأعماله الأدبية، ولتحرير صحيفة الحزب باللغة العربية- "الاتحاد"، ونجح في إصدارها يوميّا منذ العام 1983.

·                    حتى نهاية عام 1989 كان إميل حبيبي أحد القادة الرئيسيين للحزب الشيوعي وصاحب السلطة العليا والكلمة الأعلى. ولكنه اضطر، إثر خلافات فكريّة وتنظيميّة مع الحزب، إلى الاستقالة من جميع مناصبه الحزبية بما فيها منصب رئاسة تحرير "الاتحاد" نهاية عام 1989. وفي عام 1991 استقال من الحزب.

·                    تجلّت لديه مَلَكة الإبداع الأدبي منذ أيّام شبابه الأولى. وقصصُه القصيرة ظهرت في صحيفة "الاتحاد" التي كان أحد مؤسّسيها في العام 1944. وفي مجلة "المهماز" التي أصدرها في العام 1946. وفي عدد من المجلات الفلسطينيّة واللبنانيّة والعراقيّة والمصريّة. ضاعت غالبيّة هذه القصص.

·                    تُرجمَت أعماله الأدبيّة إلى عدّة لغات واعتبر أحد أبرز الأدباء العرب، واكتسب مكانة عالميّة مَرموقة.

·                    ومنذ 1990. وبالإضافة إلى نشاطه الأدبي والسياسي، رئسَ "دار عربسك للنشر في حيفا" التي أقامها مع الشاعر سميح القاسم والكاتب عصام خوري. وشارك في تأسيس "لجنة المبدعين الإسرائيليين والفلسطينيين ضدّ الاحتلال ومن أجل السلام وحُريّة الإبداع" وكان رئيسها العربي.

·                    منذ آب 1995، أسّس وأصدر شهريّة الأدب الفلسطيني "مشارف" التي تصدر عن القدس وحيفا. وتولّى رئاسة تحريرها حتى وفاته.

·                    منحته الدائرة الثقافيّة في دولة فلسطين أعلى وسام أدبي" جائزة القدس" في كانون الثاني 1990.

·                    منحته وزارة الثقافة الإسرائيليّة في 7/5/1992 جائزة الدولة العليا في الأدب "جائزة إسرائيل". وقد أثارت هذه الجائزة الجَدل والخلاف. وتعرّض بسببها إلى الانتقادات والهجوم الصعب من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية والفكرية ، خاصة أنه استلمها من يد رئيس حكومة إسرائيل اسحق شامير المعروف بتطرّفه وعدائه للعرب وللفلسطينيين.

·                    توفي ليلة 1-2 أيّار في الناصرة.

·                    بوفاته خلّف وراءه زوجته ندى جبران – حبيبي وأولاده جهينة وراوية وسلام و(10) أحفاد.

·                    دُفن في حيفا يوم 3/5/1996 وكُتب على شاهد قبره، حسب طلبه في وصيّته "باق في حيفا".

إميل حبيبي صاحبُ السلطة والقَوْل الفَصْل واللسان الحادّ الجارح السّاخر
أتحدّث عن إميل حبيبي كما عرفته شخصيّا، وليس بعد البحث والتنقيب وإحضار الثّبوتات والدلائل. كان يتمثل لنا الشخصيّة الأولى في الحزب، صاحب الكلمة الأخيرة. هو الذي يبتُّ في المواقف الصعبة، ورأيه هو المقبول والمتّفَق عليه. لا جدال معه، ولا يقبل بذلك. حضوره يفرض الالتزام من الجميع، خاصة في مكاتب جريدة الاتحاد، فكان يفرض جَوّا متوترا حذرا بين صغار الموظفين وهيبة زائدة بين القدامى.

أذكر مرّة كنت في زيارة للجريدة وأجلس مع الصديق الدكتور المرحوم أدوار الياس العامل في الجريدة، وارتفع صوتُنا وضحكنا، فما كان من أدوار إلا أنْ نبّهنا برعب: أرجوكم وطّوا صوتكم إسّا بزْعَل أبو سلام.

مقالاته الأسبوعيّة في "الاتحاد" الموقّعه باسم جهينة كانت زادَنا الفكري الأسبوعي، ودليلَنا السياسي والاجتماعي والفكري للمستقبل والتّعامل في الحياة. وخطاباته السياسيّة التي كنّا نتسابق لسماعها كانت تشدّنا بمضمونها وقوّة حجّتها وإقناعها، وبأسلوب إميل الرائع في شدّ المستمع إليه بقدرته الخطابية وذكائه والانتباه لكلّ حركة أو كلمة، وسرعة رَدّه على المتسائل والتعليق عليه أو الشرح والتبسيط له. وكثيرا ما كان إميل حبيبي بسخريته الجارحة وردوده القاسية غير المُراعية لمشاعر الغير يُغضب البعض  ويحوّلهم إلى أعداء للحزب والجبهة. ولكنه كان في منتهى الدّماثة والتفّهم وتقبّل الآخر في الكثير من المواقف أيضا. وكان يعرف كيف يتراجع ويعترف بالخطأ وينهي الإشكال في أكثر من موقف.

وقد شهدتُ بنفسي دماثة إميل وحُسْن تخلّصه وتَراجعه عندما يُدرك أنه تسرّع وبالغ وأخطأ. ففي جلسة جمعتنا في بيت الكاتبة سحر خليفة في رام الله حيث دعتنا سحر لتناول طعام الغداء على شرف إميل حبيبي،  حضرها أيضا الصديق الكاتب محمد البطراوي، حاول إميل حبيبي السخرية والنّيل من رواية "الصبّار" لسحر فما كان منها إلا أنْ  ثارتْ وغضبتْ وشتمتْ وألغتْ وجبة الغداء ممّا جعلني أتصل بالصديقين جورج إبراهيم وزوجته جاكي أيوب ليستقبلانا في بيتهما. وبالفعل انتقلنا كلّنا إلى بيت إبراهيم وجاكي حيث كانا يستضيفان الشاعر  سميح القاسم وزوجته. وهناك حاول إميل أن يوقع بسميح فسأله: ما رأيك برواية سحر الصبّار؟ وأراد سميح أن يجيب بقوله: رواية جميلة. ولكن! وقبل أن يتمّ كلامَه كانت سحر له بالمرصاد: لا تقُل ولكن . بَلْعَنْ. وضحكنا، وعرف سميح ما كان بين سحر وإميل، فراح يصوغ المدائح الكبيرة على الرواية وصاحبتها ويُبخس من قيمة متشائل إميل، وأبو سلام يهزّ رأسَه ويُعلّق بكلماته الجميلة المثيرة.

وكان حادّا وقاسيا في مواقف أخرى مثل رفضه نشر مقالة كتبها حنا أبو حنا وقصّة ذلك أنّ الدكتور إميل توما اقترح أنْ أقومَ بإعداد كتاب يحوي على دراسات نقديّة نُشرَت في أعداد مجلة "الجديد" ويُوزّع الكتاب مع العدد الجديد مجانا بمناسبة مرور ثلاثين سنة على صدورها. وبالفعل قمتُ بالعمل، وقدّمتُ المادّة للدكتور إميل توما لمراجعتها والموافقة عليها للنشر. ولكن صواب إميل حبيبي طار عندما وجدَ بين الدّراسات والمقالات المقترحة مقالة لحنا أبو حنا الذي كان في خلاف شديد معه. وصرخ ورفض نشر المقال. وحاول إميل توما تخفيف وقع الرّفض عليّ بالتّسويف والتّأجيل. وفقط بعد موت إميل توما قمتُ أنا بنشر الكتاب لوحدي وفيه مقالة حنا أبو حنا عن مجموعة "صواريخ" الشعرية للشاعر راشد حسين. والكتاب هو "دراسات في الأدب الفلسطيني المحلي" صدر عن الأسوار في عكا عام 1987.

وكان إميل حبيبي متفهّما لي وقَبِلَ بموقفي عندما اقتُرح عليّ أن أكتب مقالة أهاجم بها المحامي محمد ميعاري الذي كان مرشحا لعضوية الكنيست عن "الحركة التقدميّة". فقد رفضتُ الطلب مُعلّلا ذلك باحترامي لمحمد ميعاري وتقديري له على مواقفه الوطنية والسياسية رغم اختلافي معه في موقفه المعادي للحزب والجبهة. ورفض بعض الرفاق موقفي، ولكن إميل حبيبي بعد النقاش قال:

-إنْتو دار القاسم روسكم يابْسِه.

 وضحكَ، وضحكنا، وانتهت القصّة.

وكان أكثر تفهّما عندما اشتكتني رفيقة بسبب رثائي للصديق المرحوم الشاعر فوزي عبد الله الذي كان من رموز الحركة التقدميّة، ونشرتُ الرثاء في جريدة "العربي".

 حاولت الرّفيقة أن تُبيّن أنّني كرفيق في الحزب يجب أن ألتزم بما هو لصالح الحزب. وشرحتُ لها وللرفيق إميل حبيبي أنّ صداقتي للشاعر فوزي عبد الله تتعدّى المواقف السياسية والفكرية، فنحن أصدقاء ورفاق درب لسنوات، وزملاء في حبّ الكلمة، ولن أخلط بين العلاقات الشخصية الإنسانيّة والمواقف السياسيّة وغيرها . وتشنّجت الرّفيقة، لكن إميل حبيبي ضحك وقال:

-مَعاك حق هكذا يجب أن تكون الصداقة. الله يرحمه.

ولكنه، في عدّة مرّات، لم يكن لطيفا معي ولا مُسايرا أو رقيقا، وإنّما غاضبا صارخا شاتما، ولكن مع ضحكة عالية وهمهمة قصيرة.

الأولى عندما كتبتُ مُعَلّقا على مَشهد الحوار الحميميّ في "المتشائل" بين ولاء وأمّه بينما الدوريّةُ الأسرائيليّة تُحيط بهما بقولي: إنّ أجمل ما يتركه لنا الكاتب هو هذه الكلمات التي يُخرجها في ساعات يتعطّلُ فيها العقل عن التأثير، فتكون كلمات خارجة من القلب وإلى القلب"[5].. يومها سألني إميل حبيبي بغضب: هل تقصد بقولك هذا إنّي قومجي، وهل أنا بلا إحْساس.

والثانية شتمني عندما انتقدته على مُهاجمته العنيفة للشاعر المتنبي في مسرحيّة "لكع بن لكع" حيث قلتُ: "يُراودُني السؤال:[6] لماذا؟ كلّما استعدتُ كلمات المُهرّج المُهاجمة بكلّ العُنف شاعرَنا المتنبي وقوله "الرأيُ قبل شجاعة الشجعان". وتكبر لماذا؟  وأنا أقرأ "أيّها القُرمطيّ المُرتدّ المارق، الجبان. تبّا لك يا أبا الطيّب! يا دجّال نبي الدّجالين. يا قرمطيّ مرتدّ، مارق. مكيافيلي![7]" فالمتنبي في ضمير شبابنا العربي رمز العزّة القوميّة والفروسيّة العربيّة التي تألّقت في سماء العرب يوم خيّمت على العالم العربي جحافلُ الأغراب، وهدّدته طوابيرُ الرّومان، ومع كلّ الملاحظات التي أرفض بها بعضَ مواقف المتنبي، وبعض مضامين شعر المتنبي، إلا أنّني لا أنكرُ أنّه الشاعر الذي أعتزّ به. ثم ليسمح لي الصديق إميل حبيبي أن أسأله:

- أينَ وجدتَ العيبَ في قرمطيّة المتنبي مع علامة السؤال الكبيرة التي أضعها على قرمطيّته، أولَم تقُل أنتَ على لسان المهرّج "حين عرّوهم تقرمطوا، يا بدور عاشوا عُراة، قلبوا الأرض عُراة، قبّلوا جراحهم العارية، غطسوا وراء اللؤلؤ عُراة، ناموا عُراة إلا من أحلامهم، ثاروا عُراة إلا من هاماتهم، أكلوا الصخرَ العاري، ولكنهم حافظوا على قاماتهم منتصبة، هاماتهم شامخة"

ثمّ ما العيبُ في قوله: "الرأيُ قبل شجاعة الشجعان" ومَن قالَ إنّنا نرفض الرأيَ الصائبَ؟ ومَن قال إنّنا نندفعُ بعواطفنا الهوجاء باسم الشّجاعة الضحلة غير متبصّرين بالعَواقب؟

أفهمُ أن ترفضَ التكتكةَ، وأنْ ترفضَ التّستّرَ بالحكمة والرّويّة ومَنْطق المتعلّلين عن مشاركة الشعب في نضالاته. لكنني لا أفهم أنْ ترفضَ الرأيَ الصائبَ وأنتَ الذي رفضتَ ركوبَ السندباد يوم طلب منك. أيغيبُ السرّ عنك؟ وكيف يُمكن أنْ يغيب؟"[8].

والمرة الثالثة غضب وتململ، ولكنه كظم غيظه لمشاركتنا معا في ندوة أدبية عندما امتدحته على جرأته بالاعتراف بما فعله بعَطيّة ماسح الأحذية في رواية "اخطيّة" عندما طلب منه أن يبيع جريدة الحزب بَدَلا منه مُطمّعا إيّاه بالنقود الكثيرة، وذلك خوفا من بطش الشرطي الذي كان يتعقّبه في الشارع. فنال عطيّة ما نال من الضّرب وإميل يرى ويضحك. فقد اعتبرَ مَدْحي له مَسبّة.

وكما رفضت طلب إميل حبيبي بمهاجمة محمد ميعاري رفضتُ كذلك طلب جمال موسى القيادي البارز في الحزب عندما طلب منّي كتابة مقال في هجاء محرّر "الصنارة" لطفي مشعور ردّا على حملته الشديدة في "الصنارة" ضدّ الحزب والجبهة وإميل حبيبي.  كذلك رفضت موقف الشاعر سالم جبران نائب رئيس تحرير "الاتحاد" برفضه نَشْر مقالة لي على أثر اغتيال "أبو جهاد"، ونشرته في صحيفة "صدى الجليل" يوم 22/4/1988. ورفضت اعتراض الشاعر سميح القاسم على نشر مقالي الأسبوعي في جريدة "الأسوار" وقبول صاحب الجريدة الصديق يعقوب حجازي بذلك على أثر تشييع جثمان شهيد الأقصى من مدينة طمرة يوم 8/10/1990 بحجّة أنّ مقالتي ستُثير حَساسيّة دينيّة، حيث رفضتُ الدُّعاء المتَكرّر في تَشييع الشهيد الدّاعي للتسليم والقبول. ونشرت مقالتي "تهليلة الشهداء في يوم تشييعهم" في جريدة "الاتحاد" يوم 17/10/1990". وغيرها أمثلة عديدة.

صَفقة الأسلحة التشيكيّة. التّهمة المُطاردة إميل حبيبي ومُزعجته طوال حياته
رغم المكانة الحزبية والشعبية والفكرية والاجتماعية والأدبية التي تفرّد بها إميل حبيبي و منحته القوّة  بأنْ يقول ما يشاء ويُقرّر ما يشاء ولا مُعترض عليه، إلّا أنّ تهمة خطيرة أُلصقَت به، وظلّت المطاردة له والمعذّبة والجارحة، والتي رغم كلّ محاولاته ومكانته، لم ينجح في دَحْضها وإبطالها ومَحْوها. ومُلخّص التّهمة، أنّه أُرْسِلَ عام 1948 في أوْج احتدام المعارك في فلسطين بين القوات العربية والقوات اليهودية ضمنَ بعثة مع شموئيل ميكونيس إلى تشيكوسلوفاكية لشراء أسلحة للقوات اليهوديّة. وهذه التّهمة كانت تُثار من قبل أعداء الحزب الشيوعي وخصومه، خاصة في مواسم الانتخابات للكنيست وفي حالة وقوع أيّ خلاف فكري سياسي.  وقد ردّ إميل حبيبي على هذه التّهمة في مقالة مُطوّلة نشرتها "الاتحاد" يوم 18/10/1984 ردّا على ما كانت جريدة "التضامن" الناطقة بلسان "الحركة التقدّمية" قد نشرته يوم 14/10/1984 اعتمادا على أقوال وردت على لسان شموئيل ميكونيس صرّح بها لجريدة "يديعوت أحرونوت" العبرية.

وقد أعادت جريدة الاتحاد نشر مقالة إميل حبيبي هذه يوم 23/1/1987 التي ينفي فيها كل القصة ويقول جازما "أنا لم أسافر مع المذكور ميكونيس في 8 آذار 1948 إلى بلغراد أو إلى غيرها، لا في ذلك الزمن ولا في غيره قبل قيام دولة إسرائيل. وأنا لم ألتق بقادة سوفييتيين ولم أزر الاتحاد السوفييتي إلّا ابتداءً من العام 1956.

ويقول: إنّه سافر إلى بلغراد مبعوثا من قبل "عصبة التحرّر الوطني" وأنّه سافر لوحده، وأنّه التقى ميكونيس في بلغراد. وكان يأمل توسّط الرّفاق هناك بإعادة اللحمة بين الشيوعيين في البلاد ولكن لم يتم ذلك. ويقول بأنه لم يجر بحث أمر السّلاح وما شابه. ويشير إميل حبيبي في مقالته إلى الهجمة الصحفيّة التي شنّها الشاعر راشد حسين ضدّه وضدّ الحزب الشيوعي من خلال جريدة المرصاد الناطقة بلسان حزب مبام، والتي ذكر فيها تهمة صفقة الأسلحة في أوج الخلاف ما بين جمال عبد الناصر والاتحاد السوفييتي عام 1959 قائلا: "فقُبَيْل الانتخابات للكنيست عام 1959 أثارت صحيفة "المرصاد" المبامية التي ظهرت يوميّا من أجل هذا الغرض. واستكتبوا، في حينه شاعرا شابا (المقصود راشد حسين) ضلّلوه وأساؤوا إليه مُستغلّين كَبْوةَ القائد المصري والعربي الخالد جمال عبد الناصر."

ويتّهم إميل حبيبي المتّهمين والمهاجمين له بأنهم رُسُل أجهزة الشين بيت بقوله: "لقد أصبح واضحا الآن أنّ إصرارَهم على التّهجم الشخصي على رئيس تحرير "الاتحاد" هو "السّهم الشينبيتي" في مخطط "المسؤولين" المخَطّط "طويل الأمَد" –كما علمنا- للتّصدّي لجريدة "الاتحاد" اليوميّة".

ورغم كلّ هذه الاجتهادات والرّدود ظلّت تهمة "صفقة الأسلحة" تُلاحقُه، ويُلوَّحُ بها ضدّهُ، ويُذَكَّرُ بها في كلّ مناسبة، وتُعتَبرُ وَصمةَ عار في تاريخ إميل حبيبي لم يتمكّنُ من التخلّص منها أو محوها من تاريخه الشخصيّ. وقد خصّص لها الباحث خضر محجز في كتابه "إميل حبيبي: الوهم والحقيقة" الصادر عام 2006 عن دار قدمس في دمشق، الصفحات العديدة التي ركّزت على قضية الأسلحة التشيكيّة وعلاقة إميل حبيبي بها.

إميل حبيبي مُوَجّه الحركة الأدبيّة والفكريّة
كما كان القائد السياسي الموجّه للجماهير العربية الباقية في وطنها بعد نكبة عام 1948 من موقعه القياديّ في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، التنظيم السياسي الوحيد الذي اعتمد كليّا على الصوت العربي والجماهير العربية، هكذا فرض نفسَه أنْ يكون الموجّه الفكري والثقافيّ والأدبي من خلال جريدة "الاتحاد" ومجلة "الدرب" ومجلة "الغد" ومجلة "الجديد" التي كان الحزبُ الشيوعي يُصدرها . وقد حدّد الأهدافَ التي يجب أن تكون عليها الحركة الثقافية الأدبية للجماهير العربية ضمن حدود دولة إسرائيل، وذلك بالخطوط العريضة التي وضعها وطرحها في العدد الأول من مجلة "الجديد" عام 1951.

"إنّ رسالة الأدب هي الارتباط بالنضال الثوري الذي تشنّه الطبقة العاملة، والالتحام العضوي بين أماني الفَرْد الإبداعيّة ومَصالح الناس العاديين (كما قال لينين) . وأنّ تاريخ الثقافة يدلّ بوضوح على أنّ الفنان لا يُحقّقُ الحريّة الحقيقيّة في مجهوده الإبداعيّ ولا يشعر بالرّضا الصادق على إنتاجه إلّا إذا خدم بإخلاص مصالح هؤلاء الذين يصنعون التاريخ، الذين يُبدعون كلّ ثروات الأرض الماديّة – الجماهير الكادحة-".

وعاد في العدد الثالث من مجلة "الجديد" عام 1954 ليُحدّد نوعَ الأدب الذي يريدُ من منطلق إدراكه لأهميّة الدور المهم للأدب في نضال الجماهير:

 "إنّ الأدبَ الذي ندعو إليه هو أدب الشعب. أدب يخدم الشعب في نضاله نحو سموّ مستقبله. أدب يُثيرُ الوعيَ الذّاتي في نفوس الشعب، ويمنحُ الشعبَ فَهْمَ دوره وفَهْمَ العالم المحيط به، وفَهْم التناقض الأساسيّ القائم في المجتمع، بين غامسي اللقمة بعرق الجبين وسارقي هذه اللقمة، هذا التناقض الأساسيّ الذي من الضّروريّ أنْ يكونَ مصدرَ الصّراع في العمل الأدبيّ الذي نَنْشدُه، وينفخ فيه الحياة".

ويُحدّد المَسارَ الذي على المُبدع أنْ يتّخذه بقوله:

"يجبُ أنْ يكونَ الأدبَ إنسانيّا، تقدّميّا، اشتراكيّا في مضمونه، وقوميّا في شَكله." ويؤكّدُ أنَّ على الأديب أنْ يذكرَ دائما أنّ الأدبَ هو أدبُ النّفس وأدب الدّرس. وأنّه بدون الموهبة الأدبيّة والحسّ الفنيّ لا يكون الأدب. ولكنه ليس أحاسيس فنيّة فقط، فمضمونه لا يُنقَلُ إلّا بواسطة اللغة، وبدون التّمكّن من اللغة، بمفرداتها وتَشابيهها وأسلوبها القوميّ الخاصّ، وكلّ ما ادّخرته اللغةُ خلال خبرة تاريخيّة طويلة الأمد، لا سبيلَ إلى إظهار الحسّ الفنّيّ وإلى إفادة القارئ".[9]

وكان إميل حبيبي يؤكدُ على مواقفه وآرائه في الندوات الثقافية التي كانت تُقام في مختلف المدن والقرى العربية على مَدار أشهر السنة، وكان يُشارك فيها إلى جانب الشعراء والأدباء والمثقفين.

كان إميل حبيبي بتكوينه وبيئته التي عاش فيها، وثقافته الثوريّة، وانفتاحه على العالم الواسع ومجتمع الغير، واطّلاعه على كتب التراث العربي، وقراءة ما يُبدعه كبارُ الأدباء في العالم وخاصة الروس منهم، مُهَيّئا ليكون مبدعا في الأدب. وكان يحلم دائما أن يكتب عملا إبداعيا يخلّده كتولستوي.

 ويقول أميل حبيبي في حوار له مع الصحفيّة ماجدة أبو بكر، أجرتها معه في براغ  ونشرتها صحيفة "الوطن" الكويتيّة، وأعادت جريدة "الاتحاد" نشرها يوم 17/6/1983: "كنتُ مولعا بالقراءة وبأعاجيب الحساب وقواعد اللغة العربية. وفيما كان أترابي يحسدون عظماءَ الفاتحين وقادة الدول، ويتمنون أنْ يحذوا حذوهم، لم أحسد سوى الكُتّاب الخالدين وأتمنّى أنْ أنجزَ عملا باقيا. وكنتُ أكتبُ مذكراتي الصبيانية وأحسب أنني أقلّد ليو تولستوي وأخفيها عن أعين والدي وأخواتي الكبار."

وكتب إميل حبيبي العديد من القصص القصيرة قبل عام 1948 وبعده، ونشرها في جريدة "الاتحاد" ومجلة "المهماز" التي أصدرها عام 1946، وفي الكثير من الصحافة العربية الأخرى، وبقي منها فقط ثلاث قصص هي: بوّابة مندلباوْم (آذار 1954)، النّوريّة (آذار 1963)، مَرثيّة السّلطعون، وتمثيليّة في فصل واحد هي "قدر الدنيا" (تشرين الأوّل 1963). كما ووجدتُ بين أوراقي قصة لإميل حبيبي نشرتها جريدة الاتحاد يوم 24 آب 1947 "أنا من سكان المدينة المقدّسة".

 يقول إميل حبيبي في حواره مع الكاتب يوسف القعيد ونشرته مجلة "المصوّر" (عدد 3355 يوم 27/1/1989):

"منذ نعومة أظفاري-كما يقولون- وأنا أعالج الكتابة الأدبيّة، وقبل 1948 نشر لي العديد من القصص القصيرة، حوالي عشر قصص في فلسطين طبعا. وفي لبنان في مجلة "الطريق". وأغلب هذه القصص ضاعت خلال ضياع شعبنا في سنة 1948 في النكبة واهتديتُ – بعد ذلك- فقط إلى قصّة واحدة. عبرَ أصدقائنا في مجلة "الطريق". والباقي ضاع كلّه."

ويُتابع كلامه مع يوسف القعيد حول تحوّله للكتابة الإبداعيّة وهو رجل السياسة والفكر الإيديولوجي:

"كنت أسمع من النقّاد تَقديرا لفنّي والقول بأنني أديب ناشئ مُبشّر، وعملي السّياسي والمراكز السياسيّة التمثيليّة التي وصلتُ إليها، أوهمتني أنّ ما قاله الخليل بن أحمد صحيح. لقد قال:

"ولولا الشعرُ بالشعراء يزري    لكنتُ اليومَ أشعرَ من لبيب"

حتّى هزّتني من الأعماق نتائج حرب 1967، وأدركتُ ما قاله قبلي. أحدُ عظماء الكتابة ليو تولستوي. الذي قال:

-لا تكتب إلّا إذا شعرتَ أنّك لا تستطيع مواصلة العيش إلّا بالكتابة.

وانا عندما بلغتُ تلك المرحلة أدركتُ أنّني لن أستطيعَ العيشَ إلّا إذا كتبتُ. وهكذا ظهرت "سداسيّة الأيّام الستة" سنة 1968".

نَشْرُ القصّة الأولى من قصص "سُداسيّة الأيّام الستّة" "حينَ سَعِد مسعود بابن عمّه" في العدد الرابع من مجلّة "الجديد" عام 1968 حين كان يرأس تحريرها الشاعر سميح القاسم، لفَت انتباه العديدين إلى هذه الموهبة الأدبية الجديدة. وعرف المقرّبون أنّ كاتبها هو "إميل حبيبي"، واختار أنْ يوقّعها باسم "أبو سلام" لموقعه السياسي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي يومها. ورفض أن يوقعها باسمه الحقيقي رغم إلحاح الشاعر سميح القاسم عليه، وظلّ يُصرّ على أنّه رجل سياسة يُحبّ الأدب. وقد استمرّت مجلة "الجديد" في نشر باقي قصص السداسية الخمس في أعدادها اللاحقة.

لم يتوقّع إميل حبيبي أن تُثيرَ قصصُه كلّ هذا الاهتمام بين القرّاء والنّقاد، ويبدو أنّ جَذوة الإبداع الأدبي بدأت تعمل عملها. وراح إميل حبيبي يعملُ بصَمْت وجِدّ ليفاجئَ الجميعَ بعمله الإبداعي الكبير "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل". عام 1974 عن "منشورات عربسك" التي كان يملكها وسميح القاسم.  خلال أشهر قليلة كُتبَت عشرات الدراسات والمقالات والتعليقات التي تناولت "متشائل" إميل حبيبي، وأُعيد طباعة الرواية عدّة مرات في العالم العربي، ووزّعتها منظمة التحرير الفلسطينية هديّة مع "فلسطين الثورة"، وتَرْجَمها أنطون شمّاس بلغة راقية إلى اللغة العبرية، وتُرْجِمَت إلى لغات أجنبية عديدة، وأصبح اسمُ إميل حبيبي بين أسماء الروائيين العرب الكبار.

وكتب بعدها مسرحيّة "لكع بن لكع" وصدرت عن منشورات دار 30 آذار في الناصرة  عام 1980. ولم تلق الاهتمام نفسه الذي لاقته "المتشائل". ثم كتب رواية "اخطيّه" وصدرت عام 1985، وبعدها كتب "خرافيّة سَرايا بنت الغول" وصدرت عن دار عربسك عام 1991.

يوم الأرض 30 آذار ونقطة التحوّل في حياة جماهيرنا العربية في إسرائيل
كانت السنوات الثلاثون الأولى بعد نكبة الشعب الفلسطيني وتشريده من وطنه وقيام دولة إسرائيل هي السنوات الجميلة والمثيرة في مسيرة الحزب الشيوعي الإسرائيلي وفي مسيرة إميل حبيبي خاصّة. فقد كان الحزب الشيوعي الوحيد الذي يرفع صوته الواضح والصّريح، ويُندّد بالسياسة الحكوميّة وظلمها للجماهير العربية، ووحده الذي وقف إلى جانب القضايا العربية، وكشف العديدَ من المؤامرات والسياسات والجرائم التي أساءت وتسيء لهذه الجماهير مثل: محاربة قانون "الحاضر غائب" الذي يُعطي الحجّة للسلطات بالاستيلاء على الأملاك العربية التي شُرّد أهلها وطُردوا عام 1948 أو رُحّلوا عن قراهم ومدنهم في السنوات الأولى لقيام الدولة.  وقوانين مصادرة الأراضي العربية بأسمائها المختلفة. وقانون "الحكم العسكري" الذي استمر حتى عام 1966، وقانون "التجنيد الإلزامي" المفروض على الشباب الدروز منذ عام 1956.[10]

وكانت ذروة عمل أعضاء الحزب، وبالحصْر توفيق طوبي، في كشفهم لجريمة القَتل الجماعي التي قامت بها فرقة من الجنود في قرية كفر قاسم عام 1956. كانت هذه المواقف الدّافعة للتفاف الجماهير العربية، خاصّة الشابّة منها، حول الحزب الشيوعي ودَعمه حتى أصبح الممثل الحقيقي لهذه الجماهير، ولم يعدّ للشخصيّات المنتمية للأحزاب الصهيونية أيّ أثر على هذه الجماهير إلّا في نطاق العائلة الضيّقة. صحيح، حدثت شروخات ومنغصّات أدّت إلى ابتعاد قطاع كبير من الجماهير العربية عن الحزب الشيوعي  على أثر الخلاف الكبير الذي حدث بين الاتحاد السوفييتي والرئيس جمال عبد الناصر بسبب وقوف الاتحاد السوفييتي إلى جانب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1959/1958 وتأييد جمال عبد الناصر لحزب البعث العربي، وتأسيس "حركة الأرض" التي نادت بالعروبة ووقفت إلى جانب مصر وجمال عبد الناصر . هذا الخلاف كان أثره مؤلما وحادّا  على الحزب الشيوعي في أول معركة انتخابية كانت.

لكنّ انحسار حواجز الخوف بشكل تدريجي، وانفتاح القيادات الفلسطينية خارج وداخل الأراضي المحتلة،  بعد حزيران 1967، على جهات وشخصيّات عربية داخل حدود دولة إسرائيل، وتشجيع السلطات الإسرائيلية وسَعيها لقيام مَراكز قوى مؤثّرة وموازية أو مُواجهة للحزب الشيوعي بين الجماهير العربية، كل هذه أدّت إلى قيام عدّة جَبَهات مُناوئة للحزب الشيوعي، تدعو إلى التفاف الجماهير حولها، مُتّهمة الحزب الشيوعي بالتّذبذب والأسْرلة وما شابَه. ومن أقوى هذه التنظيمات المتحدّية للحزب كانت حركة "أبناء البلد" التي أعلنت عن وجودها بشكل واضح في عام 1969، وقد تكوّنت النخبة المؤسّسة لحركة "أبناء البلد" من بعض الطلاب والمثقفين وخرّيجي الجامعات العرب الوطنيين، وسجناء سياسيين سابقين، وعمّال كادحين. وقد نافست هذه الحركة الحزب الشيوعي في مراكز قوّته في الجامعات والقرى والمدن. واستطاعت أنْ تحتلّ معظم مقاعد لجنة الطلاب العرب في الجامعة العبرية في القدس، وتنتشر لتُشكلَ قوّةً مهمّةً ويُحسَب حسابها في باقي المواقع.

ورغم العلاقة المميّزة التي ربطت قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي والشخصيات الجبهويّة المختلفة المقرّبة من الحزب مع القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج إلّا أنّ لظهور مثل هذه المنازعات والمنافسات والتحديّات كان الأثر الكبير على زعزعة وإضعاف تأثير  الحزب الشيوعي بين الجماهير العربية. لكن انقسام الحركات الوطنية العربية وتنافسها على قيادة الجماهير العربية مقابل وحدة الحزب الشيوعي وقوّة تنظيمه والتزام كوادره وأعضائه رجّحت الكَفّة لصالحه في الصّراعات على قيادة الجماهير العربية.

وزادت سطوة الحزب الشيوعي ومكانته. ووصلت الأوج في إضراب الجماهير العربية في يوم الأرض 30 آذار 1976 وقيادة الحزب للجماهير التي كسَرت حواجز الخوف، وخرجت لتتحدّى الجندَ والدبابات وسيارات الجيش والشرطة في مُصادمات ومُواجهات كانت نتائجها سقوط الشهداء وعشرات الجرحى. هذا اليوم كان العلامة الفارقة في تاريخ العرب في إسرائيل وفي مسيرة العلاقة مع السلطات الاسرائيليّة.

 أدّى خروج الجماهير العربية وكسرها لحواجز الخوف في يوم الأرض إلى قيام الجبهات في الكثير من المدن والقرى العربية واستلامها للحكم في السلطات البلدية، وأبرزها انتصار جبهة الناصرة في الانتخابات البلدية وفوز الجبهة برئاسة الشاعر توفيق زياد بمعظم الأعضاء. ومن ثم كان النصر الكبير الذي حقّقه الحزب الشيوعي في انتخابات الكنيست سنة 1977 وحصوله على خمسة مقاعد في الكنيست - البرلمان الإسرائيلي.

ظلّت صحف الحزب الشيوعي حتى سنوات الثمانين الأولى من القرن الماضي هي المسيطرة على الإعلام بين الجماهير العربية. وكانت صحيفة "المرصاد" التي أصدرها حزب "المبام" وحرّرها لفترة الشاعر راشد حسين تُشكل تحديّا لصحف الحزب حتى أواخر ستينات القرن العشرين. ولكن رحيل الشاعر راشد حسين عن البلاد وتراجع مكانة حزب مبام بين الجماهير العربية، أعطى لصحف الحزب الشيوعي السيطرة على وسائل الإعلام بين الجماهير العربية لسنوات السبعين حتى السنوات الأولى من الثمانينات من القرن العشرين. وكان الحدَث المؤثر صدورُ جريدة "الصنارة" الأسبوعية لصاحبها لطفي مشعور، ومحاربتها العنيفة للحزب والجبهة عام 1983. وفَتْح صفحاتها لكل مَن يريد مهاجمة الحزب الشيوعي ورجالاته، وفَضح الكثير من القضايا المستورة، الأمر الذي أربك قادة الحزب وكشفوا عجزهم عن مواجهة هذه التحديّات واضطروا أنْ يتعايشوا معها.

وشاركت صحيفة "الوطن" التابعة "للحركة التقدميّة" في الهجوم على الجبهة والحزب ورموز الحزب الشيوعي وخاصة إميل حبيبي. وشكّلت "الوطن" مع "الصنارة" و"الراية" صحيفة حركة "أبناء البلد" الخصم الإعلامي الصلب لصحف الحزب الشيوعي والجبهة، وشهدت سنوات الثمانين معارك صحفيّة عنيفة، كان إميل حبيبي هو الهدف الرئيسي فيها  والمتصدّي الأقوى، والمحارب على كل الجبهات. كان لنجاح "الحركة التقدميّة"، المنافس القوي للحزب الشيوعي والجبهة بين الجماهير العربية في ثمانينيّات القرن العشرين،  بإيصال عضوين للكنيست في انتخابات 1984، والتحوّلات التي بدأت أواخر الثمانينات من القرن العشرين في دول المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي، أن بدأت تُلقي ظلالها على العلاقات في داخل الجبهة والحزب الشيوعي، وعلى الشارع العربي والجماهير في مختلف القرى والمدن العربية.

وبدأت بوادر الانشقاق والابتعاد عن الحزب والتمرّد على قرارات القيادة. وفُصِلَ بعض الأعضاء المركزيين مثل صليبا خميس وحنا إبراهيم. ثم كان القرار الحاسم بفصل إميل حبيبي من رئاسة تحرير جريدة الاتحاد عام 1989 ومن ثمّ فصله أو استقالته من كل مَهامه وعضويته الحزبية، وتحوّل ليكون الخصم القويّ لقيادة الحزب التي اتّهمها بالديكتاتورية والستالينية. وبهذا انتهت فترة مهمة في حياة إميل حبيبي وأعلن أنه يتفرّغ الآن للإبداع الأدبي.

إميل حبيبي بعد خروجه من الحزب الشيوعي
كان لاستقالة أو إقالة إميل حبيبي من رئاسة تحرير صحيفة الحزب الشيوعي "الاتحاد" دَوِيُّهُ القويّ، وأثرُه الكبير بين الجماهير التي انقسمت ما بين المؤيّد والمتعاطف مع إميل حبيبي والمناصر والمؤيّد لقرارات الحزب. وكان قرار المكتب السياسي للحزب بإقالته قد صدر في نيسان عام 1987 ولكنه لم يُنفّذ. وسبب هذا الفصل أن إميل حبيبي بدأ يدعو إلى تبنّي آراء الزعيم السوفييتي غورباتشوف الإصلاحية "البرسترويكا" التي كان يُعارضها الحزب. وبعد شهر من قرار المكتب السياسي قال سكرتير الحزب مايير فلنر في كلمته في الناصرة بمناسبة يوم العمال موجها الكلام لإميل حبيبي ورفاقه :

-"يتحدّثون عمّا يسمّونه بريسترويكا في الاتحاد السوفييتي، ويطالبون بأن نجري تغييرات في حزبنا أيضا. ولكن سياستنا صحيحة وأثبتت صحّتها. ولن يجري فيها أي تغيير. الآخرون هم الذين يجب أنْ يغيّروا". ويبدو أن سفر إميل حبيبي في أيار 1987 بموافقة الحزب إلى موسكو بصفته رئيس تحرير "الاتحاد" للمشاركة في المؤتمر العالمي الذي نظّمه الكرملين لرؤساء الصحف الشيوعيّة بمناسبة مرور سبعين عاما على صدور صحيفة "برافدا". جعله يعتقد أن قضيّة فصله من رئاسة تحرير الاتحاد انتهت وأعطته الثقة بنفسه. وحاول بعد عودته مناقشة الرفاق في مختلف المواقف، وخاصة في قرار الفصل، ولكنه فشل. وقد عبّر عن حزنه وألمه في خطاب استقالته الذي ألقاه أمام اجتماع اللجنة المركزيّة يوم 8/5/1989 باللغة العبرية وبدأه بتذكيرهم بإنجازاته وأفضاله ودوره في تأسيس الحزب الشيوعي وتطوّره وانتصاراته:

-"لقد منحت شرف كَوْني واحدا من مؤسسي هذه الحزب وموحّدي صفوفه. وأسهمتُ في رَسْم طريقه السياسي وفي تطويره وفي تحويل هذا الطريق إلى طريق لشعبي كله – الشعب العربي الفلسطيني. أسهمتُ في تحطيم سدود كانت وقفَتْ في طريق التّفاهم بين حزبنا الإسرائيلي وبين الحركة الشيوعيّة وحركة التحرّر الوطني في العالم العربي. وقال: "في السادس من آذار 1989 وفي نهاية اجتماع المكتب السياسي، قدّمتُ إلى الرفيق ماير فلنر استقالتي من عضوية اللجنة المركزيّة ومن جميع مؤسساتها، بما فيها المكتب السياسي، ومن جميع مهماتي الحزبية وعلى رأسها "الاتحاد".

ويشرح سبب هذه الاستقالة:

"فإنَ قرار المكتب السياسي – بتغييري من رئاسة "الاتحاد" ضدّ رأيي وبدون أيّ سبب مفهوم – هو إقالة مهينة لم تترك أمامي من طريق حزبي، دستوري وأخلاقي، سوى تقديم استقالتي من كل مشاركة في قيادة الحزب الحاليّة وللعودة إلى العمل في هيئتي القاعدية في فرع الناصرة." وتابع: -أيّها الرفاق! لا أنكر عليكم أنّني منذهل من إصرار بعض أعضاء القيادة على التّخلّص منّي وأنْ يفرضوا عليّ الادّعاء بأنّني أنا الذي طلبتُ الاستقالة بمَحْض إرادتي. لقد اقترحتُ عليهم حلّا محترما ودستوريّا: أنْ أستمرّ في مهمّاتي حتى المؤتمر ال 21 ونقوم بتسوية ما يسمّونه قضيّة "الميراث" سويّة وبشكل مدروس. ليس أنا الذي فرض هذه الأزمة على الحزب إنّما كنتُ أنا الضحيّة الأولى لهذه الأزمة."

وبألم واضح يقول "ليس هيّنا على إنسان في عمري، وفي تاريخي، أن يرى بعينيه ويسمع بأذنيه رفاقا حديثي العهد على القيادة يطالبون بإقالته من مركزه القياديّ ثم لا يسمع أيّة كلمة دفاع، كلمة إخلاص للزمالة، من رفاقه القدامى في القيادة والذين حسبهم دائما أنهم رفاق وأصدقاء حياته. ليس هيّنا على إنسان في عمري، وفي تاريخي، أن يسمع بأذنيه التهمة القَتّالة، بأنّني أقمتُ من هيئة تحرير "الاتحاد" كتلة مُعادية للحزب، وأنّ هدف الإصرار على إقالتي من مهمّة رئيس التحرير، هو من أجل إرجاع "الاتحاد" إلى سيطرة الحزب.[11]

ولم يعد إميل حبيبي يحتمل هجمات الرفاق عليه، وأدرك أنّ قرار الإقالة نهائي، وقد عبّر عمّا أحسّ به أيامها وعذّبه في حديثه مع الصحفي يعقوب أجمان: "لقد سألتُ نفسي كيف تحمّلتُ هذا الوضع، طوال سنوات؟ ثم توصّلتُ إلى اقتناع بأنّني تصرّفتُ حينذاك بطريقة غير مفهومة. وعندما شعرتُ بأنّني كذبابة في الطريق، غادرتُ فورا إلى الكتابة الأدبيّة، التي أجد خلالها أنّني أكتبُ عن نفسي بأمانة. في الكتابة الأدبيّة أنتَ لا تستطيع أن تكذبَ. كل كذبة صغيرة سوف يتمّ كشفها فورا. لقد جاء زمن اعتقدتُ فيه أنّ الكذبَ في السياسة مسموح به.[12]

في رسالة مفتوحة كتبها رفيق شيوعي قريب من إميل حبيبي ومن أشدّ مؤيّديه وجّهها إلى جميع الرفاق أعضاء الحزب الشيوعي في منشور وزّع على كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة بدون تاريخ، يقول الرفيق الذي لم يكشف عن اسمه:

-"إميل حبيبي لم يستقل بل اضطرّ للإسقالة، لذلك الأصحّ القول إنّه أُقيل. ولم تتم استقالته أو إقالته في إطار التجديد والتغيير وإنّما جرت الإطاحة بمَن يُقاتل من أجل التغيير والتجديد والبيروسترويكا  والغلاسنوست. ولا علاقة له بقضيّة تحرير توفيق طوبي من الكنيست. وليس بسبب تسريبه معلومات ، فقد سرّب  بعد التغيير وليس قبله وقد انتقد إميل حبيبي نفسه عليه. وقرار الفصل لم يكن منذ سنتين أو أقل بتعيين سالم جبران رئيسا للتحرير. والقضية ليست بين إميل حبيبي وسالم، وليست رئاسة التحرير أو عدمها. مع أنّ سالم ومنذ تحريره من فرع الناصرة ومنذ تركه ل"الجديد" وعودته للعمل في الاتحاد غاص حتى أذنيه في الركض وراء منصب رئيس التحرير وغاص حتى النهاية في التنسيق مع آخرين في سبيل هذا، وجعل من نفسه أداة ووسيلة لمَن يُريد ضربَ إميل حبيبي بكلّ ما يُمثّله سياسيّا وتنظيميّا".

وقد نشرت جريدة "العربي" التي صدرت في عكا يوم الجمعة 6/10/1989 نصّ رسالة الاستقالة التي أرسلها إميل حبيبي في تاريخ 4/10/1989 إلى جريدة الاتحاد للنشر. وجاء فيها:

"إلى اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي الإسرائيلي.

أيّها الرفاق،

بأسف شديد، وبعد ترددات ناجمة عن رغبة حسنة وجديّة من جانبي، أعلن نهائيّا عن أنّني متمسك باستقالتي من عضويّتي في اللجنة المركزيّة والمكتب السياسي ومن جميع وظائفي الحزبية القطرية، تلك الاستقالة التي قدّمتها في 8 أيّار 1989 ونفّذتها منذ يوم تقديمها." وقد نشرت "الاتحاد" يوم 4/10/1989 خبر استقالة إميل حبيبي وقبولها: "لقد بذلت اللجنة المركزيّة منذ 8 أيار جهودا كبيرة من أجل إقناع الرفيق إميل حبيبي بالتراجع عن استقالته، غير أنّ هذه الجهود لم تُثمر. وجرّاء حقيقة أنّ الرفيق إميل حبيبي لم يتراجع عن استقالته وكفّ عن الاشتراك في اجتماعات المكتب السياسي واللجنة المركزيّة تُقرّر اللجنة المركزيّة قبول استقالته."

وفي مقالة بعنوان "كبوش وكبش الفداء" نشرها إميل حبيبي في جريدة الاتحاد يوم الجمعة 22 /9/1989 عبّر عن الألم الذي يشدّ عليه نتيجة ما يُعانيه في أيامه الأخيرة في الحزب. "ووجدتني التجئ إلى كتابة الرواية لأوّل مرّة في حياتي لا عن رغبة بل عن رهبة من انفجار براكين باطنيّة. ووجدتني أكشف، في ما أراه مطلع هذه الرواية، عن "سرّ خطير" من أسراري الباطنيّة أشبه بالدجاجة الأسطوريّة التي كانت تبيض ذهبا ، وإنّ بوحي بهذا "السرّ الخطير" أشبه ممّن يأكل لحمها. فكيف أبرّر فعلتي هذه؟ وجدتني أكتب: ليس لي من مبرّر، يا عمّاه، سوى أنّه لم يبق لي ما أسدّ به رمقي سوى لحم هذه الدجاجة بعد أن قطعتُ مفازةَ العمر الطويلة وخرجتُ منها مُنهكا لم أفزّ حتى بشروى نقير. فكأنّني، بعدها، مثل مصيّفة الغور لا من بَرْد شتاء تدفأت ولا من حرّ تبرّدتْ؟. كنتُ أحثّ الرّكبَ وأنفخ في نار القرى وأشدّ في ساعد الولد وولد الولد. "فلما اشتدّ ساعده رماني"! وجدتني الآن لا في العير ولا في النّفير."

ويقول إميل حبيبي في مقابلة أجرتها معه الصحفيّةُ داليا كاربل ونشرتها صحيفة "هعير" الصادرة في تل أبيب يوم 1/9/1989 وترجمتها ونشرتها جريدة "العربي" التي تصدر في عكا يوم الجمعة 29/9/1989: "أسألُ نفسي لماذا. لماذا تنقصني الجرأة؟ لقد خلص أصدقائي (رفاقي) إلى الاستنتاج بأنّهم لم يعودوا يحترمونني. لقد اعتقدتُ بأنني كنز، ولكن لم يبق لي أيّ شيء، حتى اللقب "مؤسس الجريدة" انتزع منّي. ولكنني، والحقّ يُقال، تصرّفتُ بشكل لا يتناسبُ واحترامي وكرامتي، وهذا يؤلمني، ولكن أرى لزاما عليّ بأن أحترم نفسي وأعتزل دونما غضب. وحتى الآن لا أعرف لماذا لا يُريدونني في الحزب- إنّه لغز محيّر.!!"

وكانت جريدة الاتحاد قد رفضت نشر مقال أرسله إميل حبيبي في شهر حزيران 1989 من فرانكفورت للنشر باسم "قل كلمتك وتحمّل مسؤوليّتها" وعادت جريدة "العربي" الصادرة في مدينة عكا ونشرته يوم 20/10/1989.ويذكر إميل حبيبي أنّه "في الرّبع الأخير من الشهر الحادي عشر (تشرين الثاني) 1992 أبلغنا بقرار قيادة الحزب مَنْع نَشْر أي مقال لي أرسله إلى الاتحاد"[13].

إميل حبيبي بعد استقالته / إقالته من الحزب الشيوعي
لم يتوقّف إميل حبيبي عن الكتابة بعد خروجه من الحزب الشيوعي، فقد كتب روايته الأخيرة "خرافيّة سرايا بنت الغول" (دار عربسك حيفا 1991). وقام برحلات طويلة في دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وكتب ونشر العديد من المقالات التي عالج فيها الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية، وجمعها في كتابه "نحو عالم بلا أقفاص"(إصدار وتوزيع مكتب ومكتبة كل شيء حيفا 1993).

ويرى خضر محجز أنّ إميل حبيبي قد بدا من خلال كتاباته وتصرّفاته بعد ترك الحزب، "لا مجرّد متمرّد على تصرّفات لاديمقراطيّة في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، بل مُراجعٌ شامل لمجمل المنظومة الفكريّة، التي قامت عليها الأحزاب الاشتراكيّة والماركسيّة في العالم: أي أنّه، بمفهوم أيديولوجي، لم يعد مؤمنا بالنظريّة الماركسيّة، أو لم يعد شيوعيّا البتة، رغم كل هذه المجادلات التي خاضها، من طرف واحد، على صفحات الصحف، ثمّ نشرها في كتابه الأخير "نحو عالم بلا أقفاص".[14] ويرى خضر محجز أنّ كفرَ إميل حبيبي بما كان عليه وصل إلى درجة إنكار واحدة من أبرز مَقولات النظرية الماركسية : الحتمية التاريخيّة، حيث قال" لقد أثبت العلمُ مؤخرا بطلان ما كنّا نعتبره الحتميّة التاريخيّة".[15]

جائزة إسرائيل ، التهمة الأخرى، والمواقف العربية المختلفة منها
        كان إميل حبيبي قد منح من الدائرة الثقافيّة في دولة فلسطين أعلى وسام أدبي "جائزة القدس" من يد الرئيس ياسر عرفات خلال "أسبوع الثقافة الفلسطيني" الذي عقد في القاهرة في كانون الثاني يناير 1990. وفي السابع من أيار عام 1992 في ذكرى اليوم السنوي الذي تُصادف فيه ذكرى ضياع فلسطين مُنح إميل حبيبي "جائزة إسرائيل" للأدب من يد رئيس حكومة إسرائيل اليميني المتطرّف إسحاق شامير. وكانت جماهير الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة في مواجهاتها المستمرة منذ اندلاع انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987.

ووقع خبر الجائزة وقع الصاعقة على مسامع عارفي وقارئي ومحبّي إميل حبيبي. ولم يُصدّقوا الخبر. ولكنهم تساءلوا وتجادلوا وتحاوروا عن الدوافع التي حملته على ذلك. واختلفت الآراء. وهو نفسه لم يهتز ولم يُغيّر موقفه ولم يتنازل عنه وظل يُدافع عنه ويتّهم الآخرين.

ففي جوابه على السؤال: أنت الوحيد الذي حمل "جائزة إسرائيل" و "جائزة فلسطين" في آن واحد. كيف أمكن حصول ذلك؟

أجاب ببساطة وهدوء: أنا أحمل المجد من طرفيه. وتابع: طبعا هذا ليس جوابا، أحيانا اضطرّ إلى هذا الجواب. يقول الشاعر: الفضل ما شهدت به الأعداء"[16]. وقد قال أيضا  في صحيفة الشرق الأوسط يوم 30/3/1992 تبريرا لنَيْله الجائزة: "إنّ هذه الجائزة لها احترام كبير داخل إسرائيل، وهو ما يعني انسحاب هذا الاحترام على مختلف أنحاء العالم، لِما لإسرائيل فيه من نفوذ"[17].

وقد عاش إميل حبيبي لفترة من الزمن وهو على اقتناع بأنّ جائزة "نوبل" للآداب تنتظره، حتى أنّه كان يؤكد ويقسم لمَن معه أنّ هذا سيحدث حتما، ويُصابُ بالإحْباط إذا لم يتحقّق حلمُه، ولكنه يؤكدُ أنّ هذا سيكون في المرّة القادمة. ويحدّثنا بلال الحسن الكاتب الفلسطيني رئيس تحرير مجلة "اليوم السابع" التي كانت تصدر في باريس:

- مرّة في النادي الصحافي في الرباط حيث كان إميل حبيبي زائرا، وكان قد تسلّم الجائزة من إسحاق شامير، طلب  المنظمون منه بلباقة أنْ لا يتحدّث عنها لأنّ الجوّ وسط الجمهور قد يسيء إليه، فما كان منه إلّا أنْ بدأ الحديث من هذه النقطة بالذات. لم يكن يعتذر، ولم يكن يُبرّرُ، كان يشرح ويوضّح ويهدر، وكان لسان حاله يقول: نخوض في الطين ولا نتلوّث."[18]

لكن موقف إميل حبيبي الصلب العنيد المتحدي في مواجهة الغير لم يحل دون توجيه الكثير من العتاب واللوم والتقريع والتجريح، وحتى الاتهام إلى إميل حبيبي بسبب استلامه لجائزة إسرائيل من يد إسحاق شامير، بينما أطفال فلسطين يواجهون بحجارتهم الجنود الإسرائيليين المحتلين بلادهم.

وقد قال الكاتب إدوار الخراط "من القضايا التي اختلفنا عليها مسألة قبوله الجائزة من أيدي القيادة الإسرائيلية التي يثبت يوما بعد يوم أنها تقطر بدمائنا."[19]

 وقال الناقد جابر عصفور : "قد نختلف معه في آرائه السياسيّة الأخيرة، أو في بعض تصوّراته للصلح بين العرب وإسرائيل، أو في قبوله ب "جائزة إسرائيل" ولكن هذه الاختلافات لا تُقلّل إطلاقا من قيمة الرجل ومن مكانته الإبداعيّة التي ستظلّ مضيئة ومؤثّرة".[20]

 وقال بيار أبي صعب المحرر الثقافي لمجلة "الوسط" اللندنية: " رأى كثيرون في قبوله ب "جائزة إسرائل" خيانة، أمّا هو فأرادها تتويجا لكفاحه من لأجل اعتراف المحتل بهويّته  وبشعبه."[21]

 وقال الكاتب الروائي يوسف القعيد: " كنت من بين الذين شعروا بالإنزعاج عندما قبل أنْ يُصافح الإرهابي إسحاق شامير الذي سلّمه "جائزة إسرائيل". وراعني أنْ أسمعه يُبدي سعادته بالجائزة، باعتبارها تُساويه بالإسرائيليين."[22].

 ويرى الناقد صلاح فضل: "لعلّ موقفه المرتبط بالجائزة الأدبيّة المرفوضة من كل مواطنيه، والتي قبلها تحدّيا لهم، لكي يُثبت أنّ اعتراف المؤسسة الإسرائيلية بنموذج إبداعي للأدب العربي يتضمّن اعترافا مُسبقا بدولة فلسطين"[23]

 أمّا الشاعر الفلسطيني يوسف أبو لوز فيرى "أنّ وتيرة الخلاف ارتفعت مع إميل حبيبي على مستوى المثقفين العرب كافّة عندما تسلّم جائزة أدبيّة إسرائيليّة في عام 1992 من إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل الأسبق."[24]

 وانتقده الكاتب الأردني فخري قعوار بحدّة وقسوة، وعابَه على أنّه تسلّم الجائزة في يوم ذكرى ضياع فلسطين.[25]

وكان ردّ الفعل الغاضب للشاعر أحمد دحبور في مقالته "أن تعيش وأن يموت الجبل": عن وضع صاحب المتشائل، في هذه المعادلة: هل يُمثل المثقف السياسي الفلسطيني، بوصفه ابن شفاعمرو وربيب حيفا؟ أم سيمثّل الإسرائيلي، بوصفه ملتزما بالجنسية؟ ألهذا هو سعيد وأبو النحس في وقت واحد؟ ألهذا هو منحوت من المتفائل والمتشائم معا؟ وهل هذا المأزق النظري هو الذي أوصله إلى الخطيئة".[26]

أمّا الناقد فيصل درّاج فلم يكتف بتناول قضيّة الجائزة وقوله: "إنّ قبول إميل حبيبي بجائزة الإبداع الإسرائيليّة، لا يعثر على تفسيره، ربّما، إلّا في مَدار ذاتيّة الوعي الفقير، التي تنهار امام السلطة التي تفتنها"[27] وانما راح يحلل حالة إميل حبيبي كمثقّف إشكالي لا يمكن تحديده في قالب واحد فقال تحت عنوان "أقنعة متعدّدة لوجه لا وجود له":

-"تُشكّل حالة إميل حبيبي، ربّما، آية نموذجيّة على نفي ذاتيّ متواتر، كأنّ الرجل مولع بالفصول، كلّما جاء فصل أخذ بألوانه.. مع فرق بسيط هو أنّ فصول العام أربعة، وألوان إميل تحتاج إلى لامتناهي الفصول. ينفي إميل ذاته راضيا كلما دخل مناسبة، يتخفّفُ من المناسبة التي كانت، ويدخل جديدا في جديد المناسبات. يُقرّظ القادم الجديد نادما على تقريظه السّابق للمناسبة التي سبقت. يختصرُ الرجل تاريخه في لحظته الرّاهنة، ويخبر أنّ الحقّ في اللحظة وأنّ ما سبقها كان ضلالا، وأنّ التاريخ الصحيح لا وجود له، لأنّ الصحيح الوحيد قائم في اللحظة الرّاهنة التي تتنكر لكل تاريخ. ويختزل الرجل ذاكرته إلى ما شاءت اللحظة وأرادت، فلا يحتفظُ من ذاكرته إلّا بغيابها، كأنّ إميل لا يتنفّسُ مُرتاحا إلّا إذا باع ذاكرته في أسواق النسيان"[28].

 وكانت كلمات الكاتب محمد علي طه الأشد والأقسى حيث نشر في جريدة "الاتحاد" يوم 13/3/1992 تحت عنوان "وراح طيّر حمام بْعيدك يا حبيبي": "وقالت شهرزاد: بلغني أيّها الملك السعيد، ذو العقل الرّشيد، والرّأي السّديد، أنّ ذلك الشّاب الأسمر، كان يسير في الشوارع ويتمختر، كأنّه أبو فراس أو عنتر، خاصّة بعد أنْ أتقنَ الإنشاء والكتابة، واعتلى المنابر وأجاد الخطابة.

وكان يا مولاي يكتبُ في الصحيفة مقالة أسبوعيّة، يتلقّفها الناسُ في الصباح كأنّها فنجان ميرميّة، ويوقّعها باسم مستعار، فاشتهر الإسمُ وطار[29]. وصار الشاب الأسمر معبود الجماهير، من الصغير إلى الكبير يقسمون بحياته، ويتمنون الخيرَ لأولاده وبناته، وكيف لا يحبّونه، ويقدّرونه، ويرفعونه، وهو الخطيب المصقع، والكاتب المبدع، الذي إذا اعتلى المنبر، وأرغى وزمجر، هزّ العروش، ونفّسَ الكروش، وسخر من الحكومات، ولعنَ الزّعامات، وبعثَ في نفوس الجماهير الأمل، ووضع حظوظها في زحل، وبشّرَ بالثورة القادمة بلا ريب، وبالنصر الآتي من جبهة الغيب، وصاح من قحف الرأس، ليسمعه كلّ الناس: يا عمّال العالم اتحدوا، ويا مظلومين تمرّدوا، فلن تخسروا إلّا القيود، ولا فرق بين العمال العرب والعمال اليهود. ويصرخون ويهتفون، ويغضبون ويفرحون، ويبكون ويضحكون.. ويأتون إلى الساحات زرافات، فرادى وجماعات، ثم يعودون رافعي القامات والهامات، لأنّهم أيقنوا أنّ النصرَ آتٍ لا محالة، وسوف تسودُ الحرّيةُ والعدالة. وكان يلعن الصهيونيّة ، ويشتم الرأسماليّة، ويقلع سنسفيل الإمبرياليّة ويهتف في المظاهرات، وفي القاعات والساحات: ما بنلين وما بنلين، إحْنا شعبك يا فلسطين!

وأمّا عن قصصه ورواياته، ومسرحياته ومقالاته، فلا تسأل يا مولاي، فقد كرّسها للقضيّة، وبهّرها بالتقدميّة والثوريّة، ودعا فيها المثقفين والعمّال، إلى الكفاح والنضال، ضدّ الحكومة الظالمة، والسياسة القائمة، ولعن التمييز والعنصريّة، وسياسة الحكومة الحربية، وأعمالها الاستيطانية. وهكذا طار صيت الفتى الأديب- بين القريب والغريب، وسمّوه المناضل الكبير، والكاتب الشهير- وطبعوا كتبه ونشروها، وترجموها ووزّعوها، وقرأوها ومثّلوها.. فيا للحظّ والبخت، الذي جعل الرّاجلَ يركب اليَخْت!!

وصاحبنا قد أقبل حظه، وزاد نجاحه، حتى صار رمزا لفلسطين، يحترمه اليسار واليمين، فدعاه الرئيس عرفات، وجميع الأبوّات، إلى مدينة القاهرة، الزاهرة الطاهرة، وسلّمه جائزة فلسطين للآداب، فصفّق الشيوخ والشباب – وقالوا: والعصر، إنّ الاحتلال لفي خسر، وانّها لثورة حتى النصر. وليتك يا مولاي شاهدتَه، وهو على المنصّة واقف، لا متأثّر ولا خائف، يُمازح القائدَ، ويحلف ويُعاهد، أنْ يواصل الكفاح، حتى يُشرق الصباح، وينال شعب فلسطين حرّيته واستقلاله، ومدنه وقراه وسهوله وجباله.

ولكن يا مولاي، اسمح لي بلا طول سيرة، أنْ أنهي حكايتي القصيرة. فبعد سنة من جائزة فلسطين والقسَم واليمين، أخذ الناسُ يهمسون، ويوسوسون ويخنسون.. فقلنا: مهلا يا عرب، أقبل بلوغ الأرب. تحطّمون كاتبكم.. وتسخرون من خطيبكم؟

ما هي إلّا الأيام قليلة، حتى قهقهت دليلة، وخبّرتنا العصفورة، تلك الذكيّة الغندورة، أنّ الكاتب الشاطر، التقدّمي الثائر، عدوّ الرأسماليّة، وغريم الصهيونيّة، الذي طبّل وزمّرَ لحكومة إسرائيل، ورماها بطير أبابيل، ونعتها بالرجعيّة والحربجيّة، وأنها متعصّبة قوميّة.. هل تدري يا مولاي ما الخبر؟ انّ صاحبنا الكاتب المبدع، والخطيب المصقع، الثوري الاشتراكي، الفلسطيني التقدّمي، الذي نال جائزة فلسطين ، بموافقة اليسار واليمين.. وتصوّر مع ياسر عرفات، ونشر الصورة في الجرائد والملحقات .. أنّ صاحبنا إميل، نال جائزة إسرائيل وسيقف في الشهر القادم أمام الجماهير، مثل الفتى الأمير، ليُصافح اسحاق شمير.. ويتسلّم منه الجائزة والوسام.. وعلى الماضي السلام!!.

ويُقال يا مولاي إنّه ينتظر من عرفات برقيّة .. ومن الدّرويش هديّة..[30] ومن الحوراني تحيّة.[31]. ومن الحسيني مَزهريّة[32].

فسأل شهريار: يا شهرزاد هل الجائزة للكاتب المناضل، أم لسعيد أبي النحس المتشائل؟ وماذا عن الانتفاضة وقتلاها وجرحاها؟

أجابت شهرزاد: يبدو أنّنا اقتربنا من الآخرة، أو أنّ صاحبنا فقدَ الذّاكرةَ ، ونسيَ مواقفَ شمير وأعماله، وسياسته وأفعاله!! بل يبدو أنّ صاحبَنا جمعَ الشتاءَ والصيفَ على سقف واحد.. في هذا الزمن البارد.

قال شهريار: وماذا تقول قبورُ الشّهداء، وكلومُ الجرحى، بل ماذا ستعدّدُ الثواكلُ؟

قالت شهرزاد: أيّها الملك الرّشيد، ذو العقل السّديد. تعال نرقص ونُغني في هذا العيد؟

راح طيّر حمام بعيدك يا حبيبي

وأحلى الكلام، أغنّي لك يا حبيبي

مبروك مبروك. ألفين مبروك

بعيدك يا حبيبي

يا حبيبي

يا.....[33]

إميل حبيبي وحمله للبطيختين
كما روى لمحاوريه لمجلة مشارف، إنه دخل الحزب الشيوعي بهدف أن ينشروا له قصصَه في صحيفة الحزب، وقد حكم على نفسه حمل بطيختين معا: بطيخة الانتساب السياسي، وبطيخة الإبداع الأدبي. ويُسارع ليشرح الخطأ بأنّه لم يستمع لكلام الأجداد الذين علّمونا أنّ الإنسان لا يستطيع أنْ يحمل بطيختين بيد واحدة. وفي النهاية وجدتُ أنه لا يُمكن ذلك. وأنّ هناك فرقا كبيرا بين العمل السياسي القيادي وبين الإبداع الأدبي. الفرق في الأساس هو أنّه في السياسة لا يُمكن أنْ تعمل بما أسمّيه صدق الطفولة. أمّا في الأدب فلا يمكن أن يستحق العمل هذا الاسم إلّا إذا التزمتَ بصدق الطفولة، وبالعكس تماما. أنا لا أتحدّث عن سياسة شيوعيّة أو يساريّة، كل السياسات فيها نوع من الميكيافيليّة، لا يُمكن غير ذلك.َ

        وسأله محاوروه: قضيتَ العمرَ وأنتَ تحمل بطيختين[34] في يد واحدة. أسقطتَ واحدة . وبقيت الأخرى. هل أسقطتها عمدا؟

فأجاب بسرعة: لا. أسقطوها من يدي.. ماذا تريد أكثر من ذلك. أنا صحيح، في نهاية الأمر شعرتُ أنْ عليّ أنْ أُحطّم إحدى البطيختين، ففضّلتُ "مُكرَه أخوك لا بطل" أنْ أحتفظَ ببطيخة العمل الأدبي.

        ويسألونه: هل كنتَ سترمي البطيخة لو بدأتَ من الأوّل؟

فقال: نعم.. إذا كان لديّ ندَم. فهذا هو النّدَم. وأعتقدُ أنّني كنتُ أستطيعُ أنْ أخدمَ قضيّة شعبي العادلة أكثر ممّا خدمتها، وخدمتها. لو اكتفيتُ  بالعمل الأدبي.. أنا في بعض الأحيان أتشاطر وأقول ما قاله الخليل بن أحمد:

"ولولا الشعر بالشّعراء يَزْري      لكنتُ اليومَ أشَعَرَ من لبيد"

ليس في مجال الشعر طبعا. ولكن لا شطارةَ هنا.. بعد ما عَزّلَ البيدر.

إميل حبيبي يعترف بأنّه هو سعيد أبو النحس المتشائل
يعترف إميل حبيبي لمحاوريه لمجلة "مشارف" بقوله: كنتُ أكذبُ وأقولُ في الماضي إنّ شخصيّة سعيد أبي النّحس هي عكس شخصيّتي. ولكنني الآن في عمر لم أعد فيه بحاجة إلى الكذب. لقد كنتُ أتحدّثُ في "المتشائل" إلى حدّ كبير، عن نفسي. أتحدّثُ عن نفسي بمعنى العقلانيّة. وعقلانيّته هي عقلانيّتي إلى حدّ ما. وقد كنتُ حتى في قيادة الحزب أحاول أنْ أمنع أيّة مغامرة بأعضاء الحزب وبالشعب كلّه. ربّما أكون أوّل مَنْ نجح في وقف خطئنا الكبير والأساسي، وهو أنّنا عادينا كلّ مَنْ وجدَ عملا ليعتاشَ منه في إطار المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة.[35]

        ويُتابع إميل حبيبي في اعترافه المتدفّق: وأنا أقول مَنْ هي "سرايا"" ومَنْ هو "الغول"؟

        "سَرايا" هي الصّدق، الصّدق الذي يولد مع كلّ طفل، و"الغول" الذي سرق "سرايا" هو الميكيافيليّة في السياسة. وممّا لا شكّ فيه أنّ آخرين لم يتخلّوا عن سَراياهم.. هذه هي الحقيقة، فلماذا أنكرها؟! [36]

كما وقام إميل حبيبي بإصدار مجلة "مَشارف" الأدبية، وصدر العدد الأول في أب 1995. وظل يرأس تحريرها حتى توفي  ليلة 1-2 أيار 1996 في "مستشفى العائلة المقدسة" في الناصرة.

شيّع المئات من الأصدقاء والرّفاق والمعارف إميل حبيبي في رحلته الأخيرة حيث دُفن في الساعة الخامسة من مساء يوم 3/5/1996 في مقبرة الطائفة البروتستانتية على شاطئ حيفا. المدينة التي جاءها إميل وهو فتى في مقتبل العمر، كلّه نشاط وحيويّة واندفاع وإصرار على مواجهة الصعاب وتحدّي الحواجز وتجاوزها، دُفن فيها،كما أوصى، وكُتب على قبره "باق في حيفا".  وبموت إميل حبيبي ومواراته التراب انتهت قصة الرجل الذي بلورَ هويّة ومَسلك الجماهير العربية التي بقيت ضمن حدود دولة إسرائيل بعد عام 1948 على مَدار ثلاثة عقود، هذه السنوات كان إميل حبيبي فيها هو صاحب الصولجان، الآمر الناهي، القادر على أن يقول للأعور أعور، كلمته وحدها السّائدة، ولا مَنْ يقبل بغيرها. كان إميل حبيبي مالئ الدنيا وشاغل النّاس على مدى عشرات السنين الحاسمة في تاريخ شعبنا العربي الفلسطيني.

وبعد اختفاء إميل حبيبي عن المشهد الذي شغله ولا يزال، يبقى السؤال الذي نسأله:

- هل كان إميل حبيبي ذلك النّموذج الأفضل للمثقف الإشكالي كما وصفه الناقد فيصل درّاج؟ أم صورة مشابهة للبابوشكا الروسيّة، دمية داخل دُمية داخل دُمية كما وصفه الكاتب العبري يورام كانيوك.

ولا أجمل من كلمات الشاعر المرحوم محمود درويش التي أخْتارُ منها القليل من الدّرر التي قالها يوم تشييع الجنازة في الناصرة في 3/5/1996  لأختتمَ بها كلماتي عن إميل حبيبي الإنسان المثقّف الإشكالي كما وصفه الناقد فيصل درّاج.

"الآن وأنتَ مسجى على صوتك. ونحنُ من حولك، رجوع الصّدى من أقاصيك إليك.

الآن لا نأخذك إلى أيّ منفى، ولا تأخذنا إلى أيّ وطن. ففي هذه الأرض من المعاني والجروح ما يجعل الإنسانَ قدّيسا منذ لحظة الولادة، وشهيدا حيّا مضرّجا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد.

مَنْ يُودّعُ مَنْ، أيّها السّاحرُ السّاخرُ من كلّ شيء؟ باقٍ في حيفا، حيّا وحيّا.

باقٍ حيثُ ولد في المكان الذي واصل فيه سليقةَ العلاقة العضويّة المستمرّة، وبلا قطيعة، بين الأرض وتاريخها ولغتها. وتابع فيه الإصغاء المُرهف بخشوع ومحبّة إلى كلام السماء إلى الأرض.

فطوبى لك أيّها المعلّم الذي جعل الحنين فاكهة، وسَيّج الحيرة بزهرة القَندول.

كما أنتَ يا حبيبي، كم فيك من تناقض هو أحد مَرايا تناقضاتنا التي تكسر اللغة من فَرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع المَلهاة. في كلّ واحد منّا واحد منك ونحن جميعا فيك.

فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلا معك وإليكَ، إلى هناك، إلى حيثُ تُريدُ أنْ تنامَ حارسا دائما لتلفّت القلب إلى حيفا[37]. 

 

المصادر:

مجلة " مشارف" شهرية ثقافية تصدر في القدس وحيفا.صاحب الامتياز ورئيس التحرير إميل حبيبي

البوجي، محمد. إميل حبيبي بين السياسة والإبداع الأدبي. غزة 2000

حبيبي، إميل. سداسيّة الأيام الستة.مطبعة الاتحاد حيفا 1969

                الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل. منشورات عربسك 1974

                لكع بن لكع. دار 30 آذار. الناصرة 1980       

                اخطيّة. منشورات مؤسسة بيسان برس. قبرص 1985

خرافية سرايا بنت الغول. دار عربسك حيفا 1991

نحو عالم بلا أقفاص. مكتبة كل شيء حيفا 1993

درّاج، فيصل. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية. دار الآداب بيروت 1996

طه، محمد علي. بالعربي الفصيح.مطبعة الكرمل حيفا 1995

                القاسم، نبيه. دراسات في القصة المحلية. دار الأسوار عكا 1979

هذا الزمن العربي. مطبعة الرامة 1991

                                في الإبداع المسرحي الفلسطيني. دار المشرق .شفاعمرو 1994

                                مراودة النص. دار المشرق شفاعمرو 2001

محجز، خضر. إميل حبيبي الوهم والحقيقة. قدمس للنشر والتوزيع دمشق 2006

هوامش



[1] 1نبيه القاسم. مراودة النص. دراسات في الأدب الفلسطيني. مطبعة المشرق. شفاعمرو 2001 ص84.

[2]. 2خضر محجز. إميل حبيبي، الوهم والحقيقة. قدمس للنشر والتوزيع. دمشق 2006 ص 31

                                3مشارف 9/1996 ص16          

  • [4] مشارف 9/1996 ص27

نبيه القاسم. دراسات في القصة المحلية ص28[5]

نبيه القاسم. في الإبداع المسرحي الفلسطيني. ص78[6]

 إميل حبيبي. لكع بن لكع.ص75[7]

 نبيه القاسم. في الإبداع المسرحي الفلسطيني. ص78-79[8]

9 يمكن تفاصيل مواقف إميل حبيبي والحزب الشيوعي من الحركة الثقافية الأدبيّة في دراسة د. نبيه القاسم: الحركة الشعرية الفلسطينيّة في بلادنا من خلال مجلة الجديد. دار الهدى للنشر ، كفر قرع 2003

[10]كان أعضاء الحزب الشيوعي في الكنيست، ومنهم إميل حبيبي، قد أيّدوا قانون التجنيد العام الشامل للعرب عام 1954. وكانت جريدة الاتحاد قد نشرت يوم 23/7/1954 البيان الذي أصدره مكتب الصحافة الحكومي يوم 10/7/1954 والذي جاء فيه: أنّ وزير الدفاع قرّر أنْ يدعو، إلى التسجيل للخدمة العسكريّة، في الجيش الإسرائيلي، الشبان العرب الذين ولدوا ما بين (10/9/1935 و 12/2/1937)، بموجب قانون الخدمة العسكرية.

وقد علّقت الاتحاد على البيان بما يلي: 

                ومع أنّ قانون الخدمة العسكريّة ينطبق على جميع المواطنين، في البلاد، بغض النظر عن القومية والطائفة، فإنّ الشبان العرب لم يُدعوا حتى الآن ، للخدمة في الجيش الإسرائيلي. فالحكومة بانتهاجها  سياسة التمييز العنصريّ تجاه المواطنين العرب، وبحرمانها مواطني الدولة العرب من حقوق كثيرة، فضّلت حتى الآن أنْ تُبقي الشبّان العرب خارج نطاق الجيش.

وتتابع الاتحاد: إنّ جماهير الشبّان اليهود والعرب، والجماهير الديمقراطيّة الإسرائيليّة بأسرها ، ستُعارض في سياسة التمييز القومي أيضا في الجيش، الذي من الممكن، ومن اللازم، أن يكون مُجمّعا للصّداقة بين الشبيبة، وليس محلّا للتفرقة. وهي ستعارض أيضا كل محاولة تقوم بها السلطات لتجنيد الشبان العرب في وحدات منفصلة. أو استغلالهم، كمصدر عمل رخيص، للقيام بأعمال مرهقة. وهي ستُعارض في كل محاولة لتركيز الشبّان العرب في وحدات العمل فقط، أو في أيّ عمل مرهق آخر. والحزب الشيوعي، الذي ثابر دائما دون وجل، في الوقوف في طليعة النضال من أجل الدفاع عن السكان العرب، يُطالب بكلّ شدّة، بمنح الشبّان العرب مُساواة مطلقة في الحقوق، في صفوف الجيش. والحزب الشيوعي الذي عارض ويُعارضُ في تجنيد الفتيات الإلزامي للجيش، يُطالب بشكل خاص إعفاء الفتيات العربيات من هذه الخدمة.

إميل حبيبي. عالم بلا أقفاص. ص10-21[11]

[12] حواره مع الصحفي يعقوب أجمان في مجلة عينيم بتكوماه فيشوءل عدد تموز 1997.)[12]

 

[13] نحو عالم بلا أقفاص. ص4

[14]14 خضر محجز . إميل حبيبي: الوهم والحقيقة. ص 179)    .

15 خضر محجز ص180

[16]16- مشارف 9 /1996 ص26

فيصل دراج. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية .دار الآداب بيروت 1996 ص108[17]

[18] 18 مشارف 9 /1996 ص159/160

[19] 19 مشارف 9/1996 ص46

[20]20  مشارف 9/ 1996 ص51

[21]21 مشارف 9/ 1996 ص58

[22]22 مشارف 9/1996 ص86

[23] 23. 9/1996 ص97

[24] 24.مشارف 9/1996 ص139

[25]25 مشارف 9/1996 ص141

[26] 26 أحمد دحبور. أن تعيش وأن يموت الجبل. مجلة بيادر(تونس). السنة الثالثة . العدد 9. ص7..1992

[27] 27 فيصل درّاج. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية . دار الآداب بيروت  1996 ص106-107

 فيصل درّاج. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية. دار الآداب 1996ص115[28]

[29] 29 المقصود اسم "جهينة" الذي كان يوقّع به إميل حبيبي مقالته الأسبوعية في جريدة الاتحاد".

[30]30 المقصود الشاعر محمود درويش.

[31] 31 المقصود الكاتب فيصل الحورا

[32]32 المقصود فيصل الحسيني.

[33] 33 محمد علي طه. بالعربي الفصيح . مقالات ساخرة. 1995 ص39-42

مشارف 9/1996 ص23[34][34]

 مشارف 9/1996 ص19[35]

[36]36 مشارف  9/1996 ص17

[37] 37  مشارف 9/1996 ص32-34