مدخل: بين الذاتية والعلمية
مع أن (العنف) لم يُعرَّف دولياً وسياسياً لحد الآن، فإن الحديث عنه قد ازداد بشكل غير عادي في العقدين الأخيرين، وبشكل خاص بعد أحداث أيلول 2001. وفي ظل مثل هذا، الذي هيمن عليه التخبط والفوضى، والكيل بمكيالين أو أكثر مع ما قد يُصنّف من البعض على أنه عنف ومن آخرين على أنه مقاومة ودفاع عن النفس، صار كل من يشاء، رئيساً أو كاتباً أو سياسياً أو منظمةً أو هيئة دولية، يتكلم عنه، وكثيراً ما لا يعرف هو نفسه تحديد مفهموه أو تعريفه. وفي هكذا جو صدر قبل عشر سنوات بالتمام كتاب ربما يختلف فيه كاتبه عن هؤلاء الآخرين، وفي إخلاص كاتبه فيه، الذي تشعر به حتى وإنْ اختلفنا فيه معه أو خطّأناه هنا وهناك، خصوصاً حين يقترب مؤلفه فيه من أن يكون منهجياً. هذا الكتاب هو "ثقافة العنف في العراق"([1]) لكاتبه الأديب سلام عبود. ولأننا نجده واحداً من أفضل ما كُتب في هذا المجال وتحديداً في محاولته رصد (ظاهرة) العنف ممارسَةً على أيدي جهة أو جهات معينة في العراق، نتوقف عنده وقفة نشاء أن نسميها تفكيكية لنرَ، من وجهة نظرنا، أين كان سلام عبود مصيباً ومنصفاً وحيادياً وموضوعياً، وأين كان غير ذلك؟.
وبدايةً، نريد لقراءتنا هذه أن تكون علمية وتقترب من أن تكون أكاديمية، وذلك أولاً لأن موضوعه حساس جداً، وثانياً لأن كتابه يقترب من أن يكون أكاديمياً، وثالثاً لأنه يتناول، بحرية وبدون قيد أو تحفظ، ما يسميها (ثقافة العنف) في بلد وشعب وتراث وتاريخ وأمة نحن ننتمي إليها، ورابعاً وتبعاً لذلك لأن المؤلف يمسّ ذاتَ كلٍّ منا من حيث يريد أو لا يريد. وهكذا، لا يعفي الكتابَ من مثل هذا التعامل والمحاججة قولُ مؤلفه عنه في مقدمته:
"هو بمعنى آخر ليس أحكاماً قضائية أو جنائية، بقدر ما هو حوار مع ذات (عليلة) حوار أقرب إلى المنولوج الحزين منه إلى البحث العلمي أو الأدبي، هو رحلة عاطفية في القيم الروحية، وعلى وجه التحديد في الممارسة الأخلاقية للأديب وفي الوظيفة الاجتماعية للأدب"- ص11.
فمع أننا نعتقد أن الكتاب يتعدى أن يكون "وجهة نظر أخلاقية"، مع ما فيها من هذا، لتكون وجهة نظر سياسية وفكرية، فالذهاب مع سلام عبود، في هذا، والاتفاق على أنه وجهة نظر أخلاقية، لا يعفي المؤلف، من المحاججة، بل حتى من مناقشته من زاوية فكرية وعلمية بل أكاديمية.
بين الموضوعية واللاموضوعية
لعل واحداً من أجمل ما تلمستُه في كتاب سلام عبود، وبمعزل عن مدى الاتفاق والاختلاف معه فيه، هو الإخلاص وحسن النية الواضحان في تأليف الكتاب، إزاء واقع أن الكثير من مثقفينا وكتّابنا ومبدعينا العرب، والعراقيين على وجه الخصوص، يتوزعون ما بين قاسين ومتحاملين حد التسفيه على من لا يحبونهم، أو يختلفون معهم سياسياً أو علمياً أو دينياً أو فكرياً، وميالين ومحبين ومتحمسين حد افتقاد التوازن لمن يتفقون معهم أو يلتقون معهم سياسياً أو فكرياً أو دينياً أو غير ذلك. وفي الحالين يفقد هؤلاء موضوعيتهم خصوصاً حين يكتبون أو يناقشون من يختلفون معهم. هنا أتذكر أنني ناقشت أحد المثقفين الذين اعتادوا الكتابة ضد فئة معينة من القوميين، مع أنني كنت أختلف معها جزئياً، فعاتبتُه في تعليق خاص على إحدى مقالاته التي وصف فيها تلك الفئة بالتافهين. قلت له: ليس لك أن تصف من تختلف معه بهذا الوصف، بل لك أن تقول هو مخطئ، أو منحرف عن الصواب، أو دكتاتور، بل حتى عميل بدليل كذا وكذا. أما أن تصفه بالتافه فهو خروج عن أصول ثقافة الاختلاف التي أعرفك من المؤمنين بها، فهل أن أكون أنا قومياً مثلاً يعني أنك ستشتمني؟. فرد عليّ، وكان في رده في غاية الذوق والأدب، ليقول: إن شتمه كان لإولئك الذين لبسوا لبوس القومية، من أمثال فلان "الذي لم يترك مفردة شائنة إلا واستخدمها لإهانة الشعب العراقي". وهنا تعليقاً على لا موضوعية رأيتُها في كتابته وخروجٍ عن أصول النقاش وثقافة الاختلاف، ولمعرفتي بفكر وكتابات ذلك الذي شتمه، قلت له: "لك أن تقول هذا أو غيره، ولكن لي ولغيري أن نطالبك بأن تعطينا مثالاً على إهانته هو أو غيره لـ(الشعب العراقي)... فدلّني على الإهانات لأقول لك عندها حقك". فماذا تتصورون؟ لم يرد عليّ بعدها، ببساطة لأنه لم تصدر مثل تلك الإهانات للشعب العراقي لا من ذلك القومي ولا من غيره، لكن الاختلاف هو الذي دفع صاحبنا، من حيث يريد أو لا يريد، إلى الادعاء بهذا الذي لم يستطع إثباته. وهذا هو الذي وجدتُ سلام عبود يتجنبه قدر الإمكان، حين ينطلق من الاختلاف مع أناس وجهات، مع استثناءات قليلة سنأتي عليها. عدا هذا، إن مؤلف "ثقافة العنف في العراق"، وبكل الإخلاص والرقة والحرص على عدم الإساءة، بل التعاطف حتى مع من يختلف معهم، نجده يقول:
"ومن ضمن مظاهر قسوة الواقع هذا، أنني وجدت نفسي متلبساً في جريمة إلحاق الأذى بالآخرين [يعني من ينتقدهم]، وهو إحساس سيظل يعذبني بشدة، فربما ظلمت هذا أو ذاك من الأدباء، حينما سلطت الضوء على نصه دون غيره، أو حينما تناولت مقطعاً صغيراً، هامشياً، من نص طويل، مبرزاً إياه كشاهد ودليل على موضوع لا يسرّ أحداً، بمن فيه كاتبه... وذلك ظلم مضاعف، أحمّل نفسي مسؤولية الآلام التي سأسببها لأصحابها، وآمل منهم أن يكونوا رحماء بي، نظراً لحسن نواياي"- ص9.
وهذا قمة ما وصل إليه إخلاص سلام عبود وحسن نيته ونظرته الإنسانية، بل أنني حين كنت أقرأ بعض مواقع الكتاب المتعلقة بهذا الجانب، تذكرت رهافة حس دانتي ورقّته كما عكسه بكاؤه على أولئك الذين يصورّهم في كوميديته يتعذبون في جهنم وهم بالنسبة له كفار أو ملحدون. فمن الواضح أن الموضوعية تبدو غاية ضمنية يحاول سلام عبود تحقيقها، وحين أقول في يحاول تحقيقها، فإني أعني أنها تنفلت من بين يديه في أحيان، فنأخذ عليه خروجه عن موضوعيته في مواضع ومناسبات مهمة، يبقى يقنعنا بحرصه وإخلاصه في ما يقوله فيها. عدا ذلك، هو يُفخفق في تحقيق هذه الموضوعية أحياناً، لاسيما في حالتين رئيستين، ولكن في تكرارهما في مواقع متعددة من الكتاب، كادتا تسلب بعض توازن الكتاب. الحالتان هما حين يتعامل مع البعثيين، فهو لا يستطيع إلا أن يكون ضدهم؛ والثانية حين يتعامل مع الشيوعيين، فهو لا يستطيع إلا أن يكون معهم، وهو لا يخرج عن هذا إلا نادراً. ولنضرب هنا مثالاً واحداً طريفاً، يقول فيه:
"إن قيام ثورة 14 تموز قلَبَ معادلة العنف رأساً على عقب، حيث تحول العنف من عنف رسمي إلى عنف شعبي، سُمّي بالعنف الجماهيري، وأجيال تلك الحقبة ما زالوا يذكرون بعض شعارات الشارع التي رفعتها الجماهير: (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)، و(اعدمْ اعدمْ يا قائد الثورة)، و(اعدمْ اعدمْ جيش وشعب وياك يا قائد الثورة) التي تحولت في زمن البعث إلى (اعدمْ اعدم جيش وشعب وياك يا مجلس الثورة)". ص172.
فهنا، في قوله "رفعتها الجماهير" لم يستطع المؤلف تجنّب الانحياز الضمني. فإذ هو يسمّي البعث في تجربة رفْعِ تلك الشعارات الدموية في الحالة الثانية، فإنه يتجنب، ولو الإشارة إلى أن الشيوعيين هم الذي رفعوها في الحالة الأولى.
عدا هذا المثال، يبدو لي كأن غالبية خروجات سلام عبود عن الموضوعية تأتي بتأثير الضمير الإنساني له، وتحديداً حين يريد أن يدين الجريمة والعنف، ولكن في غفلة من الرقيب أو الضمير التأليفي، إن صح التعبير، الذي يرفض العاطفية والانفعال ويفرض العلمية والموضوعية. ولكن عدم الانتباه لا يعفيه من أن نشخّص ذلك عليه بوصفه خطأً، كما سنأتي إلى بعضه. والمفارقة هنا أن ما يبدو كرها ومعاداة لجهات معينة قد أفقدت المؤلف الموضوعية وأوقعته في مثل هذا بشكل عاب سلام عبود نفسه كُتّاباً، على الأقل في مواضع من الكتاب، على ارتكابهم له. فهو يقول:
"فباسم كُره العنف قد تنشأ دعوات محاربة وعنفية مموهة، وباسم التسامح قد يستعير الضحية مبادئ الحقد والعداء"- 176.
فمثل هذا هو ما ارتكبه سلام نفسه تماماً، وفي ما يبدو غفلةً من وعيه، فجاءت تعبيراته وهي تعبّر عن كراهية غير عادية، ربما لو تهيأت لها غير الكلمات، أو جاءت في أجواء وظروف بعينها لتحولت إلى فعلِ عنفٍ بدلاً من الكلمات.
وإذا ما كانت اللاموضوعية قد فعلت هذا الذي فعلته أسلوباً وتعبيراً عن المنطلق الفكري ووجهات النظر، فإنها أكثر ما تجسدت منهجياً وعلمياً وأكاديمياً في تعامل الكاتب مع صدام سياسياً ودكتاتوراً، والبعث حزباً وفكراً، والشيوعية حزباً وفكراً. فهي قادته إلى بعض أكثر عيوب الكتابة العلمية والأكاديمية أو الكتابة عموماً التي يُراد لها أن تكون موضوعية، في ظل أننا بحاجة تماماً لا إلى إدانة مَن ظلمونا، فهم مدانون أصلاً بلا أدنى شك، بل معرفة لماذا كان هذا الظلم، ولماذا تجسد في هذه الجهة أو تلك وفي هذا الشخص أو ذاك؟، وما هي الأمراض أو المؤثرات التي كانت وراء ظهور مثل هذه الجهة أو الشخص؟. لقد قادت هذه اللاموضوعية أحدَ أكثر العيوب التي قد يرتكبها الكتّاب ولم يستطع سلام عبود تلافيها، وهو الاجتزاء المخل من الأمثلة والنصوص، ربما انطلاقاً من عدم قراءة الكل الذي يأخذ منه أو عرضه. ولكن من الواضح أنه يفعل ذلك من دون أن يعيه، كما قلنا، كما فعل مع اجتزائه لقول حميد سعيد بضرب جماعةِ الخارج بالقندرة. فمع أن قول حميد سعيد غير مقبول تماماً بالطبع، فإننا لا نعرف متى قاله وفي أية مناسبة ولماذا؟ والمؤلف قد يستحضر، أيضاً، مقولات خارج سياقها في بعض الأحيان. وهنا، من المعروف أن من أكثر التحدّيات التي تجابه الكاتب وتمتحنه في موضوعيته وعلميته هو أن يكون محبّاً ومتحمساً لأحد ما لكنه غير مقتنع به فيكتب ضده، أو كارهاً ومختلفاً مع آخر لكنه مقتنع به فيكتب معه، وهو الامتحان الذي كثيراً ما يخفق فيه الشرقيّ أو العربي، كاتباً أو سياسياً أو مفكراً. كما أن الحب الشديد او الكره الشديد لجهة معينة قد يدفعاننا إلى أن لا نرى فيمن نحبهم أو نكرههم إلا ما نريد، بل قد لا نرى هذا الذي نراه إلا فيهم، وهو ما وقع فيه سلام عبود، بينما تجنبه آخرون مثل الدكتور حيدر سعيد، في خضم حديثه عن تناول الدكتاتورية متمثلةً في صدام حسين، حين يقول: "ثمة شخصنة مريحة للشر: الشر كله يتمثل في (صدام)، ولكن (صدام) هذا خارج من أصلابنا، من أفكارنا ومعتقداتنا .. (صدام) هذا ثلمة وانكسار في أرواحنا، وندبة على أجسادنا"([2]). فمثل هذا باعتقادي ما غفل عنه سلام عبود. ولكنني هنا أعود ربما لاختلف جزئياً مع الدكتور حيدر سعيد، وقبله مع سلام عبود، حين يقول سعيد:
"الدكتاتورية ليست فرداً، بل هي مؤسسة وجماعة. الدكتاتورية ليست سايكولوجيا، بل هي سوسيولوجيا، فلا البناء السايكولوجي لفرد ما ولا قوته الذاتية يعنيان شيئاً إذا لم تكن ثمة مؤسسة قمع تجعل من هذا الفرد عصبَها الرمزي، وإذا لم يكن ثمة امتثال وخضوع وخنوع يربط المحكوم بالحاكم. وأن نسعى إلى الخلاص من الدكتاتورية لن يكفي أن نغيّر الفرد، أن نعدّل في السايكولوجيا، بل ينبغي أن نغيّر نمط العلاقات، أن نغيّر الثقافة، أن نعدّل السوسيولوجيا نفسها"([3]).
فمع اتفاقي مع الدكتور حيدر سعيد في أن الدكتاتورية سوسيولوجيا، أرى أنها سايكولوجيا أيضاً، بل هي لا يمكن أن تتكون بفعل وظرف وعوامل سوسيولوجية إن لم يتوفر الحافز أو المكون السايكولوجي الموجود أصلاً في أي إنسان، كما هو حال أصول الأمراض النفسية، التي لا تتحول، كما هو، إلى حالالات مرضية إلا حين تتوفر عوامل التربية والانحراف والسوسوليجيا والظروف.. إلخ. وهذا يفسر ظهور الدكتاتورية في جميع المجتمعات متقدمةً ومتخلفةً، وديمقراطيةً وشموليةً وقمعية، ولكنها إذ تنطلق لتأخذ كامل مدياتها في المجتمعات المتخلفة والشمولية لعدم وجود ضابط وموقف لها، فإنها تتوقف في مراحل معينة في المجتمعات المتقدمة والديمقراطية، وكلنا يعرف أبرز نماذجها في أبرز بلد متقدم وديموقراطي، نعني مارغريت تاتشر وتوني بلير في بريطانيا. وتعلقاً بهذا وانطلاقاً من المسبب السوسيولوجي، وفي ارتباطه بالمسبب السايكولوجي يقول أستاذ علم النفس الدكتور حسن الموسوي: "الطبيعة الاجتماعية للدكتاتورية تظهر في المجتمعات المتخلفة والمتقدمة أيضاً، إلا أنه في المجتمعات المتخلفة يتحمل المجتمع أكبر قدر من صناعة ذلك الاستبداد نتيجة التقوقع الاجتماعي والتعصب. أما في المجتمعات المتقدمة فيحدث الطغيان والاستبداد الواعي بأسباب عديدة، منها: غياب الوعي الجماعي عن السلطة الفوقية، وتحول المجتمع إلى آلة عمل متناسقة ومتناغمة للعيش وإشباع الغرائز فقط. ففي المجتمعات المتقدمة يكون الاستبداد فكرياً وليس عملياً، فهو لا يقتل الإنسان ويحفر مقابر جماعية، بل يقتل الروحية المتحركة والفكر المتطور بحجج وأساليب خفية تسبق الزمن الآني (مستقبلية). وهناك نموذج آخر للدكتاتورية يشترك في صنعه الفرد والمجتمع. هذا النموذج موجود حالياً في الدول والأنظمة الشرقية وبعض الدول النامية، إذ يعمل الحاكم الفرد أو الحزب والمجموعة الحاكمة على فصل شخصية الحاكم وصفته وامتيازاته عن طبيعية المجتمع بالتقديس. عندها لا يستطيع المجتمع أن ينهض من سباته الاجتماعي ولا الحكام يتركون الكراسي والعروش"([4]).
وحين يأتي سلام عبود بما يبدو أو يظن أنه خاص بالنظام السابق والحرب، وضمن ذلك الحرب العراقية الإيرانية، مثلاً، فكأنه يعتقد أنه يأتي بما هو غير، بينما هو أمر عادي وبدهي، في حروب الأمم والشعوب والبلدان لاسيما بلدان العالم الثالث، مع اختلاف نسبة الشدة فيه. فلا أدري في أي بلد كان مسموحاً الإساءة إلى حرب يخوضها، هل في الاتحاد السوفيتي، أم في بريطانيا، أم في الولايات المتحدة الأمريكية؟!!، فلا أظن سلام عبود يجهل ما فعله الاتحاد السوفيتي ولينين في حروبه الأولى، ثم ستالين فيما بعد، وأمريكا وما فعلته مع قرابة المليوني أمريكي من أصل ياباني في الحرب العالمية الثانية، وكل ذلك باسم الديمقراطية الغربية،" فعندما تضع حكومة الولايات المتحدة ألوف المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني في معسكرات اعتقال إبان الحرب العالمية الثانية، تم ذلك بطريقة (ديمقراطية) تمثل في موافقة الأغلبية"([5]). ربما هي تجربة واحدة تخرج عن هذا، وهي الحرب الأمريكية في فيتنام، حين أُخذت أمريكا فيها على حين غرة، فلم تستطع اتخاذ احتياطات ضد من هب ضدها من الناس والصحافة، وهي الاحتياطات التي ستتخذها أمريكا فعلاً في حربيها القادمتين على أفغانستان والعراق، فوصل بمسؤوليها الأمر فعلاً إلى اعتقال حتى الصحفيين الذين لا يتعمدون الإساءة للحرب بقدر ما يسعون إلى نقل الحقيقية، ببساطة لأن هذه الحقيقة تسيء إلى الحرب. وتعلقاً بصدام حسين الذي نحن لا نحتاج أن نختلق ما يسيء إليه وما يضيف إلى أخطائه وما يؤكد دكتاتوريته، لأن عنده من هذا ما يكفي، يقول سلام عبود:
"ويدرك الجميع مقدار فظاظته وقسوته وجهله: صدام حسين"- ص138..
فاللا موضوعية واضحة في الصفة الثالثة التي يصف فيها صدام، الذي نعرف أنه كان مثقفاً ومطلعاً وعارفاً بالتاريخ، لكنه وظّف هذا كله لفظاظته وقسوته. أما في حديثه عن تصفية صدام لـ(رفاق الثورة) بين 1970 و1973 يقول المؤلف:
"وبذلك تم إخضاع التيار العسكري للجهاز الأمني السري الذي يقوده صدام شخصياً بمعاونة إخوته وبعض أقربائه"- ص139.
فمرة أخرى لأنه لا يريد إلا أن يسيء لصدام، ودكتاتوريته كافية على أية حال، غاب عنه أنه لم يكن لصدام ذلك الوقت إخوة في النظام مقرّبين له، بل ربما كان حتى على شيء من البرود معهم.
هنا نتذكر انعدام الموضوعية في تعامل الكثيرين مع الأشياء والجهات المختلفة كما تمثل ذلك، في أوضح صوره، في التعامل مع أمريكا ونظام صدام أيام الصراع بينهما. فحينها لم يكن من يعادي أمريكا بنظر البعض إلا صدّامياً، ولم يكن من يعادي صداماً إلا عميلاً لأمريكا. ومثل هذه اللاموضوعية هيمنت ولا زالت تهيمن على نسبة كبيرة من الناس عندنا في تعاملهم مع الآخرين والأشياء والقضايا المختلفة. هنا أتذكر طرفة حدثت مرة مع المعلق الرياضي شدراك يوسف الذي كان معروفاً عنه حماسته التي لا حدود لها للبرازيل. ففي تعليقه على مبارة كانت بين منتخب البرازيل ومنتخب آخر، سجل الفريق الخصم على البرازيل هدفاً جميلاً لم يكن أمام شدراك إلا أن يصرخ تلقائياً بأنه هدف ممتاز ورائع، ثم بعد لحظات قصيرة أضاف القول: على الطريقة البرازيلية.
وضمن نهج في التعامل المزدوج، والكيل بمكيالين أو أكثر مع القوى السياسية المختلفة ولاسيما البعثيين والشيوعيين، يواصل سلام عبود لا موضوعيته في رصد العسكرة لدى البعث والبعثيين، كما تمثلت في (الجيش الشعبي)، ومن قبله تنظيمات (الحرس القومي)، متجاوزاً ذلك عند الشيوعي والشيوعيين كما تمثّلا في ريادتهم لتشكيل المليشيات في العراق بعد ثورة تموز 1958 والمتمثلة في (المقاومة الشعبية). كما أنه رصد العنف عند البعث والبعثيين كما تمثلاً في انقلاباتهم، وما كان يسبقها ويصاحبها ويتلوها، متجاوزاً أحداث كركوك والموصل ومن وراءها. فهو، في كلامه عن ثورة تموز وعنف البعث، مثلاً، يفوته، أو يتعمد تجاوز أن العنف قد رفع شعاره الشيوعيون أولاً، علماً بأنني لست ضد الحزب الشيوعي بكل تأكيد، بل أعد عناصره أنقى عناصر الأحزاب جميعاً وأوسعهم ثقافة وأكثرهم تضحية في سبيل المبادئ، ولكنها الموضوعية التي يجب أن تجعلنا نرى الواقع والمتحقق والتجارب والأخطاء، وهي التجارب والأخطاء التي لم يتجاوز الاعتراف بالكثير منها حتى الشيوعيين أنفسهم.
وشبيهاً بهذا سيعود المؤلف، في موقع متأخر من الكتاب، إلى اللاموضوعية هذه ليقول عن جزء من واقع العراق في ظل البعث:
"ومن سخريات القدر المُرّة أن يُضطر المرء إلى إعادة سخرية عزيز السيد جاسم ... [حين يقول:] (نسأل عن فلان وفلان فتأتي القصة بسرعة: يقولونها وينصرفون.. فلان أصبح متديناً.. إنه مؤذن، وفلان أصبح سكيراً. هذه ظاهرتنا). لقد جرى حقاً تعميم هذا النموذج الرثائي وطنياً، ولكن ليس في هيئة مؤذنين وسكيرين، وإنما في هيئة بعثيين وحلفاء للمشروع البعثي. وكانت تلك هي هزيمتنا الكبيرة، التي لم يسجلها أدبنا ولم يسبر غورها بعد". ص278.
فمع صحة ما يقوله تماماً عن البعث و(تعميم) البعث على الناس عن طريق القمع والتخويف، أتساءل: أليس هذا شبيهاً تماماً بما جرى في عامي 58 و59 مع الشيوعي؟ وأليس هو ما جرى مع ناصريي الستينيات؟ وأليس هو ما جرى في روسيا الشيوعية؟ وأخيراً اليس هو ما يجري الآن تحديداً في العراق حين صار من له علاقة بالدين ومن ليس له علاقة يرتدي العمامة حتى اليساريين ومنهم بعض الشيوعيين؟ فلماذا إذن يقتصر رصد ما هو عام على فئة ليبدو خاصاً بها؟ أليست هي اللاموضوعية؟. أما أغرب ما عبر عنه سلام عبود في هذا السياق، ويمثل خروجاً عن الموضوعية، فهو حين يتجاوز ما لا يمكن له، بوصفه شيوعياً سابقاً، إلا أن يعرفه فهو قوله:
"أخذ ينشأ حصار ثقافي جدي محوره نظرية الالتزام، والتي كانت في نظر البعثيين تعني الالتزام بخط النظام"- ص272.
فنسأله: ما مصدر نظرية الالتزام؟ أليست الشيوعية، ثم لنكن واقعيين ونتجاوز هنا النظرية ونتكلم عن التطبيق، لأن الجميع إنسانيون في النظرية ومتوحشون في التطبيق، فنسأل: وماذا كان يعني الالتزام عند الشيوعيين تطبيقياً؟ الجواب هنا في ممارسات جميع البلدان الشيوعية، وهي تماماً كما عبر سلام نفسه "تعني الالتزام بخط النظام".
بين الخاص والعام
على صلة باللاموضوعية، يكاد سلام عبود يتكلم عن كل ظاهرة، يتناولها في كتابه، لا سيما العنف، وكأنها خاصة بالعراق أو البعث، مع أن الكثير منها، لو تأملناها لوجدنا أنها ليست خاصة بالعراق أو البعث، بل أن بعض ذلك يقترب من البديهيات التي تنطبق على الجميع. فليس هناك، مثلاً، سلطة أو حركة سياسية، خصوصاً في العالم الثالث، لا ينطبق عليها جل كلامه عن سلطة البعث. فليس دفاعاً عن نظام أو بلد، ولكن بموضوعية نسأل: هل من بلد في حالة حرب، مشروعة أو غير مشروعة، لا يوجّه ثقافته وفنه وأدبه وإعلامه كما فعل النظام العراقي السابق؟. فالمؤلف يقع في ما يقع فيه الكثير من الباحثين، حين يرصدون ظواهر على أنها خاصة ببلد أو جيل أو كاتب معين هم يدرسونه، بينما هي ظاهرة كثيراً ما لا تقتصر على هذا البلد أو الجيل أو الكاتب. وهذا، إلى حد كبير، ما يكاد يقع فيه حتى الدكتور حيدر سعيد، مثلاً، في كلامه عن ألمانيا الهتلرية، في خضمّ مناقشته لوضع العراق، حين يقول:
"حين انتهت الحرب العالمية الثانية وانتحر هتلر وهُزمت النازية، حين خرجت أوربا من ظلامة الدم ومطر القنابل، حين نُقلت جثث الضحايا إلى الأرض وظهر الأحياء من الانكسار، بدأ السؤال عن الجنون الذي عصف بأوربا وترك فيها خراباً ثقيلاً وملايين القتلى وأرواحاً مهزومة، بدأ السؤال عمّا جعل من ألمانيا أرضاً قابلة لأن تُنتج فيها الدكتاتورية"([6]).
فهو يغفل هنا عن حقيقة أن كل أرض يسكنها إنسان هي قابلة لأن تنتج ديكاتوراً وعنفاً. ومن الطريف أن الباحث نفسه، إذ يفعل ذلك، يعود ليؤكد نقيض هذا في كلام مصيب ودقيق جداً، إذ يقول:
"ثمة تأريخ بشري واحد للوجع، وتأريخ واحد للغطرسة، تأريخ واحد للضحايا، وتأريخ واحد للجلادين. وأنْ تكتب في العراق بعد سقوط جلاّديه يعني أن بإمكانك أن تفتح دفترَ الإنسان، ووجعاً وقسوة، أينما كان، ومتى كان، وكيفما كان"([7]).
فهذا هو إلى حد كبير ما نريد أن نقوله لسلام عبود. بعبارة أخرى أن هذا الذي تتكلم عنه هو عنف الإنسان والعالم، وديكتاتورية الإنسان والعالم، وفي الوقت نفسه عذابات الإنسان والعالم، "أينما كان، ومتى كان، وكيفما كان"، على حد تعبير الدكتور حيدر سعيد. وكل ما عدا ذلك هو فروق تفرضها الاختلافات ما بين البشر والناس والشعوب، والظروف الخاصة بكل شعب وكل زمن. وهو أيضاً، في تناول سلام عبود، القسوة على الذات كما قسا على العراق. ونحن، في كل ذلك، بالتأكيد لا نقول إنه كان مخطئاً في تشخيص الأخطاء والجرائم والقمع والقسوة والدكتاتورية كما تمثلت في الحاكم والنظام وبعض الأحزاب، بل هو كان محقاً غالباً، ولكنْ عاب تشخيصاته أنه رآى بعض ذلك في أشخاص وجهات ولم يرها في أشخاص وجهات أخرى كانت فيها، بل أحياناً سبقت الأولى في ذلك، كما عرضنا. هنا هو يذكرني بما نسمعه، أحياناً بملل، من الكثير من خطباء الجوامع، منذ أن تفتّحت عيوننا، حين لا يتكلمون عن الواقع الحاضر إلا بالسلب. فما سمعنا يوماً خطيباً يرصد ظاهرة إيجابية في أي بلد، أو يمدح شيئاً أو أناساً بيننا، إلا في النادر جداً، وكل ذلك والخطباء يقارنونه بالماضي الذي لا يرون فيه، بعكس ما يرونه في الحاضر، إلا الإسلام والالتزام والعدل والمساواة وأداء الفرائض والحكم العادل.
فأنت اليوم عليك أن تتلقى شتيمة أئمة الجوامع أو على الأقل انتقادهم حتى لو ذهبت إلى الصلاة خلفهم، وحتى لو كرست وقتاً مضاعفاً مثلاً للدين والتدين في رمضان، وعليك أن تتحمل انتقاداتهم وهم يبكون ويلطمون ويرزّلون مَن أمامهم من المصلّين حتى في الأعياد. كما يجب أن لا تتوقع أن تكونَ موضع إشادة منهم حين تأتي إلى الجامع في صلاة المغرب، مثلاً، بل موضع تعنيف لأنك لا تأتي صلاة الفجر، وهكذا الأمر معهم مهما فعلت وحاولت أن ترضيهم، لأننا في الحاضر عندهم سيئون مقدماً بعكس أهل الماضي. فهل هم موضوعيون في هذا؟ بالتأكيد هم ليسوا كذلك، ودليلي أنْ ليس من جريمة ارتكبها مسلمو الحاضر كتلك التي ارتكبها مسلمو العقود الأولى من الإسلام، ومنها قتل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأقل من عشرين سنة، والهجمة الشعواء التي شُنّت على الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) بعد ذلك ببضع سنوات، والمؤامرة على ابن عم النبي- تصوروا- الإمام علي بن أبي طالب. وبعد هذا هل يمكن أن ينفذ مسلمٌ في العصر الحديث، الذي يشتمه خطباء الجوامع ليلَ نهار، جريمةً كجريمة قتل حفيد النبي، الحسين (عليه السلام) وعائلته؟ لا أظن. فكيف يكون الأقدمون أفضل منا؟ وحين أقول هذا أنا لا أعني أننا أفضل منهم، بل هو الخير والشر، والحق والباطل، والإنسان الخيّر والإنسان المجرم، في كل زمان ومكان. أما قول غير هذا فهو خروج عن الموضوعية، وهو ما ينطبق على سلام عبود حين يتكلم عن العديد من الظواهر وكأنها خاصة وهي في الغالب ليست كذلك، كما قلنا، لا العنف ولا الدماء ولا الهيمنة ولا القمع ولا أي شيء آخر. لنقرأ قوله الآتي مثلاً ونرى كيف أنه يسجل ما يقترب من البديهيات على أنه ظاهرة في مكان بعينه هو العراق، وفي زمن بعينه هو زمن البعث:
"كانت فكرة البقاء في السلطة هي التي تحكم العقلية البعثية، السلطة كهدف قائم بذاته"- ص135.
وأسأل سلام عبود: هل هناك سلطة، خصوصاً في العالم الثالث، لا تحكمها هذه الفكرة؟ والحالة تقترب من هذا حين يقول المؤلف في مكان آخر:
"إن الذين يحاولون إيجاد شواهد تاريخية موغلة في القدم على مادَتي العنف والخضوع، للتدليل على ازدواج الشخصية العراقية سيجدون، ولا ريب، أمثلة كثيرة توصلهم إلى مبتغاهم"- ص163.
فبرأيي أنّ تغيير (الشخصية العراقية) هنا بـ(الإنسان) يجعل من قول سلام إبراهيم صحيحاً، وأظنه سيصل إلى هذه النتيجة التي ربما لا يتوقعها، لأنه حصر نفسه، مع الأسف، في العراق والشخصية العراقية بدون التفكير بغيرهما. بعبارة أخرى ومرة أخرى، هو سيكتشف أنه يتحدث أحياناً عن بديهيات تنطبق على كل شعب وكل مكان وربما كل تجربة، وكل حضارة، وليس على العراق فقط. وإلا فليلقي نظرة على حضارة روما والإمبراطورية الرومانية ليجد في ما فعله كاريكلا وحده ما لا يضاهيه كل عنف العرب والعراقيين. والأمر ذاته ينطبق على شعب المايا ذي الحضارة المثيرة للإعجاب، والكثير من شعوب أفريقيا وقبائلها، بل حتى على متحضّري العصر الحديث، اليابانيين الذين، عدا فظائع حروبهم عبر التاريخ، يكفي ما كادت تفعله مفاعلاتهم النووية بالعالم، لأن طمعهم الدائم في الرفاهية وعدم مبالاتهم بالآخرين جعلهم يُقيمونها في مناطق معروف أنها معرّضة في كل لحظة للدمار بسبب الزلازل والسونامي وتدمير جزء ليس بالصغير من عالمنا. أما فيما يخص الحضارة العراقية القديمة وملاحمها وأساطيرها فليذهب المؤلف إلى ملاحم اليونان والرومان ليجد العجب العجاب.
مع كل هذا الذي قلناه عن العنف، نفترض أن الأصل بالنسبة لموقف الإنسان من الحرب هو أنْ ليس من أحد من الناس محباً للحرب، على الأقل بسبب ما تجلبه له قبل عدوه من مآسٍ، ولا يخرج من هذا الحكم إلا جماعات وفئات محدودة، منها ما تنطوي على مرضى أو منحرفين أو على الأقل غير طبيعيين، كما رجال ونساء الإدارة الأمريكية، في غالب أشكالها وانتماءاتها، ورغبتها في التفوق في كل شيء وفي أن تكون الأعلى والأقوى والأولى حتى في الشر. وهنا أظن الكثير منا يتذكرون كيف سيعبر بوش الابن عن شيء من ذلك ليقول بما يشبه التباهي والفرح بأن حربه على الإرهاب هي أول حرب [وهذا (الأول) هو الهم] في القرن الحادي والعشرين. عدا ذلك حتى الكثير من المحاربين لا يرون الحروب مقدسة بما في ذلك الحروب الصليبية والجهادية، بمعزل عن الهدف السامي الذي قد يؤمنون به ويكون وراء ذلك. بقي أن سلام عبود نفسه، في سياق ما يُفترض أنها معاداة منه للحرب والعنف، قد يؤيد بعض الحروب والعنف. فهو، مثلاً، يتحمس فجأة للمقاومة في الحرب الأهلية الأسبانية، وهل الحرب الأسبانية إلا حرباً وعنفاً بمعزل عن أحقّية كل من طرفيها وعدم أحقيته؟ فهو يقول:
"لكن سقوطها [الجهورية في إسبانيا] أرخ لواحدة من أعظم صور التضامن الإنساني للقوى المعادية للفاشية، فأضحت إسبانيا رمزاً في أعين كثيرين. لقد تدفق المتطوعون إلى إسبانيا الجمهورية من كل الأصقاع، وضمت الفرقة العالمية ما يقرب من أربعين ألف مقاتل، كما جذبت المعركة ضد الفاشية أعداداً كبيرة من أبرز مثقفي وكتاب العالم، ومن أولئك الكتاب: جورج أورويل، أودن، نيرودا، ستيفن سبندر، فابتساروف، دوس باسوس، همنغوي، مالرو"- ص110.
فهل موقفه الإيجابي من أحد طرفي الحرب الإسبانية، وهو هنا الجمهوريون، إلا نوعاً من التأييد للحرب والعنف؟ وأليس التحمٍّس لأحد جانبي هذه الحرب، (جذبت المعركة ضد الفاشية أعداداً كبيرة من أبرز مثقفي وكتاب العالم)، تأييداً للعنف؟ بل إني لأرى أن كل ما حاول سلام عبود إقناعنا به، من خلال آلاف الأسطر التي كتب بها كتابه، من معاداة للحرب والعنف، قد انهار بحماسته المفاجئة التي غلّفت هذه الأسطر القليلة حين وضع نفسه في أحد خندقين، لا يستطيع أيّ موضوعيّ البتّ في أيهما هو الذي على حق.
وهكذا، لا أعتقد أن كتاب "ثقافة العنف في العراق" معاد للعنف، كما أرى أن مؤلفه أراد له بإخلاص أن يكون، بل هو معادٍ للعنف حين يصدر من جهة بعينها، هي العراق، أو البعث، أو النظام السابق. بعبارة أخرى، هو عندي، حين يقول "إن هذا البحث هو بحث معاد للعنف أياً كان مصدره"، لا يثبت هذا. أما حين يقول: "سواء أكان [هذا العنف] قادماً من سلطة أو مؤسسة أو أفراد، من نص أو من كلمات، من نوايا أو من أفعال، من داخل أو من خارج، إنه [الكتاب] مشروع للعراك المستميت مع العنف والشر أينما وُجدا"، فإني لأقرأ في قوله تأثير العنف في لغته هو نفسه، وهو يذكرنا بالقول المكرر عند كل من يحارب بأنه يحارب من أجل السلام. وأما حين يقول: إنه "بحث معاد للشر" فنتساءل: ومن يحدد أن هذا شر وذاك خير، ونحن نعرف أن كل جهة تحدد الآخر بأنه مصدر الشر، كما تفعل أمريكا، وإيران، وإسرائيل، والنظام في سورية، والنظام في العراق، وغيرها..؟.
بين النقد وجلد الذات
وفي الكلام عن العراق تخصيصاً هناك شيء واحد، أو ربما أكثر من واحد، يتسم به عراقيو العصر الحديث، ومنهم سلام عبود نفسه، وأظن أن علي الوردي أشار إليه في مكان ما ممثَّلاً بعدم رضا العراقيين عن أي حاكم أو حكومة، ذلك هو ممارسة القسوة وجلد الذات، وهي التي يمارسها سلام عبود بامتياز في كتابه. فمثل هذا موجود وقد يأتي ممن لا نتوقع أن يأتي منهم، لأنه يكون في هذه الحالة من حيث لا يعرفون. ولكن قبل أن ندخل في ما وقع فيه المؤلف من هذا في كتابه، لنستدعي مثالاً واحداً هنا وهو رأي أو رصد لوضع ما بعد الاحتلال من الدكتور حيدر سعيد يقول فيه:
"الفعل الوحيد الذي حمل توقيعنا هو أعمال السلب والنهب التي أعقبت سقوط نظام صدام، بما تضمنته من تدمير لكيان الدولة العراقية. وإذا كان هذا الفعل، في جانب منه، انتقاماً من النظام الذي ربط الدولة به، فإن العراقيين لم يستطيعوا، في زخم الانتقام، أن يميّزوا بين كيان الدولة وكيان النظام"([8]).
فالهوية هنا ليست، كما يرى حيدر سعيد، فهي بالتأكيد ليست عراقية، بل أمريكية معلنة على الملأ وعبر الفضائيات، حتى قبل مجيء بريمر وقراراته المدمرة سيئة الصيت. فلا أظن أن الدكتور ومعه سلام عبود ينسيان كم تواصلَ فعل النهب محدوداً ومن أفراد معدودين جداً، ولا أظنهم إلا وقد دخلوا مع الاحتلال عمداً لتهييج الناس، كما لا أظنهما ينسيان كيف بدا هؤلاء لا يعرفون حتى كيف ينهبون، بل كانوا يعرفون كيف يخرّبون. إذن هي هوية أمريكية منحتها أمريكا للعراق على طريقة منحها البطاقة الخضراء (الكرين كارد) للمقيمين لديها. وعليه فما قول الدكتور حيدر سعيد، عندنا، إلا نوع من جلد الذات، بالغ سلام عبود في ممارسته.
لقد كان سلام عبود قاسياً جداً في التعامل مع العراق والتجربة العراقية، وأنا هنا لا أعني إطلاقاً بالطبع البعث وصدام والنظام السابق، بل العراق كياناً وشعباً وهوية. ولعل تعليقه القاسي وغير الموضوعي الآتي على توظيف قصيدة السياب!، يقدم مؤشراً واحداً على ذلك، حين يقول:
"لقد بالغ السياب في قصيدته (غريب على الخليج)، حينما جعل (حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق). ومبالغة عاطفية كهذه، رغم ما تحمله من إحساس خفي بالتفوق، لم تكن مبالغة عرقية أو (قطرية)، ولم تكن زهواً بالعظمة، بقدر ما كانت حنيناً مميتاً إلى البيت، وهلعاً عظيماً من الموت على أرصفة الغربة. حتى هذه اللمحة العاطفية جرى استثمارها لصالح عظمة العراق الزائفة، فرحنا نجد ذلك المقطع المأساوي المظلم يتكرر على ألسنة كُتّاب الحرب، كدليل على العظمة، عظمة الظلام العراقي! فنحن في زمن الظلام العظيم"- ص226.
وهو كلام لوى فيه المؤلف نصّ السياب ووظفه، بإخلال منهجي، وبشكل مؤلم ومؤسف ومثير للاستغراب لما يريد أن يسوقه، لأنه بذلك كأنه سعى لتجريده من عظمته وجماليته التي لا حدود لها، وهو سعي أحسست معه عنفاً من سلام وسوداوية بل سادية غير عادية تغلّف كلامه. وإني لأستغرب تماماً من أن يجد المؤلف في هذا النص، أو على الأقل في توظيفه إحساساً خفيّاً بالتفوق، ومبالغة ولا عاطفية زائفة وتعبيراً عرقياً.
أما في خضم حديثه عن البياتي، فيقول:
"لكنه كان يقيناً يعرف أن الحرب، أي حرب، هي عدو الشاعر الأول، قبل أن تكون عدو الشعب"- ص23.
عجباً، وهنا أسأل سلام عبود: هلاّ ضرب لنا أمثلة على شاعرين أو ثلاثة في التاريخ لم يتغنوا بحرب أو حروب؟. فمرة ثانية ليس الشعراء، وكما هو حال غالبيتنا، بمن فينا مؤلفنا نفسه، ضد خوض الحرب ولا ضد ممارسة العنف ولا ضد التعبير عن الكراهية.. بل ضد حروب معينة، وعنف معين، وكراهية معينة. فنحن بالتأكيد مع الحرب حين تصد عدواناً، ومع العنف حين يكون ضد الجريمة، ومع الكراهية حين تكون موجهة ضد الشر. ولا يخرج عن هذا، وهو خروج استثنائي، إلا أناس من أمثال غاندي مثلاً، وكمْ مِثل غاندي في التاريخ؟
وأحسب أن أسلوب سلام عبود في تعليقه على السياب، وإلى حد ما البياتي، الذي هو عندي خليط من السادية والماشوستية وجلد الذات أكثر منه كلاماً نقدياً أو علمياً وموضوعياً، هو ما غلب على الكثير من تناولاته في الكتاب. ومن الطريف أن المؤلف، بعد أن هيمن عليه الموقف المسبق في الكثير من كتابه، حافظ على نوع من (الموضوعية والعدل) حين ساوى بين العراقيين مرة، ولكن في اتهامهم بالقسوة، فيقول:
"من خلال تجربتي الشخصية ورغم معرفتي المحدودة بهيئات العمل الثقافي في الخارج وجدت أن درجة الانحطاط الروحي، ودرجة السطحية وانحلال القيم، عند بعض المنفيين، تفوق إلى حد كبير ما هو موجود عند الجماعات الثقافية في الداخل، الموالية للسلطة ... إن الخراب شامل وعام، وفي الخارج هناك كائنات متخصصة في الخراب، تعيش حتى على خراب السلطة، إنهم خراب الخراب!"- ص13.
وبنفس (الموضوعية)، بل الشجاعة، يقول في موضع ثاني:
"والسؤال هنا: من يرغمنا على التفكير في كتابة نص، إذا كنا نحن أنفسنا غير موافقين على التفكير في كتابته؟ ... من يجبرنا على أن نتوافق مع أيديولوجية لا نريدها، ولا تنسجم مع ذاتنا؟ إن الذات لا السلطة هي المسؤولة عن كتابة النص، هي مسؤولة عن إنشائه وولادته وإطلاقه إلى النور"- ص21.
وعموماً كان بودي لو أن سلام عبود اعترف أو لاحظ، بدلاً من الاكتفاء بربط العنف بالعراق، بارتباط هذه السلوكية أو النزوع وربما حتى الغريزة، بالإنسان، مع الإقرار بأنها بسبب عوامل السايكولوجيا والسوسولوجيا، التي أشرنا إليهما، قد تضخمت في زمن بعينه وفئة بعينه وشخص بعينه في العراق. فقد نذهب مع من يقول إن الإنسان هو أعنف حيوان، لأن كل حيوان على وجه الأرض يمارس العنف إما من أجل بقائه، إلا الإنسان الذي قد يفعل ذلك لا من أجل بقائه ودرءاً للخطر عن نفسه فقط، بل لغايات أخرى أو تعبيراً عن نزوع داخلي مرضي قد يعرف مصدره أو سببه أو مكمنه وقد لا يعرفه. ولا يتعارض رأينا مع رأي هؤلاء الذين يردّ عليهم سلام عبود في قوله:
"لقد حاول بعض علماء الاجتماع والتاريخ البشري إرجاع الحرب إلى عوامل السلوك الوراثية، معتقدين أن الدوافع الأساسية للحرب تكمن في ما يسمى بالنزعة العدوانية لدى الإنسان. والنزعة هي واحدة من الصفات الحيوانية التي أخذها الإنسان معه في رحلة التحول من حيوان إلى كائن بشري. لكن علماء آخرين يردون على ذلك نافين هذا الزعم، مذكّرين بأقوام الـ(سينوي) الماليزيين الذين لا يملكون تراثاً خاصاً بالحرب، حتى أن لغتهم تفتقد مفردة (حرب)..."- ص77.
وقد تكون عوامل تاريخية أو بيئية مختلفة غير معروفة وراء خروج (السينوي) عن العام، ليكونوا من الاستثناء الذي لا يخلُّ بالقاعدة..
"... فوثائق الحرب والصور التي خلفتها تكشف لنا أن الناس في أوربا لم يقابلوا قرارات الحرب دائماً برعب وخوف بالقدر الذي نتصوره نحن الآن، أو بالقدر الذي صوره لنا الكُتّاب فيما بعد. فما زالت مراكز توثيق المعلومات تحتفظ بصور الألمان وهم يودعون قطعاتهم العسكرية، الذاهبة بخيلاء إلى الحرب، وسط هتاف الجماهير وتهليلها، كما حفظ لنا التاريخ صور النساء الفرنسيات وهن يودعن أزواجهن الذاهبين إلى جبهات القتال بالابتسامات"- ص98.
أي أن الإنسان أينما كان، وإلى أي عرق انتسب، وليس العراقي وحده، مخلوق عدواني أو على الأقل عنيف، في الأصل، ولكن عوامل أو ظروف البيئة والتربية والتحضر تهذبه لتخرجه عن هذا. وعليه فعوامل وظروف أخرى قد تعيد هذا إليه. وهذا، في الواقع، ما عبّرتُ عنه أنا شخصياً في روايتي الوحيدة "دروب وحشية"، في موقفها المضاد للعنف، الذي يتمثل أحد أوجهه أو ترجماته الحديثة في الكثير من العمل السياسي، ولاسيما الحزبي. ومقارنةً مع موقف سلام عبود المضاد لعنف بعينه أو عنف جهة بعينها، يأتي موقفي، معادياً ضد العنف المطلق، وكما يعبر عن هذا النص الآتي من الرواية:
يقول (مازن) لصديقه السياسي (إسماعيل)، اعتراضاً على ضرب طلاب لشرطي أمن:
"- ولكنكم كنتم هناك، بل أسهمتم، ولا يعنيني بعد هذا أن يكون هؤلاء شيوعيين.. قوميين.. بعثيين.. إخواناً..
"- ثم هل تسمي هذا الذي حدث عنفاً؟
"- عجباً، ماذا تسميه إذن؟
"- ضرب شرطي الأمن؟ أتسمي هذا عنفاً؟ جاسوس يدخل كليتك ويحاول أن ينكّل بزملائـك، وقد يعتدي على زميلة، أو يضرب زميلاً، وتريدنا أن..
"- شـوف، إسماعيل.. شرطي أمن.. مناضل.. جاسوس.. نوري السرّي، محمد نوري، خلف.. كل هذا لا يعنيني ولا يقنعني مبرراً لحدوث ما حدث. لأسمّي هذا معك جاسوساً، وأنا فعلاً احتقر ما يقوم به. لكن أتعتقد أن هذا يبرر اطلاق الإنسان لحيوانيته؟ أتعتقد أنه يبرر أن تهجموا.. عفواً ان يهجموا عليه بهذا الشكل اللاإنساني، بـل اسمح لي بالقول، عذراً، بهذا الشكل الوحشي...؟"([9]).
في مقابل هذا، يقترب من الكذب وخداع النفس والآخرين أن يجد ممارس العنف، أو نجد نحن له تبريرات، بعضها صحيح بالطبع ولكن الكثير منها ليس كذلك، من تحرّر وتحرير ومقاومة ومصلحة اقتصادية وتعارض طبقي... إلخ، كما فعل سلام عبود مثلاً في مثال الحرب الأسبانية. هنا، تعليقاً على رؤية البروسي كارل فون كلاوتز للحرب على أنها "امتداد للسياسة بوسائل أخرى"، وللسياسة على أنها تعبير عن "المصالح الطبقية المتناقضة"، وعلى مفهوم لينين للحرب كونها "تعبيراً مسلحاً عن المصالح الطبقية ... يقول الكاتب البولندي الساخر غابريل لاوب في كتابه "مارْس الإله العاري": "لقد كانت الحرب دائماً شأناً اقتصادياً، وظلت حتى الآن كذلك، وفقط حينما يتمكن الإنسان من حل جميع مشاكله الاقتصادية، سيقوم بإشعال الحروب تحت ذرائع أخرى"([10]). وأنا أكاد أذهب هنا، وإنْ ليس كلياً، مع رأي غابريل لاوب الذي يعني أن الإنسان لا يمارس العنف مضطراً، بل إن العنف أو الرغبة فيه، كما يتمثل في الحروب بشكل خاص، موجودان في الإنسان، الذي إنما يبحث عن المبرر ليمارسه برضا وإقناع لنفسه وللآخرين به.
أما أن يرتبط بإنسان أو شعب أو بلد، فإنما هو ارتباط يتحقق، مع جميع النوازع والعواطف والغرائز، ولكن في مراحل أو لحظات معينة من التاريخ، كلحظات الحب والكره والحسد والإنصاف والمنافسة... إلخ. وعلى أية حال أعتقد لأنه ليس هناك الآن، وبسبب عوامل البيئة والمجتمع والتربية التي أشرنا إليها، إلا المرضى- وهم قليلون جداً بالطبع- من يحب قتل الإنسان، فإن القتل يتوارد عبر التاريخ في كل العالم والمجتمعات بدواعي السبب والقضية والدفاع عن النفس وليس حباً بالقتل ذاته، وكأن الإنسان يتصارع ضمن ذلك ما بين حيوانيته وقسوته الغريزية من جهة وما يُفترض أنه صار لديه من تهذيب ورقيّ. ولعل هذا مما عبرت عنه الكثير من الأعمال الفنية بشكل ما ضمن ما نسميه الصراع الداخلي. وإذا كان تبرير القتل بداعي القضية، أياً كانت، فليس هناك مقاتل، قائداً أو مناضلاً أو دولةً أو فرداً عادياً، لا يدّعي في حربه انطلاقه من قضية ما. ولعل أكثر الناس إقناعاً بهذا- إن كان هناك من إقناع حقاً-هو الذي يقاتل أو يحارب أو يقتل دفاعاً عن النفس. وإذا ما بدا هذا منطقياً، أو هو هكذا إلى حد ما، فإن هذا السبب أو المبرر هو ضمن أكثر المبررات التي يُتخَّذ منها غطاءً للقتل من أجل أهداف ذاتية أو غير عادلة، أي تلبيةً للرغبة في القتل ذاتها، ولعل آخرها ما فعله جورج بوش والمحافظون الجدد في حروبهم المجنونة على العالم، حين اخترعوا ما يسمونها (الحرب الاستباقية). فبها صاروا مستعدين لتبرير أي حرب مع أي كان، وذلك بمجرد أن يقولوا هو يهدد أمنهم القومي وإنه قد يشن عدواناً عليهم، أو حتى ربما يريد أن يعتدي عليهم، على شاكلة أن صدام والنظام العراقي ربما يمتلك أسلحة إبادة، وربما يستخدمها ضدهم، وربما تشكل خطراً عليهم. ولا يبتعد كثيراً، هذا ما شرّعه مناحيم بيغن لنفسه ولجنوده من ضرب أو قتل كل مَن (ربما) يشكل خطراً عليهم في قوله الشهير بأنه حين يرى فلسطينياً يتجه نحوه فهو لن ينتظر أن يحاول ذلك الفلسطيني قتله، بل يبادر هو إلى قتل الفلسطيني.
بعد كل هذا أقول، وبما قد أبدو فيه متناقضاً مع الكثير من طروحاتي السابقة، وما هو برأيي كذلك، يبقى الحب برأيي أقوى في (إنسان العصر) من الكراهية والعنف، ويبقى للحب والتآلف وحاجة الإنسان للإنسان من القوة بحيث تقف بوجه الكراهية والعنف والقتل، مهما كانت مزروعةً عميقاً في دواخله، وهو ما يبدو لي أن سلام عبود لم يره جيداً فراح، في خطأ منهجي وعلمي، يسوق ما لا يُساق إلى دعم ما يريد، كما فهم الأساطير والملاحم، مثلاً، على أنها تدعو للقتل والحرب، والصحيح أنها تفسرهما، الأمر الذي قاده خطأً إلى دعم ما أراده في كل كتابه، ولم يكن محقاً فيه إلا جزئياً، نعني القول بعنف العراقي. فالأساطير العراقية لا تدعو، بالضرورة، إلى الموت والقتل والتدمير، بل كثيراً ما تحاول تفسير الموت والقتل والدمار الذي يحدث. هذا يعني أن سلام عبود يتناول الأساطير العراقية القديمة بشكل مقلوب، إن صح التعبير، فهو يحاول أن يستدل منها على عنف العراقي، بينما هي في الحقيقة لا تشجع العنف بل تحاول تفسير الواقع من ذلك العنف. وهذا يذكرني بما أرى أن إيكو فهمه خطأً، تعلقاً بالحب والكراهية عند الإنسان، وهو ما ربما جاء نتيجة شعور لحظة أو تجربة بعينهما أو تأثيرهما، فقاده إلى التعميم الخاطئ. يقول إيكو:
"يمكنني القول إن ثمة وفرةً من الروايات المكرسةِ للحب وحان الوقتُ لشرحِ الكراهية، التي هي شعورٌ منتشرٌ أكثر من الحب (وإلا ما كان هناكَ حروبٌ أو جرائم أو سلوكٌ عنصري). الحبٌ علاقةٌ انتقائية (أنا أحبك وأنت تحبني وبقيةُ العالم مستثنىً من هذا الشعور)، في حين أن الكراهية عامة، اجتماعية: يمكنُ لجماعةٍ من الناس أن تكره أخرى، لذلك يطلبُ الدكتاتوريون من أتباعهم الكراهية (لا الحُب)، ليحفظوا شملهم. وحيثُ أني قضيتُ طفولتي تحت دكتاتوريةٍ فاشية، أتذكر أني كنتُ أُلقَن دائماً كراهية بلدٍ آخر - الفرنسيين، الإنجليز، الأمريكيين - وأٌشجَع على محبة موسوليني فقط. لحسن الحظ لم يُجدِ هذا النوع من التعليم، ولهذا كتبتُ (مقبرة براغ)"([11]).
خاتمة: بين سلام عبود والآخرين
بقي أنني إذ أذهب إلى كل هذا الذي ذهبت إليه في الموقف من كتاب "ثقافة العنف" ومؤلفه، فإنني لا ألتقي مع ما ذهب إليه البعض مثل القاص والروائي المبدع فيصل عبد الحسن حين يقول: "ولا أظن أن من يشتم مثقفي وطنه ومواطنيه وأهله بهذا الشكل المريب سيختلف كثيراً عن فهمنا لوظيفة أفراد فرق الإعدام، الذين كنا في جبهة الحرب نسميهم غربان الجبهة، الذين كانوا يعدمون رمياً بالرصاص أولئك الرافضين لماكينة الحرب الجهنمية، لكنه استبدل الدوشكا بقلم الناقد"([12]). فهذا وعموم مقال حاجم عن الكتاب تعبير عن تحامل واضح، قاده إلى الوقوع في ما وقع فيه مؤلف الكتاب قبله، بل زاده قسوة وتعميماً حين جاء كلامه فيه وقد غادرته الموضوعية تماماً، وحلت بدلاً منها اللا موضوعية، بل الرغبة بالإساءة، كما يتّضح في قوله:
"والكتاب مليء بالأخطاء الأسلوبية واللغوية واستخدام الإشارات، ناهيك من الأخطاء الإملائية والنحوية، كما أن أكثر من عشرين جملة في كل عشر صفحات من الكتاب تحتاج الى صياغة لغوية جديدة... [ثم يضيف:] إنني لم أسمع باسم الكاتب في العراق... [لكنه سرعان ما ينسى قوله بعدم سماعه بالمؤلف ليقول:] فهو قد دأب على الكتابة عن الأدباء العراقيين (أبناء وطنه) من مكان إقامته في السويد منذ سنوات قليلة بما يجعل المتابعين يعتقدون أن الاديب والكاتب العراقي تحركه نوازع الشر والعنف المكبوت للكتابة وأنه يشارك السلطات الرسمية في كل ما اقترفته من أخطاء ومصائب"([13]).
فأنْ لا يسمع فيصل عبد الحسن حاجم بسلام عبود أمر لا يعيب عبود بل يعيبه هو. إن تناول فيصل عبد الحسن لكتاب سلام عبود يميل، كما هنا، إلى التجريح أكثر منه إلى النقد والمناقشة اللذين حاولناهما هما نحن في قراءتنا التفكيكية هذه. وحين نقول كل هذا فنحن، أولاً، وكما يمكن لأديبنا حاجم أن يلاحظ، لسنا مع جل طروحات سلام عبود؛ كما أننا، ثانياً، نكنّ كل التقدير لكلا الكاتبين مبدعَيْن، لهما مكانتهما في الإبداع العراقي، وهما عندنا من أصحاب الأقلام العراقية التي يجب أن نفخر بها، وعليه ما كنا نتمنى لأديبنا أن ينساق بعاطفية غير موضوعية، كما لم نتمنّ مثل هذا لسلام عبود نفسه.
ختاماً لقراءتنا التفكيكية هذه لكتاب سلام عبود "ثقافة العنف في العراق"، نخلص إلى أن العنف ليس خاصاً بالعراق أو بالبعث أو بصدام بقدر ما هو، في الأصل، نزعة وممارسة الإنسان، ولكنها لا تُعلن عن نفسها صريحةً، وبذريعة الاضطرار، إلا حين تتحول بتأثير هذه الذريعة إلى (ثقافة)، وقد تقترب من أن تكون مَرَضية، بفعل عوامل السايكولوجيا والسوسيولجيا المختلفة، كما حدث في نماذج كتاب سلام عبود السابقة.
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث كلية الآداب – جامعة بغداد
[1] ) سلام عبود: ثقافة العنف في العراق، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 2002.
[2] ) د. حيدر سعيد: سياسة الرمز، عن نهاية ثقافة الدولة الوطنية في العراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص18.
[3] ) د. حيدر سعيد، ص21.
[4] ) د. حسن الموسوي: حوار، أجرته أسماء المهدي، صُنّاع المستقبل، ع10، ص26، يونيو 2011، ص26.
[5] ) صالح محمد نصيرات: قراءة في كتاب الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبد الوهاب المسيري، إسلامية المعرفة، ع68، http://www.eiiit.org/resources/eiiit/eiiit/eiiit.asp
[6] ) د. حيدر سعيد، ص17.
[7] ) د.حيدر سعيد، ص18.
[8] ) د. حيدر سعيد، ص21.
[9] ) نجم عبدالله كاظم: دروب وحشية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2007، ص188.
[10] ) غابريل لاوب: مارس الإله العاري، الطبعة السويدية، دار نشر أكتوبر، ص14. عن سلام عبود، ص17.
[11] ) أمبرتو إيكو: حوار، ترجمة: فهيمة جعفر ياسين، http://www.seeeen.net/aboutus.html
[12] ) فيصل عبد الحسين: شتائم للمثقفين العراقيين من كاتب يهجو ثقافة العنف في العراق، الشرق الأوسط، لندن، 6/4/2003.
[13] ) فيصل عبد الحسين: شتائم للمثقفين العراقيين.