تدور مقالة الباحث التونسي حول الثقافة والمثقف في حقبة الانحدار العربي المعاصر. يتناول تعددية تمسرحات الاستبداد ومسوخ السلطة وكلابها. يفكك عقدة حبلٍ سري يتشابك فيها النكوص إلى سماوية السلف مع التشبث بدنيوية جماليات الاستهلاك. ويؤكد على الكتابة المقاوِمَة للسناريوهات الأفيونيّة الجاهزة التركيب.

شرف الكتابة

مصطفى القلعي

للاستبداد تاريخ طويل، طولَ زمن الحضارة البشريّة على وجه الأرض. فلقد مارسه الكائن الإنسان على الكائن الإنسان منذ أن وقع الحسم في مسألة الإقامة البشريّة. فلقد اختار الكائن الإنسان الإقامة في المدينة استجابة لنزعة الاحتماء فيه، فلقد كان خائفاً من الطبيعة مذعوراً أمام أهوالها. وبعدها شرع في وضع المؤسّسات والقوانين والأنظمة التي تقيّد حياته بين الجدران. وتحصي عليه حركاته وسكناته وآلامه. وتروّضه على الامتثال للسلوك القويم والأخلاق الرفيعة واحترام الجار وإطعام السائل وتجنّب مواجهة الظلم إضافة إلى ضرورة رجم العشّاق والمحبّين والكتّاب والقرّاء والثوّار. فهم جميعا يمثّلون إزعاجاً لسبات المدينة المحروسة. كما تجبره على الامتناع عن السهر مع النجوم لأنّ عليه أن يدّخر طاقاته لصرفها في ما من شأنه أن يزيد في ثروة وليّ نعمته شعرةً، فوليّ النعمة هو واهب اللحم والشحم اللذين يكسوان عظام الكائنات الكاسية كما يردّد كتّاب السيناريو العرب، والمصريّون خاصّة، المجدّون في خدمة فكرة الاستبداد وفي خلع صفة المقاومة عن حدث الكتابة.

ومن الثابت أنّ الاستبداد السياسيّ هو النوع الأطول عمراً من بين بقيّة أنواع الاستبداد. ولقد خبره الكائن الإنسان. وصارت له معه تجارب طويلة. والكائن الإنسان يعلم أنّه هو نفسه من أنتج السلطة السياسيّة في المدينة المباركة. وهو أيضاً من أمدّها بأدوات القمع. وهو يعلم أيضاً أنّه لم يعد قادراً على التغلّب عليها. فميزان القوى يميل ميلاً صارخاً لصالحها. ورغم ذلك فإنّ خبرة الكائن الإنسان بقمع السلطة السياسيّة مكّنته من كفاءة عالية في كشف الاستبداد السياسيّ وتعريته والتصارع معه. فحدث مقاومة الكائن الإنسان له ثابت تاريخيّاً في كلّ الحضارات وبين كلّ الشعوب والأمم.

ولكنّه من المرعب أن نسجّل أنّه قد صار للاستبداد جبين يندى! فصار يخجل من أن ينكشف عارياً مفضوحاً. فلقد تخَفّت نزعات الكائن المتوحّشة، لا لتختفي، بل لتتمظهر في أزياء جديدة لا يدركها الحصر والعدّ.. ولكنّها أشدّ إيلاماً. فلا يتفطّن إليها الكائن حتى بعد أن تُهصر عظامُه وتتصادم خلاياه العصبيّة. فيقول ما لا ينقال.. ويبتاع ما لا يُشترى.. ويكره ما يجب أن يحبّ.. ويأكل ما لا يُشتهى.. ويضحك لما يوجع.. ويفرح لما يحزن.. ويضاجع من يُقرف.. ويهلّل لمن يجب أن يُرشق بالحجارة.. ويقبل ما يجب أن يرفض.

لم يخلع الاستبداد زيّ الشُرَط ولا العسكر ولا الدرك ولا الرقيب ولا المرتزق والمأجور ولا البصّاص. ولم يتخلّ عن هواية التلصّص ولا عن أجهزة التنصّت والمراقبة و"الطولكي ويلكي". ولم تتقلّص نزعة الاستبداد في الحاكم بأمر الناس مهما كان لون شعره، ومهما كان موضع الربطة، على العنق أو على الرأس. لقد حافظ الاستبداد على وجوهه كلّها. ثمّ أضاف إليها وجوها جديدة لعلّ أعتاها وأشدّها وجعا للكائن الإنسان استبداد رأس المال الذي لم يترك شبراً على الأرض إلاّ طاله. فنراه ممسكاً صولجان السيادة وتحيط به نبابيت الإرهاب في المدن والقرى والأرياف والجبال والصحاري الرمليّة والجليديّة والكهوف والسماء والنجوم والأقمار والمحيطات والبحار الحيّة والميّتة.

ولم يكن الكائن الإنسان يعي، وهو يهلّل لرأس المال الأسود الطالع من بين أيادي آخر رعاة البقر وورثة عائلات عصابات المافيا القادمة من أوروبا.. رأس المال الأسود المكدّس على طاولات القمار في كازينوات نيويورك وواشنطن وتكساس، لم يكن الكائن الإنسان يعي أنّه كان يقدّم للاستبداد رئات فتيّة تطيل عمره دهوراً. وتطيل تاريخ قهر الإنسان الإنسانَ. لقد استبدّ رأس المال بكلّ شيء، حتى بالاستبداد السياسيّ أبيه صاحب النسب. فالسلطة الأب لم تعد سوى عبارة عن سوط لا يكفّ عن جلد الكائنات الكاسية حتى تملأ القبّعات المفتوحة وإن بأعضاء من أجسادها.

ولقد تأكّد العرب جميعاً الآن بأنّ السيناريست العرب قد ظلّوا غارقين في الفانتازيا الاجتماعيّة الاستهلاكيّة المهادنة. ومسألة الاستبداد لا تشغلهم ولا تقلق فكرهم!! فهم يبذلون قصارى جهودهم كي لا يزعجوا راحة أركان الاستبداد. ويجتهدون اجتهاداً كبيراً من أجل أن ينعم الاستبداد بالراحة. والكائنات الكاسية ليس أمامها إلاّ أن تستهلك المادّة التي تخدّرها إن توتّرت وتروّضها إن انتفضت حتى يهنأ الاستبداد وينعم براحة البال. وهذه المادّة معروضة على كلّ الفضائيّات وفي كلّ دور السينما وعلى كلّ الجدران وفي كلّ منعطف وكلّ زاوية للقلب.

ولا يضير السيناريست العرب أن ينتجوا أمساخاً من الموادّ المتشابهة التي لا يمكن أن يتجرّأ أحد على اعتبارها كتابة. وتشابهها هو وجه من أعتى وجوه الاستبداد بما أنّها تقلب حريّة المتفرّج وهماً. فكلّ أزرار جهاز التحكّم تؤدّي إلى المادّة نفسها وإلى الموضوع نفسه، وأحياناً كثيرة إلى المشهد نفسه. ولذلك يصاب الرجال بالضجر القاتل. ويرمون، أخيراً، بالجهاز من أيديهم. ويلتحقون بالمقهى لمعانقة النرجيلة والاستئناس بقرقرتها والسباحة في خيالات سحاب دخانها بحثاً عن وعد الانعتاق. وحينها تنتقم النساء لأنفسهنّ من احتكار الرجال لأجهزة التحكّم. فتلتقطنه. وتغرقن في مشاهدة أحزانهنّ وهي تباع ليغنم منها رأس المال الإعلاميّ ثروات طائلة لا يكفي لتبديدها شراء أفخم السيّارات وبناء أضخم الفيلاّت والقصور والمصيف في جزر الكناري حيناً وفي هاواي حيناً وفي لافويان حيناً آخر. وتصبح أخبار "النجوم" الرأسماليّين الإعلاميّين الشخصيّة مادّة للمتابعة والإثارة. فلماذا..؟ لماذا يعمد السيناريست العرب إلى إنهاك خبرة الكائنات الإنسانيّة بالاستبداد؟

تصوم الكائنات الكاسية المسلمة عن الملذّات نهاراً طمعاً في الثواب الآجل بعد أن عزّ تحصيل الحياة في العاجلة. والصوم عن الملذّات عندها ليس حدثاً سعيداً يحدث شهراً بين الإثني عشر. وإنّما ملايين كثيرة قد ألِفت الصوم نهاراً وليلاً بلا مقابل ولا ثواب مؤجّل. فكيف لا تفعل وهي موعودة بالنعيم!؟

كان محمد لطفي اليوسفي قد أخبر عن أنّ الناس قد ارتموا في أحضان الدين هروباً من استبداد السلطة السياسيّة الفاشيّة الدمويّة. قال:

«إنّ احتماء الناس بالدين هرباً من جور الحكّام ووحشيّة السلطة وحرصها على ترويع الناس كلّهم إلاّ من اصطفتهم لخدمة مآربها وتنفيذ رغبتها في الغلبة والقهر، يمتلك في الثقافة العربيّة تاريخاً وله أيضاً مدى. فمقولة السلطة نفسها كما تكرّسها المتون القديمة محاطة بهالة من الدّم، مسيّجة بالويلات، بالقتل، بالشراسة، بالوحشيّة. عديدة هي المتون القديمة التي حذّرت من معاشرة السلاطين الظَلَمة واعتبرت صحبتهم ضلالة ومجرّد الذهاب إليهم خراباً حتى لو كان ذلك لقراءة القرآن»(1) .

إنّ السلطة السياسيّة بوجهها الدمويّ هذا المرسوم لها في المتون العربيّة القديمة والحديثة لكافٍ لطحن الكائنات الإنسانيّة وإبادتها. ولكنّ رأس المال المستبدّ الفتيّ قرّر أن يحصل على نصيبه من دماء الكائنات الكاسية وأوجاعها. فتحالف مع السلطة على الناس. فباشر بحرمان الكائنات الكاسية من كرامة الخبز والمأوى والدواء وحتى من دفاتر أطفال المدارس في العاجلة. ولم يخالف طبعه الانتهازيّ. وطمِع في طمَع الكائنات الكاسية الصائمة في ثواب الآجلة. فلاحقها في العاجلة والآجلة ناشباً أظافره في لحمها غارساً أنيابه في دمها يمتصّه!!

لقد ألمح لطفي اليوسفي أيضاً إلى أنّ العلاقة بين الدين والسلطة السياسيّة ورأس المال علاقة متشابكة فلا خلاص من براثن السلطة. فلقد صحّرت السلطة المهارب أمام الكائنات الكاسية. وجعلت الإفلات من مخالبها في حكم المستحيل. ولذلك تظلّلت الكائنات الكاسية بخيمة الدين. فقد بان لها ألاّ مفرّ سواها رغم أنّ المقابل هائل: هجر الحياة والانقطاع عن الملذّات نهائيّاً.

كتب اليوسفي:

«والثابت أيضا أنّ احتماء الناس من جور السلاطين بالالتجاء إلى التصوّف وهجر الحياة الدنيا بحثاً عن خلاص محتمل عند الربّ في الأعالي ليس مسألة جدّت في هذه المرحلة. فلها تاريخها. ولها أيضاً مداها الذي مافتئ يتّسع ويمتدّ. يحدّث التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة عن استفحال هذه الظاهرة في عصره فيكتب على لسان بعض المتصوّفة: (غلا السعر، وأخيفت السبل، وكثر الإرجاف، وساءت الظنون، وضجّت العامّة، والتبس الرأي، وانقطع الأمل، ونبح كلب من كلّ زاوية، وزأر أسد من كلّ أجمة، وضجّ كلّ ثعلب من كلّ تَلْعَة. قال: وكنّا جماعة غرباء نأوي إلى دويرة الصوفيّة لا نبرحها، فتارة نقرأ، وتارة نصلّي، وتارة ننام، وتارة نهذي، والجوع يعمل عمله، ونخوض في حديث آل سامان، والوارد من جهتهم إلى هذا المكان، ولا قدرة لنا على السياحة لانسداد الطرق، وتخطّف الناس للناس، وشمول الخوف، وغلبة الرّعب. وكان البلد يتّقد ناراً بالسؤال والتعرّف والإرجاف بالصدق والكذب، وما يقال بالهوى والعصبيّة)» (2).

لكنّ التديّن لم يعد مهربا أميناً للكائنات الكاسية. فأين المفرّ من رأس المال المتغوّل!؟ فلقد طاله جشعه. وعمل على استنباط الطرق الكفيلة بجعله مورداً لمراكمة الثروة. والسلاح الأمضى والأحدّ الذي اعتمد عليه كان السيناريو. فحين تأتي الكائنات الكاسية لتفطر بعد صوم يوم كامل من أيّام شهر أوت القائظ في رمضان المبجّل، يتراءى لها رأس المال مطلاًّ من وراء دخان سيكارة السيناريست مادّا قبّعته ليجمع الدراهم ثمن فرجة الكائنات الكاسية الصائمة على أحزانها. فلماذا يخدم السيناريو العربيّ الاستبداد؟ طمعاً في فتات الموائد!؟ لا يستحقّ، إذن، شرف الانتماء إلى حرم الكتابة.. الكتابة المقاومة لكلّ أشكال الاستبداد ولكلّ مظاهره.

إنّ الكتابة وعد بالانعتاق. إنّها لحظة تتّحد فيها الذات مع ذاتها. إنّها برهة تطلّ فيها الذات على قاعها. إنّها لحظة توق وشوق وفرح وعناق. إنّها سخرية من المستبدّ. إنّها فضح للاستبداد. أمّا كتابة السيناريو العربيّة فمسكينة.. مسكينة، لأنّها خسرت شرف الكتابة الذي لا يتحقّق مع مهادنة الاستبداد بكلّ أشكاله. لقد كشف نزار قبّاني علاقة السلطة بالكلمة. وبيّن أنّها علاقة تعارض وتصادم أبديّ. قال:

«طالما أنّ سكّين السلطة لا تفرّق بين لحم الكلمة ولحم الفرّوج فلا سبيل للتفاهم.

تاريخيّاً، ليس هناك أمل في توقيع معاهدة جنتلمان بين السلطان وبين الكاتب.

فالكاتب، في ذروة كبريائه وغروره، يعتبر نفسه سلطاناً. والسلطان يتصوّر من موقع السلطة أنّ صوته جميل، وبوسعه أن يغنّي، ويكتب.. وهكذا تتزاحم السلطات.. فالحاكم لا يقبل بسلطة زمنيّة غير سلطته.. والكاتب لا يقبل بسلطة غير سلطة الحقيقة. ولذلك تبدو الكتابة في هذا الزمن الصعب مهمّة مستحيلة»(3).

ولكنّ نزار لم يكن بقوله ذاك موحياً لكتّاب السيناريو العرب بمهادنة الاستبداد بحكم استحالة التغلّب على السلطة. بل على العكس من ذلك تماماً أثبت نزار أنّ الكلمة لا تهادن. ولا تصالح. ولا تعرف إلاّ المقاومة وإزعاج الاستبداد. أضاف:

"ولكنّ الكلمة، رغم المسامير.. والخوازيق.. والأسلاك المكهربة.. والكلاب البوليسيّة المدرّبة جيّداً.. وأجهزة التنصّت.. وزوّار الفجر.. تعرف كيف تكسر بمنقارها الفولاذيّ الحادّ قشرة البيضة.. وتعرف كيف تتسلّل من مواسير المياه.. لتفاجئ السلطان وهو يأخذ حمّامه الصباحيّ»(4).

فتحرمه متعة الشعور بالانتعاش. وتعكّر عليه صفو يومه.. فيهتف بالسيّاف أن تعالْ.. تعالْ.. إلى العمل.. أمّا كتابة السيناريو العربيّة فمسكينة.. مسكينة.. لأنّها خسرت شرف الإسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ محمد لطفي اليوسفي: فتنة المتخيّل (ثلاثة أجزاء)، الجزء الأوّل: الكتابة ونداء الأقاصي، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2002، ص 101 ـ 102.
(2) ـ نفسه، ص 102.
(3) ـ نزار قبّاني: الأعمال النثريّة الكاملة، ضمن الأعمال الكاملة (تسعة أجزاء)، الجزء الثامن، الكتاب الثاني والثلاثون، منشورات نزار قبّاني، بيروت، آب (أغسطس) 2002، ص 195.
(4) ـ نفسه، ص 197.