كأنها رحلة فوق بساط سحري، يحلق به "أحمد عبد اللطيف"، ليرتفع فوق الواقع نسبيا، يهيئ مسافة لرؤية أكثر عمقا لكثير من أسئلة الإنسان الأزلية في هذا الوجود، يعلو ببساطه السحري، ويتكئ بذراعيه علي أحدي سحب الخيال المحلق، ثم يرسل عينيه وعقله إلي الأرض؛ ليعيد النظر في كثير من الفخاخ الوجودية، والتي لن تنتهي طالما هناك حياة بشرية، يصحب بساطه ويحلق أيضا في الموروث، ينفذ من طاقات نور الخيال الفني في رحلة في الزمن، يلتقط من التاريخ ملائكة الحكي أو شياطينه، فالمجد للرياح لا للراكد، يغوص في جوهر أساطيره وكتبه المقدسة وفلسفاته، يتلبس أشباح خياله، وموروثه المحلي والعالمي، يستعير من "خنوم" ــ إله النحت الفرعوني ــ موهبته، ويناوش "بجماليون" في عشقه وفلسفته، كما يغازل شهرزاد ملكة الخيال والحكي، يلتقط ربابة الحكواتي الشعبي، ليصنّع من كل هذا الزاد صلصال تقنياته، وأليات نصه الفنية، وهو إذ ينحت منحوتته الخاصة، يرسل شهبه التناصية مع الكتب المقدسة، فتتحول فصول الرواية إلي أسفار، وتغدو الأوراق التي تسرق من النحات وكأنها مزامير، ونتشكك في الكتاب الذي يؤلفه الرجل المنتصب دائما أهو عهد قديم أم جديد، أو قرآن مجيد، أو كأنها مياه التسامح المقطرة من الأناجيل؟ لا سبيل أمام قارئ "كتاب النحات" النص الروائي المكتنز بالأسئلة إلا أن يرافق كاتبه فوق بساطه السحري، في رحلة خلق جديدة، وإله ينحت عالما منغمسا في واقع البشر قدر ما هو مفارق لهم، إله تؤرقه أسئلة بلا جواب، يفتح للإنسان عالما يحتفي بالعقل والإرادة والحرية، لا الخرافة والغيبي والقهري.
ــ 1 ــ
تحكي رواية (كتاب النحات) عن قصة رجل سأم من عالمه الذي اكتظ بالمقاصل والدماء والقبح والفقد، ليغادره إلي عالم آخر برزخي، لا يحدد القارئ له وجود محدد أهو واقع، أم حياة بعد موت، أو عالم منعزل في إحدي الجزر وعلي أحد الأنهار؟ غادره كل من كانوا حوله في عالمه السابق، بعد أن أصابتهم لعنه الشبه، كل الأيام تتشابه: الوجوه، والأحداث، والمشاعر. ارتحل إلي جزيرة مصطحبا معه صراعه الداخلي مع عالمه، وصحف مدون بها تاريخ الأشخاص الذين كانوا محيطين به، وبعض الرسومات الخاصة بعائلته المقربة "الأم، والأب، وزوج الأم، والرجل البرميل، والرجل المنتصب دائما"، وبعض الشخوص التي تمثل الثانوي في الحياة.
يشرع ينحتهم مرة أخري ليعيد الحياة التي ولت، هنا نشعر أنه يتملكه هاجس أن يفهم الحياة منذ بداية خلقها، مالم يدركه فيها ولم يره، وكيف آلت إلي ماهي عليه، في ظني أن الروائي أو النحات صنع هذا عامدا، أعطي ذاته قدرة التشكيل والخلق، ومعاينة الصراع في اللحظات الحية لمراحله، لحظات تشكّله، حق المعرفة النسبية لأسرار المخلوقات؛ ليري الحياة أمامه شريطا سينمائيا، يتوالى يُعرض أمامه، يتمعنها وهي تشتبك، ويري البشر وهم يدفعون الحياة، كيف تتكون الصراعات، يستبطن النفوس البشرية حقيقتها وأقنعتها، الحياة التي علي السطح وتبدو للجميع، والحياة العميقة الداخلية التي تختفي داخل الكهوف البشرية.
بدأها يجرب وينحت .. دون أن يدرك أنه يمكن أن يتحول إلي إله، لأنه دون أن يدري أو يعرف السبب أصبح لدي منحوتاته غير مرئي، قد يسمعون صوته فقط، أو يرون أوراقه، ولذا يبدو مستكشفا مندهشا متسائلا غير الألهة التي عرفها الناس، ليس له صفات اليقينية التي عهدناها في تصور البشر والأنبياء عن الإله، ولأنه غيبي، غير مادي بالنسبة لهم، يبدأ المخلوقات في تشكيل تصورات مختلفة عنه، وتشرع كل شخصية منهم في نسج تصور عن هذا الخالق، يعتمد بعضهم علي سماع صوته، والآخر علي نحت الحياة وتشكلها التي شاهدها أمام عينيه، وبعضهم علي أوراقه التي وجدها، ويشرع كل منهم يستغل وجوده تبعا لأهوائه ورؤاه وتفسيره للحياة، ومن هنا تبدأ الصراعات البشرية.
يشعر النحات بالوحدة، ويتراءى له حلم لعروسة نهر جميلة فيعشق صورتها، ينحتها من مادته، فتُبعث بها الحياة، ويشعر بحنو الرفقة والاكتمال، لكنها الحياة .. فتبدأ أسئلة الحب والعشق والشك والغيرة، ولأن النحات غير مرئي تضطر عروسة النهر أن ترضخ لادعاء الرجل المنتصب دائما أن وليدها ابنه. ينقل الراوي العليم أن الصراعات والحروب ازدادت عنفا بين أقطاب الجزيرة، وانتشرت المقاصل، وماتت عروس النهر وابنها، وحزن النحات علي ما جري لعالمه الذي نحته، وعاد ثانية ليشكل عالما جديدا ولتعاد أيام الخلق وأسفاره مرة أخري.
يفكك "عبد اللطيف" الأسئلة الوجودية الحائرة عند الإنسان: تصوراته عن الإله، من يمتهنون الكهانة من البشر، وتاريخ الأنبياء، كيف تنشأ الأديان، وحاجة الإنسان إليها، هل الموت هو ما يدعونا إلي البحث عن إله كما يعتقد الكثيرون؟ أم أنها الحياة بأسئلتها ــ كما يطرح هذا النص ــ هي التي تبحث عن خالق تلتصق به؛ لتبرر وجودها؟
يجرح النص أيضا الظاهر والباطن، يناوش الجبر والاختيار، يدنو من الحب ومعانيه ومخاوفه، يعري الصراعات المستترة بالذوات البشرية، وبلغة سلسة يستطيع أن ينزع أغطية الجاهز من الأفكار والقيم التي تجمّلها، أو تسهو علي قبحها، وطمعها وغرائزيتها، كأنه يأتي بالقول الذي قد يلمس جوهر الأشياء لا زيفها. ألا تلاحظون معي أنني لا أستطيع أن أضيف لمفردة "القول" السابقة اللفظ الأثير في الموروث العربي "القول الفصل"، كما أنني استخدمت معني الترجيح في "قد يلمس جوهر" ولم أجرؤ أن أقول أنه "يلمس جوهر الأشياء"، لا يتيح هذا النص للناقد يقينا متماسكا حتي أثناء توصيفه له.. وأتصور أنه بصنيعه هذا .. نجح كاتبه في الرسالة التي يريد أن يعبر عنها نحاته.
2 ــ التقنية حال تمردها .. في "كتاب النحات":
دائما ما كنت أعتقد أن التقنية هي الحامل الرئيسي للثورة الجديدة في الكتابة، كيف يثور الفنان ويفكك أفكارا قد تكلست، إلا وهو يحمل رؤية جديدة لفلسفة الفن، ودوره في الحياة، ودور الفنان ذاته. تقدم الرواية الجديدة ثورة علي الكتابة الكلاسيكية التي تعتمد علي المحاكاة، وتفسير العالم ووضعه ضمن أنساق منطقية، مفاهيم الزمان والمكان وطبيعة الصراع التقليدية، رؤية أدت دورها في سياقاتها الثقافية والاجتماعية السياسية والاقتصادية في لحظتها التاريخية الماضية، الكتابة الجديدة تنحو إلي تجاوز القديم، ابتكار تقنيات أكثر تركيبا وتعقيدا كما الحياة، الحياة التي لا تفسرــ إن استطعناــ إلا وفق علاقاتها المتداخلة والمتجاورة مع تناقضاتها، ولا نهائيتها.
يأتي الفن ليتبني التوازي الرمزي مع الواقع والوجود، يبتعد مسافة عن المستقر، ويبتكر رؤي تفكك الواقع وتعيد تفسيره وفق رؤي أكثر تمردا، تتوافق مع انهيار حكايات العالم وأيديولوجياته، وهنا تكون التقنية هي الحامل الرئيسي لرصد هذا الاندياح والتعدد وموت اليقين .. فتظهر وطأة تيار الفانتستيك أو الواقعية السحرية أو العبثية، وغيرها من مذاهب فنية حداثية وما بعدها، ومن خلال تلك التيارات تتعدد التقنيات والأفكار التجريبية السردية التي علي نحوها تبرز الأفكار التي تطرح عوالما للتساؤل وخلق حيوات مختلفة، تخلخل ما يبدو أنه أصبح مصائر حتمية في مجتمعات العالم الثالث، الذي تتعدد فيه أنواع من القهر، ويعد هذا النص استكمالا لمشروع الروائي الذي بدأه "بصانع المفاتيح" وأعقبه بنص "عالم المندل" اللذين تميزا بانطلاقهم من رؤية أكثر انفتاحا علي فضاء الإبداع، وفلسفته.
يتناول نص "كتاب النحات" قصة خلق فنتازي يعيد طرح العديد من الأسئلة الوجودية، وهو إذ يسأل، يفكك القديم وكأنه يضع بجدرانه التي باتت صلدة عبوات ناسفة تحطمه، لكن دون ضجيج صاخب. شأن صنيع الروائي في تقنية الزمن بالرواية علي سبيل المثال، فهو بالفعل يخلق تتابعا وإيقاعا زمنيا، ويقسم نصه إلي ثلاثة أسفار، وستة أيام وما بعدها، وهو إذ يصنع ذلك يفكك هذا الإيقاع تماما بأن يضعه في اللازمن، فلا نعرف زمنا محددا لهذا النص، كما أنه يعيد في نهاية النص قصة الخلق والنحت تلك مرة أخري، في حركة دائرية غير متوقعة، فتتكرر الأيام وأحداثها وموجوداتها، هذا فضلا عن أن الزمن داخل القص ذاته لا ينظمه إيقاع طبيعي سائر إلي الأمام كما نعهده، بل أستطيع أن أصفه بأنه انتقائي، ففي أيام معدودة يستطيع النحات وسارده أن يشاهدا: خلقا، فحبا، وحملا وولادة، وشخوصا تكبر، وأخري تختفي وهكذا، كأننا بإزاء أيام من تلك التي تحكيها الأديان والأساطير، أيام كونية لا مقاييس زمنية تحكمها من التي يدركها البشر.
يبدو الزمن في الرواية رخوا وزئبقيا، وكأن النحات قد أمتلك آلة زمنية تمكنه من التجول فيه بحرية مطلقة، فضلا عن قدرته علي اختصار بعضه وطيه سريعا، وتركيز الوجود علي بعضه الأخر وتمديد أبعاده. كلنا يدرك أن للماضي قداسة، ولحكايته أخاديد قد حفرت في الروح البشرية، ولها سحرها الخاص الكامن فينا، ولا نستطيع الخلاص منه، وإن رفضناه بعقولنا ظل يشاغلنا، بل ربما أعدنا الحياة علي نحوه مرة أخري طواعية، كما يحدث بهذا النص، في نهاية دائرية فلسفية يختارها الروائي بحنكة، لكنها تحمل دأب الإنسان علي استمرار الأسئلة وتوالدها وتجددها في حركة غير منتهية، كما يرشق هذا النص سهما جدليا شديد الفنية حين يطرح تصورا عن إله أكثر تفتحا وتسامحا وحرية عن تخيل البشر للآلهة السابقة.
مع المبدع الذي يعتد بقيمة فنه وأهدافه العميقة، يظل ما أكتسب صفة القداسة والقدم غير واقع في منطقة الانغلاق والصدأ المطلق، الذي لا يعتريه حراك، بل يظل منطقة توتر وجدل، رفض وانصياع، ثم انصياع فمناوشة، ثم قبول فرفض وهكذا .. الأمر لا يخضع بالطبع لهذا التركيب الذي ذكرته، لكنها مراحل تنتاب الفنان والمفكر والمتسائل في جوهر الحياة، وطبيعة العلاقات بها. من تلك المنطقة الحائرة تشكّل السرد في "كتاب النحات" متلألئا بالأسئلة التي تضيئ مناطق قد أصابتها عتمة عدم المساس للقداسة: أسئلة تراود النحات ذاته أو الخالق، وأخري تراود منحوتاته، وهو ما يجعل النص من الأعمال رفيعة الإنسانية، التي تدشن كاتبها روائيا له بصماته المميزة.
3 ــ السرد المركب في "كتاب النحات":
تعتمد سردية هذا العمل علي تشكيل مركب يستهل الحكي فيه راو مفارق عليم، له حكمة التاريخ ووعي الخبرات، يفتتح النص وكأنه يعتلي مسرحا، ينظم ويعرض لكل أصوات السرد الأخرى، ويقترب الراوي من طبيعة الرواة الشفاهيين، الذين يتحرون القصاصات القديمة الصفراء، ويكملون ما انمحي من سطورها. في بعض الفقرات شعرت أن صوت السارد يقترب من كونه صوت الكون حالة حكيه، قصه ما يحدث بالوجود ويتكرر من البشر، طاقة هذا العالم تعرض صورة من صور تكونها في إحدى تفاسير الوجود المنفتحة خارج سلطة التابوة، لكن هذا الراوي أكثر ديمقراطية من الرواة الفوقيين في أعمال روائية أخري، شأنه شأن النحات شخصية العمل الرئيسية، أو هذا الإله ما بعد الحداثي، يقول: "واجتهدت قدر استطاعتي ليكون لتعدد أصوات الرواة إلماما بجوانب الحكاية، ويكون إيقاع لغتهم من بطيء لمتعجل ومن سرد أحداث لمتأمل فيها ومن تجريد لتجسيد، تنوعا يجذب الفانين حتي العبارة الأخيرة، فيتم ذلك المقصود منها وهو ليس رسالة ولاتوجيها بل سحرا يتسرب عبر الأوردة لعقول خاملة.."ص4
ألا تلحظون انفتاح هذا الراوي ونحاته علي هذا العالم، بعيدا عن القيود التي وضعها البشر تكبل عقولهم، كأنه يهيئ لمسرح أحداث دائري متعدد المشاهد، يستمر في حركة دائرية أمام المتلقي، ولكل مشهد شخوصه، كما يوفر ظلالا لهذه الشخوص؛ ليعرض لهم من مناظير متعددة.
تتوزع السردية بعد ذلك إلي أصوات متنوعة، يظل للنحات فيها الدور الرئيسي، فهو أول موجودات هذا النص وهو الخالق، ثم تتوالي أصوات: الأم والأب وزوج الأم ورجل البرميل والرجل المنتصب دائما.. من اليسير وصف النص بأنه رواية بولوفنية أو رواية أصوات متعددة، وهو بالفعل كذلك نسبيا، لكنها أصوات غير تقليدية، فهناك مساحة محدودة لهذه الأصوات، تحت عنوان "حكايات مرافقة للتماثيل"، ويتنوع هذا السرد ولغته والتقنية التي يعتمد عليها أتساقا مع تنوع الشخوص، وتكوينهم النفسي، فشخصية الأب الحائرة التي لم تصنع في حياتها أي شيء تريده، يأتي قصها من خلال حلم، وتبدو العلاقات التي تنسجه شديدة السريالية والغرائبية، يقول عن سكان مدينته، بعد أن يصف حلما مخيفا ودمويا كريها "أدركت في لحظة مفاجئة، أنهم صورة طبق الأصل من ساكني البالوعة.." ص51، ليبدو الجميع من سكان المدينة مجوفين وبلا أرواح. رجل عاش ينحت ويبني ويربي أولاد زوجته، دون أن يعيش حياته وفق ما يريد، ذابت إرادته الحقيقية وسط أقدار الآخرين واختياراتهم، لذا ربما أصابته لعنة الشبه، وجعلته يرحل عن عالم لم يتخير حياته فيه بإرادته.
يلي حكي الأصوات هوامش علي حكايات التماثيل، والسارد فيها هو النحات، يحكي عن رؤيته أو تفسيره للشخوص، وخصوصية ما يميز كل منهم لديه. ثم هناك رسائل من البعض مثل رسالة من زوج أمي، وهي رسالة لا يكتبها سوي فنان، اطلق لخيالة العنان، يقيم ويهدم علاقات، يعبث مع ملاك الموت، ويتخيل نفسه لحظة النهاية كيف يبدو. وفي حكايات الهامش الذي يدونه النحات لزوج أمه، لا فارق جوهريا بين هامش ومتن، بل يبدو الهامش أحيانا هو الذي يحرك المتن، ويؤثر في تصعيده وصراعه، ص59، 60. ويستمر حكي وقص النحات إلي أن نصل إلي رسائل الرجل المنتصب دائما لعروسة النهر، ورسائل النحات لها، ورسائل العروس لنحاتها.
وهنا قد نتساءل لماذا يهيئ الروائي لشخوصه هذه المستويات المتعددة للحكي؟ ومن مناظير متعددة، في ظني لأنه إله ينزع إلي ديمقراطية الحياة، يتحول من عليائه في السماء إلي الأرض، كما أنه مأخوذ بفكرة مشاهدة الخلق والمخلوقات حال تكونهم، حال تعقَّد حياتهم الباطنية، وتعبيرهم عن ذواتهم دون تداخلاته أحيانا، ولقد وفر الكاتب لعمله مبررا لهذه الهوامش، بالأوراق التي اصطحبها معه، وبتقنية الرسائل التي توفر نوعا من البوح الذاتي لأصحابها، وبالأحلام التي تعد متنفسا للاوعي. لم يكن من المنطقي أيضا مع شخوص لم تفارق تجسدها ونحتها إلا منذ أيام، أن يفرد لهم الروائي القص عن ذواتهم في فصول كاملة أو مسهبة، لذا لم يتوسع في تقنية تعدد الأصوات، وأوجد هذه التنويعات الصوتية المتعددة ليثري عمله بالحقيقة من وجوه مختلفة، أو ليكمل هو الحقائق التي لم يدركوها بعد.
ولأن النحات لا يعرف الكثير عن منحوتاته قبل أن يولد هو في الحياة السابقة، إذ يشاهد الحياة تتكون مع حركتهم، والأحداث التي يتشكلون بداخلها، لم ينزع مرة واحدة ليتبرع بحكم قيمي عن إحدي منحوتاته، فقط يهيئ لهم في النص مشاهدا، ومن حركتهم وتفاعلهم داخل المشهد يبدأ في تبين عالم كل شخصية، كما أن هناك ملمحا قد لاحظته في بناء مشاهد الرواية، يتمثل في ضفر الروائي بين واقع المشهد المادي، واستخدامه لمجازات نابضة وحيوية تكمل ديناميكية المشهد وتحرره من السكون، حتي وإن وقع في منطقة الذكريات، يقول النحات وهو لا يري وجهه فوق صفحة الماء: "أي صورة يمكن أن أكون عليها الأن؟ أتحسس وجهي الذي أظنه متغضنا، وبين الخطوط يسير بشر شكلوه مع خطوات الزمن.."ص24، في مشهد ساكن نسبيا لا يري النحات فيه وجهه، ياتي المجاز متحركا ببراعة فنية وفكرية في آن واحد، ركام البشر بالفعل هم من شكلوا ملامح هذا الوجود الغيبي، "الله".
الرواية يتناصفها الحكي علي لسان السارد العليم "روح العالم" والنحات أو الخالق، وتصوير المشاهد التي تخلق الوجود وموجوداته، وتقل مساحة الحوار بالنص إلي حد كبير لكون النحات غير مرئي، تبقي المشاهد الحوارية بالعمل شديدة الانسيابية، وتتسم بالوجدانية العميقة؛ لانحصار أغلبها بين النحات وعروس النهر. في تلك الحواريات الرومانسية غير المتهافتة، يمكنني أن أسجل للروائي تطور نظرته وطرحه نسبيا للمرأة، ووعيها بذاتها، وهو ماكنت قد أخذته عليه في دراسة أعددتها عن نصه السابق "عالم المندل" حين اصطنع فرضية لتحرر أنثي، وقصر معالم هذا التحرر في تحولها فسيولوجيا لرجل، وابتعادها النسبي عن نوعها.
يطور "عبد اللطيف" نظرته للمرأة في استنطاقه لعروس النهر ورغبتها في المعرفة، والأدوار التي تقوم بها في الحياة: زراعة وطب وحكي، ورفقة حب وخصوبة، كما أنه في احتدام صراعهما معا يلتمس لها العذر، يقول: "أسير وأنا أحاول تفكيك علاقتي بها لأجزاء يمكنني من خلالها إدراك قلقها، أو ريبها. امرأة ترافق رجلا لا يراه أحد سواها، تعيش أمام أهل الجزيرة عزباء، يلاحقها الرجال لجمالها، ثم تظهر لهم فجأة ببطن منتفخة، ثم بولد ترضعه وتحمله علي كتفها، حسنا من هو أبو الطفل إذن؟ وكيف تواجه العالم بطفل بلا أب؟" ص182. يدرك الروائي صراعها في نوعها، ومع المجتمع، كما يطور نظرة بجماليون لمعبودته، التمثال الذي خلقه ثم فتن به، وحين وهبته الآلهة الحياة كما تمني، لم يرض بالحرية كاملة التي جعلته أرضيا. ترك النحات عروس النهر تقرر المواجهة كيفما يحلو لها، في إدراك من الخالق الذي عجنها باستقلالها، لكنه بالنص يتضامن مع "سيمون دو بوفوار" : "لا تولد المرأة امرأة، بل تكتسب هذه الصفة، المرأة كائن ذات عقل وقلب معا" لكنها صريعة مجتمع، تستوي في ذلك والدة النحات وحبيبته.
كما تتبدي ملامح عشق صوفي في كثير من مناجاة النحات لعروسته، يتمثل في الرسائل التي يكتبها إليها يناجيها مثل "أنت معبد وأنا ناسك" ص146 :148، أو في وصفه لطريقة ممارسة عشقهما يقول" .. أتضرع وأنا أقبلها. أمارس صلواتي في محراب جسدها، تعلو روحي فيملأني الخشوع. في حضرتك أغيب عن الوعي، أقول. مع قبلاتك أؤدي شعائري، تقول" ص162، وهو ما يكسب هذا النص رقيا ورهافة مشاعر، لا تغرق في الغرائز، قدر ما تنحو إلي حب يعلو إلي وصوله للاندماج والذوبان في عشق روح العالم، في عشق الوجود متحققا في قطبيه النحات ومنحوتته.
وبالرغم من تلك العلاقة الرائقة بين النحات وعروس النهر، إلا أن طبيعة النص التي استعارت تشككها من شخصية النحات ولا يقينه، يغيّم علي علاقتهما التوجس، فتبدأ تحفظات النحات علي الحب ومراحله، كيف نفقد الشغف بعد تبدد الغموض؟ ونغرق في بحر العادية، تلك التساؤلات التي هي نعوش حاضنة لاستحالة دوام السعادة، لكنها النفوس القلقة، وطبائع شخوص هذا النص.
4 ــ شخوص "كتاب النحات" تخرج من صفحات الأساطير:
في الثالوث الذي شكله الروائي "النحات وعروس النهر وابنها" نلمح أطيافا من موروثات البشرية الدينية، فتُنثر حثيثا ملامح من قصة "العذراء مريم" و"وليدها عيسي"، دون أن تنحصر في رمز شفيف يذهب بالقارئ لهذه القصة، وينغلق الرمز بين جدرانها، لكنها أطياف تتخلل الشخوص دون أن تتلبسهم مستحوذة عليهم كلية. ويلقي الروائي بظلال متعددة تخرج من صفحات الأساطير، تتجول بالشخوص جلهم في ثراء؛ لتخلق امتدادات في الموروث الثقافي، وتغني عالمهم وصراعاتهم مع المخزون في العقل الجمعي لدي البشر.
يدرك الكاتب في "كتاب النحات" أنه يصنع عالما أوجده خالق بشري، لذا يخوض رحلة معرفة مع شخوصه من خلال حياة تتدافع أحداثها ومشاهدها تباعا، وينثر ظلال قصص وأساطير التاريخ البشري، مجسدا بعض ملامحها في شخوص أسفاره. يسرق الرجل المنتصب دائما ملابس النحات وأوراقه، ليهيئ مشروع شخصية ادعائية، تسرق وتدعي الكهانة والاتصال بالخالق، وتنسب لذاتها قدرات لا تملكها. تزرع عروس النهر الأرض، وتحاول أن تطبب الناس، وتحكي الحكايات، وتتشكك في اللامرئي لدي الأخرين، وتلمح شبها قويا بين نحاتها وبين الرجل المنتصب، فتتراقص "ليليت" وتُستدعي من الأساطير، تحلق فوق مشاهد التمرد والتساؤل. يبني زوج الأم مسرحا ويؤمن برؤي خاصة، يحب .. لكنه يرفض الزواج، يرسمه الروائي بمزاج فنان وانفتاح أفكاره، واتصوره الأقرب لشخصية الروائي ذاته، إضافة إلي ملامح مركزة من شخصية النحات.
في مشهد رئيسي بالعمل يصور الكاتب رؤية "الرجل البرميل" للحياة تتشكل أمامه، فيبدع الروائي في صياغة مشهد حيوي ديناميكي، رغم كونه غير ناطق، يقول: "وبينما أنا منهمك في العجن والتشكيل، ألتفت لأري فجأه رجل البرميل يقف بين الشجيرات ويطل عليّ. أنظر إليه فلا ينظر إليّ، يتفحص الصورة بين يدي بعين المندهش، ويهبط مسرعا عندما أتوقف، ليستقر بجانبي دون أن يراني . أواصل عملي ...فيجلس علي الأرض ويتساءل بصوت هامس، كيف تتشكل الصورة بمفردها وماذا سيحدث لها عند اكتمالها ... يتساءل أنكون في الأساس محض صورة من طين دبت فيها الروح؟ أتركه في حيرته وأواصل صنع الأصابع ... يجلس رجل البرميل، يرقد، ينهض، يبقي واقفا، تغرب الشمس وينفد الماء .. يقترب من الصور ويحاول أن يلمسها بلا جدوي، فكلما مد يده ضربته عليها فتقهقر خطوتين للخلف، وأعاد الكرة ليتيقن أن ما زجره ليس محض وهم.."ص130
قد يستدعي هذا المشهد في ذهن قارئه ظلالا متداخلة من قصص الأديان، في لحظات عند قراءتي لهذا المشهد استرجعت حيرة "إبراهيم"، وتقلب وجهه بين السماء والأرض، بحثا عن الخالق لكل هذا الوجود، وتوجيه أسئلته للموجودات، صراخه يتساءل: من ربي؟ في مشهد أخر لرجل البرميل يحكيه السارد وسجلته الأوراق يقول "..أيها الموجود لمَّ تحتجب؟ إن كنت موجودا تجلي." ص166 .
يستحضر الذهن "موسي" النبي، كليم الله، عندما حادث النحات رجل البرميل دون أن يراه، كما يستحضر قصص سيدنا إبراهيم مع الأصنام، تبقي براعة سبك النص في انفتاحه علي تعدد التأويل وعدم انغلاقه علي رمز بعينه.
5 ــ الحلم والمكان وعالم برزخي:
اعتمد النص أيضا علي تقنية الأحلام، وجاءت صياغتها من خلال مشاهد تميل إلي العنف والدموية، ووطأة حضور "لفظ المقاصل" الذي كان له نصيب كبير ومكثف من التكرار، إن وفرنا دراسة إحصائية لمفردات النص، فهي الكلمة التي تحضر بكثافة. منذ وطأ النحات عالمه الجديد تتوالي الأحلام تباعا، يقول:" أري شوارع واسعة جدا وخالية إلا من مقاصل وسلالم وبالوعات وشرفات، وبينما أسير وحدي من شارع لأخر، مرعوبا من المشهد الضبابي، تنشق الأرض فجأة ويخرج منها رجال بطونهم منتفخة ويسيرون علي ظهورهم، رجال كثيرون حد أنهم يملؤون الشارع العريض ... فيظهر في الشرفات رجال ضخام الجثة، ينزلون بأقدامهم علي البطون المنتفخة ويسيرون فوقها بخطوات عسكرية، فتنفجر بشكل متتابع، وتطرد مياهها حد أن الشارع يتحول إلي بحيرة ... ومن هناك أري رقابا معلقة بالمقاصل، ورقابا أخري تطير بالسيوف ...أركض وعندما أصل لشارع آخر أنتبه لقدمي مكسيتان بالدماء، فأنظر خلفي لأجد البحيرة حمراء ولزجة.."ص21، 22
يلتقط النص الواقع الذي دفع النحات للرحيل من عالمه، وبتحليل أحلامه التي تراوده في نومه، نكتشف أنه هارب من عالمنا الواقعي الذي يستدعيه لاوعيه، ففي لحظة كتابة الروائي للنص منذ عام 2012 م، وحتي الأن، أطلق الكثيرون مقولة الحاكمية لله، وكأن الإله الفوقي ينزل إلي الأرض بتنزهه المطلق ليحكم .. يستدعي "كتاب النحات" البشر الذين يتخذون الله ذريعة لفرض سلطتهم، ويتصورون أنهم وحدهم يمتلكون الحقائق التي يريدها الله، ليتلبسوا مقولاته، وينطقوها تبعا لمصالحهم. خطوة عسكرية، بطون منتفخة ومقاصل، وبحيرات دماء وسيوف ورقاب تتطاير ..، أنحن في أسفار الخلق وأيامه التي توالت ستة أيام بعد أخري، أم منغرزون بأرض سيناء وربوع مصر؟ والدماء التي تراق فوقها، أنحن مفارقون أم منخرطون بالواقع؟ لمن الحكم والسلطة؟ لرجال يحتكرون الدين أم لرجال يعسكرون الحياة، ويحولونها لوجود أمني قمعي واحدي؟
علي أية أرض يقف بنا هذا النص وفي أي مكان وبأي تاريخ؟ من هنا نستطيع أن نقول أن تقنيات الروائي المتداخلة والعميقة والواعية، ترسلنا إلي عالم عميق الدلالات والتأويل مفارق ومنخرط حتي النخاع. عالم برزخي مابين الواقع والحلم، وهنا تتداخل تقنية الأحلام مع عدم تحدد مكان الرواية، ليوجدا مكانا مفارقا للواقع يدور فوقه عالم القص، تراها حياة بعد موت النحات!! كأنه عالم مابين الحياة والموت، برزخ مابين الحقيقة والحلم، تراه وجود الإنسان علي كل الكرة الأرضية..!! تراه المكان الذي يتكرر فوق كل أرض والبشر الذين يتكررون!! تشي ملابس الشخصيات بانقسام الزمن وتنوعه: تبدو الملابس حديثة في الأحلام والهوامش، قديمة فيما أصطحبه النحات معه في جزيرته، كأن الزمن ممتد والمكان متعدد لا نهائي، أيعرض هذا النص قصة وجود قديمة متجددة؟ أظنه يفعل ذلك.
6 ــ سرد السؤال:
يتميز السرد في نص "كتاب النحات" بزخم الأفكار التي تراود النحات وتوالدها، الخالق الذي يخالف الآلهة التي عرفها البشر في السابق: الآلهة المتعددة أو الأرضية أو الإله الواحد في الأديان السماوية، هو أقرب إلي إله بشري ترك منحوتاته لطاقة الكون؛ لتبعث في أوصالها الحياة، ولذا يبدو متأملا، حائرا، متشككا، يري الخلق أمامه يتكون بكرا، لأنه لا يشاهد فترة زمنية سابقة عرفها أو ألم بتفاصيلها، ما يحدث أمامه هو ما لم يكن قد رأه في الحياة السابقة، التي يعيد نسجها مرة أخري. هيئ لي وانا أقرأ الرواية أن هذا النحات جاء الجزيرة وهو يعلم ما سيصنعه، يبطن أنه سيلهو مع الخلق في تجربة وجود مغاير، طرح غير قمعي لتفسير الوجود، وهو ما يرسلنا لكاتب النص الروائي "أحمد عبد اللطيف" ذاته، أسئلة من نوع مغاير.. البشري في الإلهي، والكوني العام في الخاص الفردي، إعادة تأويل الخلق في نظرات عميقة.
وبالرغم من الثقل الفكري والفلسفي الذي تحمَّل به المفردات، وتركة الموروثات والمعارف، ومنظومة القيم التي يعاد فيها النظر، ويكتظ بها السرد، إلا أن أسلوب الروائي يميل إلي الانسيابية والهدوء والعمق، يتقدم النص في نسج أوجه الصراع بكلمات مغسولة بمياه قدرة كاتب قابض علي محاور سرديته، عميق النظر في العالم، موظفا للغة تتسق وعالم الخلق، قادرة علي صوغ كيف تفتح عوالما، وتطلق أفاقا وتمهد طرقا، وتنشأ مقومات حياة.
لذا تميل الجمل لشروط الصوت الذي يخلق، أو ينحت أو يصور، العالم الذي يشرع يتشكل يبدأ بفعل .. ثَمَّ حدث في طور الاستمرار الدائم، في كل الجزء المحكي علي لسان النحات، يصبح المضارع المستمر هو سيد اللغة التي تنشأ. متي يقف التدفق أو يستمر؟ حين تحتار الأسئلة، ولاتجد إجابات، أو تتوالد منها أسئلة أخري، ايضا عندما تخرج تصرفات منحوتاته عن نطاق فهمه. كما يختار الكاتب في بعض فقرات روايته أن تنداح الجمل، فتختفي علامات الترقيم، وكأنه نوع من التدافع، بداية الخلق ووقت البحث لا التحدد. اللغة لا تُقلق قارئها رغم تضمنها لأسئلة الوجود الرئيسية، بل تبدو انسيابية رغم ما تحمله من وعورة أسئلة الفلسفة الأولي العميقة، تتوغل بداخلنا وتأخذ أمكنتها لتقيم في صحبة السؤال، باستطاعتها أن ترجّ القارئ داخليا، والروائي بهذا الصنيع يفتح ثقوبا في جدار قصة الخلق البشري، يحدوه أمل أن يجد عالما يخلو من المقاصل، وبالوعات مخلفات أطماع البشر، وغرائزهم الوحشية.
تُغلِف اللغة في "كتاب النحات" عدة أغلفة ملونة وموشاه بمياه الفن الذهبي، الذي يتجدد رونقه كلما أعيدت قراءته، ترتقي المفردات صوفية، مغسولة بخلاص وروعة إحساس العارف بعد مكاشفات حانية بينه وبين ذاته التي هي محبوبته، في جوهر الوجود .. حين تمتد الحوارات بين النحات ومعشوقته، وتتجلي حين يقول في رسالته إليها: "أبدأ يومي بتراتيل عشق لا يسمعها سواكِ، أؤدي صلواتي برضا من لا يشرك بمحبوبته شيئا سوي عبقها، وأنفاسها التي تنفخ في برودتي فتلهبها. أشتم أريجك في وسط النهار فتتجدد روحي، وأشعرك تعبرين بخلايا جسدي فتمنحيها حياة.."ص146. يتلون غلاف آخر حين تقص عروس النهر علي النحات في رسائلها، قصة هذا العالم الذي يتخلق، فتتخاطر جمل شهرزاد من ألف ليلة وليلة، وتصبغ سرد عروس النهر بهذا السحر القادم من ذلك العالم وغرائبه حين تبعثه من موت الانقضاء إلي فضاء الحكي: "بلغني أيها النحات الطيب أن الكاهن الذي كان في ظاهرة يدعو إلي الفضيلة والزهد كان يحمل في داخله النزق وحب الدنيا، وأن السلام الذي كان يدعو إليه لم يكن إلا دعوات مستمرة لحروب لا قبل لأحد بها." ص151، أو حين تستشرف ما يمكن أن يحدث بالجزيرة فيما سيأتي من الأيام .
في السرد الخاص بالرجل المنتصب تميل اللغة لطقس الكهانة، وموسيقاها المغيبة نسبيا للعقل، بما توشي به من سجع وجناس، ومحسنات بديعية أخري، يقول عنها النحات إنها تراتيل، كلاما يشبه سجع الكهان، يردد الرجل الكلمات مرات عديدة دون ملل. ص137
في لغة السارد العليم تشعر برائحة الأوراق القديمة الصفراء، ويداخلك رهبة تاريخيتها، يتواشج ذلك مع شعور أنك في سرادق ممتد بوسع العالم، وأنك أمام شاعر ربابة يتغنى بحكايا الشخوص، ومصائرهم وفجائعهم في الحياة التي يطويها طيات واسعة، تتضمن بداخلها الموت والحياة في منظومة قدرية، هبطت دوما من السماء التي تهوي الفجائع، يقول السارد العليم قاصا صنيع عروس النهر بعد اختفاء النحات: "خرجت لأهل الجزيرة وأخبرتهم أن رجل القضيب لم يكن يوما زوجها وأن الابن الذي تحمله علي كتفها ليس ابنا له، فلما سألوها عن أبي الابن أجابتهم أنه محتجب ولا يمكن رؤيته فقرروا من تلقاء أنفسهم أن يقتلوها ويقتلوا طفلها" ص211.
في لغة النحات تتبدي سماحة الخلق وعلوه، ويشيع القلق بلغة رجل البرميل، والسخرية في لغة زوج الأم، تنحو لغة الثلاثة إلي منطقية وبرهانية لغة سؤال الفلسفة، عدا اللهجة الساخرة التي تمييز لغة الفنان المسرحي، بل وتميل إلي السوداوية النسبية؛ لأنه يؤمن أنه ما من حقيقة سوي الوجود في ذاته. ص137 هذا بخلاف اللغة الصدامية التي تميز لغة رجل البرميل، ثم تحولها بعد المواجهات وإيذاءه إلي لغة انسحابية. وتتنوع طريقة رسم الكاتب للحروف والمفردات في كل منطقة من التي أشرت إليها سابقا، في وعي وأدراك منه بالمستويات التي يتضمنها نصه من موروثات وثقافات متداخلة، وفروق نوعية وسيكولوجية.
7 ــ النموذج البشري والإله:
ينوع "عبد اللطيف" في شخوص الرواية "وتظل نوافذ ذهنه مفتوحة" كما يقول الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس"، لا تقبل التقيد بنماذج معده سلفا في عالم النوع الأدبي "الرواية"، ربما اكتسب جرأته علي الخلق وحرية التخيل تلك ــ بجانب موروثه العربي، وطبيعة رؤيته لفلسفة الإبداع ــ من دربته مع الأدب الأسباني بمذاهبه الغنية، وترجمته له، فيرسم بطل نصه النحات مفارقا للواقع، خالق أكثر عدالة، يميل إلي رفض الجبرية والسلطة العلوية، يترك الإنسان لاختيار أقداره، تحكي الأدبيات العالمية: أنه من أكثر أمثلة التفرد التام في الوصف والتشكيل فكرة الله، وما يشبهها، ولقد أكد التراث المسيحي مرارا أننا لا نسمي الله أو نصفه، وبالرغم من ذلك لم يتهيب الكاتب هذه المنطقة الملتبسة، ونسج عالما فنيا مبنيا علي مناوشة الموروث، رغم اللحظة التاريخية الاجتماعية التي كتبت فيها هذه الرواية في مصر، فترة تحكَّم الجماعات الدينية والسلفية في شئون مصر، والقيود التي كانت موضوعة علي الإبداع بصوره كافة، خالق يحاور ذاته، ويسائلها يقول تحت وطأة صراعه مع الرجل المنتصب: "لماذا لا أسرق أوراقه وأستريح؟ أتساءل، رغم علمي أنني لن أفعل . ولماذا لا تريد أن تفعل؟ أتساءل بصوت عال. لأنني لا أريد أن أشكل المصائر بقدر ما أريد أن أري كيف يتكون العالم علي مهل، أجبيني. لكنك قد تفتقد عروسة النهر؟ أحذرني. وما جدوي الحب المتململ! وما الهناء في حب يضطر أحد طرفيه إلي السير في طريق الأخر لمجرد إرضائه! أجيبني.." ص117 . يبقي حوار النحات مع ذاته دليلا حاضرا بكثافة في كل فقرات النص، وهو ما يؤكد طبيعة هذا الخالق الذي لا يستقر له يقين، وهو ما يخلخل فكرة الإله في أذهان الخاملين من البشر.
يبدو هذا النحات كأنه يتذوق عملية الخلق بتمعن، يعشق الخلق وصراعاته، وتشكله أثناء مراحله، ويطيب له أن يتمهل الأحداث ليري تفاصيلها، ويدرك فلسفاتها، وكوامنها النفسية، يصنع منحوتاته ويقتنص شرر ومضة المعرفة المصفاة، حين تقدح كل شخصية الشخصية الأخرى، بما تحمله كل واحدة من غرائز وأطماع وأحلام. تتبدي شخصيات النص الأخرى بين الشخصيات العادية، أو ذات السمات والطموحات الواسعة، بعضها يحمل تساؤلاته الوجودية الحائرة، وبعضها الأخر تدفعه الحياة بقوتها الذاتية.
يظل الفن هو الكثافة التي تحمي الإبداع من الغرق في عالم الفكر خالصا، ولذا تبدو شخصيات كتاب النحات من أول أسمائهم إلي جذور صراعهم الداخلي، تشكيلا روائيا يؤكد علي فرادة الفن وتميز تأثيره. كأن الروائي من خلال شخوصه يكثف النماذج الرئيسية التي تترك بصماتها علي هذا الوجود، دعونا نعيد رؤية هؤلاء الشخوص بطريقة أكثر تجردا، نحن بإزاء مزيج من نماذج بشرية مثلت: الكهانة بمراحلها الوثنية، وغريزة الجنس، والنبوة، والفلسفة، وشخصية الفنان المسرحي، والتشكيلي، الأم، والمرأة الحكاءة المحبة والمتمردة، والعادية بائعة اليناصيب، التي لا تعرف سوي السعي والتأقلم والانصياع، وفوق كل هذا معني جديد للإله.
يمثل الرجل المنتصب توليفة متداخلة بين الكاهن والنبي والولي، ولا ينحصر في معني محدد، ولا في كونه رمزا قد يرسلنا لشخصية أحد الأنبياء بعينها، ينسجه الروائي من خيوط متنوعة، قد يرسلنا كل منها إلي نبي من أنبياء الله: محمد أو عيسي أو موسي أو سليمان.. وقد يحتمل صفات الجن أو الملائكة، تقول عروسة النهر في إحدى رسائلها للنحات وهي تلخص المراحل التي مر بها تاريخ البشر: "يتكاثرون ثم يشيخون ويموتون فأصابهم الضجر .. ومع كثرة الأسئلة ظهر المجيبون، وانتقلت السيادة من الكل إلي الفرد وسيطر الكاهن علي العقول بكلامه المسجوع حينا، والمعسول حينا، فصدقه من صدقه، وآمن به من آمن، وخاف منه من خاف، واجتنبه من اجتنبه. فانقسم أهل الجزيرة بين مؤيد ومعارض ... وظهر البطل الضد وأضداد البطل وتكونت الحكايات وتكاثرت لكن الأسئلة لم تتوقف كما انتظروا." ص150،151 يقول النحات متسائلا أيضا "كيف يستطيع الرجل إشفاء المرضى وتحقيق الأحلام وخلق الآمال؟ كيف استطاع أن يفهم أن منح الأمل في حقيقته يمثل مفتاح الحياة وزمام السلطة؟" ص153
اللافت للنظر أن الروائي وهو يخلق شخوصه يدرك أنه يصنع نماذج محورية وفارقة بالعالم، فهو لا يشخصن الأفراد قدر ما يجعلهم رموزا، وكنايات واسعة، تحتمل تعدد التأويل، يتميز الرجل المنتصب دائما بأنه يمثل جانبا رئيسيا من محددات الحياة، الجنس وثقل تأثيره في حاجات البشر، وإن كنت أتصور أنه لا يمثل الجنس كغريزة خالصة، قدر ما يمثل الإفراط والانخراط في الأطماع والغرائز بأنواعها، ولذا يتميز تشكيل الروائي له بجانب كاريكاتيري، يضخم من هذا المحدد. وكما يعد الجنس أداة متعة وإشباع غريزة، إلا أنه يعبر عن إخفاقات الإنسان بالحياة وفيه تنحصر المحاولات التعويضية للانهيارات الإنسانية في الحياة وتعويض عدم التحقق.
كما أن نموذج الرجل المنتصب يعد نقيضا فاضحا، لعلاقة أكثر رقيا وتساميا بين عروس النهر والنحات، يضع الروائي الاثنين في مواجهة كاشفة لطبيعة وأشكال الاتصال الإنساني، وتنوع عواطفه، ليدرك قارئه قيمة الحب في مواجهة مع الجنس المجرد من العاطفة. وبالرغم من أن النص يقوم علي فكرة النحت إلا أن الروائي يبدو شبه زاهدا في الملامح الخارجية، إلا فيما يختص بوصفه لعروس النهر، التي يبدو لعشقه لها، كأنه يتذوق تفاصيلها في حلمه أولا، ووقت أن نحتها، وتدلل هذه المقاطع علي قدرة الكاتب علي تشكيل لغته والتلون بها، ونحتها ببراعة ما يتطلبه السياق الوجداني الذي يتناوب شخصياته، وفيها يبرز النحات تشكيليا مبدعا، يعشق خياله، وما تصنعه يديه وروحه، ص81،82، ص96،97، ص 109.
7 ــ لعبة الأسماء في كتاب النحات:
كثف الروائي المحاور الرئيسية التي تقوم عليها أسس الحياة بهذا الوجود، الدين، والاقتصاد السياسي، والحب والجنس، والفن، ومكملات أخري .. تدعم أو تفكك هذه الأعمدة التي تدور في فلكها الحياة. لماذا يصبح الرجل الكاهن أو مدعي التنزيل من الخالق اسمه "ذو القضيب المنتصب دائما"؟ وكيف يقترن هذان المحوران في الحياة؟ وكيف آل الأمر بالرجل الباحث عن حقيقة الخلق، وسر الخالق إلي "رجل البرميل"؟ لماذا التساؤل الدائم المتحري للحقيقة مصيره هذا التقوقع، في ظل مدينة وعالم يسوده التوحش والخواء الفكري والنفسي، وما هو سر غرابة تلك الأسماء غير المتداولة في النصوص العربية، لماذا لا يكون للنحات اسما أخر سوي أنه النحات؟ لعله لا ينحت الأشكال، قدر إرادته أن ينحت مفاهيم أخري في هذه الحياة.
الأصل واحد والفروع متعددة .. مع تقدم النص يتضح أن الثلاثة نماذج من الشخوص .. أقنعة للإنسان الواحد، ثلاثة تواءم تفرقت بهم السبل، وتفرقت بهم التوجهات والرؤي إلي مناحي حياة متباينة، إلا أنهم الإنسان في كليته وصراعاته، وما يتضمنه ويتنازعه في الحياة، بداية من شعوره أنه ذاته الإله، كما مر بأدبيات المتصوفة: "السهروردي"، "والحلاج"، إلي شعوره بأنه مرسل من الإله، إلي بحثه عن الحقيقة متوسلا بالعقل الفلسفي أو العلمي. يتساءل النحات وهو يري لحظة ولادتهم: "أيكون التمثال الطيني الذي كان في غرفة أمي تمثالنا؟ كان منحوتة بجسد واحد وثلاثة رؤوس اختفي يوم اختفت أمي، دون أن يخطر ببالي أن أسألها من هؤلاء الذين يمثلهم التمثال" ص185. وربما هذا ما يفسر لعنة الشبة التي تسيطر علي الجميع في نهاية رحلة الحياة.
يجرد الروائي شخوصه من كل مكملات الشخصية الظاهرية، ويحاول أن ينحت منحوتات مصفاه، مجردة، إلا مما تمثله في النهاية. يظل التكوين الاجتماعي المتعارف عليه منذ قديم التاريخ البشري، العمود الفقري لمحاور النص الرئيسية: الأم، والأب، وأحيانا العشيق، أو الذي سيصبح زوج الأم والأب الفعلي، الفنان الذي يرفض فكرة القيد حتي تحت وطأة الحب، الأبناء الذي يصبحون مع اختلاف الطبائع بعضهم لبعض عدوا، وتتكرر قصة قابيل وهابيل بأشكالها المتباينة، ولأسباب محورية في الحياة، تنضوي جميعها تحت الطمع البشري: طمع الاستحواذ أما علي فكرة ويقين افتراضي، ويتضمنه دائما الدين المسيس، أما علي المرأة، وهنا ينقسم التوجه أما عشقا وتولها، أو جنسا ومتعة جسد لا تنتهي.
تبقي شخصية "بائعة اليناصيب" هي الأخرى رمزا لدور قديم التصق بالمرأة، تؤديه دون أن تكون لاعبا بارزا في الحياة، أو مؤثرا بعنف، لكنه دور المسيَّر للعيش وشئونه ومقتضياته، دور السند للرجل في بحثه عن الحقائق والمهوّن عليه، دور التابع الذي لا تستمر الحياة إلا به، لكنه لا يدخل ضمن صراع عنيف، لأنه غير فاعل بقوة أو ضمن أطراف صراع، وهذا النموذج من الشخوص ضروري ومهم، يشبهونه بملح الأرض. يشيد بها النحات لدأبها وتكيفها، وكونها سندا، كما يحسب لها محاولاتها الدائمة للإنتاج دون أن يعوقها عائق :تجارة أو زراعة أو حياكة، دور المرأة الرئيسي بالوجود كما ارتضاه الرجل، خاصة إذا ما اقترن به أنها ثرثارة، ولذا شكلها النحات طويلة اللسان كما رسخت الثقافة الذكورية.
يقدم النص النحات فنانا أو إلها أو الطبيعة إنسانا، خالقا لن يرضي أو يهدأ تجاه أي معني أو قيمة أو شخص، حياة تتجدد، تولد فيها الفكرة ثم ما تلبث أن تواجهها فكرة أخري ليتصارعا، فتنشأ ثالثة لا تصمد كثيرا للثبات كما يذكر "هيجل"، حين خلق النحات الحياة بالجزيرة لم يتدخل لينظم حركة العيش بها، لم يهدي البشر لكنهه أو ذاته، ولذا صارعت الأفكار والتصورات التي تصورها البشر بعضها البعض، ولذا أيضا توالد الشك والصراع. يقول النحات لرجل البرميل بعد أن سمع خطواته "أنا هنا غير أنني لا أرعاك، ولا أريد أن أتدخل في مصيرك، بيدك وحدك أن تسير في الدرب الذي يروق لك، وبيدك وحدك أن تصنع سعادتك أو تعاستك، لك إرادة واختيار، ولك عقل وحرية، ولك حياة، أقول له . وماذا عن الكاهن؟ ألست الصوت الذي يدله وينبئه بالغيب؟ يسأل بنبرة حادة، ومتمردة. ولماذا تصدق الكاهن؟ ولماذا يجب أن يكون هناك صوتا ينبئ بالغيب ويرسم حيواتكم ويفرض عليكم طقوسا؟ ولماذا يجب أن تمنحوه سلطة لم أهبها أنا له؟" ص156.
يعد هذا مفهوم الإله الذي يريد الكاتب أن يجعل نحات نصه يؤكد عليه، أن يكون العقل بعلومه وفلسفاته، الارادة والحرية، البعد عن وهم الخرافة والغيبي، هم آلهة الإنسان المعاصر، وهي دعوة لعدم الاستعباد، دعوة لامتلاك المصير باستخدام العقل.