مقدّمــة
بعد مجيء رواد النهضة الأوائل (الطهطاوي والتونسي والأفغاني) ظهر الكواكبي ليدفع قدماً مشاريع من سبقه، في محاولة التأثير على السلطات السياسية، وتطوير المجتمع - ثقافياً - ليعي دوره في النهضة والتقدم، فكان الكواكبي محصلة اطلاع المفكرين العرب على الفكر الغربي ومزجه بالتراث العربي - الإسلامي. لقد ظهر الكواكبي في عصر تفاعلت فيه عدة حركات معاً: حركة اليقظة العربية الناشئة وانتشار الوعي، ومقارنة الماضي المشرق بالحاضر المرّ، وظهور إرهاصات الفكر القومي، والمناداة بالحكم الذاتي للعرب بالاستقلال عن الدولة العثمانية. وحركة الرأسمالية الأوروبية الصاعدة التي نقلت تجربتها التحررية إلى العرب. ومحاولة أوروبا الاستعمارية تجاه المنطقة العربية. واستماتة الدولة العثمانية في محاولة الحفاظ على بقايا هيمنتها ونفخ الروح في الرجل المحتضر. وكانت هناك أحداث لبنان، وتجرؤ (محمد علي) على العثمانيين. إن الكواكبي يمثّل جيلاً متأخراً من المصلحين المجددين في القرن التاسع عشر الميلادي، مما أتاح له أن يشهد تلك الأحداث والصراعات السياسية والفكرية كلها، فأثّر ذلك في وجدانه، كما أثّر في معاصريه.
تجارب الكواكبي والتكوين:
وفضلاً عما سبق، نجد عوامل شخصية تكوَّن بعضها من خلال معاناة الكواكبي في أثناء صدامه مع الحكام المستبدين وأعوانهم من المنافقين، ذلك الصراع الذي بدأ بتعطيل صحيفته "الشهباء" ثم "اعتدال" حيث قابل الاستبداد مواجهةً في وقت مبكّر من حياته العملية على الصعيد الفكري. فقد حيث هجر صحيفة (فرات) الرسمية التي وجدها مسيرّة سلطوياً، وأنشأ صحيفة خاصة باسم (الشهباء). ولم تكن حادثة تعطيل (الشهباء) ثلاث مرات، ثم منعها نهائياً، بأمر من الوالي (كامل باشا) هي الحادثة الوحيدة في صراعه مع السلطة، فقد عطّل (جميل باشا)، والي حلب، صحيفة (اعتدال) أيضاً، واغتنم فرصة إطلاق النار عليه لاتهام الكواكبي بالتحريض على قتله وإيداعه في السجن. ويُلقى حجر على القنصل الإيطالي فيُتهم الكواكبي. وكان (أبو الهدى الصيادي)، وهو موالٍ للدولة العثمانية، يتربّص بالكواكبي ويحاول، بمساعدة الحكام، إفشال أي عمل إصلاحي يقوم به، والضغط عليه في أي تجارة يقوم بها، أو مهنة يمتهنها. ووصل به الأمر إلى دفع شخص لقتل الكواكبي(1). ولم يكن الكواكبي أوفر حظاً مع الوالي (عارف باشا) صديق (الصيادي)، فقد أرسل الوالي رجال حرسه لمهاجمة منزل الكواكبي، مستنداً إلى تقرير ملفَّق يُتهم فيه بتواطئه مع الإنكليز لتسليم حلب إليهم، وحكمت عليه المحكمة الابتدائية المزيفة بالإعدام، وحين تحولت المحاكمة إلى محكمة حيادية في (بيروت) بُرئت ساحته، بعد أن قضى ثمانية أشهر في السجن.
فساد الواقع:
لقد كان لتلك الحوادث أثر كبير في توجهات الكواكبي الفكرية، ولا سيما أنه لم يكن ينقصه ذلك الشعور المفعم والدراية الواعية لما يحيط به. وقد انعكس ذلك على نشاطه منذ كتاباته الأولى في (الشهباء) حيث سيطرت على فكره الشؤون السياسية وما يعتريها من فساد إداري وتنظيمي كبيرين، غالباً ما يردّان الى أصول دينيّة. هذا في حين يرى الكواكبي أنا الأديان تدعو إلى السلام والمحبة والإخاء. وتحثّ على التعاون، وعلى إتيان الخير لصالح الإنسان. وما الاستبداد الذي يُمارس باسمها سوى استبداد فكري - نفسي يستغل ما في قلوب الناس من إجلال تعاليم الديانات ليتمكن من الاستحواذ على عقولهم وقلوبهم معاً. ويتدخل السياسي، القادم من (الثري/ الأصيل/ المتعمم) مستعيناً بالإيديولوجية التي فرضها رجال الدين المزيفون. يستخدم هؤلاء المتعالين ليستبدّ بالسلطة السياسية. ولأن السياسي يعرف مدى احترام الناس لما يُطرح باسم الدين، فإنه يستخدم بعض المفردات الدينية لتحقيق أغراضه الدنيوية الخاصة. ويتكئ الاستبداد السياسي على الاستبداد الديني، ويتعاونان معاً على قهر العامة. إن الاستبدادين ينشآن متساوقين، يعين كل منهما الآخر، ويسود السياسي الذي يملك قوة الجيش القاهرة.
إن تداخلاً عميقاً يُلاحظ بين كل من الاستبدادين: الديني والسياسي، لكن السياسة لا تستبد، كما أن الدين لا يمارس استبداداً. إن المفاهيم أو القوانين أو القيم لا يمكنها مطلقاً أن تمارس أي استبداد. إن الاستبداد يأتي دائماً من شخص يقوم به ويفرضه بالقوة على الآخرين، مستغلاً غفلتهم وتكاسلهم واستكانتهم. إنه يستبد مستنداً إلى نقاط الضعف في النفس البشرية، ويعزّز مرتكزاته بأساليب القوة غير الشرعية، ويصطنع أهدافاً مشتركة بينه وبين الجند، والمتعممين، والمتعالمين، والمتمجدين، والأصلاء، والأثرياء. كما أنه، بمساعدة من هؤلاء، يكوّن التفافاً على الجماهير ليقنع العامة، بالتسويغ أو بالسيف، بأنه رمز الوطن، وأن الحفاظ عليه يجب أن يكون هدف الجميع.
ذلك كلّه يساعد على تشويش العقول وزعزعة الإيمان بالمبادئ، مما يؤدي إلى تردّي الأخلاق واستبدالها بالسنن التي يضعها المستبد للاحتذاء بها. فيصبح المبدأ الوحيد الذي ينبغي تحقيقه هو مبدأ الاستبداد، فينقلب الناس إلى مستبدين صغار في كنف المستبد الكبير، وتنتشر العلاقات الاستبدادية بينهم مما يساعد على نشوء الاستبداد ودعم بقائه، مادام المقهورون أنفسهم قد دخلوا في دائرة التبشير به من حيث لا يعلمون.
ومن مُجمل ما قاله الكواكبي، هنا، يُلاحظ أن للاستبداد أثراً سيئاً في كل ماله علاقة به. فهو يبذر الشر في كل مكان، وفي كل ميدان تصل إليه يداه. فيحوّل الدين إلى أيديولوجية Ideology تبشّر برؤيته الخاصة للأمور. وهنا يظهر أن الدين لم يعد عقيدة سماوية تدعو إلى خير الإنسان، بقدر ما يُتخذ منه رئة اصطناعية يتنفس من خلالها فكر المستبدين، وينفذ إلى عقول الناس وقلوبهم، عن طريق النفوس التي أصابها الاهتراء من كل جانب.
حاول الكواكبي أن يبحث في "أم القرى" أسباب الفتور الذي أصاب الأمة الإسلامية، فرأى أسباباً كثيرة، أدت إليه، منها: عقيدة الجبر والزهد، والكسل؛ التي تتنافى وجوهر الإسلام الذي يدعو إلى تحرير الإنسان، والصوفية التي تم اللجوء إليها بعد أن حدث التشدد في الدين، وانعدام التنظيمات، وفقدان الاجتماعات والمفاوضات، في حين أن الإسلام أتاح للمسلمين فرصة الالتقاء والتشاور.
أدلجة الدين:
لخّص الكواكبي في الاجتماع السابع من مؤتمره الأسباب الدينية للفتور، والتي مهّدت لهذا الانحطاط الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب، وجعلت العقيدة الدينية وقفاً على بعض المنظّرين يفسرونها كما يهوون. إن ذلك جاء من انتشار الجهل والكسل، إذ تراخى العلماء والكافة مما سمح لعقيدة الجبر بالتأثير على الناس، وأصبح الناس يتعلقون بالمزهدات التي روّج لها المدلّسون. والفتن التي أدخلت في متاهات الجدل في العقائد الدينية مما ولّد التفرق في الدين إلى شيع ومذاهب، وأفشى الذهول عن سماحته وسهولة التدين به. كما سمح بدخول ممارسات وعادات لاعلاقة للإسلام بها. رافق ذلك تشدد ومغالاة في الدين، في حين راح بعض المتعممين يخلطون في تفسير الآيات بسبب جمود كثير من العلماء وتشددهم بالاكتفاء بتفسيرات السلف.
والكواكبي، بدوره، ينقد الشيوخ المهملين الواهنين، ويعتب على رؤساء العلم والدين. وهو بذلك يشترك مع (محمد عبده) الذي وجّه نقداً إلى (أهل الجمود) في كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية"، رافضاً أن يتقيّد المتأخّر بما قاله المتقدّم بخصوص الاجتهاد. ورأى الكواكبي أن حل هذه المشكلة يكون في حملة دعائية صحفية تقضي على تراجعهم وجمودهم، لأنهم هم الجسر الذي يعبر عليه الجهّال لإنشاء الاستبداد الديني. إن الكواكبي يدرس، هنا، المنحى النفسي للتدين، أسبابه، تطوره، ومواقف الناس تجاهه. ويشرح لنا كيف أن بعض المراوغين يستغلون هذه الحاجة النفسية في الإنسان ليسيّروا مصالحهم عبر إحداثهم فجوة في النفس البشرية عند البسطاء. إن الإله يملك المعرفة كما يمتلك القوة.. قوة أن يحيل الكائن إلى عدم، بل هو المعرفة والقوة. وتمثّلاً بالإله يحاول المستبد تجهيل الناس ليبدو هو العارف الوحيد، مستعيناً على ذلك بزبانيته المؤدلجين، ويسلب القوة ليبقى وحده مسلحاً بجيش من المرتزقة، ليمكنه بعد ذلك أن يدّعي الألوهية. فالاستبداد السياسي تسبقه، وترافقه، إيديولوجياً متلبّسة بالدين، تمهّد له.. فيحلّ الحاكم محلّ الإله.. ويصبح هو المنوط بوضع الشرائع. من هنا يأتي تغليب السلطة على الشريعة، ويدخل المستبد في طور مشاركة "الله" في الجبروت. إن المشكلة جاءت إذاً في تشويش الدين والدنيا على العامة من قبل العلماء المدلسين الذين أفسدوا الدين، في حين وقف العلماء الحقيقيون موقف المتفرج، ولما رأى المتعممون أنه لم يعد بوسعهم الحفاظ على مراكزهم مقابل السياسي الذي يمتلك القوة، انضموا إليه مبشرين بعظمته. إن هؤلاء المدلسين حافظوا على مراكزهم بالتواطؤ مع الساسة الذين بدورهم، استغلوا سلطة المتعممين لإخضاع العامة، وعملوا على إرضائهم والرفع من شأنهم. فأنشأوا لهم تكايا البطالين الذين، مقابل عطاياهم، يشهدون لهم بالقدرات الخارقة التي يسترهبون بها الناس، ويجعلونهم ينصاعون لأوامرهم، ويعتقدون بما يقولونه عن عظمة أصحاب الجلالة العظام. إن المتعممين والسلاطين تبادلوا الألقاب المفخمة (والمفخخة)، وتعاونوا على إرساء القواعد الاستبدادية في مناطقهم، ولم يأبه أحد بالويل الذي وقع على رأس العامة من جراء هذا الاتفاق.
إن السياسة تتكاتف مع مدّعي التفقّه في الدين، إذ يعطي كل منهما الآخر ما ينقصه ليبني استبداده. فالديني يملك الفكر الذي يمكنه بواسطته أن يسيطر على الأمة، إلا أنه يفتقد القوة التي بها يحافظ على استبداده، فيلجأ إلى الاستعانة بالسياسي الذي يمده بتلك القوة التي تسد ثغرة المعرفة بالعنف. إن السياسيين يحاولون، عن طريق الترغيب أو الترهيب أو التضليل، الاستعانة بالمتنفذين الدينيين لإعادة صياغة الدين، لا لتجديده وإنما لأدلجته، محاولة منهم لتبرير أفعالهم في الحاضر. وهكذا الديني يتمفصل مع السياسي لإشاعة الاستبداد. إن الكواكبي يرد على من يرمي الإسلام بالاستبدادية، ويرى أنه لا ولاية لأحد في الإسلام، وإنما الخضوع "لله وحده". ويبدو أن هذا الرد موجه، بشكل خاص، إلى مفكرين اثنين، (الفياري) حيث يرى أن الأديان كلها تؤيد الاستبداد، و(مونتسكيو) الذي يرى أن الحكومة المعتدلة تلائم النصرانية، والمستبدة تلائم الإسلام. يقول مونتسكيو في مؤلفه السياسي: إن «الدين النصراني بعيد من الاستبداد المحض، وذلك أن الإنجيل يبلغ من الإيصاء بالحكم ما يعارض معه الغضب الاستبدادي الذي ينتقم الأمير به لنفسه ويزاول جوره». ومونتسيكو مع مثالية تصوراته الأخلاقية الصرف عن الحل الذي فسّر بموجبه سماحة الحاكم الذي يعتنق النصرانية، نجده يهاجم الإسلام، الذي يبدو أنه يجهل حتى أبسط مبادئه، قائلاً: «فالإسلام الذي لا يتكلم بغير السيف يؤثّر في الناس بروح الهدم التي أقامته». ويمضي الكواكبي، في رده على مثل تلك الأقوال، مضيفاً أنه «لامجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد»، لأن الدين الإسلامي أباد الميزة والاستبداد، وهدم الشرك، ومنع التقرب إلى "الله" بواسطة أحد، كائناً من كان، ودعا إلى الحرية في القول وفي العمل.
وليس الإسلام وحده الذي يفعل هذا، بل إن الأديان المعززة بالكتب السماوية، كلها بحسب رأي الكواكبي، تدعو إلى الحرية وترفض الاستبداد. لقد «بني الإسلام بل وكافة الأديان على لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم» فمن أي باب دخل الاستبداد إلى الدين؟ المشكلة ليست في بنية الدين نفسه، بل فيما دخل إليه من تصورات زيفته حتى غدا مختلفاً كل الاختلاف عن هذا الذي نراه في ممارسات الناس.
الاستبداد الديني ما هو إلا استلاب فكري- نفسي:
إن المسألة تقوم، في تصور الكواكبي، بين استبداد المتعممين واستبداد الحكام، وحين لا يجد الأوّلون القوة لبسط سيطرتهم، ينضوون تحت جناح السياسيين، ويتحالفون معهم لقهر العامة، أو يتحولون هم أنفسهم إلى حكام مدججين بقوة السلاح. فالاستبداد الديني لم ينشأ إلا لغرض سياسي. وهذه ملاحظة دقيقة أدركها الكواكبي، لأننا إذا استرجعنا التاريخ الإسلامي نؤكد مع (فلهوزن Wellhausen) أن الاختلاف في الآراء بين المسلمين لم يحدث إلا بعد معركة (صفّين). إن الدين تحوّل عن حقيقته بضغط من مشيئة أناس أرادوا الاستئثار بالسلطة السياسية لأنفسهم. ولا مندوحة عن ملاحظة أن ذلك لم يكن استبداداً دينياً بقدر ما كان سياسياً متلبساً بثياب الدين. إن السياسي استغل الدين ليتمكّن من تنفيذ مآربه، وذلك لعلمه بمدى احترام الناس المعطيات الدينية. إنه استلاب فكري- نفسي، ولا يعدو أن يكون الشكل الأولي من أشكال الاستبداد. إنه ليس استبداداً دينياً، بأي حال، ما دام الكواكبي يدافع عن الدين الحق. إنه، فقط، يتهم ويهاجم الدين الوضعي/ المؤدلج، وهذا ما يوصف بالاستبدادية، وهو ليس بدين أصلاً، بحسب معطيات آراء الكواكبي. وما هو إلا أفكار تطرح وتورث وتعلم بالقوة ليتم اتباعها. إنه استبداد فكري/ ثقافي لا علاقة له بالدين إلا من خلال استخدام المفاهيم الدينية لحصون الاستبداد الممهد والمرافق والناتج عن الاستبداد السياسي.
وهذا الذي حرّف الدين لم يهتم بممارسة العبادة كحركات وأفعال خاصة، إنما اهتم بالدين – الأخلاق لما للأخلاق من تأثير في المجتمع، فحاول إفساده. وهذا مايريده المستبد، أن يفرض عادات معينة تؤثر في السلوك العام للأشخاص، لا تلك التي تبقى بين الإنسان وربه إلا ما قد يفسد منها صفو المستبد ويبعد عن تأليهه. هذه هي النقطة التي يركز عليها المستبد في استغلاله نفوذ الدين على الناس. يقول ( لوبرا): «الممارسة الدينية لا تفرض على الشعوب مناهج ومواقف فحسب، بل كذلك، وإلى حد ما، مأكلها وملبسها ومسكنها، إنها تضبط الجماهير وتعوّدها على نظام معيّن، بما لها من تأثير دائم لا محسوس. وقد أدركت الحكومات في جميع الأزمنة والعصور قيمة هذا الشرطي».
لقد أدرك الكواكبي استغلال الحكام لهذه النقطة عند الناس. إن الناس لا يذعنون عملياً لأحد ما لم يتهيأ لهم الإحساس بأنهم لا يطيعون إرادة بشرية أخرى، بل يطيعون إرادة أسمى من إرادتهم.. تتمثل في الإله. وكان هذا نتيجة الفهم الخاطئ الذي كرّسه خَدَمة المستبدين من رجال الدين، إذ جعلوا الحاكم يمثل السلطة الدينية المعصومة. وهكذا يحولون الإيمان من الإله إلى الشخص بصورة العرّاف والكاهن، ثم الحاكم بعد ذلك. وتكون غاية هذا الاستبداد الفكري - النفسي/ الديني تهيئة الوضع لإنشاء مجتمع محكوم. إن الاستبداد يبدأ فكرة تعتمد على الفكر ومظاهر الدين وقوة الاقتصاد والسلاح لتصبح نظاماً سياسياً. وما الدين الذي يستبد سوى الذي يُفرغ من محتواه ليبقى مجرد إطار لفكرة في يد المستبدين يتيح لهم إنشاء ما يريدونه من أفكار، بعيداً عن حقيقة النص- الأصل. ويعززون التفسيرات الجديدة المبعدة عن روح الدين حتى يترك الناس النص ويتعلقون بالتفسيرات فقط. وعلى مر الزمن لا يجد الناس أمامهم إلا مجموعة من أحكام وتسويغات لا تمت إلى النص الأصلي بصلة. يقول الكواكبي: «اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت». من هنا يأتي رفضه كل اتجاه يحاول تسلق الدين لإقامة الاستبداد. لقد استطاع تحليل العلاقة التي تقوم بين الاستبداد والدين بحيث يتسنى للأول تحقيق مبتغاه. إن المستبد ينفذ عبر ثغرات النفس البشرية. فهو يلاحظ أن لدى الناس خوفاً طبيعياً من شيء أعظم قدرة منهم، وليست لديهم القدرة إلا على الانصياع له، فيستغل هذه النقطة. يحرّف الدين ليجعله يتوافق وما يرسمه لاستبداده، ويجعله متعلقاً بأشخاص السلطة السياسية، بعد أن عرف الدور المهم الذي يلعبه الكاهن والعراف في تاريخ الشعوب. إنه يستعين بالمنظّرين أوّلاً، لأن النظر يقود إلى العمل، فقد يسوّغ ما يحدث، ويمهّد لما يُراد له الحدوث.
في هذه النقطة بالذات، نقطة العلاقة بين الدين والاستبداد، لم ينظر الكواكبي إلى الدين على أنه مضامين نظرية فقط، ولكنه رآها مضامين موظفة. لذلك فقد نظر إليها من حيث أنها نظرة إلى الإنسان والمجتمع. ومن هنا، فضلاً عن فهمه حاجة البشر إلى الدين، جاء، كما يرى (إفرام بعلبكي)- بحق- المقياس الذي يقيس به الكواكبي الأديان مقياساً واقعياً. إذاً فإن تحريف الدين ما هو إلا عملية فكرية تحاول السيطرة على تفكير الآخرين وعلى نفوسهم، مما يسمح بالتمهيد لولادة الاستبداد السياسي. وهكذا فليس هناك استبداد، في رأي الكواكبي، إلا من حيث التسمية المجازية. بحيث أن ما يطلق، عنده، على الاستبداد الديني، إنما يقصد به الاستبداد الفكري- النفسي، أو الاستلاب الذي يعين المستبد على التحكم في مصائر الآخرين. إنه استلاب يستعير قوة نفوذ الدين على العوام لاسترهابهم من خلال ما يدخله من تشابه بين صفات المستبد وصفات الإله، ليمهّد إلى سلب حق مراقبة الناس حكّامهم، الذين يتمتعون بالعظمة في مقابل دناءة العوام.
الحرية مطلب أساسي:
وتأتي الحرية عند الكواكبي في مقابل استبداد علماء الفكر الديني خاصة. ويصف الكواكبي الحرية بأنها قدرة الإنسان على الاختيار «بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم». وترتبط فكرة الحرية لديه بفكرتي العدالة والمساواة لأنه يرى أن «من فروع الحرية تساوي الحقوق- ومنها العدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاصب أو غدّار مغتال». وتتعدد جوانب الحرية لديه من حرية التعبير إلى حرية الاعتقاد والعلاقات وحقوق التملك، وهي كلها تعني لديه «الأمن على الدين والأرواح، والأمن على الشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره» وهو، مع مطالبته بحق التعبير عن الرأي وحق المطالبة بالحقوق، فإنه يدعو إلى ضرورة وجود الحرية السياسية إذ نراه يعدد من فروع الحرية «محاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة. ومنها حرية التعليم، وحرية الخطابة والمطبوعات، وحرية المباحثات العلمية».
وإذا كان يطالب بوجوب التعليم لكل أفراد المجتمع، فإنه يشدد على ضرورة تأمين حرية التربية والتعليم إذ «إن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم، أفضل من التعليم مع الوقار». فالكواكبي لا يرفض القسر في التعليم وحسب، بل هو أيضاً ينهى المعلم عن إقامة حاجز بينه وبين من يتعلم على يديه، بحجة الوقار. إن حرية التعليم مباحة للجميع من غير مانع أو تمييز. وكانت حرية التعبير عن الرأي مطلقة ثم أخذ الغرب عن العرب هذه الخصلة الحميدة فانتقل العلم إلى أوروبة «ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات»، ورأت أن مضرة الفوضى خير من التحديد الذي لا يلبث أن يجعله الحكام سلاسل من حديد كي يفرضوا وجهات نظرهم على أفراد الأمة. وإذا أردنا لبلادنا التقدم فعلينا أن نطلق الحريات مسترشدين بديننا «وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بقوله الكريم: (ولا يُضارَّ كاتبٌ ولا شهيدٌ)».
ويتابع الكواكبي تأكيده على رعاية الدين للحرية «فالحرية هي روح الدين ويُنسب إلى حسان بن ثابت الشاعر الصحابي رضى الله عنه قوله:
وما الديــن إلا أن تُقامَ شرائـــعٌ
وتُؤمَــنَ سبــلٌ بيننـا وهضــابُ
فلننظر كيف حصر هذا الصحابي الدين في إقامة الشرع والأمن». فالدين مبني في جوهره على الحرية. إلا أن الحرية التي يعنيها الكواكبي في جلّ إشاراته هي حرية التفكير الديني. لكن هذا لا يعني أن الحرية هي حرية مطلقة من كل قيد، بل إنها حرية ملتزمة بالشريعة الإسلامية إطاراً لها. ومن هنا فإن حرية التفكير الديني تعني حق الاجتهاد الذي يدعو الكواكبي إلى إباحته لكل من يرى في نفسه قدرة عليه، يقول: «لابد للمتحرّي في دينه من أن يهتدي بنفسه لنفسه، أو يأخذ عمن يثق بعلمه ودينه وصواب رأيه ولو من معاصريه». إلا أن الاجتهاد محدود أيضاً فيما هو مباح من الشؤون التي لم يتناولها الشرع صراحة بأمر أو نهي، وذلك لا يعني نفي الاختيار «ولكنْ، عَلِمَ اللهُ، الخير في القدر الذي هداكم إليه، وترك لكم الخيار على وجه الإباحة في باقي شئونكم لتوفقوها على مقتضيات الزمان». إن لحرية التفكير والاعتقاد الديني أمثلة كثيرة في تاريخنا، ويستشهد الكواكبي ببعض منها مدللاً على حق الاجتهاد لكل مؤمن، فيذكر مواقف (الإمام مالك) الذي قال: "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستشهد الكواكبي بما قاله (أبو حنيفة): «لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي»، ثم يضيف عن أبي حنيفة أنه «كان إذا أفتى يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت، يعني نفسه، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب». ولم يكن (الشافعي) أقل من سابقيه مرونة في الأمور الاجتهادية «وروى الحكم البيهقي أن (الشافعي) رضي الله عنه كان يقول: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط. وأنه قال يوماً للمزني: يا إبراهيم لا تقلدني فيما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين».
والكواكبي ينادي بحرية تصرف المؤمن في الحياة العملية، فضلاً عن حرية إعمال الفكر بعيداً عن التعصب أو الاستكانة، حتى يتمكن الإنسان من تحقيق إرادته. «وما هي الإرادة؟ هي أمّ الأخلاق… لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة». إن الاختيار فعل يقوم به الإنسان العاقل تبعاً لما تتطلبه الحكمة «أليس من الحكمة أن يحفظ الإنسان حريته واختياره، فيستهدي بنفسه لنفسه حسب وسعه». وهو لا يفعل ذلك باعتباره وصياً على الآخرين، وإنما يعمل فكره بحثاً عن قناعة خاصة له " فإنه دين". غير أن هذا لا يمنع المرء من أن يأخذ عمن يثق به. إن الكواكبي ينحاز دائماً إلى حرية الإنسان، وما رفضه عقيدة الجبر إلا إحدى الدلائل على ذلك، ولا يرى في القضاء والقدر أي جبرية، وإنما هما "السعي والعمل". ويقدّس الكواكبي الحرية فيجعلها عزيزة على الإنسان، بعد حياته مباشرة، فبوجودها يحصل السعي ويُطلب المجد وتُحترم القوانين ويتم للإنسان الاستقلال في حياته فيعود كما ولد حراً غير مرتبط بأحد برباط قسري، وغير ملزم باتباع أحد.
ويربط الكواكبي الحرية الشخصية بالإنتاج والعمل وبمدى استقلال الإنسان فيه. فالحرية لاتكتمل ما لم يكن للإنسان صنعة، وما لم يتولَّ الإنسان قيادة نفسه في عمله، وقد «قرر الأخلاقيون أن الإنسان لا يكون حراً تماماً، ما لم تكن له صنعة مستقل فيها، أي غير مرؤوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء» ولا يخفى أن الحرية، التي يعنيها هنا، هي انعدام القسر النفسي- الفكري الذي يمكن أن يمارسه صاحب العمل على العامل عن طريق تهديد قوت يومه. وليست الحرية هي في الاستقلال بالعمل فقط، وإنما هي أيضاً في قدرة الإنسان على ترجيح عقله على نفسه التي قد تقوده كي يصبح عبداً من عبيد المال «وقالوا أن أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد، وقالوا خير المال ما يكفي صاحبه ذلَّ القلة وطغيان الكثرة». فليس الحر من امتلك المال الكثير، وليس الغني من فاضت أمواله عن حاجته وإنما «الغني من قلت حاجته، والغني من استغنى عن الناس» فعاش حراً لا تنيخه رغباته، ولا تذله حاجته إلى الآخرين «ولا عار على الإنسان أن يختار الموت على الذل» لأن المجد مفضل على الحياة عند الأحرار، لذلك «يكون أئمة آل البيت عليهم السلام معذورين في إلقائهم بأنفسهم في تلك المهالك لأنهم كانوا نجباء أحراراً فحميتهم جعلتهم يفضلون الموت كراماً على حياة ذل مثل حياة ابن خلدون». فطلب المجد هو طلب للحرية إذ ينحصر تحصيل المجد في زمن الاستبداد بأن يحاول كل إنسان إزالته قدر استطاعته، وذلك طلباً لحريته، التي لا طعم لحياته بدونها. هذه هي الحرية التي يتغنّى بها الكواكبي، مدركاً أنها لا تأتي من غير استعداد للتضحية في سبيلها. فنراه يحث قومه الذين اكتووا بنار الذل ورسفوا في الأغلال، يحثهم على طلب الحرية وعلى بذل كل ثمين ليتمكنوا من نوالها، يقول: «إن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح، والإسارة هي شجرة الزقوم وسقياها أنهر من الدم الأبيض أي الدموع، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين».
ويرى الكواكبي أن التوحيد أساس الحرية، فالأنبياء يهدون الناس إلى رأس الحكمة، أي عبادة الله وحده، وبذلك يملك الناس «حريتهم التي تحميهم من أن يكونوا أرقّاء أذلاّء لألف شيء من أرواح وأجسام وأوهام. فثمرة الإيمان بأن (لاإله إلا الله) عتق العقول من الإسارة». وهذا يعني أنه ليس في الأرض قوة قدسية ترجى، ويتخصص إنسان بهيبة مخيفة مادام يؤمن الإنسان بأن الله وحده هو الذي يمتلك قوة التحكم في حياة الناس. ولهذا جعل الكواكبي «شعار الجمعية: لانعبد إلا الله». وبذلك يمتلك الإنسان استقلاله الشخصي، ويأمن على حريته الدينية والفكرية والعملية، ولا يعود هناك ما يمنعه من تحقيق تطلعاته «فلا يعارضه معارض فيما يخص شخصه من دين وفكر وعمل وأمل». والحرية الفكرية هي أولى الحريات التي يتلوها العمل، وبها نستدل إلى الطريق الموصلة لترقّي الأمم. لذلك على الشباب أن يتمسكوا بها، وأن يستميتوا في الدفاع عنها ولسان حالهم يقول: "أنا حر وسأموت حراً ".وليست هذه نهاية الطريق، بل على الإنسان أن يبقى ساعياً إلى مواصلة الترقي بالحرية، لأن الترقي الكامل لا يحصل إلا حين يهتم الإنسان بحياة أمّته أوّلاً، لأن في حياتها حرة تكمن حريته هو، ويأمن بأمنها على حياته وعائلته وماله. هكذا يضيف الكواكبي شرطاً آخر من شروط الحصول على الحرية، وهو شرط جوهري، إذ لاحرية لفرد إلا بحرية بلاده، فمن أين لإنسان أن ينعم بالحرية وبلاده ترسف في القيود. فالحرية ليست مجرد اختيار فردي أو خلاص خاص، وإنما هي التزام بالمجموع إلى درجة أن «يصير كل فرد من الأمة مالكاً لنفسه تماماً، ومملوكاً لقومه تماماً». وهذا لا يكون الاّ بإدراك الفساد ومعرفة الطريق التي توصل الى الإصلاح.
أهميّة الوعـي :
يشير الكواكبي إلى أهمية وعي الإصلاح معلناً «إن احتياجنا العام إلى الإصلاح بالغ فينا حتى إلى لزوم الإصلاح في تفهّم معنى لفظة الإصلاح ولذلك نبتدئ بتعريف الإصلاح أنه في اصطلاح السياسيين إزالة المفاسد وإكمال النواقص وموضوعه تنظيم الإدارة السياسية وغايته حصول السعادة العمومية وهي بغية الكل في الكل». وهذا التعريف يتألف من شقين، فهو أولاً: إزالة المفاسد، وهو ثانياً: ترقي الأمة، وموضوع الإصلاح هو تنظيم الإدارة السياسية أولاً ليتم للناس التنعم بالسعادة في ظل الأمن والحرية. والإصلاح ليس بالأمر المستحيل، ومن الخطأ تصديق «قول من قال: أننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لايرتفع» بل على العكس من ذلك فإن الأمة، التي تسعى لاسترجاع أسباب حياتها، هي أمة ستحقق مبتغاها ولا ريب، ولنا في الأمم السالفة براهين على ذلك، فتلك أمة الرومان التي نهضت بعد عثرة، واليونان الذين جددوا نشاطهم ونهلوا من غيرهم حتى بلغوا من القوة ذروتها، ومن العلم أوجه. وكذلك فعل الأمريكان في العصر الحديث.
والمهم أن من يرصد الإصلاح عليه معرفة معناه ليجدّ في طلبه ولا ينتظر ذلك من حكومته أو من أمة أخرى غير أمته. فإذا أردنا إزالة المفاسد، وتنظيم أحوالنا السياسية، فإنه يجب علينا أن نطالب الحكومة بحقوقنا، ونلحّ في طلبها، ليس على سبيل الصدقة، وإنما بأسلوب يجعلها تدرك جدية مطالبنا. وبغير ذلك لن نتمكن من نيل حقوقنا. فلا يمكن أن تمنح الحكومة شعبها حقوقه مالم يطالبها بها باستمرار. فإذا شعر الإنسان أنه أسيرٌ في وطنه، ولا يمكنه الحصول على حريته، وجب عليه أن يضرب في الأرض سعياً وراءها، مقاطعا كل مستبد يواجهه، مهما عانى في سبيل حريته «فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط». ولا بد للمرء، حين يوضع في مجال الاختيار بين الذل والموت، أن يختار الموت حتى لا يعيش حياة لا شيء فيها سوى الحرص على المستبد لقاء طعام لا يسدّ رمقاً، وشراب لا يروي عطشاً. إن الخوف هو الذي يرسّخ الاستبداد، أما الشجاعة فهي وحدها التي تمنح الإنسان الحياة الكريمة أو الموت الشريف، وبذلك يحصل الإنسان على المجد الذي لايأتي بالتذلل أمام المتكبرين ولكنه يُطلب ببذل النفس في سبيل تحصيله.
ولا يكتمل الإصلاح السياسي إلا بمراقبة الحكم، الذي يجب أن يكون وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية، أما الحكم الظالم فإن طاعته غير واجبة على المسلمين وإنما الواجب هو محاربة الحكام الظالمين لإزالة مفاسدهم، وتنفيذ حكم الشريعة فيهم، تحقيقاً لمعنى الآية: [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون]، الذين لاتجوز طاعتهم.
يطرح الكواكبي، في نهاية كتابه عن الاستبداد، خمسة وعشرين مبحثاً يرى أنها تحتاج إلى تدقيق وتفصيل، بما ينطبق على أحوال كل بلد وخصوصياتها، ويقول إنه يعدّد «هذه المباحث تذكرة للكتّاب ذوي الألباب وتنشيطاً للنجباء على الخوض فيها». ويطالب بالبحث فيها بالترتيب، لكنه يبدأ بالعكس، ويتناول شرح البحث الأخير منها فقط، والذي يتعلق بالسعي في رفع الاستبداد، لأنه، في نظره، أهم الموضوعات المطلوب حلها، والتي يجب الابتداء بها. ويضع ثلاثة شروط مبدئية لرفع الاستبداد واستبداله وهي: شعور الأمة بآلام الاستبداد، والتدريج، وتهيئة البديل. فالشرط الأول: على الأمة أن تشعر بآلام الاستبداد وما يحدثه من تفاوت وفوضى بين الناس، وما يزرعه من ذل وضعة في قلوبهم، وذلك حتى تستحق الحرية لأن نوالها عفواً لا يفيد الأمة في شيء، لأن من لا يتعب في تحصيل شيء، لا يهتم بحفظه «فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبداد مشوش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس»، والحرية النافعة إنما هي التي تحصّلها الأمة، بعد الاستعداد لقبولها، وبذلك تتمكن من الحفاظ عليها. فيجب على الأمة أن تتمسك بالطباع الجيدة، وتطلب الحرية والعدالة، وتقدّر قيمة الاستقلال، وتعرف مزية النظام على الفوضى "وخلاصة البحث أنه يلزم أولاً تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها". فمن أراد تخليص أمته من أسر الاستبداد، عليه أولاً، أن يبث فيها العلم بسوء حالتها، وأن يبين لها إمكانية التغيير. وسرعان ما ينتشر الشعور الحاد بآلام الاستبداد بين الناس حتى يكاد يشمل أكثر أفراد الأمة مما يؤدي بالناس إلى التحمّس فينادون مع المعري:
" إذا لم تقم بالعدل فينا حكومةٌ فنحن على تغييرها قُدراء "
ومن يبعث في أمته الحياة، ويوقظها على الشعور بآلام الاستبداد، هو الإنسان الذي يجهد في ترقية معارفه، بالتلقي والمطالعة، وبإحراز علم يكسبه في قومه موقعاً محترماً، ويحافظ على آداب قومه وعاداتهم، محتفظاً بوقاره، متجنباً مصاحبة الحكام، وملتزماً بحسن الأخلاق، يحب وطنه، ويساعد الضعفاء، ويغار على الدين.
إصلاح الدين:
إن كل إنسان مطالب بان يتّبع في أخلاقه وأعماله قانوناً يتوافق ومجتمعه في أساسياته، كذلك على كل قوم أن يتخذوا قانوناً لا يتضارب مع قوانين الأقوام الذين تربطهم معهم علاقات من أي نوع كانت، وذلك حتى يتم التآلف والتعايش بين الأقوام. ويرى الكواكبي أن الناموس (= القانون) الطبيعي في البشر هو ناموس وحشي لا خير فيه، لأنه مبني على تنازع البقاء، وحفظ النوع، والتزاحم على الأسهل، والاعتماد على القوة، وهذه كلها قواعد شر "لا يلطفها غير ناموس شريف واحد، مودوع في فطرة الإنسان، وهو: إذعانه الفكري للقوة الغالبة، أي معرفة الله بالإلهام الفطري" وهذه الفطرة الدينية في الإنسان، هي التي تجعل حياته مقبولة، وتجعل تصرفاته متوازنة، تبعده عن إضرار غيره طمعاً في منفعة ذاتية "وذلك بما يؤمله المؤمن من المجازاة والمكافأة، والانتقام منه وله" في الحياة الأخرى. والإنسان مفطور على الشعور بوجود قوة غالبة عاقلة، يعبّر عنها العاملون بلفظة (الطبيعة)، والراشدون المهتدون يعبّرون عنها بلفظة (الله).
والدين بمعناه العام هو إدراك النفس وجود تلك القوة الغالبة، ومن هنا فإنه لايوجد إنسان بلا دين «بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح، أو فاسد عن أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد عن أصل باطل»، والدين الصحيح يكفل السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة. إن الله يبعث الرسل، لينقذوا الناس من ضلالة الشرك، ويهدوهم إلى عبادة الله وحده، وبذلك يملكون حريتهم، التي تحميهم من ذلك الاستعباد خوفاً من مستبد أو ظالم متجبر. والأديان السماوية كلها كانت في بدايتها صحيحة، تبث النظام والنشاط وتهدي إلى سعادة الدارين، إلى أن طرأ عليها التحريف والتشويش والتشديد فداخلها الشرك بالله.
لقد جاءت التوراة، ومن ثم الإنجيل، بالتوحيد، وتلا ذلك الإسلام مطالباً بالتوحيد وهادماً الشرك بالكلية. فقد «بني الإسلام بل وكافة الأديان على (لا إله إلا الله)، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم». لذلك على الإنسان ألا يخضع إلا لله فلا سيادة ولا عبودية في الإسلام إلا له. لكن تغييراً حدث في الدين، فترك أصله، واتبعت مزيدات ليست منه في شيء، فغدت حالة أكثر المسلمين تشبه حالة المشركين، إلا أهل جزيرة العرب، الذين استطاعوا المحافظة على أصول الإسلام. ولأن ذلك حدث بات من الضروري أن نحيي الدين الأصيل، ونصلح ما فسد منه، برد العامة عن ميلها إلى الشرك الأول. وهذا أمر غير هين، ولا يمكن تنفيذه إلا بالعلم وبالاجتماع على أهمية العودة إلى الإسلام، في أصوله الأولى، بعيداً عن النقول المتخالفة. فلا بد «أن نترك جانباً اختلاف المذاهب التي نحن متبعوها تقليداً» وأن نعتمد ما نعلم من صريح الكتاب، وصحيح السنة، وثابت الإجماع، كما فعل أجدادنا الأولون، إذ أن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد، وهو الذي يجعلنا لا نتفرق في الآراء، ويمكننا من نبذ التقليد، الذي يخالف نص الكتاب أو صريح وثابت الإجماع. فعلى العلماء أن يقاوموا فكرة التعصب لمذهب دون آخر، ليتمكنوا من جمع كلمة الأمة على رأي واحد، بعيداً عن التشدد في الدين، الذي لم يجعل الله على الناس فيه من حرج، بل إنه أراد أن يرفع الأغلال، التي كان يرسف فيها الناس، وأراد أن يخفف عنهم التكاليف الثقيلة، لذلك لم يكلف الإنسان إلا بما له قدرة عليه، كما أمره بأن لا يغلو في دينه وبأن يقتصد فيه.
وحتى لا يغالي الناس في التعصب للدين، وحتى يتم جمع كلمة المسلمين، يقترح الكواكبي أن يعقد فقهاء الأمة كتاباً في العبادات، يعتمده المسلمون جميعاً، ويذكر فيه الحد الأدنى للفرائض والواجبات، وكتاباً تُذكر فيه السنن المستحبة، وكتاباً للسنن الإضافية، ثم كتاباً للمنهيات ، فيه المكفرات والكبائر، ثم الصغائر والمكروهات، ومثل ذلك توضع كتب للمعاملات بحسب أحكامها الإجماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية «فبمثل هذا الترتيب يسهل على كل من العامة أن يعرف ما هو مكلف به في دينه، فيعمل به على حسب مراتبه وإمكانه، وبهذه الصورة تظهر سماحة الدين الحنيف». ومن الضروري أن نلتمس للضرورات أحكاماً اجتهادية، تعمل بها الأمة، مادام المقتضى باقياً، ويأمر بها الإمام أو السلطان، منعاً للخلاف. وما أحوج الشرقيين، من الأديان كلها، أن يهجروا العلماء الأغبياء، ويجددوا النظر في الدين، لإعادة النواقص المعطلة فيه، وتهذيبه من الزوائد الباطلة، فيعيدوا الدين إلى أصله. ولا يصلح الدين إلا بالعلم والعلماء الذين يهدون الناس إلى خير الدنيا والآخرة.
إن العلوم أخذت تنمو في الغرب، وقد ظهرت ثمراتها العظيمة في شؤون الحياة، وعلى المسلمين الاهتمام بها، لإصلاح دينهم، ولمجاراة جيرانهم، فقد «أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية، التي كادت تجعل الغربيين أدرى منا حتى في مباني ديننا». وإذا أردنا أن نستعيد نشأتنا، وأن نجلب إلى ديننا العالم المتمدن، علينا أن نهتدي بأنفسنا، وأن نبدي مزيداً من الاهتمام بالعلم، ونصغي إلى نصح العلماء العاملين، ونمنع الشعوذة، ونجاهد للحط من قدر العلماء المنافقين الذي يحاولون ممالئة المستبد السياسي، ونتعلم كيف نفرق بين الأوامر الدينية والأوامر السياسية. وهذا الإصلاح الديني ضروري، لأن السياسيين «يعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي» وأنه متى زال أحدهما زال الآخر، فإذا صلح الدين صلحت السياسة. والسياسة في نظر الإسلام الصحيح تقوم على الشورى، لذلك فإن مجرد العودة إلى الينابيع الإسلامية الأولى، تعني عودة إلى الشورى السياسية.
كما أن للدين فوائد كثيرة، فهو يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقاً فطرية لم تفسد، فينهض بها كما نهضت الإسلامية بالعرب، وهو أكبر معين على تحمل مشاق الحياة. والدين المبني على العقل أفضل صارف عن الخرافة، وأنفع وازع للنفس، وأقوى منشط على العمل، ومثبت على المبادئ الشريفة. كما أن الدين هو أفضل مقياس يستدل به على رقي أو انحطاط نفوس الأمم والأفراد. وأحكام الإسلام أحكام يتلقاها العقل بالقبول والإجلال، إذ جاءت الإسلامية بالحرية والعدالة والمساواة والشورى، ولكي يتم لنا تحقيق الإسلامية، والتمسك بها، لا بد من إنشاء جمعية تهتم بإصلاح الدين وتحافظ على مبادئه السامية. لكن إصلاح الدين، والانتقال لردم الهوة بين الإسلام والمسلمين لا يتم إلا بالتدريج، وبجهود علماء يشكلون جمعية توحد الله، ويتعاون أعضاؤها لتحقيق اتفاق المسلمين على محاربة الاستبداد. والعودة بالإسلام إلى أصله النقي. وتكون هذه الجمعية بزعامة العرب، لأنهم أصلح الشعوب لقيادة الجهاد في سبيل الحفاظ على مبادئ "الإسلامية" .
الإسلامية الكواكبية:
يرى الكواكبي في الإسلامية بديلاً عاماً عن الاستبدادية، ويميز بين الإسلام والإسلامية. فالإسلامية عنده ليست هي ما يدين به المسلمون الآن، ولكنها المنهج المشتقّ من الإسلام الصحيح الذي ينبثق من "القرآن الكريم" وصحيح السنّة من غير أن تنقص أو نزيد عما جاء فيهما من ناحية العبادات. والإسلام الصحيح هو ما تميّز به أسلافنا على العالمين، بعيداً عن نفقته المتفقهين، ملتزمين بما يعلمونه من صريح الكتاب وصحيح السنّة وثابت الإجماع. والإسلامية بهذا المعنى «هي أحكام القرآن وما ثبت من السنة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول، لايوجد فيها مايأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي». ومن أهم قواعد ديننا الالتزام بهذه الأحكام ليتم لنا السير على منهج الإسلام القديم الذي يترك للإنسان حرية التصرّف في حياته مادام يتصرف فيها من قواعد الدين العامة. «ومن قواعد ديننا كذلك: أن نكون مختارين في باقي شؤوننا الحيوية، نتصرّف فيها كما نشاء، مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها (الرسول)، وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة، كعدم الإضرار بالنفس أو الغير، والرأفة على الضعيف، والسعي وراء العلم النافع، والكسب بتبادل الأعمال، والاعتدال في الأمور، والإنصاف في المعاملات، والعدل في الحكم، والوفاء بالعهد».
هكذا تتحد أفكار المساواة والحرية والعدالة والشورى عند الكواكبي في تعبير واحد هو الإسلامية، التي يراها تطالب بالمنفعة العامة للناس أجمعين، وهذه المنفعة لاتتم للإنسان إلا بالاشتراك العمومي بين الناس، حيث يقوم كل فرد بعمل مفيد للمجتمع. وذلك لأن طبيعة الكون تقتضي الاشتراك لتتم للناس المنفعة. وهذا الاشتراك موجود في الإسلام فقد «أحدث الإسلام سنّة الاشتراك على أتم نظام». ولم يكتف الإسلام بذلك، وإنما رسم الطريق العامة لخير الإنسان، إذ «جاءت الإسلامية بقواعد شرعية كلية تصلح للإحاطة بأحكام كافة الشؤون حتى الجزئية الشخصية».
الشورى الدستورية :
إن الإصلاح الديني والحصول على الحرية والعدالة لا تتأتى إلا بسيادة الشعب على نفسه. وسيادة الشعب لا تكون إلا بتحقيق الشورى، عن طريق مشاركته في ممارسة الحكم ليكون الحكم عادلاً، لأن للحكم تأثيراً كبيراً على شؤون الحياة كلها، وهو الذي يمكنه الحفاظ على المساواة والحرية والعدالة بوساطة احترامه قانون الدولة، وتمسكه بأصول الشورى في الحكم. يقول الكواكبي، بعد بحث امتدّ ثلاثين عاماً «تمحّص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية». فإذا كان «الاستبداد السياسي" هو أصل الداء، فإن دواؤه إنما يكون بإيجاد "الشورى الدستورية" التي بها تصلح السلطة السياسية والقانونية ويعمّ الرخاء.» وتنتمي الشورى، في فكر الكواكبي، إلى ميدان السياسة انتماء حميماً، فهي تعني مشاركة الرعايا في سياسة الدولة وشؤون الحكم بحثاً عن القرار الأكثر صواباً، على أن يتم ذلك في حدود القانون. لقد رأى الكواكبي أن الاستقلال في الرأي مضرّ، لذلك راح ينقّب في تراث العرب بحثاً عن الشورى، مستلهماً الأفكار الإسلامية الداعية إليها، فرأى أن العرب هم أعرق الأمم في أصول الشورى، ولاحظ أن الشورى مبدأ موجود في الإسلام، فقد «جاء الإسلام محكماً لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديمقراطية والارستقراطية»، وانطلاقاً من [وشاورهم في الأمر]، وتوسطاً بين حكم الشعب، الذي لم يعد يصلح بالنظر إلى تزايد أعداد الناس في الأمة الواحدة، وبين حكم القلّة ذات النفوذ الاستبدادي الذي تمارسه على الآخرين. وقصة (بلقيس) في "القرآن الكريم" "تعلّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ أي أشراف الرعية، وأن لايقطعوا أمراً إلا برأيهم، وتشير إلى لزوم حفظ القوة والبأس في يد الرعية»، وما الملوك إلا منفذون، وينسب إليهم الأمر توقيراً فقط. وقد مورس مبدأ الشورى لفترة في زمن الخلافة الراشدية وما قبلها، فقد كان النبي " أطوع المخلوقات للشورى امتثالاً لأمر ربه " "حتى أنه ترك الخلافة لمجرد رأي الأمة"، وهكذا فعل الخلفاء: الأول والثاني، اللذان فهما مغزى "القرآن الكريم" وعملا بموجبه.
والحكومة لا تكون صالحة إلا إذا كانت الشورى إحدى مميزاتها، لأنها، حينئذ فقط، يمكنها أن تقود الأمة. ويدلل الكواكبي على كلامه باستقرائه تاريخ الحكومات الإسلامية، قائلاً: «وإذا دققنا النظر في أدوار الحكومات الإسلامية من عهد الرسالة إلى الآن، نجد ترقيها وانحطاطها تابعين لقوة أو ضعف احتساب أهل الحل والعقد واشتراكهم في تدبير شؤون الأمة». فعلاقة الشورى بالترقي علاقة طردية، كلما زادت إحداهما نجد ارتفاعاً في رصيد الأخرى. وأهمية الشورى لا تنحصر في شؤون الحكم فقط، بل تنسحب على حياة الناس في كل شأن وفي كل زمان ومكان. وإذا كان زمن الخلافة الراشدية الذهبي قد ولّى فعلينا ألاّ نستكين، بل يجب علينا أن نحاول استعواضه "بطراز سياسي شوري" يستفيد من فكر الغرب الذين استفادوا من الإسلام، وأقاموا نظام الشورى الذي نطالب به، «ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب، تلك الأمم التي لربما يصح أن نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون». لقد رأى الكواكبي أن سرّ تفوّق أوروبة هو في حصولها على الحرية وتمكّنها من إقامة الديمقراطية، لذلك دعا إلى الاسترشاد بتجربتها في إرساء قواعد الديمقراطية والشورى.
ولكن من يقوم بالشورى؟ يطالب الكواكبي بالشورى الارستقراطية، أي شورى الأشراف، وهم أهل الذكر، وأهل الحل والعقد من هُداة الأمة وقادتها. والأشراف هم أفراد جديرون بحمل المسؤولية، وهم أشراف لقيامهم بأعباء هذه الوظيفة الشريفة، «وهم خواص الطبقة العليا في الأمة، الذين أمر الله، عزّ شأنه، نبيه بمشاورتهم في الأمر، الذين لهم شرعاً حق الاحتساب والسيطرة على الإمام والعمال لأنهم رؤساء الأمة ووكلاء العامة، والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات المقيدة». وهم ليسوا أهل الألقاب أو الميراث من الأصلاء والمتمجدين. إنهم أناس استعدّوا، بالعلم والكفاءة، لخدمة الناس، وليكونوا وكلاء عنهم في مراقبة الحكومة ومحاسبتها.
ولكن ما هو أساس الشورى لدى الكواكبي؟
إن أساس الشورى عنده هو إرادة الأمة، وإرادة الأمة تتحقق (أو تتلخص) في الأخذ بآراء أهل الحل والعقد، إلا أن ذلك لايعني الاستسلام إلى الكسل والإذعان لما يطالب به الآخرون، لأن الناس جميعهم ملزَمون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر. إن الإلزام بإتيان الخير ودفع الشر في آية: [ ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر] هو فرض عين لا فرض كفاية. وليس المراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض، بل المراد هو «إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير، فخصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية». إن السيطرة والاحتساب، التي تقوم بها المجالس هي التي تحقق فرض الكفاية، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض عين، وعلى المسلمين جميعهم العمل على تحقيقه.
روابط الإنسان في المجتمع المنشود:
ونظراً إلى أهمية التعاون والاشتراك في الشؤون العامة فإن كمال المجتمع لا يتم إلا بروابط يقيمها الناس فيما بينهم، تساعدهم على التعاون من أجل مزيد من التقدم. فالمجتمع المثالي يتميز بالتعاون والعمل على تحقيق الاتحاد والتواصل إذ يجتمع أفراده في اتحادات قومية ودينية وإنسانية، من غير أن تكون هذه الروابط قسرية وإنما تكون نتيجة طبيعية ضرورية لتتويج اجتماعاتهم.
أ- الرابطة القومية:
إن أولى روابط الإنسان الاجتماعية هي الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد الذين تجمعهم أرض واحدة ولغة مشتركة. والوطنية ترادف القومية، عند الكواكبي. وما تغنيه بالوطن إلا تغنياً بالقومية العربية، التي يرى قلبها النابض في الجزيرة العربية. داعياً إلى وحدة العرب وهو يذكرهم بالماضي المجيد، رغبة منه في عودة زمام الأمور إليهم. وهو حين يطالب بضرورة استقلال الوطن ووحدته ضد عبث الطغاة اللئام، فإنه إنما يسعى إلى تحقيق مطلبه باستقلال العرب واتحادهم ضد العثمانيين والأوربيين على السواء، داعياً العرب إلى تولي شؤونهم بأنفسهم بأن يحكموا عليهم واحداً منهم، ويراقبوا بقاءه مجرد رمز لجمع شملهم في رابطة اشتراك لا قسر فيها، مثل "معيشة أكثر الإنكليز والأميركان الذين يفتكر الفرد منهم أن تعلقه بقومه وحكومته ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية، خلافاً للأمم التي تتبع حكومتها حتى فيما تدين". والعرب يشتركون في اللغة والوطن، لذلك فإن اجتماعهم، في اتحاد يضمهم، ضرورة لابد منها، يساعد عليه وجود حكمٍ عادل، لما له من تأثير كبير على الوطن والمجتمع، ولقدرته على تشجيع إنشاء اتحاد وطني بين الأخوان. ففي ظله تنتشر التربية التراثية الهادفة إلى الحفاظ على المزيات الخاصة لكل شعب.
إن البلاد التي تحررت من النزاعات الطائفية، ومن سطوة الاتجار بالدين، استطاعت تكوين اتحاد جنسي بين مواطنيها، يحفظ لهم قوميتهم، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية المختلفة. فإذا قام الحكم العادل في البلاد العربية فلا شيء يمنع من إقامة الوحدة العربية بسبب وجود عوامل كثيرة مشتركة بين العرب. لذلك يدعو الكواكبي العرب من غير المسلمين لإقامة اتحاد وطني بينهم وبين أبناء جنسهم من المسلمين، بصرف النظر عن الانتماء الديني، يقول: "يا قوم، وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري" فما بالنا لا نتبع ما يشبه تلك الطرق ونقول للأجانب الذين يحاولون إثارة البغضاء بيننا باسم الدين: (دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا، نتفاهم بالفصحاء. دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء) لأن الترابط القومي يضمن حرية الاستقلال الوطني، ويمنع من الوقوع في نظام غريب لا يلائم طبائع حياة الناس، وهو خير دافع لسطوة الاستعمار وشروره، وأفضل أشكال الروابط النافعة للاشتراك في الحياة مع بقاء الإنسان مستقلاً في حرية إرادته.
ب- الجامعة الإسلامية:
وإذا كانت الرابطة القومية هي الدائرة المهمة الأولى في حياة الإنسان فإن ذلك لا ينفي وجود روابط أخرى تقوي التعاون وتعززه بين الناس وتقرب بينهم، مثل الرابطة الدينية. فإذا كانت (الأمة هي مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين) فإن للأمة روابط متعددة الأشكال، من ضمنها الرابطة الدينية. فلا شيء يمنع من أن تشترك أكثر من رابطة في انتماء الإنسان أو تجتمع كلها في أمة واحدة. وقد تتقاطع تلك الروابط في أشياء كثيرة في بعض الأمم، من روابط وطنية أو لغوية أو دينية، فقد يجتمع النسب والوطن واللغة والدين، أو قد يجتمع بعضها من دون بعض.
ولم يكن مستغرباً أن يدعو الكواكبي المسلم لجمع شمل الأمة الإسلامية في رابطة دينية فضلاً عن الرابطة القومية بين العرب: مسلمين ومسيحيين. وهذا يعني أن لدى الكواكبي انتماءين قويين: الأول هو الأمة الدينية، ويعني بها الرابطة التي تجمع المسلمين، ويحضّ المسلمين للدعوة إليها، وبخاصة المسلمين العرب، بالنظر إلى أهدافهم المشتركة في إصلاح الدين، وإسقاط ادعاء العثمانيين بالخلافة. وينادي الكواكبي هنا، بفصل الخلافة عن الملك، وعودتها إلى العرب، وقيامها على أساس الشورى والانتخاب، ويحدد وظيفتها بأنها وظيفة روحية لا علاقة لها بالسياسة الداخلية للبلاد الإسلامية.
أما الانتماء الثاني، فهو الانتماء القومي، ويعني به، وحدة العرب من كل الأديان، وهي عنده رابطة الأرض واللغة، وبالتالي الثقافة، والأهداف المشتركة بين العرب جميعهم في تخليص أوطانهم من سطوة الاستبدادين: الداخلي والخارجي. ثم هناك الحكم المحلي اللامركزي في الدولة القومية الواحدة. ويشكل الانتماءان: الديني والقومي، دائرتين متطابقتين في فكر الكواكبي، العربي، المسلم. إلا أن تقاطعهما لا يسبب مشكلة، سواء لدى العربي غير المسلم، أو لدى المسلم غير العربي، وذلك لأنهما دائرتين غير متعارضتين لما بين العرب والإسلام من صلة حميمة. فينتمي العربي إلى إحدى الدائرتين، بينما ينتمي المسلم إلى الأخرى، في حين أن العربي المسلم ينتمي إليهما معاً.
من ذلك يتضح أن الكواكبي أراد تنمية الشعور بالانتماء القومي والديني معاً، كما أنه دعا إلى روابط أخرى تضمّ أقواماً وأدياناً مختلفة ويكون بيننا وبينهم قواسم مشتركة من ناحية ما. فليس الترابط القومي والديني هما الرابطان الوحيدان في المجتمع الصالح، بل إن المجتمع كلما ازداد مثالية كلما كثرت روابطه، وكلما كثرت روابطه، مع غيره من المجتمعات، كلما ازداد مثالية وتقدماً. فإذا استقلّ كل قوم في رابطة وطنية، وإذا اجتمع أهل الدين الواحد في رابطة دينية، فإن ذلك يعزز ويدعو إلى روابط أخرى متعددة بين الأقوام والأديان في شتى أنحاء الأرض.
ويتضح من ذلك أن الحضارة، عند الكواكبي، هي كلّ متكامل لايتجزأ، ولا يسع أحد الانغلاق على نفسه في قومية أو دين. كما أنه يرفض التعصب القومي أو الديني، منوّهاً بأهمية التسامح بين الأديان والأقوام من أجل التعايش السلمي والتعاون بينها.
الإسلامية منطلق يعزّزه العقل:
إن الإسلام هو منطلق الكواكبي الأساسي، كما أن إثبات مقولاته هي غايته الأولى، وهو وصولاً إلى ذلك يحاول البرهنة على أنه المنهج السليم الذي يجب اتباعه. والملاحظة المبدئية التي يطرحها هي أنه ليس هناك من لا يدين بدين، وأن الدين الصحيح هو الذي يقوم على التوحيد رافضاً الخضوع لغير الله. والإسلام، فضلاً عن أنه دين توحيد، فإنه أيضاً يترك المجال لإعمال العقل، بل إنه يدعو إلى العلم ويحض عليه حيث أن "أول كلمة أنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً" والكواكبي يشير بذلك إلى الآية (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم). والإسلام إذ يدعو إلى التفكير، حتى في مسائل الدين، إنما يريدنا أن نفعل ذلك من غير أن تكون هناك واسطة بين الله والإنسان، بل إنه يؤكد تحرر الإنسان من التبعية الدينية لأحد. ويخلص الكواكبي من هذه المقدمات إلى نتيجة مفادها ا، الإسلام هو افضل دين تنزل على الإنسان، وإذا تفكر الإنسان في الكون، فإن عقله لابد أن يهديه إليه،لأنه يدعو إلى الحرية وإلى التمسك بالوحدانية تحت شعار "لا إله إلا الله".
ومن هنا يمتد فكر الكواكبي ليرفض الجبرية ويهاجم مفهوم الزهد الشائع في زمنه. ويدعو الى التفكّر في القرآن الكريم الذي نكتشف من خلاله أن الشورى مبدأ إسلامي، وأن الحل السياسي لمشكلات المجتمع عند الكواكبي إنما يكمن في الشورى الدستورية، وهو يستخرج أصول الشورى من القرآن مدللاً على ما جاء فيه حول قصة بلقيس، وقصة موسى، وآيات تطالب بالشورى وتحثَّ عليها. ويدعو الكواكبي إلى الاستفادة من التراث العربي الإسلامي لإقامة طراز سياسي شوري، مستلهماً المقولات الإسلامية والتجربة الغربية في تحقيق الديمقراطية، التي رعاها الغرب أكثر مما رعاها المسلمون، حتى في صيغتها الإسلامية. وقد وصف "القرآن الكريم" مادحاً من يأخذون بالشورى: (والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)، كما أ،ه يأمر الرسول باستشارة أصحابه (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)، وهذا يعني أن الشريعة تأمر الحاكم بأن يرجع إلى الأمة في الأمور المهمة، وهذا يجعله مراقباً من قبلها. وقد عد الإسلام الشورى من دعائم الإيمان، فقد سوى في النص السابق بينها وبين الصلاة. فالشورى فرض واجب على الحاكمين والمحكومين وبناءً على ذلك قرر الفقهاء أن من ترك الشورى من الحكّام فعزله واجب على المحكومين. ورأوا أن إلزام الحكام برأي الأمة هو أكبر ضمان لتقييد السلطة السياسية. وهذا ما حاول الكواكبي المحافظة عليه في وجه الاستبداد، الذي يجب الاستغلال والاستلاب، ليتسنى له، بعد ذلك، إقامة حكومة عادلة أساسها الشورى.
علاقة الدين بالسياسة عند الكواكبي:
مما يبدو في فكر الكواكبي أن الإسلام لم يأت بنص تفصيلي يوضح فيه طريقة العمل السياسي، إلا أنه في الوقت نفسه لم يترك الأمر مطلقاً بل حدده في وظيفة الحاكم وحكومته، وفي غايات العمل الدنيوي بشكل عام في أنه يجب أن يصبّ في المصلحة العامة فوضع "مائة قاعدة وحكم" من غير أن يفسر الفعل السياسي على اتباع أساليب إجرائية معينة. على ذلك يترتب أن الكواكبي لم يقل بفصل الدين فصلاً كلياً عن السلطة السياسية، بالرغم من أنه يميز بين الدين والدولة. إلا أن هذا لا يدعو إلى الاعتقاد بأنه قال بدمجها معاً تحت لواء سلطة الخلافة، وذلك لأن الكواكبي قد طالب بإعادة الخلافة إلى العرب، ونقلها إلى الحجاز، وهذا في حقيقة الأمر يشكل تشكيكاً بشرعية الخلافة كما يفهمها كثير من معاصريه، كما أنه يعد سعياً إرهاصياً نحو إقامة رابطة عربية قومية.
وهذه النتيجة تنسجم مع ملاحظة (سليمان موسى) إذ يقول عن الكواكبي: "لأول مرة يتقدم مفكر عربي مسلم بمشروع إنشاء دولة وطنية تفصل فيها السلطة التنفيذية عن الدين، بينما كان المفكرون المسلمون قبل ذلك يدعون إلى إبقاء السلطة التنفيذية والزعامة الدينية ملتصقتين في شخص الخليفة - السلطان". والكواكبي لم يقل باستعادة السلطة القديمة وإنما قال بأهمية استلهام منهج فترة الخلافة الراشدية ومثلها وغاياتها، مع تأكيده "بأنها لن تعود" لأنها فترة استثنائية تطلبها الواقع القائم آنذاك، ونحن علينا تحقيق ما حققته، ولكن عن طريق دولة معصرنة. لذلك لا نرى أن الكواكبي قد سعى إلى إقامة سلطة دينية، وكل ما أكده هو ضرورة تكامل الدين والسياسة مع فصل السياسة عن الدين. وهو حين طالب بفصل السلطة السياسية عن الدين لم يكن يفصل بين سلطتين، كما حدث في أوروبة (فصل السلطتين: الدينية والسياسية)، وذلك لأنه لا يقرّ أصلاً بوجود سلطة دينية لأحد في الإسلام، وجل ما كان يرمي إليه هو تحرير العرب من أسر السلطة العثمانية الاستبدادية، وبناء أمة عربية موحدة سياسياً. وفي حين نادى السلفي بالجامعة الدينية، ونادى الليبرالي بالجامعة القومية، أراد الكواكبي الاثنتين معاً. من هنا يحمل الكواكبي بذور فكر سلفي وليبرالي معاً، من غير أن ينتمي إلى أي منهما أكثر مما ينتمي إلى الآخر إلا بمقدار ضئيل. وظل حتى النهاية يطالب بالإسلامية حلاً للمسائل جميعها.
والإسلامية - بهذا التصور - يمكن تجسيدها بصيغ متعددة اجتماعياً وفكرياً وسياسياً مما يجعلها تشكل نسقاً فكرياً وعملياً للدين والدنيا على حد سواء، مما يسمح بتقديمها على أنها عقيدة وشريعة معاً، من كونها بديلاً يتخذ من النص الإسلامي إطاراً عاماً نقونن في ضوئه قوانيننا، وذلك لأن القرآن لم يترك خطاً عاماً شاملاً لم يأت على ذكره ضمناً أو صراحة، فهو يحيي العدل والتساوي والشورى ويرسم حدود اختيار الإنسان في حياته، ويقرر كيفية حصول التوازن الاقتصادي عبر الصدقات والزكاة، ويمنع التواكل ويشيع ملكية الأرض للناس أجمعين. ويجعل للبائس والمحروم حقاً في أموال الأغنياء. ففي الإسلام تتوافر مطالب الإنسان في الحرية والعدالة والمساواة.
إن مثل هذا الفهم لشمولية "القرآن الكريم" عند الكواكبي يقطع الطريق على كل من يحاول التدليل على أنه يفصل الدين عن السياسة بوصفها صيغة أخيرة لتنظيم الدول ويجعل، بالتالي، من المتعذّر علينا موافقة (جان داية) في ما ذهب إليه من محاولة تأكيد فصل الكواكبي بن الدين والدولة، بل إن كل ما فعله الكواكبي هو أنه فصل بين القائمين على الحكم وبين علماء الدين. إنه أدخل تحديداً مبدئياً هو إخراج مؤسسة الحكومة عن دائرة التحكم بالدين لضمان حرية العقيدة، بعيداً عن السلطة السياسية. كما أنه جعل الرابطة الإسلامية بمنأى عن التدخل في شؤون الحكم، وأبقى على الخليفة بوصفه. مرشداً أو رمزاً روحياً للجماعة، وميزه من السلطان أو الحاكم المدني الدنيوي. وهذا بالتحديد ما عمد الكواكبي إلى إثباته عبر كتابته، وذلك لأن الإسلامية عنده أشمل من أن تكون حكومة أو أن تتمثل في أشخاص. وتمثل الحل السياسي عنده في الدعوة إلى حكومة دنيوية، قانونها الأساسي الشريعة الإسلامية إطاراً عاماً فقط، رافضاً الصيغ الغربية، لأنه رآها غير صالحة للعرب المسلمين، الذين عليهم الانطلاق من واقعهم، والاسترشاد بشريعتهم، لأن فيها ما يكفل حرية الأفراد، وما يكفل قيام نظام حكم "ديمقراطي تماماً". وضمن هذا الإطار ناقش الكواكبي مسألة الخلافة.
بين العروبة والإسلام:
إن الحرية بكل ضروبها وفروعها هي الثمرة المطلوبة من أجل الإنسان، عند الكواكبي، وقد روى عنه (محمد رشيد رضا) قوله: "إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد، بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها"، حيث يعش الإنسان مستقلاً عن سواه من غير أن يشعر بتبعيته لأحد. لذلك يحب الكواكبي حياة البدو، فهو يعتقد أن البدوي ينشأ نشأة استقلالية بحيث يمكن لكل فرد من البدو الاعتماد على نفسه في معيشته "خلافاً لقاعدة الإنسان المدني بالطبع، تلك القاعدة التي أصبحت سخرية عند علماء الاجتماع المتأخرين"، فقد صار بوسع الإنسان "متى انتهت حضانته أن يعيش مستقلاً بذاته، غير متعلق بأقاربه وقومه كل الارتباط، ولا مرتبط ببيته وبلده كل التعلق" وما ذاك التعلق الملاحظ لدى الناس في الدولة الديمقراطية سوى رابطة يختارها الإنسان من دون قسر.أما الأسراء فهم وحدهم الذي يعيشون متلاصقين متحامين من سطوة الاستبداد، بخلاف الأمم الحرة التي يعش أفرادها متفرقين أما الحكومة البدوية فهي- بحسب تكوين البدو- بعيدة عن الاستبداد، ومثال الكواكبي على ذلك، معيشة أهل جزيرة العرب. ونتصور أن الكواكبي لم يشد بالبداوة إلا للتدليل على محاسن أهل الجزيرة العربية، كما أن استقراءه الواقع كان ناقصاً، أو أن آراءه لم تكن متماسكة، بدليل أنه رأي إيجابية التفرق، هنا، في حين كان قد عده أحد أسباب الانحطاط وتفشي الاستبداد. لكن إيجابيته تكمن في أنه كان يطالب باستقلال الإنسان استقلالاً نسبياً بحيث يبقى لكل إنسان دور في وطنه وبين أفراد أمته. وهنا استطاع الكواكبي النفاذ إلى فهم تعدد أدوار الإنسان في مجتمعه. وجل ما أراده هو أن يعيش الإنسان مستقلاً في شؤونه الشخصية ويظل في الوقت نفسه جزءاً لا يتجزأ من مجموع أفراد أمته. لذلك حاول إيجاد روابط متنوعة بين الناس، فوضع برنامجاً للحل التدريجي يكون به الإنسان حراً مستقلاً في شخصه، وكذا تكون العائلة ثم القرية ثم المدينة ثم القبائل في الشعب، يكونون أحراراً ويرتبط بعضهم ببعض بروابط جنس أو دين. وهذه دعوة صريحة لاستقلال الفرد مع إبقائه على روابط وعلاقات مع غيره شرط ألا يجرح الارتباط الاستقلال.
وقد كان الكواكبي عربياً، حتى أن الجامعة الإسلامية التي رغب بها كانت تحت قيادة العرب. فهو كما قال عنه (محمد كرد علي): "مع تمسكه بالإسلام لم يكن متعصباً، يأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء، لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة". هذا فضلاً عن تحديده مهمات الخليفة، مما حدا (بسليمان موسى) إلى القول: "لأول مرة يتقدم مفكر عربي مسلم بمشروع إنشاء دولة وطنية تفصل فيها السلطة التنفيذية عن الدين بينما كان المفكرون المسلمون قبل ذلك يدعون إلى إبقاء السلطة التنفيذية والزعامة الدينية ملتصقين في شخص الخليفة - السلطان" إلا أن الكواكبي، مع ذلك، لم يهمل الرابطة الإسلامية، بل دعا إليها بصورة لا تتعارض والوحدة القومية. وهذا منطق سليم ففي الفكر الإسلامي لا يمكن التفكير في جامعة إسلامية بدون التفكير في العرب وإبراز فضلهم في حفظ الإسلام. ومن المنطلق العروبي لا يمكن إقامة دولة عربية من غير الأخذ بعين الاعتبار الثقافة والحضارة الإسلامية، ودور "القرآن الكريم" في حفظ لغة العرب. لكن أهمية الفكرة القومية التي قال بها الكواكبي تكمن في أنها إلغاء للتمايز الديني بين أفراد الشعب الواحد، والاستعاضة عنه بالتمايز الوطني، فيقوم اتحاد بين الإمارات العربية. وقد تحدث عن الأمة العربية على أنها تمتد من شمال أفريقيا إلى العراق.
ويقول (محمد عمارة) عن عروبة الكواكبي: "إن فكرة العروبة بمعناها القومي الحديث، قد بلغت عند الكواكبي حداً من النضج ودرجة من الوضوح تستحق إلى جانب الإبراز، الفخر والاعتزاز". وقد أراد الكواكبي تكوين وحدة عربية، ضمن اتحاد إسلامي، مستندة إلى التراث والتاريخ العربي- الإسلامي، متجاوزاً بذلك إطار القومية الضيقة التي ليست، لديه، سوى شكل من أشكال التجمع. فمن اتحاد عائلي، إلى تجمع مديني، إلى قومي، إلى روابط دينية وجغرافية وسياسية وإنسانية. وهذا يجعل كلام (منيمنة) صحيحاً إذ يقول عن الكواكبي أنه "كانت له رؤيا قومية وإسلامية وإنسانية شاملة"، وكان "ميله للعرب" واضحاً فقد نادى "باسم العودة إلى إسلام خالص، بتمجيد القومية العربية التي تمر نهضتها من خلال تجدد الخلافة العربية". فالوحدة القومية ليست مشروعاً يحط من قيمة المعتقد الديني وحيي الأصول العرقية، كما أن الدين لا يطالب بانصهار الوحدة القومية في كيان الاتحاد الديني، بالرغم من أنه أكثر اتساعاً من الوحدة القومية.
إن الدولة القومية الواحدة لا تهمش الدين، بل إنها تجعل منه رافداً لها ورابطاً مع الدول الأخرى. فقد عد الكواكبي القومية العربية والاتحاد الإسلامي صنوين، بحيث لا تكون العروبة بديلاً عن الإسلام ولا يكون الإسلام بديلاً عن العروبة، بل إن كلاً منهما يعزز الآخر بحيث لا ينتشر الإسلام على حساب العروبة، بل لحسابها. وبذلك فإن "الكواكبي يجد حلاً لتكوين اتحاد إسلامي بين الدول"، ويبقى الرابط القومي، عنده، بعيداً عن المعتقد الديني، بحيث يمكن أن يكون من يرتبط معنا قومياً يدين بدين غير الإسلام، كما يمكن أن ينتمي المسلم إلى قوميته الخاصة فيكون إنكليزياً أو فرنسياً أو تركياً. وهكذا نجد ترابطاً بين الأديان والأقوام كلها، مما يدل على تكامل الإنسانية والإخاء الطبيعي بين الناس أجمعين.
وهذا يعني أن الكواكبي كان مع الجامعة الإسلامية ومع القومية العربية في الوقت عينه، خلافاً (لمحمد عبده) الذي انحاز للجامعة الدينية ضد الوطنية. أما عند الكواكبي فإن الاتحاد الإسلامي يشكل جداراً تحصينياً أمام الغرب الطامع، ولا يتعارض حبه للجامعة مع حبه لانتمائه العربي.
باحث سوري مقيم في الرياض
المصدر والهوامش:
(1) ينظر : جريدة القاهرة، العدد الخامس، 1903 إلى 40 وما بعدها.
اقتباسات أقوال الكواكبي مأخوذة كلّها من: الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي. دراسة وتحقيق: محمدجمال طحّان، بيروت ،
مركز دراسات الوحدة العربية،ط1،1995.