يكشف الناقد المصري في تحليله التفصيلي لشبكات الثيمات والشخصيات والإحالات المتراكبة في هذه الرواية الثرية مدى غنى العمل الأدبي الجيد وخصوبته، ومدى تفاعله الخلاق مع الواقع المصري الذي يتسم بتعدد المستويات وتقعدها، ولكن حدوس الفنان الخلاقة وقراءة الناقد المستبصرة تكشفان لنا ما تنطوي عليه من ثراء.

استعارة القوة التشكيلية للحياة

في رواية «زمن العشق والجنون»

أسامة عرابي

يقدم لنا الكاتب المصري متعدد المواهب عاطف عبد الرحمن في روايته الثانية (زمن العشق والجنون) الصادرة عن دار إبداع للنشر والتوزيع (2013)، بعد (أيام الإمام) (2010)، وثماني مسرحيات، واثني عشر كتابا لمسرح الطفل، وستة أعمال للإذاعة، بالإضافة إلى كتاب للتلفزيون دعاه باسم (بلاد الحواديت)، يقدم عملا روائيا ممتعا وعذبا. طاعت له الحرفة، ورهفت لغته الشعرية، عبر مقابلة تشف عن جدل المعيش والمحلوم به، وأن الناس أفراد يُكملون سردهم الفريد لحيواتهم، بل إن تكوين الذات يكمن في احتفاظ الفرد بحكاية عن نفسه أو نفسها، عاملا على صون هوية الاستقلال، والبحث في إمكاناتها الخصبة التي تمكِّنه من الوصول إلى صيغة فنية تحقق له فعاليته التاريخية.

فما الذي يشير إليه عنوان روايته هذه ’زمن العشق والجنون’؛ بوصفه الأفق المشرع على التجربة الأدبية، والمفرد الجماعي لتجاذبات الدلالة وخياراتها الفنية؟ يقول ‘لسان العرب’: العشق إفراط في الحب.. سئل الإمام الفقيه حافظ المذهب المالكي ’أبوالعباس بن أحمد بن يحيى’ عن الحب والعشق: أيهما أحمد؟ فقال: الحب لأن العشق فيه إفراط، ويسمى العاشق عاشقا؛ لأنه يذبل من شدة الهوى، كما تذبل العشقة: وهي شجرة تخضرُّ ثم تَدِقُ وتصفر .. ’لهذا قد يُفني العشق آجالنا، وإنَّا نرى عيونا لا تروْنها’ كما قالت امرأة من بني عذرة الذين تُنسب إليهم الأسطورة العذرية أو أسطورة العذريين ..أو قد يصيب العشق صاحبه بالجنون، على نحو ما حدث لـ’قيس بن الملوَّح’ مجنون ليلى العامرية الذي قتله العشق، وذهب بعقله الهُيام.
وقد قال ‘سانشو دي بنثا’ مخاطبا ‘دون كيشوت’ وهو على فراش المرض: ‘إن أكبر جنون يمكن أن يرتكبه الإنسان، هو أن يدع نفسه تموت دون أن يقتله أحد، ودون أن يُجهز عليه شيء من الحزن’.. وهو ما عبرت عنه رواية ‘زمن العشق والجنون’؛ حين رمت من وراء مجازها هذا، إلى طرح أسئلة الحب والغضب والفرح والرفض والحرية والبحث عن الوجود الحقيقي، وكشف زيف الحياد والجبن واللامبالاة.. وبذلك يندرج الإنسان في سياق مشروع بديل يغيِّر نظرته إلى العالم، ويعمِّق وعيه بدوره، ويحرضه على الفعل المقاوِم، بدلا من تبرئة الذمة بالإشفاق والبكاء.

وهنا نتوقف عند التوطئة التي صدَّر بها عاطف عبد الرحمن روايته قائلا:… في عالم تكثر فيه البشاعة.. لا أملك إلَّا أن أمسك بالقلم لأكتب..’، أي إن الكتابة جغرافيته الأنطولوجية التي يستعيد من خلالها حريته المفتقدة، وتعينه على فهم الذات والعالم؛ وتجريب أشكال تعبيرية جديدة، وتأسيس قيم جمالية مغايرة، محتفيا بالحاضر في تجدده الدائم.
لهذا أهدى روايته لثلاثة من الرجال الذين ’تقاطعت خطواتهم مع درب حياتي.. فأحدثوا فيها فارقا .. لكنني لم أنتبه لهذا الفارق .. إلَّا بعد رحيلهم’. د. محمد السيد سعيد ..المثقف النقدي الذي كرَّس حياته للدفاع عن حقوق الإنسان، وتطوير إطار جديد للمعرفة قادر على نقض الحدود التي يقيمها الحاضر وتجاوزها نحو آماد مستقبلية تجعل التنوير جزءا من مصيرنا التاريخي.. الأستاذ عبد المنعم كراوية.. المناضل النقابي اليساري الذي ضحَّى بحياته؛ من أجل تمكين مجتمعه من العبور من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية.. الأستاذ محمد عبد اللطيف سعيد.. المثقف وكاتب المسرح اليساري الذي آمن أن المسرح حوار وصراع نابعان من رؤية واضحة للظروف المحيطة بالإنسان، ودفعه إلى رفض التصالح مع واقعه السائد، والاصطدام بالقوى المستفيدة من تكريسه وتأبيده. وبذلك تضع رواية زمن العشق والجنون’ الذات موضع تساؤل تكشف فيه عن نفسها في اختلافها وتوترها وحركتها الحرة، عبر حوارية متعددة الأبعاد، تتقاسم فيها شخصيات الرواية وقائع حكاياتها، من خلال ‘صور ’أو ‘مشاهد’ أو وجهات نظر تصبح مرايا لبعضها بعضا؛ فتمسي بنية الحكاية مثل بنية الذاكرة التي ينفتح فيها الماضي على الحاضر، وتبزغ فيها ‘المقاومة التي تبديها التواريخ الخاصة نحو العولمة الشاملة ’بتعبير بول ريكور، ينهض بروايتها سارد عليم ‘مؤلف ضمني’، يتبنى خطابا روائيا تتقاطع مستوياته اللغوية والرمزية والنفسية ؛ ليدفعنا إلى إعادة قراءة الواقع بشروطه المادية والتاريخية. وهنا نلتقي بـ’يوسف’ الشخصية المركزية التي تتناسل منها حكايات كثيرة تنشَدّ إليها بمِلاط خفي.

وهو مناضل نقابي يساري يعمل على تنظيم الطبقة العاملة وتوحيد صفوفها والارتقاء بوعيها وبأدوات نضالها، في مواجهة الإدارة المتعنتة المستقوية بالأجهزة الأمنية ’يقترح يوسف أن يقوم الجميع بالإضراب عن العمل، يرى أن ذلك هو السبيل الوحيد للحصول على الحقوق المنهوبة.. الوجوه من حوله تنكر قوله.. يتعجب يوسف، ينظر إلى الوجوه المحيطة به؛ وجوه عمال سرقت حقوقهم، ولا يطالبون سوى بمطالب عادلة، تعينهم على مواجهة أعباء الحياة. أدرك من نظراتهم المكسورة أنهم لن يقفوا إلى جواره.. يؤمن أن قوة العمال في وحدتهم، لكنهم مكبلون بقيود حياتية وعائلية، تمنعهم من المغامرة والدخول في هذا الدرك الصعب’. لهذا قرَّر ‘خوض التجربة منفردا؛ دفاعا عن حقوق هؤلاء.. ودخل إضرابا مفتوحا عن الطعام ،معتصما في ذات الوقت بمكان العمل’.. ونجح إضرابه جزئيا في إرغام الإدارة على ‘الاستجابة إلى بعض المطالب العمالية’.. لكن أجهزة الأمن المتربصة به، أبعدته إلى ‘عمل إداري، بعيدا عن الورش، وعن الالتصاق المباشر بالعمال وقضاياهم. غير أنه لم ينقطع عنهم، وظل على علاقة وثيقة بهم؛ محاولا تجذير وعيهم. فأحسوا بالخجل لأنهم ‘خذلوه حين تركوه وحيدا يواجه هذه الآلة الرهيبة للقمع والاستبداد’.. وأدركوا أنْ لا شيء يتحقق أو مكسب ينتزع من دون ثمن ومواجهة.. الأمر الذي جعل ‘يوسف’ عرضة لرقابة أمنية صارمة ’فرضت على منزله’، وعلى تحركاته ‘فشعر بالانقباض واقتربت لحظة الاعتقال’.. يخبره صديقه ‘بأنه يجب أن يختفي؛ حتى تهدأ الأمور.. يحتار يوسف، أين يختبئ في هذه المدينة الصغيرة.. وتدور بذهنه صورة النديم الذي اختفى لأعوام في أحضان مصر. لكن بورسعيد صغيرة ومحاصرة، ترصد عيون الشرطة كل الأماكن’.. وأخيرا ’يخبره الصديق بأن لديه الحل؛ حجرة على أحد الأسطح، تسكنها امرأة وحيدة.’. وفي حجرة زينب أرملة عبد الجبار تاجر الحشيش وبائعة المناديل الورقية، يلمح قميصها الداخلي الرخيص إلى جواره ‘يمسكه في يده، يرفعه إلى أنفه.. رائحته جذابة، عكس مظهر الغرفة’ فيعي’أن هذه المرأة برغم فقرها وبساطتها، فإنها تقدِّر أنوثتها.. ثم راح رأسه يدور ويضج بهواجس وأفكار شتى، منصتا لما يأتيه من أصوات خارج الغرفة، حتى عاد صديقه ليخبره بأنه ‘سيمكث في غرفة بشقته لا يغادرها إلَّا بحساب، ووقت تواجد الأهل خارجها’.. لكن رائحة قميص زينب لا تفتأ تعاوده وتلح عليه. وهنا نلمح براعة الكاتب في استقطار الوجه الشعوري الأوفى تعبيرا عن طبيعة الإنسان، وما يحايثه من غواية الرغبة؛ فيكتشف معنى الحياة حين يُمسي الوجدان مصدرا لطاقة يشفى بها المُحبّ من الكَلال؛ فيستعيد قدرته على الحركة كلما أدركته العوائق والكوابح.

بَيْدَ أن زينب الأمية البريئة.. اليافعة.. المتمردة، تبدو تجسيدا لحقيقة ما، أو اكتشافا لها.. وهو ما يجعل بنية الحكاية في رواية زمن العشق والجنون’ بنية مفتوحة لا تنتهي، بل عندما تنتهي تبدأ. إذ في لحظة نهايتها، حكاية أخرى جديدة.. يعتمد فيها الراوي على التداعيات الدائرية التي تتداخل فيها المسارات والمآلات والمصائر ببعضها البعض.. وبذلك يزيل لقاء يوسف بزينب العلاقة الملتبسة بين الذات والآخر، وامحاء الفارق بين الحقيقي والمتخيل. ’تعددت لقاءات يوسف وأصدقائه على السطوح. تعرف زينب أن هناك ما يشغل يوسف وأصدقاءه، لكنها أبدا لا تتدخل بالسؤال. تكتفي بتقديم الشاي، والجلوس على مبعدة منهم، تستمع إلى الحوار؛ علَّها تفهم منه ما يمكن لها به أن تخفف عن يوسف قلقه وانشغالها، وفي نفس الوقت يقرِّبها من يوسف.. لكنها لا تتمكن’. وبدا كلاهما ‘يوسف وزينب’ وكأنه يبحث عن الآخر في امتلائه الوجودي، وامتداده الكياني في جغرافيا ذاته وتاريخها. يوسف المناضل الشيوعي الذي يملك مشروعا سياسيا اجتماعيا ينزع إلى تغيير الراهن وتجاوزه نحو فسحة مستقبلية إنسانية.. ضيف السجون الدائم.. الذي يرى في الثقافة جوهرها الإنساني، وما ترمي إليه من تعميق وعي جماعي بمصيرنا التاريخي.. حتى عجز المحقق عن تكييف تهمة محددة له ‘فهو في إحدى الجلسات شيوعي يُموَّل من الخارج؛ لنشر الفكر المتطرف داخل البلاد، وفي أخرى إرهابي إسلامي يدعم التيارات الإرهابية التي تحاول إسقاط نظام الحكم’؛ إذ ما الذي يبرر من وجهة نظر المحقق- وجود ‘دراسة عن الاستبداد في النظم الشمولية، إلى جانب دراسة أخرى عن أبي ذر الغفاري’، ضمن المضبوطات لديه، فضلا عن هذه الأمشاج المتباينة من الكتب التي وجدها في مكتبته وتضرب في كل وادٍ وحقل معرفي.

ومن ثم؛ لم يعِ المحقق مغزى اهتمام المثقف النقدي بالوعي التاريخي، ولا معنى حرمان المجتمع من تاريخه، ولا أهمية التنقيب واكتشاف تراثنا المصادَر والمطمور، وإعادة قراءة التاريخ الرسمي في ضوء جديد يجلو أبعاده، بمنأى عن التقديس، وخلط الإنساني باللاهوتي.. عندئذ جرى توصيف تهمته على النحو التالي: ‘الانتماء إلى تنظيم محظور يسعى لقلب نظام الحكم بالقوة، عن طريق نشر أفكار غريبة عن المجتمع بواسطة القوة المسلحة’.. وتم اقتياد يوسف ومجموعة كبيرة إلى السجن؛ لينالوا حصتهم من التعذيب والإيذاء البدني والنفسي. لكنه يملك حس سخرية نادرا وراقيا مكَّنه من تفويت الفرصة على جلاديه في النيْل منه، وتوهينه، على نحو ما تبدى في نهيه’أحد الوافدين الجدد ممن يطلقون لحيتهم طويلة، عن قتل صرصار دخل إلى جوار فرشته، وحذَّره من أن يقتل نفسا بغير نفس.. وتمثل يوسف الجدية والحزم، وتحولت الزنزانة إلى حلقة نقاش بين من يُحرِّم قتل الصرصار إلا بالحق، وبين من يُبيح قتله، حتى اكتشف الجميع ـ في النهاية ـ أنه ‘كان يسخر منهم’؛ ومن ثم؛ استدراجهم إلى شَرك النقاشات التافهة والقضايا البائدة، غير أنه هَدَفَ من وراء ذلك إلى إشاعة مناخ من المرح والحيوية يُعين رفاقه على تجديد طاقتهم، واستعادة إنسانيتهم في مواجهة تَبدي أي ميول للإحباط أو الضعف أو القنوط. لهذا حرصوا عقب عودتهم من التحقيق في النيابة نهارا، وحفل استقبالهم ‘أي تعذيبهم’ على مدخل السجن، أن يجتمعوا في الليل لمتابعة الأخبار والغناء وتلاوة الأشعار.

وبذلك مرَّت فترة السجن بأشهرها الثلاثة بسلام، وعاد يوسف إلى حياته الطبيعية بروتينها اليومي المعتاد، وإن أضحى أكثر حذرا لفترة من الزمن، ولكن ‘بشكل عفوي محسوب’ لا مبالغة فيه ولا تضخيم؛ هربا من الرقابة البوليسية التي تُحصي عليه حركاته وسكناته. لكن حلم يوسف بمجتمع يسوده الخير والجمال والمساواة والعدالة، ويختفي منه الفقر، ظل يكبر، وازدادت حماسته وحرارة حواراته اشتعالا، متمثلا دوما أبيات شاعر العامية محمد سيف: هنغني.. كما لو كنا بنغني لأول مرَّة/ ونحب.. كما لو كنا ما حبينا بالمرَّة/ يتقابلوا الاصحاب بعد غيبة طويلة/ نفس الإيدين المعروقين/ نفس العيدان النحيلة/ اللي هترسم من جديد/ سكة حياة للوطن’.. ومن توقد حلم يوسف وتوهجه، تبزغ زينب كمثل زهرة يتضوع ضوؤها حين يحط فوقها يعسوب؛ فيتداخل الحلم مع الواقع، وتتواشج الحياة مع نداءات الروح، فتذكِّرنا بلقاء شاعر الشعب ’سليمان الريسبـ ‘آمال’ في رواية عاطف عبد الرحمن الفاتنة ’أيام الإمام’، ودور الشخصية الشعبية في التعرف على الحياة في تعددها المفعم بالوعود.

لذلك رفضت ‘زينب’ الفتاة اللاهية كنظيراتها من البنات اللائي يدرجن في ملاعب الصبا، بعد مصرع زوجها عبد الجبار تاجر الحشيش على يد سكان الجبل الغربي، أن يضمها ‘لملوم’ السيد الجديد للبيت والقرية والزراعات وكل شيء إلى حريمه وممتلكاته، مثل بندقية عبد الجبار التي ورثها ضمن ما ورث من تَرِكَتِهِ.. وأبت أن تجرَّ إلى الحظيرة مرة أخرى، مثلما جُرَّت إلى دَوَّار عبد الجبار لوضع أوراق النبات المُخَدِّر الجافة في المُنْخَل الكبير، وتحريكه لتتساقط البودرة على الأرض، ثم يأتي عبد الجبار ليزيل بفرشاة صغيرة ما علق على جسدي زينب وفتاة أخرى العارييْن من غبار اختلط بعرقهن، ويجمع ذلك في وعاء صغير في يده، يطلق عليه ’حشيش عرق الصبايا’.. ثم تزوجها على الرغم من فارق السن الكبير بينهما بماله ونفوذه وسطوته. بَيْدَ أن زينب إثر مقتل زوجها، فرَّت بجنينها من هذا المناخ البطريركي القائم على تكريس إقصائها وتهميشها، ومضت في طريقها لا تلوي على شيء ‘لا تعلم إلى أين، ولكنها لن تتوقف حتى يتوقف القطار.. ومع توقف القطار في محطته الأخيرة، غادرت زينب القطار مع المغادرين’، لتحط رَحْلَها في بلد يُقال له بورسعيد لم تسمع عنه من قبل..

وفي بورسعيد، بدأت مغامرتها الحياتية، مؤسِسَة لها على قيم الحرية والرفض للبنية العائلية التي تقوم عليها أسس المجتمع التقليدي، وانتقص من إمكاناتها وقدرتها على المشاركة الفعَّالة، فاستأجرت حجرة على سطح إحدى البنايات، وعملت بائعة للمناديل الورقية، متطلعة إلى فجر جديد يُطل منه المجهول. لهذا تعلقت بيوسف من لحظة التوتر والقلق التي ينفذ منها المستقبل، ويشكِّل جسد مصيرنا.. حتى إنه ما إن ‘يأخذ كلٌّ منهم في ترديد أبيات من الشعر لشاعر يفضله’، حتى تكون ’زينب قد شردت خلف أفكارها، ترسم بلادا بعيدة وأفقا لا يغيب، وحياة لـ’قمر’ ـ ابنتها ـ مملوءة بالبهجة وضحكات لا تنقطع، وحبيبا تنتظر أن يعود من عمله، تنفض عنه عناء التعب، وتأخذه في صدرها، وتحنو عليه برقتها، وتداعبه بمشاعر نسائية جيَّاشة.. مشاعر لم يسبق لها أن عبرت عنها. مشاعر مدفونة تحت الجلباب الأسود الذي تتسربل به أثناء تَجوالها في الشوارع لبيع المناديل الورقية’.

وبذلك عاشت زينب علاقتها الإنسانية بيوسف، بوصفها حياة في طريقها إلى التحول، تعينها على العثور على موطئ قدم في الحياة.. وتضعها وجها لوجه أمام أشياء عظيمة فيها تدعوها إلى أن تعيشها بطريقة مختلفة، وبتفكير جديد. الأمر الذي عرَّفها لا إلى يوسف وحده، بل إلى آخرين تراسلت حياتهم مع تجاربه السياسية، وقاسموه الحلم والخيارات ذاتهما. فالتقت ب’حميدة’ أرملة ’صلاحالتي شاطرته ‘أفكاره المُحِبَّة للحياة، والتواقة إلى الحرية والإصلاح، وبدأت تسمع أشعاره وأشعار آخرين، تشاركه وتشاركهم حلما مجهولا، لا تعرف كيف يتحقق. وظلت محتفظة بالعلبة الصغيرة التي تحوي ذكرياتها، وبداخلها منديل حريمي صغير مكتوب بداخله: ‘هنغني.. كما لو كنا بنغني لأول مرة/ ونحب.. كما لو كنا ما حبينا بالمرَّة، وهما البيتان الشعريان نفسهما اللذان سمعتهما زينب من يوسف أثناء شروده وهو يجلس على سطح العمارة باتجاه البحر؛ فأدركت العروة الوثقى التي تربط بينهما، وأحبت حميدة أكثر عندما أنبأتها بقصة حبها لصلاح، متحدية أباها الرافض له، والراغب في تزويجها من رجل ينتمي إلى طبقة ‘لها أصول اجتماعية معينة’.. ومن ثم؛ انحازت إلى صلاح وما يمثله من توجه فكري وسياسي، فتزوجته في غرفة ضيقة على سطح عمارة بحي العرب في بورسعيد، وراحت تمنِّي نفسها ‘بالحياة التي حلمت بها ليالي طويلة’، بعد أن رفض والدها الإسهام بأي نفقات في هذا الزواج نتيجة تمسكها به، ودفعه إلى الرضوخ لإرادتها.

غير أن حميدة عادت ـ في نهاية المطاف ـ إلى منزل العائلة مُرغمة إثر وفاة والدها في حادث سيارة على الطريق المؤدي إلى دمياط، واضطرارها إلى تسديد ديونه المتراكمة عليه بعد أن تأثرت تجارتهبالحرب الدائرة في منزله، حتى قارب على الإفلاس، وبيع بعض المقتنيات؛ وتوفيرا للنفقات’.. لكن ‘صلاحا يزداد كل يوم محبة في عيني حميدة، وهو يقوم برعاية شؤونها وحياتها، ويحبها ويُعلِّمها الكثير والكثير’.. غيرأنه يلقى حتفه على يد جلاوزة النظام ودولته القمعية الذين أعادوه إلى زوجته ملفوفا في كفن.. وهو المآل عينه الذي انتهى إليه حمدي تلميذ صلاح الذي كان ‘يعامله كابن له أو أخ أصغر، وهو الذي قدَّم له الكثير من الكتب، وكان يهديه الأشعار’، لكنه مات نتيجة التعذيب، بعد أن تمكنت الأجهزة الأمنية من ‘كشف ما بحوزته من وثائق خاصة بتورط رموز سياسية في فضائح فساد ورشوة جنسية.. بعد أن ألقوا به على مدخل باب العمارة وهو ينازع الموت’..أما يوسف فقد قتله أمين الشرطة الذي اغتصب زينب وأهان أنوثتها، أوعلى حد تعبير الراوي الشاعري : قتله من سبق له أن قتلها ذات ليلة باردة، وبنفس البرودة قتل حلمها’ في الارتباط بيوسف، وبناء حياة ملؤها الحب والجمال الإنساني الآسر. ونزل يوسف وأصدقاؤه إلى الشارع يقودون الجماهير الشعبية ضد مستغليهم وغاصبي حقوقهم، وصوته يدوِّي بالشعارات وهو محمول على أكتافها، مناديا بالعدل والحرية والكرامة الإنسانية، فقتله نظام النيوليبرالية الذي يشكِّل العقبة الرئيسة أمام قيام ديمقراطية حقيقية..

وبقدر ما يشير إليه قتل يوسف وزملائه من إدانة للدولة البوليسية الغشوم، إلَّا أن الموت عند عاطف عبد الرحمن يعبِّر ـ كما عبَّر عنه في روايته الأولى ‘أيام الإمام’ موت سليمان الريس وآمال ـ عن وعي بما بين المعرفة الحقة والموت من تماس وتعالق؛ على نحو ما أخبرتنا به محاورة ‘فيدون’ لأفلاطون؛ حيث الموت حياة في عالم آخر يستطيع فيه المرء أن يتحدث بحرية مع أورفيوس وموزايوس وهزيود وهوميروس؛ وفي ذلك لا يكون جزاء من يطرح الأسئلة القتل!ألم يقلْ لنا ‘سبينوزا’: إن آخر ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت، لأن حكمته ليست تأملا للموت، بل تأمل للحياة. لكن رواية زمن العشق والجنون’ لا تكف عن مراودة الرؤيا، واستبطان ذات الإنسان ولا وعيه؛ بعين كاميرا تبدو شاهدا موضوعيا مستقلا، وعبر مشاهد متوفزة.. لاهثة.. متوترة.. وتحريك للمجموعات، وتشكيل داخل الكادر، نلمح من خلاله زينب وهي تصرخ’بأعلى صوتها منادية يوسف، لكن صوتها ضاع وسط هتافات المرددين.. لمحت يوسف ينزل من على الأكتاف، ويقترب من قوات الأمن الموجودة في مواجهة المتظاهرين في الميدان.. اقترب يوسف من أحد أفراد الأمن، وكادت أن تُجَنَّ.. إنه نفس أمين الشرطة الذي كانت تبحث عنه لأيام طوال.. ذلك الذي ألقاها كومة ممزقة من المشاعر فوق كومة من القُمامة في أرض الدريسة ذات مساء.

صرخت بأعلى صوتها علَّه يُمسك لها برجل الشرطة.. ضاعت صرخاتها وسط الهتافات المدوية والحناجر الغاضبة’. وراحت زينب تواصل نداءاتها وسط الاشتباكات الدائرة بالأيدي والعصي والحجارة، بين الجماهير المتدافعة والشرطة، محذرة يوسف من أمين الشرطة الذي رفع سلاحه وصوَّبه باتجاهه ليُرديَه قتيلا. غير أنها ‘لمحت من الخلف وجه أمين الشرطة، وعلى وجهه ابتسامة باردة. كان زملاء أمين الشرطة يسحبونه إلى الخلف، ويحملونه بعيدا عن الجماهير الغاضبة. تمنت لو وصلت إليه؛ ذلك الذي قتل يوما حلمها بأن تكون إنسانة سوية ـ وصحتها؛ إنسانا سويا لأن ‘إنسان’ لفظ مستوٍ يشترك فيه المذكر والمؤنث- ثم قتل الآن حلمها بيوسف’. وهنا يفتح موت يوسف على زمن غائم ملتبس، مجهولة أكبر من معلومه؛ فيفضي بنا إلى الارتياب والتساؤل واللامفكر فيه والقلق والتمرد والغضب. ف’سارت زينب مدفوعة بقوة غير مرئية، لا تعلم إلى أين هي ذاهبة.. وتاهت وسط الجموع الغاضبة.. المتطاحنة.
ولم يسمع عنها أحد بعد ذلك شيئا’. وكأنما حُكم على زينب أن تظل منفية في أحلامها المقتولة، مع طفلتها ‘قمر’ التي رجت لها حياة مغايرة، لكن الأقدار ألقت بها في سديم المجهول الذي يحثها على خوض مغامرة جديدة؛ علَّها تستعيد فيها شيئا من نُثار صبواتها الموءودة! فهل نحن أمام مجرى يسير هادرا من الصيرورة، إلى المحايثة، إلى الاختفاء بلغة الفلسفة؟

وبذلك تغدو عودة صلاح إلى حميدة في منتصف الليل، ومغادرته قبل الشروق، متجسدا في صورة رجل يلتصق بها ويداعبها، واعتيادها وجوده إلى جوارها ليلة إثر ليلة؛ لترتدي له الملابس التي يمكن نزعها بسرعة، وترش جسمها بالعطر الذي يحبه، تغدو مداعبةً للطيف الميتافيزيقي، وإحياء للجدل العميق والأصيل بين الشك واليقين، وحضورا للذات أمام ذاتها وإزاء الأعيان المتخارجة عن الذات بلغة الفلسفة، أو ضربا من الواقعية السحرية بلغة النقد الأدبي..’ومن المثير أن فعله الجنسي معها قد تحسَّن عمَّا قبل وفاته؛ إذ أصبح مدركا لكيفية مداعبتها واستثارتها وجعلها تشعر بالمتعة في كل مرة’.
لهذا تسلّط رواية ’زمن العشق والجنون’ ضوءها الساطع على حاضر مأزوم .. مثقل بهمومه وتحدياته.. وماأفضى إليه من انهيار على مختلف الأصعدة ؛ الأمر الذي جعل الطبيب يخيِّر زينب ‘ما بين وفاة طفلها في المستشفى الحكومي، وحياته في العيادة الخاصة، دون أن يعبأ بظروفها وإمكاناتها المادية الرثة ‘ساخرا من قلة الإمكانات بالمستشفى الحكومي، وعدم الرعاية، والمجازفة بإجراء العملية في هذا المستشفى’.. فلجأت إلى ‘عمي عبد الحميد’ بناء على نصيحة حميدة؛ بوصفه رجلا مبروكا، يقوم بإجراء أصعب الجراحات داخل منزله.. يحضِّر أرواح كبار الأطباء من شتى أنحاء العالم؛ ليجروا الجراحات أمامه، والكثيرون من أهل الحي قد تم شفاؤهم على يديْه’.

وهنا نقع على نموذج فصامي للمثقف ‘حميدة’ يراوح بين العلم والأسطورة، ويتفادى طرح الأسئلة الحقيقية على موروثه الثاوي في مفازات العصور الوسطى وعتماتها المطبقة على الوعي والوجود. وراحت حميدة ’طوال الطريق تبسمل وتحوقل، وزينب ليست لديها خيارات أخرى؛ تسير مدفوعة بقوة الألم خلف حميدة التي تعرف الطريق إلى عمي عبد الحميد’.. وبعد أن شرحت له حميدة الموضوع ب’سرعة واختصار’، أخرج الرجل ‘كتابا، وبدأ يقرأ بعض صفحاته، بينما الألم يعتصر زينب من أسفل إلى أعلى.. نظرت ناحية عمي عبد الحميد، تطلب منه النجدة.. وجدته جالسا بلا حراك، وقد سقط الضوء القادم من خارج الغرفة على وجهه، فأكسبه إشراقا وضياء’.. ووضعت طفلتها ‘قمر’، واتجهت إليه لكي تخبره، لكنها ما إن ‘لمست كتفه، حتى سقط الكتاب الذي كان بين يديْه على الأرض، ولم يحرِّك ساكنا.. كان عمي عبد الحميد قد مات’.. وماتت معه بالطبع خرافته وكتبه الصفراء التي توهم بيقين المعرفة والعلاج الشافي. بَيْدَ أن تقنية رواية ‘زمن العشق والجنون’ تقدم لنا في فصولها السبعة عشر، صورا عدة لبطلي هذا العمل؛ يوسف وزينب: زينب.. صورة من الماضي البعيد، زينب.. صورة غير واضحة المعالم، يوسف.. صورة متوقعة، يوسف.. صورة تحاول أن تتماسك…إلخ،

تقدم لنا زاوية في النظر والرؤية للحالة الإنسانية، بكل ما تملكه من طاقة تعبيرية في خلق حس جمالي بالحياة؛ بحيث تغدو أداة كشف درامية وإفصاح عن جوهر الشخصية وروحيتها بصوت أبيض، وبالتفاتة شعرية عارية.. فأتت متماسكة، متميزة بلغتها الخاصة، وقدرتها على مساكنة مناطق الصمت والحركة دون افتعال.. فنجت الرواية من الترهل والتزيد والوقوع في شَرك الميلودراما والإسقاطات المجانية. انظرْ إلى مشهد هجوم أمين الشرطة على جسد زينب والتهامه له، وقسوته في التعامل معه، ولفظه فور قضائه وطره ‘تاركا إياها ملقاة فوق كومة من القش’، وما دار بخلدها من مشاعر متناقضة حدت بها إلى أن تلعن’ الإحساس الأنثوي الذي تولَّد بداخلها لمجرد اقتراب أمين الشرطة منها.. هي لا تعرف هذه المشاعر.. ذكرياتها عنها ما كان يفعله عبد الجبار.. ربما لو سألها أمين الشرطة، لوهبت نفسها له عن طيب خاطر.. لعنت هذه اللحظة، ولعنت ركوبها الميكروباص، ولعنت أمين الشرطة.. تمنت لو قابلته مجددا، عندها لن تتردد في أن تنشب أظافرها في عينيْه، وأسنانها في عنقه.. لن تتركه إلا جثة هامدة. ملأها الشعور بالانتقام وهي تحمل ’قمر’ وتضعها في فراشها’.. ولم تسقط خصومتها له بالتقادم، وظلت تبحث عنه حتى رأته يوم المظاهرة الدامية وهو يقتل حلمها الذي كبر بداخلها بيوسف، فضاعت بعد أن ضُيِّعت!

كما لا ننسى لحظة انفراد زينب بنفسها بعد خروج ‘قمر’ بصحبة حميدة إلى المدرسة، وشرودها مع تداعيات اسم ’يوسف’ الذي تناهى إلى سمعها من تلاوة أحد مشايخ المقارئ المصرية لسورة ‘يوسف’ في الراديو. وهنا يتبدى القاسم المشترك بين يوسف النبي وحبيبها يوسف في جمالية الصورة الشعرية التي تداعب شوقها الخفي إلى الحب.. إلى معارج الطريق نحو الجمال الحر؛ عبر نداءات النفس الإنسانية وكينونتها التواقة إلى الحياة وهوائها النقي، معانقة شطحها المبدع الذي أعاد إليها براءة طفولتها المجروحة والمعذبة على يد زوجها القتيل عبد الجبار الذي حرمها من عوالمها البهية، ونبض شوقها، وهمس وجدها، مكرِّسا دونيتها. لهذا جاءت دهشة زينب مماثلة لدهشة طفلتها قمر وهما يرتادان دار السينما مع يوسف لأول مرة ’كانت ترى حياتها معروضة على الشاشة.. ليست الحياة التي تحياها، وإنما تلك الحياة التي تتمناها وتحلم بها ليلا، ولا تجرؤ على أن تفصح عنها حتى لأقرب الناس إليها حميدة.. سحرتها الألوان والمشاهد المتتابعة، وكانت في كل مرة تراه على الشاشة تجد نفسها داخل المكان ومعها يوسف.. الحلم الذي لم يزلْ يراودها في النوم، وفي الصحو أيضا’. ألم يقلْ لنا المخرج العالمي ‘جودار’: السينما هي الحياة، وأرغب حقا في أن أعيش الحياة وكأنها سينما.. وكون المرء يعمل في السينما، يسمح له بأن يتصرف في الحياة بطريقة أقل خشية؛ لأنه يملك قوة التخيل داخل ذاته، ويجرؤ؟ إن رواية ‘زمن العشق والجنون’ لـ’عاطف عبد الرحمن’ تغترف من عمق حياتنا الإنسانية، وحيويتها الطافرة، فتقترب من المعنى المستكن في المكان والروح وجوهر المغامرة المبدعة.