يدخلنا "محمود أبو عيشة" منذ عنوان روايته المدهشة "امرأة في المنام" (1)، يدخلنا في دوامة التساؤل، وحيز الدهشة، التي تدفعنا لحالة اليقظة منذ اللحظة الأولي لاستقبال عمل لا يقدم نفسه مجانيا، رغم تدخلاته الذكية بطول الرواية في الحكي التي توسع من مساحة الرؤيا وتضفي الحميمية التي تمسك بالقارئ المتعجل، فلا يتسرع، أو يستسهل الرؤيا المباشرة التي لا تخلو من المتعة التي أراها عنصرا أساسيا في العمل الإبداعي عموما، وتتوافر في هذا العمل خصوصا، الذي جاء مركزا دون ترهل أو زيادة، مشحونا بالكثير من المعاني والتأويلات. فإذا ما تأملنا العنوان الموفق "إمرأة في المنام" فإن أول ما يتبادر إلي الذهن مباشرة، أن الرواية لابد تتحدث عن إمرأة وردت في حلم رجل. غير أن الاحتمال قائم، ولماذا لا تكون امرأة في حالة نوم؟ غير أن قراءة العمل تقول أن العنوان يحمل المعنين معا.
ف"حواء" الشخصية الرئيسة في العمل، لا تمارس حقوقها كامرأة إلا في المنام، بينما هي في الصحو ليست امرأة كالأخريات، وإنما هي إنسانة تعيش في عالم لا يراه غيرها، ولا تواصل بينها وبين عالمها المحيط، حتي مع زوجها "آدم" نفسه. وامرأة في المنام، تأتي زوجها "آدم" المحروم منها بحكم ما تعانيه وتعايشه، ويحرمه متعة وحاجة الاتصال، رغم حبها له، ويحرمه ذلك الرقيب الديني والمجتمعي العائش في جوانيته، فلا سبيل لديه إلا بتفريغ رغبته في المنام، سواء في يقظته، أو في نومه.
يمسك "محمود أبو عيشة" بربابة الشاعر الشفاهي في "جرن" البلد ويحدثنا عن تلك المرأة التي لم يقتصر تأثير جمالها علي زوجها، وإنما تخطاه للعوالم الأخري، حيث يقع أحد العوالم اللامرئية في عشقها، يحتلها ليلا ويدخلها في حدائق المتعة الشبقية، التي معها تنفر من عاشقها الأرضي، زوجها الذي حفيت قدماه في البحث لدي كل العرافين والمشعوذين، وأصحاب العلم، عن وسيلة لإبعاد ذلك المحتل عن جسد زوجته، ومع طول الحرمان، وصرخات الجسد البشري واحتياجاته، يعيش هو الآخر من خلال اللامرئي، في عوالم النساء المرئية.
وليس عن طريق الصدفة، يسمي محمود أبو عيشة تلك المرأة ب" حواء" وأن يسمي زوجها المكلوم ب"آدم"، وإنما عن سبق إصرار وترصد، ومؤكدا في البداية، أنه لا يعني بهما أمنا "حواء" التي ساهمت في إخراج أبينا آدم من الجنة، فشقينا من بعدهما، مؤكدا ومحاولا أن يخلق حواء وآدم جديدين، قديمين في ذات الآن، وكـأنه يريد أن يقول أن المشكلة أزلية من أبونا آدم وأمنا حواء حتي الآن وغدا. خاصة أن آدم الرواية، ظل وقتا غير قصير ينسب إلي جده "أبو همام" الذي أحبه "آدم" أكثر من نفسه، وكأن "آدم" الحديث يعيش في جلباب "آدم" القديم. فالعلاقة متجددة، والمراوغة قائمة علي طول الزمن، ولا فكاك منها، مهما حاول أي منهما، آدم أو حواء الهرب: [يهجرها آدم مغلوبا علي أمره، فتطارده حواء بحيل نسائية، نادرا ما تخيب] إلي أن يلتحما معا [حواء وآدم في لحظة خارقة للعادة، إلي كائن مكتمل، تعصف بهما شهوة الحب، يغزلان كونا رحبا، مفعما بأطفال الحنين، هي واحدته، وهو واحدها]ص25.
وإذا كان قد قيل من قبل أن المعاني ملقاة علي قارعة الطريق، فإن هذه الرؤية ل"إمرأة في المنام" ليست بالجديدة، فما منا إلا ويعرف أن العلاقة المراوغة بين الرجل والمرأة مراوغة أزلية، وأن بهما معا يتم الاكتمال. غير أن صياغة هذه المعاني، وما تضفيه من متعة، هي التي توثق العلاقة بين طرفي العملية الإبداعية، المبدع والقارئ.
فنظرا لأن العلاقة نشأت بين آدم وحواء، ولم يكن حولهما إلآ الكائنات غير المرئية، بل وكان لها - الكائنات – دور في تشكيل حياتهما، عندما وسوس لهما الشيطان، وأنزلهما من جنة الرب إلي أرضه، فإن محمود أبو عيشة، حافظ علي وجود نفس الأجواء، أن يتعايش آدم وحواء، مع تلك الكائنات، التي تؤكد كل الكتب السماوية، والتواريخ البشرية، وجودهما بيننا، بل وبشكل ملموس في كثير من البيئات الريفية، وما أوجد المشعوذين، والمتعاملين مع هذه الكائنات، إما بأساليب الديك الذي يبيض، والشعرة البيضاء في حليل كلب أسود. أو التعامل معها بالآيات القرآنية، أو بالقرابين علي أضرحة الأولياء، أو بالاعترافات علي مذبح الرب في قدس أقداس الكنيسة.
ونظرا لأن الحديث عن الكائنات غير المرئية فيه ما قد يثير القشعريرة، او الخوف، حرص محمود أبو عيشة أن يرافقنا في الرحلة بنفسه، بتواجده الفعلي داخل العمل بطوله، ليظهر بين الحين والآخر، وكأنه يبث فينا الطمأنينة، وحتي لا يكون وجوده ثقيلا، أو دخيلا، فحرص علي خفة الظل التي يحسد عليها، وكأنه يهدهد قارئه بخفة محمودة، ويخبره بأنه لازال علي الأرض ويعيش حياته العادية، فنراه –مثلا- يستأذن قارئه في الوقوف ب"آدم" عند الحلاق، ليقوم –هو- بعمل بيتي عصري بحت:
[عمر الصغير ذا السنوات الخمس، بعد أن انتهي من معاقرة الألعاب الكرتونية المعقدة، التي تزيد عصبيته، وتحوله إلي شخصية كارتونية بجدارة، أراد، أعزكم الله، أن يعمل زي الناس، ولم يجد غيري للقيام بهذه المهمة الجليلة والعاجلة، التي لا تحتمل أي تأخير، لأي سبب كان، حيث أمه التي عملت حديثا، بالأجر، في مهنة التعليم، إرث النبوة، ببركة يناير، تتابع، بدأب منقطع النظير، مراجعة الدروس النهائية لإخوته.......... فوراء كل كتابة عظيمة، حكومة ظل، زوجة عظيمة، إما بتوفير الصفاء الذهني اللازم، أو بطريقةأكثر فاعلية بأن تنكد عليك فتهرب إلي الكتابة، فلها الفضل في كل الأحوال،فإما تجعلك سعيدا، بعد الشر،أو تجعلك كاتبا.] ص65.
ففي هذه الفقرة خفيفة الظل، يبث لنا أبو عيشة الكثير في برشامة.
فهو أولا يطير بنا من أعماق التاريخ والماضي، إلي عمق الحاضر العصري الذي علي الرجل فيه أن يقوم ببعض أدوار المرأة التي دخلت مجالات جديدة عليها. وهو يشير بلمحة خاطفة إلي قدسية وأهمية دور المعلم، كما يشير إلي التأثير الضار لللأعاب العصرية التي استغرقت الأطفال وحولتهم إلي كائنات كرتونية، كما تضعنا اللحظة –أيضا- أمام ما حدث في يناير 2011، وما سنعود إليه بعد قليل. حيث يسير أبو عيشة علي جدل "جنزير" حديدي متشابك الحلقات، حتي لو خرجت حلقة منه خارج السياق – ظاهريا – فإنها تظل متشابكة دون فكاك بالحبل الأصلي. وقد استخدم ذلك في تقديم المعلومة، أو تأصيلها، أو إلقاء الضوء علي جوهر الشخصية، نافذا منها إلي جوهر الشخصية المصرية، وصولا إلي تأثيرها، وسريانها داخل أنسجته، لتسوقه إلي قدره المحتوم والمحكوم بالهلاك، إن لم يسع لتطهيرها.
فجاءت المعرفة لتخرج بالرواية عن مجرد التسلية، أو الحكاية، وهو ما أضاف المتعة الفكرية إلي المتعة الحكائية، دون أن يقع في المباشرة أو الخطابية المنفرة. فنراه يسرد الأسباب العلمية، العصرية، إلي جانب التشخصات الغيبية، التي تعتمد البخور والأحجبة، وكأننا في مواجهة بين الماضي والحاضر، بين العلم النظري والخرافة الغيبيبة. حيث يقول العلم علي تلك الأعراض التي تعاني منها حواء:
[ لم تكف حواء عن الشكوي قط، أصابها نسيان وخمول وشرود دائم، يحدق في الفراغ، أفاد الحكماء، بيقين مطلق، بناء علي إجابات آدم، أن حواء لا تعاني مرضا عضويا، وظهور الأعراض وانتقالها من عضو إلي آخر، حالة نفسية من حالات الشخصية المتعددة، أو هلوسات ذاتية من نتائج الدماغ، أو حالة إدراك فوق حسي، تتحرر فيها الروح من الجسم، وتتحول إلي أثير..]ص25.
ملامح الشخصية
وتطبيقا للرؤية العلمية أيضا، يعود بنا محمود أبو عيشة إلي بدايات شخوصه الأولي، والتي يقول العلم أنها حجر الأساس في بناء الإنسان. فنتعرف علي جذور ما حدث لحواء الرواية، حيث خضعت لمؤثرا ثلاث، كانت كافية لتذهب بها إلي حيث كانت معاناتها، ومعاناة آدم معها. فقد تصورت كره إمها لها، علي عكس ما هو متعارف عليه بين أم وابنتها الوحيدة، وترجع ذلك لاعتراف الأم في غلطة لسانية تعترف فيها أنها – حواء – كانت السبب في المرة الوحيدة التي يتعامل أبوها معها باليد، المرة الوحيدة التي ضربت فيها. ومن جراء هذا الكره المتصور، كانت تبث سمومها في أذن أبيها الذي لا يلبث أن يطارها –حواء- بجريدة النخل، فتهرب منه إلي الحمام، المكان الوحيد الذي يمكن غلقه من الداخل، وتظل به فترات قد تطول، والعرف الشعبي يقول أن الحمام هو بيت الخبث والخبائث، وتسكنه العفاريت والشياطين. أما المؤثر الثالث فجاء من الإخوة الذكور، محدودي القدرة علي التحصيل الدراسي، بينما هي التي شهد لها الجميع في تفوقها في القرآن وفي الحساب، فكادوا لها عند أبيهم، وكأننا أما إخوة "يوسف" عليه السلام. فهجم أبوها علي كتبها ممزقا، ومن الدراسة مانعا. فأصبحت أنتيتها في الحياة أن تجد الرجل الذي ينتشلها من هذا الوسط، وكان هذا الرجل هو آدم، الذي هام بها حبا، وبدأت معه أحلي أيام حياتها، غير أن بذرة المرض كانت قد وضعت في التربة، ولم تلبث أن تنبت وتخرج إلي السطح، بعد قليل من زواجها. وهو ما فعله أيضا بالرجوع إلي بدايات "آدم" المحرومة، والمزدوجة أيضا، في إنتسابه لجده فترة غير قصيرة من عمره، ليكتشف أنه ينسب إلي أب لم يره فمات مبكرا، ولم تنتظر أمه العاشقة لزوجها، فرحلت بعده بقليل. وحتي "وعد" تلك العاشقة المحرومة من الحنان، ومن الارتواء، بعد أن اضظرت للعيش مع زوج عاطل من كل النواحي، المادية والمعنوية، ليجد أبو عيشة لها المبرر النفسي الذي تندفع به إلي آدم، ويندفع إليها، وكأن القرار قد وجد جوابه، أو أن النصف اللتقي بنصفه الآخر، في ظل إحساس ديني داخلي يحرك آدم ويقف له كالرقيب، علي الرغم من أنه ليس متدينا بالمعني الظاهر والدارج الذي كثيرا ما يكون تجاريا أكثر منه حقيقيا. وذلك هو ما حرك ليس آدم فقط، بل معظم الشخصيات في كثير من مواقفها الحياتية. وما دسه "أبو عيشة" بين طيات السطور إظهارا للملامح الشخصية، فتبدو كما لو أنها ملامح خاصة، بينما هي تنعكس علي الشخصية المصرية عموما.
فعندما يتحدث عن أحد طباع "آدم":[المشكلة أنه، آدم" مثل كل الناس، لا يقولون الحقيقة عندما توجه إليهم الأسئلة كنوع من الحيطة ضد التضحية، وما يترتب علي تلك الإجابات المتحفظة، أو غير الدقيقة من نتائج، ربما تكون غير مرجوة] فإننا هنا أمام ظاهرة الخوف أمام أسئلة المسؤلين، الخوف أمام السلطة، حتي لو كان من يٌسأل شاهدا أو متهما، فهو خوف من المسؤلية، أو خوف من الفضيحة، أو خوف من الحسد. فهي إظهار لواقع غير مرئي علي غير حقيقته، الأمر الذي يحمل في طياته النتائج السلبية.
وأيضا [أخذ الرعب آدم، كظم نفسه، حسب معايير رجولية تمنع ليس الضعف الإنساني، بل إظهاره أمام الغرباء] فنحن هنا أمام مرض إجتماعي، محلي، ينتشر بصورة أكبر في الريف، البيئة التي جعلها أبو عيشة مسرحا لآدم وحواء، حيث خوف الرجال عيب، غير أن الخوف في حد ذاته ليس هو ما يحرص الرجل علي إخفائه، وإنما الحرص الأكبر علي ألا يشعر أحد بأنه خائف.
وكذلك في الحديث عن حواء، وإن كان المقصود هو حواء الرواية، إلا أن الواقع يصرفها علي كل حواء، منذ أمنا الأولي، إلي ما شاء الله، فهو واقع إنساني، غريزي مهما حاولنا تجاهله. فها هي حواء تستسلم للكائنات الغيبية، ترتوي حيث عز الري في الحياة الظاهرة، وحيث يبحث الإنسان دائما – الريفي أو المصري، وربما العربي – عن مبرر يبرر به مالا يحتاج لتبرير:
[ نقول بضمير مستريح، لأنها فشلت في مقاومة نفسها الضعيفة بسبب الاحتياج الإنساني العميق، القهري غير المشبع.]ص18.
وتتسع الدائرة، ويتجه أبو عيشة إلي التعميم مباشرة، ليكشف عن طبائع الشعب المصري المتناقض، المحير، علي خلفية حدث جماعي باقتدار، وكاشف بوضوح، هو أحداث وتتابعات الثورة المصرية في يناير 2011، والمتحولة من الإبداع والرقي إلي الفوضي والخلاف:
[لأنني مضطر، بصراحة غير مخجلة إطلاقا، ولأسباب معتبرة أيضا، تخص بالحال التي تمر بها المحروسة، المخصوصة، منذ خلق الله الدنيا، بالخصب والذل معا، المذكورة في القرآن، وفي الحديث، جندها، لا ضباطها، خير أجناد الأرض، من تخبط، لم يحدث كثيرا في تاريخها العريق، الموغل في القدم، أظهرت أسوأ ما في البشر، الذين هم نحن، بعدما تجلي، علي مدي ثمانية عشر يوما فقط، أنبل ما في البشر، الذين هم نحن أيضا، وأيضا سوف تخرج الثورة، من أحشاء الشعب، بيض الثعابين]ص64.
الجبرية الداخلية والخارجية
بالطبع لم تكن حواء هي التي اختارت مصيرها بالعيش في عالم اللامرئيين، وتصبح حياتها كذلك. وأيضا لم يكن آدم هو الذي اختار مصيره، فالغريزة المزروعة فيه هي التي لامفر منها، كما أنه لا مفر له من كثير مما فرض عليه دون اختيار. فطبيعته الدينية، مثلما المصري عامة، هي التي فرضت عليه التسليم، وهي التي تهون عليه المصائب، وتزين له الرضا: [ اعترف آدم، بينه وبين نفسه، علي استحياء، وسوف يفعل، مضطرا، في المستقبل القريب والبعيد، أشياء لا يفهمها، ولا يقتنع بها، مكرها يركب آخر، أو ما يظن، أنه آخر قوارب النجاة]ص50. و[بما أن آدم لا يعرف شيئا عن أمراض الجسم، فضلا عن أمراض النفس أو الروح، فقد سلم، طوعا، إرادته المسلوبة أصلا، تحت سطوة خوف التسلط الإلهي.....]ص53.
فآدم هنا يخضع، طوعا أو كرها، لأشياء علوية، ليس له بها من سبيل: [وآدم يعلم أن الفرصة لا تأتي، في العمر،مرتين،لكن القدر، يكرر بعض الفرص النادرة، رحمة بالضعفاء، وأيضا ليثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أنه يتحكم في كل صغيرة وكبيرة منذ الميلاد حتي الموت]ص100.
إلا أن تلك القوي الغيبية ليست وحدها المتسلطة علي الإنسان المصري، الأمر الذي لم تكن معه كلمة (الذل) في الحديث عن ثورة يناير، كلمة عابرة، حيث يؤصل "أبو عيشة" للكلمة، كما يحاول أت يؤصل للرؤية العامة في الرواية، فيرجع بنا إلي بداية المرحلة التي يمكن أن نسميها(المرحلة الثورية) والتي من المفترض أن تكون فترة الحرية، إلا أنها زادت من الضغط والقهر علي الإنسان المصري، وكأنها متواطئة مع القدر الفارض سطوته عليه، ليظل المصري يعاني (الذل)، رغم أن الله حباها ب(الخصب) فيتحدث عن بدايات ذلك العهد:
[ينظر سكسفون إلي الصورة المصلوبة علي الحائط (صورة عبد الناصر)، بحقد دفين، يقول متشفيا "ديتك موس بتلاتة أبيض، رفعت ناس ووطيت ناس، حامد باشا محمود يسيب الوزارة والحوت يركب البلد، من حزب مصر، للحزب الواطي يا قلبي لا تحزن"]ص59.
فيؤصل – أبو عيشة – أيضا للجبر والذل الواقع علي الإنسان المصري الممتد من "حزب مصر" أي ما قبل 1952 إلي "الجزب الواطي" إشارة إلي الحزب الوطني، أي العهد المباركي، وكأنه تاريخ من الجبر و"الذل".
ثم يعود لنفس النقطة في ص81 ليؤكد الجبرية الأرضية في العهد الناصري فيقول: [ الكل يسرق الشعب الغلبان، عبد الناصر قال اللي عاجبه عاجبه، واللي مش عاجبه يمشي من البلد]. ولتستمر حالة القهر، والجبرية الآرضية حتي نري الإهمال في المستشفي التي يحرسها "آدم" والتي لا تصرف إلا السلفا لكل الحالات بلا استثناء. وكأننا أمام حالة من الذل سرت من القمة إلي القاع، من الحكم، إلي ممثلي الحكم في الجهات الأدني.
وأمام كل هذه الضغوط المحطمة، والرغبات المحرومة، يلجأ "آدم" المسكين إلي ما يمكن أن يكون حالة (تنفيس). يلجأ للحلم. فبينما هو في عودته من إحدي الزيارات الباحثة عن الشفاء لدي المشعوذين، تجلس أمامه في الميكروباصن منتقبة. واختيار المنتقبة هنا له دلالة توضح مدي الكبت والحرمان، تتخبط ركبته في مؤخرتها، تنظر إليه، وربما ما تصوره هو، بطريقة مشجعة وحافزة، وقبل أن يصل إلي لحظة الذروة، تأتي محطة وصولها، تنزل من الميكروباص، لكنها لاتنزل من خياله. فيأتيه دليل يقوده إليها، بعد رحلة في طرقات هي أقرب إلي طرقات الجنة:[داخل السور انتشرت أشجار المانجو والرمان والأعناب فوق أرض خضراء ناعمة، سارا في ممشي طويل محفوف بصفين من نخيل سامق تتدلي منه عراجين بلح حمراء وصفراء، تشبه قناديل تضئ النهار والليل، تلمع وسط برك طبيعية، تستحم في مائها الفضي وصيفات ناعمات كالحرير، بيضاوات كالقمر..]ص117.ليجد نفسه في النهاية أمام ذات المنتقبة، وكأنها الفانوس السحري، وكأن المنتقبة، أو المتخفية هو القدر المخبأ في الغيب، أو غير الظاهر للعيان. تسأله المنتقبة: أي امرأة تشتهي؟
يدور برأسه العديدات المختلفات، ليختار في النهاية "حواء" وكأنه يختار قدره ومكتوبه.
الخاتمة
تعمد محمود أبو عيشة، عدم تحديد زمن معين لأحداثه، ليمتد بها من الماضي إلي الحاضر، غير أنه اختار المكان، ريف مصر، ليكشف عن معاناة الإنسان فيه، المحفوفة بالغش والخداع وتعدد الأوجه واختلافها بين الظاهر والباطن، وتفضيله للأولاد دون البنات، رغم ما تبين من تكاملهما. تعددت الأمراض الاجتماعية، لتهدد الإنسان ذاته، وكأنها القنبلة الموقوتة التي لابد ستنفجر يوما. فالجد أبو همام، يسلم (الفرد) المخبأ من سنين، والذي ليس به سوي طلقة واحدة، يسلمه لآدم، الذي يحتفظ به دون أن يبوح، إلي أن يسلمه للقاتل وقاطع الطريق "فرج" زوج المعشوقة "وعد" الذي يشعر بما بين آدم وزوجته "وعد" فتكون الطلقة الوحيدة في الفرد، من نصيب "آدم"، إلا أن القدر كان حليما بالشعب المصري الذي فلت من العيار الوحيد، فيخطئ "فرج" التصويب، وتطيش الطلقة الوحيد. وكأن ما يعانيه المصري من أمراض اجتماعية، يهدد، لم يزل، حياته، ويهدد وجوده.
ويفوز القارئ بوجبة دسمة من التشويق والمعرفة والكشف، صهرها محمود أبو عيشة، ليخرج منها ذلك العمل القليل الكلمات، الكثير المعاني والتلميحات، المغلف بالمتعة والحميمية، رغم مرارة وقسوة الواقع، المرئي منه وغير المرئي.
Em:shyehia@yahoo.com
هامش
(1) محمود أبو عيشة – امرأة في المنام – الهيئة العامة لقصور الثقافة – الطبعة الأولي – 2013.