إعداد وتقديم أثير محمد علي
مقدمة
يلتفت باب علامات في "الكلمة" في هذا الشهر لإحدى أعداد مجلة "الحديث" الحلبية سنة 1950، ليعيد نشر خطاب سامي الكيالي (1898-1972) بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الطبيب الأرمني أزادور التونيان (1854-1950) في مدينة حلب.
يمر خطاب الكيالي على سيرة صديقه الدكتور التونيان وتنقلاته في الزمان والمكان، إلى حين استقراره في مدينة حلب السورية، مكرساً جهده العلمي لخدمة الإنسانية والمجتمع.
كان سامي الكيالي قد أصدر مجلة الحديث في حلب سنة 1927، وبقيت تصدر بانتظام حتى سنة 1960. وهي من أهم المجلات السورية في مرحلتها، وتشكل حصيلة أعدادها مصدراً هاماً من مصادر التأريخ للحركة الأدبية، فقد تجاوز اهتمامها الفضاء السوري ليشمل عموم الثقافة والتجديد الثقافي في البلدان العربية، خاصة مصر، فكانت صلة وصل بين المجتمعين، لذلك ليس بمستغرب أن تطالعنا في "الحديث" أسماء شاركت في الكتابة المؤثرة في جدل النزوع الحداثية الحرة في تاريخ الأدب والفكر العربي من أمثال: طه حسين، اسماعيل مظهر، ابراهيم ناجي، عيسى اسكندر المعلوف، عمر أبو ريشة، أمين الريحاني، محمد حسين هيكل، توفيق الحكيم، جميل صدقي الزهاوي، أحمد زكي أبو شادي، اسماعيل أدهم، سلامة موسى، شفيق جبري، سامي الكيالي، رئيف خوري، حميد الانطاكي... إلخ، فكانت "الحديث" بحق من أهم الدوريات في تاريخ الصحافة السورية في النصف الأول من القرن العشرين.
من جانب آخر، لا بد من القول أن اهتمام الكيالي بالمشاركة في تأبين الطبيب ازادور التونيان، لا يأتي فقط بسبب صلة المودة والمعرفة والصداقة، بقدر ما يأتي كاعتراف من جانبه، ومن جانب "الكلمة" التي تعيد نشر نص التأبين، بجموع الأرمن التي سكنت المجتمع العربي، وحلب، وساكنت أهله واندمجت في سياقات تاريخه المدني والأهلي والعلمي والصناعي والتجاري.. الخ.
لقارئ الكلمة أترك على التوالي نص كلمة الكيالي في شيخ أطباء حلب ازادور التونيان، وفيه إضاءة لسيرته الذاتية:
كلمة سامي الكيالي في حفلة ذكرى الأربعين للدكتور أزادرو التونيان
أحبت العائلة الطيبة الكريمة أن تكون لي كلمة في حفلة الذكرى هذه التي تقيمها لشيخ أطباء حلب فلم أشأ أن أتخلف عن هذا الواجب نحو رجل كبير قضى شطراً طويلاً من حياته في خدمة أبنائها على اختلاف مللهم ونحلهم.
وقد ارتبط بي أن أتكلم عن تاريخ حياته، هذه الحياة الملئية بالصراع الطويل ضد المرض، أو ضدّ هذه الآلام المضنية التي تفتك فتكها الذريع في جسم الإنسان. وما أريد أن أعرض إلى هذا من الناحية الطبية، فهذا ما سيتناول غيري من زملائه بل أريد أن أقصر كلامي على بعض مراحل حياته كرجل فذّ كان هدفه الأكبر التفوق والتسامي، ومازال إلى أن بلغ أسمى ما يبلغه إنسان استهوته مهنته، واستبدّ به فنه.
ولد الطفل ازادور سنة 1854 في مدينة سيواس، فلم يكد يترعرع حتى أدخله والده مدرسة تخص الطائفة الأرمنية، وسرعان ما ظهرت عليه علائم النجابة والذكاء، فلم تمر ثلاث سنوات من انتسابه للمدرسة حتى نال الشهادة الابتدائية، وإذ لم تكن في سيواس مدرسة ثانوية أخذ يتلقى من الأساتذة دروساً خاصة، ويقضي بقية وقته في عيادة أبيه، ثم في عيادة عمه، ثم انتهى إلى عيادة الدكتور وبست، مؤسس كلية عينتاب الأميركية، وقد كان لترعرعه في هذه الأوساط أثره غير المباشر في ميله إلى الطب، أي ان هذه الأوساط هي التي غرست في قلبه حب الطب، وكان في هذه الفترات قد انتقل إلى كلية عينتاب لإتمام دروسه الثانوية، فاستطاع أن يظفر بشهادتها في ثلاثة أعوام، ومذ تخرج من كليةعينتاب عين معلماً فيها، وقضى فترة في سلك التعليم، ولكن شهواته العلمية كانت أوسع من أن تقتصر على أن يكون "معلم أولاد!". فقرر أن يتابع دراساته وأن يلتحق بإحدى الجامعات الكبرى.
إلى أين يسافر؟! أ إلى استانبول؟ أم إلى باريس؟
لا .. فقد وجهه أساتذته، وهم من الأميركان، إلى جامعة كولومبيا، فوافق هذا التوجيه هوى من نفسه.
ترك الأناضول الموحشة إلى الدنيا الجديدة. فما كاد يصل الأرض الأميركية حتى انتسب إلى كلية الطب في جامعة كولومبيا. وقد عكف على الدرس بنهم غريب، فكانت الجامعة ودروسها ومحاضراتها ومختبراتها هي هوايته الكبرى دون بقية الهوايات التي تعج بها أمريكا بمتناقضاتها الغريبة وعالمها العجيب.
بعد ثلاث سنوات انقطع خلالها انقطاعاً كلياً إلى الدرس ظفر بالشهادة وحمل لقب دكتور. ولكن هل الشهادة هي كل شيئ في الحياة؟
لا .. ومازلنا في صدد الشهادة أذكر للفقيد الحادثة الآتية.
قلت له يوماً أن البعض يقول أنك تمارس الطب بدون شهادة، أو بشهادة متمرن عند الدكتور وبست. فما كان منه إلا أن انتفض من كرسيه وصعد بسرعة إلى مكتبه، ثم عاد بعد لحظات بحمل ماسورة من "التوتياء" فيها شهاداته المدرسية، وأراني شهادة جامعة كولومبيا وغيرها وغيرها. وكأنه كان يقول: سامح الله الزملاء، فما أكثر ما يتقوّل الناس أقوالاً حشوها الباطل!
وابتسم وابتسمت!
بعد أن أتم دراسته الجامعية دخل مستشفى روزفلت، وهو من أعظم مستشفيات أمريكا، ليقضي مدة التمرين، وللانتساب لهذا المستشفى قيود صارمة أقلّها إجراء فحص قاس ستقدم إليه المئات، وقد صمم أن ينتسب إليه دون بقية المستشفيات. دخل المسابقة مع عشرات الأطباء من مختلف الأمم، ولوثوقه من نفسه استطاع أن ينجح وأن يكون أول المتسابقين، وحين قابل عميد مستشفى روزفلت يعرض عليه أوراقه وشهاداته قال له: "إن الفحص الذي اجتزته، وتفوقك على عددٍ غير قليل من الأطباء، وكلهم من الموهوبين، لأكبر دليل على كفائتك، إن المستقبل ليبتسم لك يا ولدي".
وقد اعتبر الدكتور التونيان هذا اليوم من أسعد أيام حياته.
بعد شهور من انتسابه لهذا المستشفى الكبير، أي بعد أن اطلع على أحدث الطرق العلمية في فن الطب وشتى فروع الجراحة، ترك مركزه في هذا المستشفى إلى زميله الذي كان الثاني في المسابقة, فكان سرور زميله بهذه التضحية عظيماً، ونفحه مكافأة مالية لقاء هذا التخلي عن مركزه، وقد استطاع بهذه المكافأة أن يزور أشهر المدن الأميركية، أي أشهر مستشفياتها.
وقبل أن يترك أميركا قضى ستة شهور مع الطبيب النمساوي الشهير هايزمن، أحد الأعلام في علم الجراثيم، وإذ لمس هايزمن عند الشاب أزادور هذه المؤهلات، طلب إليه أن يتخذه مساعداً، وأن يبقى معه طوال الحياة، فاعتذر، وقد أغراه بشتى وسائل الإغراء ووعده أن يضع اسمه على كافة مؤلفاته. وهذا مجد عظيم، فاعتذر أيضاً لأن حنينه إلى وطنه وشوقه إلى أهله، ورغبته باستثمار علمه. كل ذلك قد أثار في نفسه نزعة العودة إلى الوطن. ورأى قبل أن يرجع إلى الوطن أن يسافر إلى هايدنبرغ للتعمق في علم الجراثيم، ومن هناك إلى برلين حيث قضى فيها سنتين اطلع خلالها على احدث الطرق المتعلقة بتطور الطب، وإذ أروى طمأه وحقق الكثر من أمنياته، رجع إلى استانبول ليصدق شهادته الجامعية، وكان ذلك في الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 304هـ أي الثامن من شهر شباط سنة 302 رومية.
بعد أن قضى شهراً وبعض أشهر في عاصمة السلطنة العثمانية اتصل خلالها بأساتذة كلية الطب الذين أكبروا ذكاءه وهالهم أن يزخر صدر هذا الشاب بهذه المعلومات، عاد إلى سيواس، ثم إلى عينتاب، وهناك تعرف إلى إحدى الممرضات الأنكليزيات فكان لكوبيد سهمه المفرق إلى قلب هذا الشاب الذي أضنته الدراسة وصرفته عن الأميركيات وغير الأميركيات ممن صادفهن في رحلاته وتجواله، فأحب تلك الممرضة، وأحبته، وقرر أن يقترن بها وأن يؤسس معها عائلة تؤمن له فيض الهناءة والسعادة، وهكذا كان، فقد اتفقا على الزواج، وقررا السفر إلى حلب لتسجيل عقد الزواج عند القنصل البريطاني، وفي حلب تم زواجهما ثم سافرا بعد بضعة شهور إلى أوروبا فزار مستشفياتها، هوايته المحببة، وقد قررا وهما في تلك الربوع أن يسكنا حلب، هذه المدينة الوادعة التي لا تتنكر لأي غريب طالما يحبوها بفنه وعلمه وإنسانيته، كما قررا أن يؤسسا فيها مستشفى، وبعد رحلة دامن ثلاثة شهور في أوروبا عادا إلى تأسيس مستشفى، فأسساه ولايزال إلى اليوم الأول بين مستشفيات حلب وقد قدم للحلبيين خدمات جلّى، فلقد استقبل عشرات المئات وعشرات الآلاف من المرضىالذين وجد أعظمهم، بعد عناية المولى، الشفاء على يد هذا الراحل الكريم الذي كان يبذل أقصى ما استحدثه عالم الطب من وسائل حديثة لشفائهم وانقاذهم من الأمراض الوبيلة التي كانت تفتك فتكها الذريع في أجسامهم ونفوسهم.
أيها السادة:
إن تاريخ هذا ال رجل مليء بالأمجاد، فقصته، قصة رجل عصامي، وقد ظل إلى آخر مرحلة من مراحل حياته الطبيب الأول في هذا البلد، مارس الطب، بشتى فروعه، مدة ستين سنة بحذق ولباقة وتفوق، وكان النطاسي الجريء الذي يعرض لمختلف الأمراض المستعصية بمهارة نادرة. وقد حباه الله شيخوخة جميلة لازمته حتى آخر يوم من أيام حياته، لم ينقطع يوماً عن الدرس وتتبع أحدث تطورات الطب. ويعزى سر نجاحه إلى ذكائه الحاد أولاً، ثم انصرافه إلى مهنته ثانياً، فقد كان لتعلقه بمهنته وغرامه بها لون من الهيام والجنون. وهذا سر التفوق، فكل شيء في هذه الحياة إذا لم تعطه كلك لا يعططيك جزءه!
لقد عاش الفقيد حياة بهيجة مطمئنة، فلا يكاد يترك عمله الشاق حتى يعطي نفسه حقها من المباهج واللذاذات، في جوّ مليء من المتع الذهنية والنفسية خلقته له زوجه الفاضلة، وقد حضرت قبل سنوات حفلة عيده التسعيني، فكانت حفلة عائلية أنيقة ضمت صفوة من كرام العائلات، وقد انبثقت في هذه الحفلة أصوات حلوة ناعمة، وموسيى رائعة، وكان صاحب الحفلة، بشيخوخته الباسمة النضرة، يرحب بضيوفه ويؤانسهم، يداعبهم ويمازحهم، ينتقل من هذه إلى تلك، ومن هذا إلى ذاك، وقد غمر السرور أسارير وجهه، وقبيل منتصف الليل بلحظات وقف حول "قرص الحلوى" وقد ركزت عليه تسعون شمعة، أخذ يتأملها بصمت، وكأنه كان يتأمل أمجاده وأيامه على أضوائها. طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته .. أو كان يفكر بالنهاية التي ينتهي إليها الإنسان مهما عمرّ. نعم، وكأنه كان يقول من أعماق نفسه وعلى مَ الجري وراء أكاذيب الحياة، وعلى مَ الصراع والقتال، وفيم التنابذ والخصومة والضغائن، إن نهاية الإنسان، مهما عمرّ، هي نهاية هذه الشموع المضيئة لابدّ لهت من الانطفاء والذوبان. ولم تفارقه روح الدعابة حتى في هذه اللحظات فأراد أن يبرهن لمدعويه على حيويته ونشاطه وقوته وأن لا يترك لمدعويه أن يسترسلوا وراءه في التفكير الحزين، أي في مصير الإنسان، فأرسل ابن التسعين نفخة قوية أطفأ بها ثلاثين شمعة دفعة واحدة، ثم نفخ ثانية وثالثة، وفي الرابعة أطفأ ما تبقى من الشمعات التسعين ووقف مزهواً بأضواء مجده، والتفت إلى ضيوفع يدعوهم إلى الشراب والطعام لمشاركته بمباهج تلك الليلة الوضئية!
سادتي:
إن تاريخ الإنسان، أي إنسان بارز في المجتمع، إن تاريخه حين يصل إلى قمة مجده، هو تاريخ الأيام التي يقضيها في الخدمات العامة، أو في أي عمل إنساني يفيد منه المجموع.
وقد كرس الراحل الكريم حياته لخدمة المرضى، ولخدمة هذه المهنة الشريفة التي ارتضاها لنفسه، فباع الكثير من لذاذات الدنيا ومباهج الحياة في سبيل تخفيف الألم عن الإنسان، فكانت لذته الكبرى، وهي لذة كل طبيب، أن ينقذ مريضه من آلامه المبرحة، والحق، أنه ما من لذة تعادل لذة تخفيف الألم غن الغير، وهذه هي رسالة الطبيب المقدسة، وكان الفقيد من المؤمنين برسالة الطب، فخدم حلب ستين سنة ونيفاً خدمة يذكرها له تاريخها بالإجلال والتكريم.
(الحديث، س24، ع2، حلب، شباط 1950)