ليس انتقاصاً أو مبالغةً في تقدير مكانتها حين أسأل: وإنما هو سؤال يعبّر عن صعوبةٍ في الإجابة عليه. من هي ككاتبة أم من هي كإنسان أم من هي في كلتا الحالتين، ذلك أن الكاتب وهو يبدع في كتابته يصنع إنسانيته أيضاً. وما من شك في أن المعرفة الشخصية والحميمة تساعد كثيراً على الإجابة، ولأن هذه المعرفة تعوزني فأنا لا أدّعي إنني توصلت إلى الإجابة الكاملة. فما سمعته عنها، وما قرأته لها قد لا يكفي. غير أن الفضول الصادق الذي حرّضني وما يزال على فهم غادة السمّان قد يشفع لي ويعينني على الاقتراب ولا أقول الوصول إليها.
في أوائل الستينات اقتحم اسم غادة السمّان شارعنا الثقافي في دمشق بقوّة كاسم لفتاة دمشقية من أسرة عريقة محافظة ترمي جانباً عوائق التقاليد الأسرية التي تسحق المرأة في بلدنا في زجاجة لا ترى من خلالها سوى ظلال الأشياء حين سمعنا أنها غادرت دمشق إلى بيروت لتمارس حرّيتها في الاختيار. وحين قرأنا بعضاً من كتاباتها أدهشنا أسلوبها الذي بدا كموجة نار ونور تُحرق وتُعرّي وتكشف بلغةٍ شاعريّة متدفقة عن عيوبٍ لا يجرؤ كثيرون على التصدي لها، وجماليات لا يراها الذين يمرّون بها كما يجب أن ترى، ولكننا في الوقت نفسه -وهذا بعض من عيوبنا في ذلك العهد- لم نقدّر أهميّتها حقّ قدرها فوصفناها بـ"البورجوازية المتمرّدة"، وكنا وقتها مشغولين بإنقاذ العالم وصنع الفردوس الأرضي الذي وعدت به "الاشتراكية" البشر ولم تحقق لهم ذلك بالطبع. لم نتابع مسيرة غادة السمّان بالاهتمام الذي تستحقه فعلاً إلا حين انهارت جهودنا وأحلامنا تحت الأخطاء والأوهام التي ركبتنا. وتحررنا شيئاً فشيئاً من الوصاية الجدانوفيّة كي نغسل أدمغتنا من تلوّث التعصّب ونغدو بالتالي أكثر نزاهة وأمانة في حمل المسؤولية الأدبيّة. ومنذ ذلك الحين عادت إلينا غادة السمّان وكانت قد قطعت شوطاً رائعاً، وكان علينا أن نلحق بها، ولكن هيهات فلقد سبقتنا كثيراً، ويوماً بعد يوم، وكتاباً بعد كتاب، بدأت صورتها تتكشف عن ظاهرة فنيّة وإنسانية خارقة ما تزال مدهشة حتى الآن.
أقول هذا لأنه كان ضرورياً في اعتقادي كي نفهم غادة السمّان أن نقارنها بجيلنا الذي كنا منه تقريباً، ولكننا لم نكن غادة السمان التي اخترقت وحدها حدود دمشق المدينة المحافظة كأنثى مسلمة جميلة، رشيقة سمراء، مرشحة لزواج ناجح في أحضان الأسرة، تسحب ترشيحها هذا بقرار منها وحدها وتختار ما لم تتجاسر أيّة أنثى دمشقيّة على اتخاذه، ما عدا كوليت خوري كما أتصوّرـ وهو الانفراد بحياة مستقلة في بيئة غير البيئة التي ولدت فيها.
منذ كتابتها الأولى سطعت غادة ككاتبة قصة قصيرة. ولكنها لم تلبث أن غيّرت الديكور والأضواء كي تسطع مرةً أخرى ككاتبة مذكرات رحّالة تجوب الأرض ثم إلى أضواء جديدة كقارئة للكتب العالمية في الرواية والمسرحية والفكر إلى أن انحازت إلى الرواية واستقرت عليها أكثر من غيرها.
في كل ما كتبته غادة السمان كما نتصور كان ثمّة هاجس إبداعي إنساني يحرّضها باستمرار كمسافرة أو كقارئة أو كقاصة وروائية كنوع من التحرّق الداخلي لاكتشاف العالم بأسره، وليس وطنها العربي فحسب، على أن تقول الحقيقة عارية حوله كما بدت لها شخصياً، بعيداً أو قريباً من الأحكام المتداولة حول موضوعها، تعبيراً عن شخصية قويّة متفردة واثقة من نفسها كل الوثوق. إن العالم الغربي مثلاً، وخاصّة أوروبا، ليس هو عند "غادة" جنة الله على الأرض بالرغم من تقدّمه المذهل في العمران والعلوم والفنون. إنّ من يقرأ ما كتبته غادة عن لندن مثلاً لا يوحي على الإطلاق بالراحة والطمأنينة والمتعة بقدر ما يوحي بالقلق والوحشة والاستنكار، ليس انطلاقاً من موقف عنصري أو سياسي أو نوستالجي وإنما من خلال حساسية صادقة، وذكاءٍ حيادي نزيه لا تخدعه الدعايات والأحكام المسبقة الرائحة عن عالم التقدّم. قد تكون لندن بالنسبة لها بلد المسرح الشيكسبيري الرائع وموطن المتاحف الخارقة والحريّة الفردية المبدعة، ولكنها في الوقت ذاته بلد الضباب المادي والمعنوي المضلل والميوعة الهيبيّة المقزّزة، والتعالي العنصري المتعجرف والجريمة المجّانية.. هكذا قدمت لنا غادة السمّان معظم العواصم الأوروبية بهذه الصراحة الجريئة الواعية والمنصفة فيما تقوله كما جاء في كتابها المثير "الجسد حقيبة سفر" فالعنوان نفسه صريح جريء مبتكر حامل من المعاني الكثير، فالجسد، وليس الروح مثلاً، حين يصبح هو قبل غيره أو قبل الروح حقيبة السفر يطرح عنواناً مشحوناً بطاقةٍ جسدية عالية هي جسد غادة السمّان نفسه، هذا الجسد الذي اقتحم العالم باحثاً عن كُنهه دونما وصاية من أحد، وهو بالتأكيد حبيس لروحٍ شفافة متطلّعة، ولكن كلمة روح هنا ربما أنها تبدو مبتذلة بالنسبة لغادة مع أنها صحيحة، فلا جسد من دون روح إلا للموتى، ولكن غادة لا تتردد في اختيار العنوان الذي تفضله شخصياً، جسد قادر على احتواء الألبسة والأحذية والمجوهرات وأدوات التجميل والزينة كما هو قادر على احتواء الكتب الرفيعة المستوى، والمسرح العريق والحضارة المعقّدة المذهلة. جسد بهذه الحيوية لا يغدو حقيبة للسفر إلا لأنه تشبيه متوثّب يطمح للدخول إلى تعبير لغويّ ملتهبٍ مثل مضمونه.. ولكن هيهات!
وحين تُمسك غادة بكتاب ما لتقرأه تبدو أشبه بعالمةٍ مُكبّةٍ عليه من خلال مجهرٍ بالغ الحساسية والقدرة على اكتناه الدقائق الصغيرة، التي تصنع الحياة والجمال والفكر في الكتاب المفتوح بين يديها، لا لكي تكرّر أحكاماً تقليدية سبقها إليها آخرون، بل لكي تقول الجديد والمخالف. إنها قارئة بروحها وجسدها معاً وهما عادة لا ينفصلان أحدهما عن الآخر لديها في تحرّي الأصوب والأحدث والأعمق، وإلا فكيف نفسّر هذه العبارة التي وردت في قراءتها لمسرح "اللامعقول" في كتابها "مواطنة ملتبّسة بالقراءة" حين تقول: "ربما كانت الغاية من هذه المسرحيات أن نقول بطريقة جديدة: إن أحداً لا يعرف (وحتى الكاتب نفسه لا يعرف) وعلى أيّة حال كل حكم نهائي على القيمة الحقيقية لهذه الحركة المسرحية عمل سابق لأوانه.."؛ فهي لا تتبنّى في النهاية أحكاماً مطلقةً حاسمة، بل تدعونا للتمهل والترّوي والانتظار قبل أية إدانة أو تمجيد. وهو موقف في القراءة، لا يتبنّاه إلا جسدٌ خارقٌ لروحٍ خارقةٍ تحاول دائماً مقاربة الحقيقة، وتعترف في الوقت ذاته بأنها قد لا تصل إليها أبداً.
وكروائية تبدو غادة السمّان جسداً آخر يحتضن البشر بكثير من الحذر والحنان والفهم كي يدرك أبعاد كوابيس بيروت مثلاً في حربها الداخلية المجنونة أو مخاوف المغتربين العائدين إلى بلدهم، لا لأن غادة كانت تضمر أن تدين بيروت أو اللبناني المغترب، بل لأنها كانت تحتضنه على عنفه وشراسته حيناً والنوستالجيا التي تركبه حيناً آخر. كلّ ذلك يجد صياغته الروائية في الحبكة المتهيّجة واللغة المجازية والواقعية معاً فيما يشبه الشعر أحياناً.
إنها الجسد الذي سافر طويلاً وبعيداً ولم يعد من سفره فأعادته الروح التي لم تبتعد كثيراً عن مهدها الدمشقي. امرأة أشبه بنساء الأسطورة التي تتحدث عن عمالقة الأمازون. ومع ذلك فهي تعترف بأنها أنثى لها نقاط ضعفها كما في النساء، فإذا تكاثر عشاقها فالذنب ليس ذنبها وإنما هو ذنبهم لأنهم لم يقاوموا أوهامهم الجارفة، ومع ذلك فليس صحيحاً تماماً أنهم أذنبوا حين عشقوها فامرأة تشبه الفجر كما تشبه الطوفان من الصعب أن تُقاوم! رحمة الله عليك يا غسّان كنفاني!!
(أديب سوري)