احتلت ظاهرة مغامرات الشباب المغربي لعبور مضيق جبل طارق، بحثاً عن حياة أفضل ولا تزال تحتل بقوة حيزاً في وسائل الإعلام، فيما أسمته هذه الوسائل «الهجرة غير الشرعية»، وكأن هجرات الأوروبيين بداية من القرن الثامن عشر كانت شرعية، مع أن الهدف كان هو ذاته هدف شباب المغاربة الذين يغامرون اليوم للعبور شمالاً، فقد كان الأوروبيون يعبرون جنوبا إلى أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية بحثا عن فرص حياة أفضل، مع فارق واحد أن هجرة أبناء الجنوب اليوم إلى الشمال لا تدعمها قوة عسكرية أو اقتصادية مهيمنة كما كانت القوى الاستعمارية تدفع بأبناء الشمال -البريطانيين والفرنسيين في مقدمتهم- للهجرة إلى المستعمرات الأفريقية والآسيوية وغيرها من مناطق نفوذها، بحثا عن ثروات لا يستطيعون الحصول عليها في بلادهم، وهنا يكون الفارق الثاني أن الأوروبي الذي انتقل إلى دول الجنوب كان مغامرا يبحث عن الثروة وليس مجرد باحث عن فرصة عمل صغيرة أو تحسين أوضاعه كما هو حال المهاجرين غير الشرعيين اليوم.
عابرو الحدود
وبعد سنوات من احتلال الأنباء السوداء لضحايا عبور أبناء الجنوب نحو الشمال، التي انتهت في معظمها نهاية مأساوية، المانشيتات الرئيسية للصحف ووسائل الإعلام الأخرى، بدأت تلك الهجرة وما وراءها من أوضاع مأساوية تنتقل إلى الأعمال الإبداعية من رواية وسينما ومسلسلات تليفزيونية. ومن هنا تنبع الأهمية، فإن كان الكاتب المغربي «بهاء الدين الطود» في روايته «أبو حيان التوحيدي في طنجة» قد عبر عن تلك الهجرة وتأثيراتها على العلاقات بين المغرب وإسبانيا، من خلال عمل متخيل يستدعي المفكر الإسلامي المتمرد في رحلته إلى الأندلس، ولكن في زمننا المعاصر، ليكتشف أن حدودا قد قامت في وجه أي مرتحل، وأن على عابر تلك الحدود أن يمتلك وثائق سفر وتأشيرات من الصعوبة بمكان الحصول عليها اليوم، بينما كان عبور البلدان والبحار والوديان متاحاً في زمانه من دون أن يطالبه أحد بإثبات هويته أو معرفة مقاصده ووجهته، وإن سبق بهاء الطود إلى تناول الهجرة كموضوع الكاتب المغربي أيضا «رشيد نيني» الذي عاش مغامرة الهجرة غير الشرعية نفسها، وسجلها في أول عمل أدبي مغربي قبل سنوات، لكن الجديد في الأمر أن أبناء الشمال بدأوا أيضا في كتابة أعمال روائية تتناول الهجرة غير الشرعية لأبناء المغرب ولكن من وجهة نظر شمالية.
في هذا السياق تأتي رواية «نذر الشؤم» للكاتب الإسباني خوسي ساريا كويفاس، لتتناول موضوع الهجرة المغربية إلى الشمال (إسبانيا تحديدا)، بيد أن الرواية لا تستخدم أحداثاً جرت على الأراضي الإسبانية كما هو متوقع ، وإنما تنتقل إلى إحدى القرى القابعة جنوب المغرب لتلتقط شخصية «حسن» وأسرته الفقيرة الذي اضطرته الظروف القاسية بعد موت أبيه العامل الأجير في حادث وتركه عائلا لخمسة من الإخوة وأم، وهو لا يزال طفلا تقريبا. فلا يجد طريقا آخر لكسب الرزق سوى البحث عن طريق الهجرة غير الشرعية شمالا رغم علمه بأخطار تلك المغامرة، خاصة بعد أن أبلغه صاحب العمل في قريته أنه لم يعد له مكان في مزرعته بعد أن بدأت غلة الأرض تتناقص ولا تكفي لإعالة أسرة أخرى إلى جوار أسرة صاحب الأرض.
بالطبع تقف من دون تلك الهجرة أو حتى التفكير فيها عقبات عدة، أولاها: جمع المال لدفع تكاليف الرحلة لعصابات تخصصت في الاتجار بالبشر وفقد أفرادها آدميتهم وابتدعوا تجارة الهجرة رغم مخاطرها، ومن لا يموت غرقا قد يقع في يد السلطات الإسبانية وتجري إعادته إلى المغرب مجددا، ليفقد حياته وأمواله التي دفعها.
لقد وجد حسن صديقا لأبيه وثق فيه وقدم له جزءا مما يحتاجه لدفع ثمن هجرته من دون أن يعي أنه يدفع له ثمن هجرته إلى «الموت».
الأم عائشة الرافضة لهجرة ابنها تقف عاجزة، وتفقد مبرراتها لدفع حسن إلى البقاء في دفء الأسرة قدرتها على إثنائه عن المغامرة، عندها لا تملك سوى أن تقدم له خاتم زواجها من أبيه كتعويذة.
وحتى زكية التي جمعتها بحسن قصة حب لا تستطيع أمام إصراره على المغامرة سوى أن تحلم بعودته ظافراً من أوروبا، ليكونا معا أسرة لا تزال في علم الغيب.
يتابع حسن رحلته من القرية مع آخرين في طريقه إلى شاطئ خليج جبل طارق وهو الذي لا يجيد السباحة، لأن قريته التي نشأ فيها لم تكن تعرف البحر.
على الضفة الاخرى
ينتقل الكاتب إلى الشاطئ الآخر، في جنوب إسبانيا، ليكون المصور الفوتوغرافي فرناندو أريفالو دليلنا الوحيد على المصير الذي انتهت إليه مغامرة الفتى المغربي حسن وأحلامه التي غامر بحياته من أجل تحقيقها.
فرناندو مستعد دائما بالكاميرا لالتقاط الصور المأساوية التي تقع على شاطئ إسبانيا الجنوبي بشكل يومي.
ورغم الاعتياد على مشاهد الغرقى إلا أن رنين هاتف حسن الجوال الذي كان يحمله معه ليطمئن أسرته بوصوله إلى بر الأمان يسحب فرناندو بعيدا عن جنود الحرس المدني وأفراد الصليب الأحمر الذين جاؤوا بحثا عن أحياء بعد غرق القارب قبل الشاطئ بأميال قليلة.
يتبع فرناندو صوت الهاتف الذي يأخذه بعيدا عن مكان الغرقى، مدفوعاً بأمل العثور على صاحب الهاتف على قيد الحياة، فيجد حسن صاحب الهاتف، وجسده طافيا بين صخور قريبة من الشاطئ، فيحمله فرناندو مسرعا إلى خيمة الإسعافات الأولية ويصرخ فيهم لإنقاذ حياة الفتى، لكن الطبيب يأسف لأن الفتى جثة هامدة، وبتفتيش جيوب حسن لا يعثرون سوى على صور باهتة تجمعه بأسرته، إضافة إلى صورة لفتاة جميلة «زكية» الحبيبة المنتظرة تحقيق أحلامها بعودته.
تنتهي رواية «نذر شؤم» كما هو متوقع: الأم عائشة تجلس على عتبة بيتها في انتظار الذي لا يأتي، وأشقاء حسن يحملون صورته يدورون بها على مقاهي وكافتيريات طنجة لعل أحدا يخبره عن مصيره، و«زكية» الحائرة بين انتظار من أحبته وبين قبول عرض زواج من أحد أبناء القرية الأثرياء، عرض يضمن لها استمرارية في الحياة. بينما على الشاطئ الآخر من الماء يجلس فرناندو وبين يديه الصور الباهتة التي عثر عليها في جيوب حسن واحتفظ بها ذكرى لمأساة أخرى تضاف إلى ما شاهده في حياته الصحفية من مآس.
وينتهي إلى وضع الخاتم الذي عثر عليه في يد حسن، ليضعه في بنصره من دون أن يعرف هوية صاحبه.