إلى الإمام محمد عبده
لم يَعُد التَّدَخُّل في الشَّأن الديني يعني الفقهاء، ومن يملكون الأهليةَ العلمية لذلك، من المُشْتغِلين في الحقل الديني، ولا حتى المؤسَّسات التي تُعْتَبر ذات علاقة بالموضوع، فالدِّين أصبح، اليوم، شأْناً مفتوحاً، بالمعنى المُبْتَذَل للكلمة، يخوضُ فيه الجميع، دون أدْنَى معرفة، أو اطِّلاع على المبادىء المُؤَسِّسَة لمعتقداته، أو ما يمكن اعتباره الأُسُسَ التي يقوم عليها هذا الدِّين. الكُل أصبح يُفْتِي، والكُل أصبحوا دُعاةً، والكُل أصبحوا ناطقين باسم الدِّين، أو باسم الله، يتكلَّمُون في كل شيء، دون أن يقولوا شيئاً، أو هُم، بعكس ذلك، لا يزيدون الطِّينَ إلاَّ بلَّة.
ولعلَّ أخْطَرَ ما أفْرَزَتْه هذه الفوضى الدينية، اسْتِباحَة الفَتَاوَى، وتعميمها، وانتحال الجميع صفة "عالم"، دون مانعٍ، أو رادِعٍ، أو ما يؤكِّد هذه الصفة فكراً وسلوكاً. فبمجرد ظهور رأي، أو فكرة تتعلَّق بالنظر في الشأن الديني، أو في مُراجعة بعض المشكلات المرتبطة بالدِّين، يخرج هؤلاء من جُحُورِهم، لِيُدِينُوا ويُكَفِّروا، ويستعملوا كل أشكال الوعد والوعيد، وابْتِذال الأفكار والأشخاص، بدل مناقشة الموضوع، وتوضيح ما قد يبدو مُعْتِماً فيه، أو ما يجهله من ليسوا من أهل الاختصاص. وهذا، في ذاته، يكشف عن العطب الموجود في فكر، ومعرفة هؤلاء، وفي تكوينهم الذي لا يستندون فيه إلى رؤية ومنهج واضِحَيْن. فثقافة هذه الشريحة من الناس، ممن ينتسبون للدِّين دون عقل، أو دون "تمييز عقلي"، بتعبير الشيخ محمد عبده، أو بما هو اعتقاد أعمى، مبني على الاتباع، واجترار الأفكار والمُعْتَقدات، والتسليم بها، دون مراجعتها، أو وضعها على محك الاختبار، هي ثقافة لم تخرج من ماضيها الذي ليس هو كل الماضي، بل ذلك الماضي الذي لم يعُد يسمح بالاجتهاد، وإعمال الرأي، وحَوَّل أفكار، وآراء، واجتهادات بعض الفقهاء، و"رجال الدين" إلى عقيدة في قلب العقيدة، أو إلى "شريعة" لا تقبل الإضافة أو النقصان، ولا تقبل أي نوع من المُراجَعَة والاجتهاد، أو "التمييز العقلي"، الذي كان ألحَّ عليه أكثر من عالم، ومن إمام، من أئِمَّة المسلمين، ممن لم يَسْتَبِدّ بهم الفكر الماضوي المُسْتَقِرّ والمُتَحَجِّر.
لم يَعُد النص الديني، وأعني به هنا القرآن، هو مصدر التشريع، والمرجع الذي يعود إليه هؤلاء، لاستشارته في ما يقترحه هذا الطرف أو ذاك، فهذا النص لم يعد سابقاً على التشريع، بل أصبح تالياً عليه، أو يأتي بعده، وربما يخضع لتفسيراتٍ، وتأويلاتٍ، لا سَنَدَ لها سوى ما يرتضيه هؤلاء من تبريرات تعود لهذا الماضي المُغْلَق الذي أصبح عندهُم هو كل الماضي، وهو كُلّ الدِّين، ودونَه، مما كان من قراءات، وتأويلاتٍ، واجتهادات، لا دَاعِيَ له، أو هو "شطط" في القراءة، وفي التأويل، وفي الاجتهاد.
فحين دعا زعيم سياسي، من الأحزاب "اليسارية" المغربية، في مؤتمرٍ نسائي لحزبه، بضرورة مراجعة قانون الإرث، ومراجعة قانون تعدُّد الزوجات، وما تتعرض له النساء من عُنْف، كان جواب الماضويين له، هو نفس الجواب الذي يستعملونه في كُل خَرجاتِهم، فَهُم لا يَتَوَرَّعُون في شَحْذ سكاكينهم، وفي تهييج الرأي العام، باستعمال خطاب التعبئة والاستنفار، واتهام الناس بالقُصور، والمسِّ بالدِّين، وهذا كُلُّه، بما فيه الكلام البذيء، مما يمسُّ هؤلاء الأشخاص في ذواتهم، وفي نفوسهم، هو مقدمة للتكفير والتحريض.
إنَّ الفكر الذي لا يستطيع الدِّفاعَ عن نفسه بالحُجَّة والدَّليل، ولا يملك رؤيةً واضحةً إزاء ما يقوله، وما يصدر عنه من أفكار، هو فكر معطوب، ومُخْتَلّ، سببُ عطبه، وخَلَلِه، الرؤية الشعبوية للدِّين، والاقتناع بظاهر الدِّين، أو بقشوره، دون الذَّهاب لِجَوْهَرِه، وهذا، في حقيقة الأمر، لم يعد يَعْنِي الفقيه، أو "رجل الدين"، الذي لا يُغادر حقل المعرفة الدينية، بل إنَّ مجالَه أصبح أوسع، وأصبحت تتدخَّل فيه علوم، ومعارف شَتَّى، أصبحت اليوم من ضرورات البحث، ومما يُساعِد في تفكيك النصوص، واسْتِنْطاقِها، لمعرفة ما تَنُوء به دلالات، وما تَحْمِلُه من أوْجُه، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلَّق بنصوص مشحونة بالرموز والإشارات، وذات كثافة استعارية عميقة وبعيدة . فالبقاء في حقل الدِّين دون الاستعانة بالعُلوم الإنسانية، وبمناهج القراءة الحديثة، لا يمكنه أن يكون مُفيداً، إذا لم يَتِمّ تعزيزه، بما يفتح النَّصّ على انشراحاته التي لم تَعُد تكفي عُلوم الآلَة وحْدَها، ولا علوم الدين المختلفة، في فَكِّ بعض اشْتِباكاتِه، أو بعض مغالِقِه، مما لا يمكن فصلها عن سياقاتها التاريخية واللغوية، أو المعرفية، بالأحرى.
من ينظر في ردود الفعل التي واكَبَتْ تصريحات القيادي الاتحادي، سيُدْرِك أن ما اقترحَه، يتعلَّق بالمرأة، وليس بغيرها. بمعنى أنَّ ما تتعرَّض له المرأة من حَيْفٍ في كل شيء، بما في ذلك موضوعَيْ الإرث، وتعدد الزوجات، هو ما لا يريد هؤلاء القبول بالنظر فيه، وهو ما يعتبرونه من الأمور التي لا ينبغي الكلام فيها، خصوصاً أنَّ هذا المُقْتَرَح تزامَنَ مع ما قاله رئيس الحكومة، في شأن تَعَنُّتِ المرأة، (أي رفض طاعتها العمياء للرجل)، ما يجعلُها تبقى دون زواج، وأنَّ الزواج المبكر (بما يعنيه من استعمال للمرأة، التي تكون بعد "قاصرة")، في نظره، هو الحل لمثل هذا النوع من التَّعَنُّت، أو التَّنَطُّع، أو عدم الطّاعة، كما يفهمها، أو يُريدُها رئيس الحكومة.
يعود بنا هذا لموضوع المُدَوَّنَة، في صيغتها التي اقترحها وزيرٌ يساري آخر، من حزب التقدم والاشتراكية، فخرج حزب العدالة والتنمية، ليعلن رفضه القاطع لما جاء فيها، ما سُيفْضِي لوصولها إلى يَدِ الملك، الذي تَمَّ الاحتكام له لِفَضِّ هذا الاشتباك، ولوضع المدونة في غير السياق الذي كانت ستخرج به في أول الأمر. هذه المرة، وفي شأن ما قاله زعيم الحزب "اليساري"، خرج الجناح الدعوي للحزب، ليتدخَّل في الموضوع، ومعه خرج بعض الدُّعاة، ممن يعرف الجميع طبيعة ما يصدرونه من فتاوى، رغم أنَّ ما قيل ليس له صفة قرارٍ، أو قانون، فصاحبُه، لم يعد في موقع القرار، فهو اليوم في المعارضة، وكلامُه هو مجرد رأي، ضمن ما يخرج من آراء، في ما يتعلَّق بالدين، وهي، في عمقه، تدُلُّ على الحاجة للإصلاح، والمراجعة، والتحيين، وفق ما يجري من متغيِّرات في واقعنا الراهن، فنحن اليوم نعيش في زمن، هو غير الزمن الذي عاش فيه من اعتبروا، هذه الأمور وغيرها قاطعة، ولا يمكن المس بها، بدليل وُرُودِها في النص الديني، دون أن يُكَلِّفُوا أنفُسَهُم قراءة ما جاء في هذا النص من احْتِرازات، ومن تدابير، كانت كافيةً لتجعل من تعدُّد الزوجات، أمراً ليس ممكناً، خصوصاً حين ينتفي شرط "العدل" و المساواة.
أستعين هنا بشيخ سلفي، وهو من السلفيين المستنيرين الذين كانوا على علم بأمور دينهم، وكان أستاذ أجيال من المفكرين وعلماء الدين، وأعني به الشيخ والإمام محمد عبده، الذي كان في كتابه "المسلمون والإسلام"، تعرَّض لموضع تعدُّد الزوجات، في فصل من هذا الكتاب، بعنوان "الزواج وتعدُّد الزوجات في الإسلام"، وفيه كان يُقَدِّم، ويناقش مفهوم التعدُّد، وأسباب تعدُّد زوجات الرسول، وما كان يقوم به من ‘عدل’ تُجاه زوجاته، أو كما يقول الإمام "فكان صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، والصالحون من أمته لا يأتون حُجرة إحدى الزوجات في نوبة الأخرى إلاَّ بإذنها" وقد رُوِيَ في الصحيح أنَّ آخر ما أوصى به النبي "ثلاث كان يتكلَّم بهن حتى تلجلج لسانه خَفِيَ كلامُه" وبينهُنَّ:
"لا تكلفوهم ما لا يطيقون"
"الله الله في النساء فإنهن عندكم عَوَان"
وقولُه "من كان له امرأتان فمال لإحدهُما دون الأخرى، وفي رواية أخرى، ولم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل".
في هذا الفصل، كان محمد عبده، بما يقدمه من حقائق، ومُعطيات، وما قام به من عرض وتحليل، يسعى لوضع الناس في سياق الشروط الصعبة والمُعْجِزَة التي تفرض تفادي التَّعَدُّد، الذي لا يمكن أن يتحقَّق فيه شرط العدالة العاطفية، أو القلبية، وهو ما كان يدفع الرسول للقول، بنوع من الاعتذار، "اللهم هذا (أي العدل في البيات والعطاء) جهدي في ما أملك، ولا طاقةَ لي في ما تملك، ولا أملك (يعني الميل القلبي) وكان يقرع بينهُنَّ إذا أراد سفراً". وقد أوْرَد الإمام ما جاء في القرآن، وركَّز على مبدأيْ العدل والمساواة، كشرطين، هُما، في ما قدَّمَه من المستحيلات، خصوصاً حين يتعلق الأمر بزوجات ينشُب بينهُنّ خلاف، وتكثُر نزاعتهن.
اكتفيتُ بما جاء في كلام محمد عبده، لأفضح هذا التهافُت الشهواني الذي فيه تتحوَّل المرأة إلى شبه جارية، عند كثير ممن يحرصون على اعتبار التَّعَدُّد نعمة من الله، ويُؤَوِّلون الآيات والسور، وفق ما يخدم شهواتهم، وذواتهم، لا وفق ما ترتضيه طبيعة العلاقات الإنسانية التي هي اليوم، محكومة، بغير ما كانت محكومة به في زمن الرسول نفسه.
لا داعِيَ لاعتبار الموضوع مَسّاً بالشريعة، أو استهزاءً بالقِيَم، فنحن في حاجة دائمة للتساؤل، والتشاوُر، وفتح النقاش في كل الموضوعات والأفكار، لا أن نترك الأمور تتفاقَم، وتنتُج عنها مُضاعفات، لا يمكن علاجُها في ما بعد. لنتجرأ على خوض مثل هذه الأفكار، في سياقها الديني، وفي سياقها العلمي، والمعرفي، وما تقتضيه المصلحة العامة، وطبيعة الظروف الراهنة التي نعيش فيها، بكل اشتباكاتها وتعقيداتها، فالعلوم اليوم توسَّعَتْ وتفرَّعَت، والعقل اليوم أصبح كفيلاً بالتفكير، بنفسه، دون وُسطاء، ممن لا علاقة لهم لا بالدِّين، وبالعلم والمعرفة، وهو ما كان الإمام محمد عبده سَمَّاه، في كتابه، بـ"التمييز العقلي"، بعيداً عن الهَوَى، والانفعلات الزائدة، التي لا فائدة منها، إلاَّ التهييج والتحريض، وتكفير التفكير، والحجر عليه.