من أنطاكية نمضي إلى كبادوكيا التي تحولت في العقود الأخيرة متنزهاً سياحياً يقصده الآلاف من داخل تركيا وخارجها. يخال المسافر الغريب أن المنطقة التي يقصدها بلدة وسط الأناضول تشتهر بمعالمها الجيولوجية الفريدة وبكنائسها العديدة التي حفظت "ذاكرة بيزنطيا". لكن هذه البلدة هي في الواقع مجموعة من المدن والبلدات والقرى تقع بين محافظة أق سراي ومحافظة كايسيري في وسط تركيا، ومساحتها تناهز خمسة عشر ألف كيلومتر مربّع. عُرفت كبادوكيا بهذا الاسم منذ القدم، وهو في الأصل فارسي، ومعناه "بلد الخيول الجميلة"، أما في كتب التراث العربية، فهي القباذق، خامس بنود بلاد الروم، كما أشار المسعودي في "التنبيه والأشراف"، حدّه بحسب ابن خرداذبة "جبال طرسوس وأذَنَة والمصّيصة، وفيه من الحصون قرّة وحصين وأنطيغوا والأجرب وذو الكلاع، وهو جبل عليه قلاع فسمّته العرب ذا القلاع ثم انحرف الاسم إلى ذي الكلاع".
ما يُعرَف اليوم باسم كبادوكيا مملكة تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد بعد وفاة الإسكندر الأكبر، وهي في الميراث الإغريقي القديم بلاد "السوريين البيض". على رغم ارتباطها بالأمبراطورية الفارسية، حافظت هذه البلاد على نوع من الاستقلال الذاتي، وكان حكّامها من سكانها المحليين، ثم تحولت مملكة إقطاعية تعترف بسلطة الإسكندر، وحكمتها سلالة ساندت أباطرة روما حتى بدايات القرن الميلادي الأول حيث ضُمّت إلى الأمبراطورية، فتحولت محافظة أمبراطورية. بدأ انتشار المسيحية فيها منذ عهد بولس الرسول، وغدت في القرن الرابع قاعدة من أهم قواعد الشرق المسيحي، فقورنت بـ"الأراضي المقدسة" في فلسطين، وبرزت كعاصمة للحياة الرهبانية الجماعية. استمر ازدهارها في عهد الأمبراطور يوستينيانوس حيث تضاعف فيها عدد الكنائس والأديرة، لكنّ الأحوال تبدّلت مع امتداد الفتوحات الإسلامية. وصلت جيوش معاوية إلى قيصرية التي تُعرف اليوم باسم كايسيري، وتحولت المنطقة ما يشبه شريطاً حدودياً يفصل بين الروم والعرب.
انتعشت كبادوكيا من جديد في ظل حكم الأمبراطور نيكيفوروس الثاني فوكاس، وهو في الميراث العربي "نقفور اللعين" الذي استولى على السلطة إثر وفاة الأمبراطور رومانوس الثاني مسموما في عام 963، وذلك بمساندة من أرملة الأمبراطور التي سعت إلى حماية أولادها من الذين تآمروا على زوجها. تُوّج نيكيفوروس أمبراطورا في القسطنطينية إلى جانب أبناء الأمبراطورة الأرملة، وطمع بـ"استعادة" سوريا من العرب، فاجتاح معرّة النعمان وكفر طاب، ثم دخل حمص وحماه، وسيطر على الساحل، فاستسلمت له اللاذقية، واستمرّ في التقدم، فاستولى على أنطاكية، ومنها تقدّم نحو حلب. اختزل أبو الفداء أخبار هذه الحملة، وكتب في "المختصر في أخبار البشر": "سارت الروم إلى الشام، ففتحوا أنطاكية بالسيف، وقتلوا أهلها، وغنموا وسبوا، ثم قصدوا حلب، وقد تغلّب عليها قرعويه، غلام سيف الدولة بن حمدان، بعد طرد ابن أستاذه أبي المعالي عنها، فتحصن قرعويه بالقلعة، وملك الروم مدينة حلب وحصروا القلعة، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرعويه إلى ملك الروم في كل سنة، وكانت المصالحة بحمل المال المقرر على حلب وما معها من البلاد، وهي حماة وحمص وكفر طاب والمعرّة وأفامية وشيزر وما بين ذلك، ودفع أهل حلب الرهائن بالمال إلى الروم، فرحلت الروم عن حلب، وعادت المسلمون إليها".
عاشت كبادوكيا في تلك المرحلة عصرا ذهبيا تشهد له الكثير من المعالم التي بقيت حية إلى يومنا هذا، وظلّت بيزنطية إلى أن سيطر عليها في عام 1071 ألب أرسلان، رابع حكّام السلاجقة ومؤسس سلالة سلاجقة الروم. بقيت المنطقة في عهدة السلاجقة في زمن الحروب الصليبية، وأضحت عثمانية في القرن الرابع عشر بعد انهيار سلطة السلاجقة واندثار آخر الإمارات الصغيرة المنبثقة من سلالتها.
متحف في الهواء الطلق
يتكرر في كتب الجغرافيين العرب التعريف الخاص بـ"القباذق"، وهو في "معجم البلدان": "ولاية واسعة في بلاد الروم حدّها جبال طرسوس وأذنة والمصيصة وفيها حصون منها قرة وخضرة وأنطيغوس".
في المقابل، تبدو كبادوكيا في كتب الغرب أشبه بمنطقة خيالية تتميز بتكوينها البركاني الفريد. في مطلع القرن الثامن عشر، زار الرحالة الفرنسي بول لوكاس هذه البلاد الأناضولية، ووصف بأسلوب أدبي بليغ طبيعتها الصخرية العجيبة، فشكّك الكثيرون في روايته. في القرن التاسع عشر، أرسلت السلطة الفرنسية بعثة لاستكشاف المنطقة بشكل علمي، وشكّلت هذه البعثة بداية لسلسلة متلاحقة من البعثات الأوروبية، فذاع صيت كبادوكيا، واستحوذت طبيعتها الغريبة على اهتمام الكثيرين من رجال العلم. تواصل هذا الاستكشاف في القرن العشرين، وكانت أبرز إنجازاته موسوعة خاصة بكنائس كبادوكيا المنحوتة في الصخر نشرها العالم اليسوعي غيّوم دو جيرفانيون بين عام 1942 وعام 1945، وفيها صنّف مئة كنيسة تحوي رسوما جدارية. فتحت هذه الموسوعة أبواب كبادوكيا أمام المختصين بالفنون البيزنطية، وتضاعف عدد الكنائس التي تحمل دلالات أثرية، وعددها اليوم يقدّر بزهاء مئتين وخمسين كنيسة تتوزع على سائر المناطق التي تشكّل كبادوكيا التاريخية.
اكتشفت الدولة التركية بسرعة أهمية هذه المنطقة وأولتها عناية كبيرة، فباتت منطقة سياحية بامتياز. بحسب الإحصاءات الرسمية، زار هذه المنطقة في عام 2005 ثمانمئة وخمسون ألف أجنبي ومليون تركي. ويمكن القول إن هذه الأرقام صحيحة، فالوافد إلى كبادوكيا يفاجأ بطوابير السياح القادمين من كل أصقاع الدنيا، فمنهم الأوروبيون، ومنهم الآسيويون، وفي مقدمهم اليابانيون. أما العرب، فيبدو أن الفضل في اكتشافهم هذه المنطقة الساحرة يعود إلى مسلسل "نور" الذي ملأ دنياهم وشغل كبيرهم وصغيرهم، وفيه يخطف المدعو عابدين البطلة السمراء نور، ويتنقل فيها بين سهول كبادوكيا ووديانها هاربا من عين زوجها الأشقر مهنّد. تستمرّ هذه المطاردة بين السهول والهضاب والوديان الأنطاكية، وتنتهي بمقتل عابدين وعودة السمراء إلى حبيبها الأشقر. تبدأ رحلتنا الكبادوكية في نيفيشهر، عاصمة الإقليم الذي يحمل اسمها. أينما توجّهت، وجدت نفسك أمام تجار "التذكارات" والصناعات الحرفية في كل مكان، كأن المنطقة وأهلها يعيشون من السياحة فحسب. تحوّل وسط وادي قوريم في هذه المحافظة متحفاً في الهواء الطلق، وهو المحطة الإلزامية التي يمر بها جميع السياح، وفيها أشهر كنائس كبادوكيا. نظرا الى كثرة الوافدين إليها، لا يُسمح لكل فريق سياحي بالبقاء في كنيسة من هذه الكنائس أكثر من ثلاث دقائق، ويبدو هذا القانون "مقبولا" حين ترى تدفق الفرق السياحية، وكلّ منها ينتظر دوره للدخول وإلقاء نظرة على الجداريات التي تزيّن الكنيسة المقصودة.
بحسب أهل الاختصاص، تعود الغالبية العظمى من جداريات الكنائس الكبادوكية إلى القرنين العاشر والحادي عشر، ويجد هذا التقويم سنده في كنيسة تُعرف اليوم باسم "كنيسة نيكيفوروس الثاني فوكاس"، في قرية جاووشين. في حنية تقع في الجهة الشمالية من الكنيسة، يظهر الأمبراطور نيكيفوروس وسط عائلة ملكية تضم شقيقه ووالده يمينا، وزوجته الأمبراطورة تيوفانو يساراً، وهي أرملة الأمبراطور رومانوس الثاني. اللافت أن الرسام انتهك التقليد الإيقونوغرافي ووهب كلاً من أعضاء هذه العائلة الهالة التي ترمز إلى القداسة، فرفعهم بذلك إلى مصاف الأمبراطورَين القديسيَن "المتوّجين من الله والمعادلي الرسل"، قسطنطين الكبير وأمه هيلانة. على الجدار الشرقي، يظهر قائد الجيش الأعلى يوحنا تزيميسكيس ومعاونه الأرمني ميلياس، وهما هنا إلى جانب كوكبة من القديسين، لكل منهما هالة تحوط برأسه. زُيّنت هذه الكنيسة كما يبدو في عهد نيكيفوروس، وهو هنا "قديس"، ورفاقه كذلك "قديسون"، مع العلم بأن الكنيسة لم ترفع أيّا منهم إلى هذا المصاف. على العكس، اختلف مؤرخو بيزنطية في شأن هذا الأمبراطور، ورأى البعض منهم أنه وصل إلى السلطة وتزوج من أرملة رومانوس الثاني بشكل غير شرعي. لم يدم هذا الزواج طويلا. تقرّبت الأمبراطورة الأرملة من يوحنا تزيميسكيس واتخذته عشيقا، ودفعته إلى اغتيال نيكيفوروس، وتمّ لها ما أرادت. ذُبح نيكيفوروس في سريره وقُطع رأسه وعُرض للعامة، واحتلّ تزيميسكيس العرش بمساندة الجيش في نهاية عام 969، ونفى الأمبراطورة تيوفانو إلى أحد الأديرة، ثمّ تزوّج من تيودورا، شقيقة الأمبراطور رومانوس الثاني، وذلك لإعطاء حكمه طابعا شرعيا. يتردّد صدى هذه الأخبار في "المختصر في أخبار البشر" حيث نقرأ تحت عنوان "قتل ملك الروم": "كان قد غلب على ملك الروم رجل ليس من بيت المملكة، واسمه نقفور وخرج إلى بلاد الإسلام وفتح من الشام وغيره ما ذكرناه، وطمع في ملك جميع الشام وعظمت هيبته، وكان قد قتل الملك الذي قبله، وتزوج امرأته، ثم أراد أن يخصي أولادها الذين من بيت الملك، لينقطع نسلهم، ويبقى الملك في نسل نقفور المذكور وعقبه، فعظم ذلك على أمهم التي هي زوجة نقفور، فاتفقت مع الدمستق (لقب قائد الجيش البيزنطي) على قتله، وأدخلت الدمستق مع جماعة في زي النساء إِلى كنيسة متصلة بدار نقفور، فلما نام نقفور وغلقت الأبواب قامت زوجته ففتحت الباب الذي إلى جهة الكنيسة، ودعت الدمستق، فدخل على نقفور وهو نائم، فقتله وأراح الله المسلمين من شرّه".
يختصر أسلوب جداريات "كنيسة نيكيفوروس الثاني فوكاس" جمالية الرسم في القرن العاشر، وشواهده في عدد كبير من الكنائس الكبادوكية. يأخذ هذا الأسلوب طابعه المكتمل في الجداريات التي تعود إلى القرن الحادي عشر، وفيها خلاصة الكلاسيكية البيزنطية. لا نجد أي إشارة تاريخية تُذكّر بما نراه في "كنيسة نيكيفوروس الثاني فوكاس" في جاووشين. الفن هنا ديني بامتياز، في مواضيعه كما في أسلوبه التشكيلي. العدد الهائل من الجداريات التي تعكف الحكومة التركية على ترميمها بأفضل الوسائل، يجعل من كبادوكيا متحفا استثنائيا يحفظ "ذاكرة بيزنطيا". خارج وسط كبادوكيا، نقع على جداريات تمثل أسلوبا مختلفا تبرز من خلاله مؤثرات شرقية، كما في عدد من كنائس وادي إهلاري، عند أطراف محافظة أق سراي، جنوب كبادوكيا. تتغير الطبيعة هنا وتخضر اخضرارا عظيما. نخرج من عالم الصخور البركانية لندخل في عالم آخر لا يقلّ سحراً. ننزل ما يناهز مئتين وخمسين درجة لنصل إلى أسفل الوادي الذي يخرقه نهر ميلينديز. نتعرّف الى كنائس لا تحظى بشهرة كنائس متحف وادي قوريم، منها كنيسة من زمن السلاجقة يظهر فيها أحد مموّلي بنائها مع زوجته مبتهلين أمام القديس جاورجيوس. ترافق الجدارية كتابات تذكر اسم المموّل واسم قرينته، وهما "الأمير باسيل جياكوبيس" و"تمارا". اللافت هنا لباسهما المحلي "التركي"، وأبرز خصائصه العمامة التي يعتمرها الأمير. تشهد هذه الكنائس لاستمرارية كبادوكيا "اليونانية" في العصر السلجوقي، وهي ليست الوحيدة، فالكنائس التي تعود إلى تلك الفترة عديدة، وفيها من الجداريات ما يخلب عين الزائر، سواء أكان من أهل "العامة" أم من أهل "الخاصة".
مداخن الجن
هكذا تبدو كبادوكيا اليوم متحفا بيزنطيا حيا تحتضنه أرض أناضولية خلت من المسيحيين. نعود إلى محافظة نيفيشهر، ونجلس في بلدة تُدعى مصطفى باشا، وهي في الأمس القريب سيناسوس اليونانية. حافظت هذه القرية على طابعها اليوناني، في وسطها بركة يحيط بها مقر البلدية وبعض المقاهي والمتاجر السياحية، إضافة إلى كنيسة تحوّلت متحفاً، ورسم الدخول إليها ما يعادل الدولارين. تزين هذه الكنيسة جداريات تعود في أبعد تقدير إلى نهاية القرن الثامن عشر، خالية من أي قيمة جمالية، مثل الغالبية العظمى من الجداريات اليونانية والبلقانية التي تعود إلى تلك الحقبة. تشهد هذه الجداريات لتعايش تركي-يوناني استمر حتى الحقبة العثمانية المتأخرة، وأبرز علاماته لغة "وسيطة" بقيت حية حتى العشرينات من القرن الماضي، هي "اللغة الكابادوكية". في ذلك الزمان، اندلعت الحرب اليونانية - التركية خلال تقسيم الدولة العثمانية بين 1919 و1922. عُرفت هذه الحرب بأسماء عدة، منها "كارثة آسيا الصغرى"، وانتهت بهزيمة ساحقة لليونانيين. اضطر الحلفاء إلى التخلي عن "معاهدة سيفر"، ودخلوا في مفاوضات جديدة أثمرت عن معاهدة أخرى هي "معاهدة لوزان" التي كرّست سيادة الجمهورية التركية على تراقيا الشرقية والأناضول. أوصت هذه المعاهدة بإنهاء الخلاف بين تركيا واليونان، وتطَّلب ذلك تهجير أكثر من مليون يوناني من تركيا، وما يقارب أربعمئة ألف تركي من اليونان. خلت كبادوكيا من سكانها المسيحيين، لكنها لم تخل من آثارهم، وهي اليوم تدهشنا بهذه الآثار كما بطبيعتها الغريبة المليئة بصخور بركانية تسمّى "مداخن الجنيات".