في قصة "الفقيد" للكاتب اليمني عبد الله سالم باوزير رحمه الله (توفي عام 2004)، ونشرت في مجموعته المتميزة "الحذاء" عام 1987، يعرض بأسلوب قصصي واقعي من خلال شخصية ثابت يقظان صورا من المآسي التي يتعرض لها الأديب العربي، ليس في اليمن (السعيد) وحسب، ولكن على طول امتداد البقعة الجغرافية الموصوفة بـ "العربية". ففي كل بلد عربي يوجد مثقفون وأدباء وأصحاب رأي وفكر نيّر، ولكن أين هم؟ وما هو موقعهم الإعرابي في حركة العرب السياسية والفكرية والتغييرية بشكل عام؟ وما موقع الثقافة في ظل هذه الأوضاع التي تمور على صفيح ساخن؟
لا أحد ينكر ما يتعرض له المثقفون من إهمال في بلدانهم التي فيها يعيشون، وإذا أردتم مؤشرات، فتعالوا نرَ كم هو نصيب الثقافة من الآلة الإعلامية اليوم بصنوفها كافة المرئية والمسموعة والمقرءة في كل بلد عربي، إنك ستفاجئ من الحقيقة الصادمة، عندما تعرف على سبيل المثال أن الصفحات الثقافية في الصحف اليومية هي صفحة أو اثنتان أسبوعيا، أو صفحة يومية، وعند مقارنتها بصفحات الأخبار الرياضية فإنك ستتعرف الفرق وحدك دون عناء. فلماذا هذا الواقع؟ ألا يوجد مثقفون وكتاب ومفكرون ليكتبوا في الصحافة الثقافية؟ ألا يوجد قراء يقرأون المادة الثقافية على شتى أنواعها وتجلياتها؟
هذا، عدا ضآلة المادة الثقافية في الوسائل الإعلامية الأخرى كالفضائيات مثلا، وعدم توفر صحافة ثقافية مستقلة إلا ما قلّ وعز، فقد تجد في كل بلد مطبوعة أو اثنتين كاسدتين، وما ضائقة مجلة الآداب البيروتية عنا ببعيدة. فهل المشكلة في القارئ؟ لا أظن ذلك، وإنما المشكلة فيمن صاع عقل القارئ ليكون هكذا.
إن هذه الحالة المتردية للثقافة في البلاد العربية هي نتاج طبيعي لحالة كبرى من التخلف الشامل في كل المجالات وأولها وأهمها التفكير وآلياته، وعودا على بدء، فإن قصة "الفقيد" المشار إليها آنفا، تندرج في ظل هذا الواقع المأزوم للثقافة والمثقفين، فجميع الظروف المحيطة بالمثقف العربي ضاغطة نحو أن يتلاشى ويتسامى بخارا في سماء الصحراء اللاهبة، وهو يبحث جاهدا مهموما عن تأمين احتياجاته واحتياجات أسرته اليومية، فلا عجب أن يموت بالسكتة القلبية، أو بحادث سير وهو منشغل بالمطاردة هنا وهناك ليدفع ما تراكم عليه من فواتير الماء والكهرباء، فهل سيصاب بالسكتة الثقافية الشعرية والأدبية والفكرية، وسيموت بالمفهوم الأدبي، ليكون فقيد الحياة التي لم ترحمه؟
هذا هو واقع المثقف العربي، وواقع الثقافة العربية التي خسرت قبل فترة أحد أعلامها وهو الفنان والأديب السوداني محمد بهنس متجمداً على أرصفة القاهرة، وقد عاش متشردا دون مأوى، فأين احترام الأنظمة للإنسان؟ وأين تغنّي الحكومات بالثقافة؟ إنه لمن أكبر العار أن يموت مثقف بهذه الطريقة، والأمة في جانب من جغرافيتها تنعم بما لا يحسن قلم وصفه من مظاهر البذخ في مضاجع كلاب سيدات المجتمع (الراقي) العربيات.
لعلّ ما كتبه عبد الله سالم باوزير لم يعد خيال كاتب يعاني ما يعاني من آلام الواقع المعيب، وإنما تخطاه الواقع ليكون خيالنا محدودا في وصف كوارث الثقافة الحقيقية في بلاد الثقافة والحضارة والتاريخ، فهل وصلنا إلى هذه الحالة من التردي والانحطاط ليكون الإنسان أهون ما يكون؟
إن ما حصل مع السوداني محمد بهنس في الموت تحت رحمة الطبيعة القاسية سيحصل مع آخرين مصريين وفلسطينيين وأردنيين وسوريين وليبيين، ...، ولكن ربما بموجة صقيع قادمة أو حر شديد ذات صيف قائظ قادم، وربما جوعا وهمّا وغمّا، أو ربما يموت تحت سياط التعذيب في أقبية الموت العربية لأنظمة هي عدوة للنور والتنوير، ويا لها من ميتة ثقافية جذلى!!