تتكشف اللحظة الشعرية الباشلاريّة من مساجلها مع مفهوم الديمومة البرغسوني، وتتأكد من خلال صيرورة الزمان المتقطع الحبيبي، سياقات الخلق المغاير، الميتافيزيقية الآنية، الحوار الحلمي مع الممكن، حداثة التوهج الشعري، تشظية معيارية القصيدة، عزلة الإنسان والتوقف الابداعي للكائن.

غاستون باشلار والقصيدة

سعيد بوخليط

يمكن أن نتحدث عن تجربة غاستون باشلار في نقده للشعر من خلال حديثه عن العلاقة الأنطولوجية بين اللحظتين الشعرية والميتافيزيقية (1). واختلاف مسارهما الزماني، حيث تحدد القصيدة بعدها الزماني في تعارض مع الزمان الوقائعي. ولربما كانت أحد مصادر اهتمام باشلار باللحظة الشعرية هو مناقشته لمفهوم الديمومة البرجسوني التي شكلت مدخلاً نظرياً للحديث عن اللحظة الشعرية. لقد اعتبر باشلار بأن الزمان غير مستمر وبأن صيرورة الكائن الحي متقطعة، كما قطع مع فكرة المعطيات المباشرة للحدس وفكرة الحقيقة الأولى أو وجهة النظر الوحيدة. سيرفض باشلار أيضاً التعارض الذي يقيمه برجسون بين زمن العلماء ـ الزمان المكاني ـ والزمان السيكو ـ ميتافيزيقي. وفي هذا السياق كذلك، ساجل مايرسون بصدد نظريته الاستمرارية في تاريخ العلم.

أما المصدر الثاني لاهتمام باشلار بالشعر، فيتأتى من قراءته اليومية للقصيدة وتعطشه المعرفي للصورة الشعرية الجديدة والفنية، القادرة على أن تجعله يعيش واحدة من لحظاته العمودية. إن باشلار حينما يقرأ شعراً أو نثراً، فإنه لا يرتبط بحبكة أو بنية العمل ولكنه يتوقف فقط إذا وجد صورة مثيرة وجديدة. الشعر عند هذا الفيلسوف الحالم لا يتأسس ببنيته اللغوية والتركيبة ولا حتى بنظامه الإيقاعي، بل هو في الأصل وبشكل خاص صورة جديدة تنسج انسيابها في زمان إنساني جديد، حيث يشكل الشعر سياقاً زمانياً آخر يختلف عن كل التمثلات الإنسانية الأخرى.

يقول باشلار: "أن تكون شاعراً يعني مضاعفة الجدلية الزمانية ورفض الاستمرارية الهادئة للإحساس والاستنباط، يعني ذلك أيضاً رفض استراحة Catagenique من أجل استراحة ونفسية مهتزتين"(2). لأن القصيدة ليس: "ترجمة لجمال ثابت وصامت بل هي حركة خاصة"(3). كما أنها ليس: "تقليداً بل هي حلم أولي، وإثارة للصورة الأولى"(4). إن الشعر وهو يقطع مع اللحظة الإنسانية الأولى، يضاعف من تأسيساته الجديدة في محاولة لخلق لحظة إنسانية تحمل كل قيم الجمال والعلم والسكينة. لذلك يؤكد باشلار بأن: "قصيدة جميلة هي بمثابة أفيون أو نبيد، إنها غذاء مسكن للأعصاب. لذا من الضروري أن تثير فينا تأثيراً دينامياً. وبكلمة بول فاليري العميقة: الشاعر الحقيقي يلهم"(5). وهي قصيدة لكي تتم كتابتها، على المبدع التوفر وكذا اكتساب ثقافة اجتماعية من نوع خاص. نظراً للعلاقة الحميمية التي توجد بين الشعر والأشياء المكونة للوجود. ذلك، أن الفعل الشعري لا يؤسس لحظته وميكانيزمات تمثله دون الانطلاق من العالم ليعيد اكتشافه من جديد وكذلك إعادة صياغة مبررات الوجود. يقول باشلار على لسان ريلكه Rilkie: "لكي تتم كتابة مقطع شعري واحد، يجب أن تكون هناك رؤية لكثير من المدن والناس والأشياء ومعرفة الحيوانات ثم الإحساس بكيفية تحليق الطيور وكذا الحركة التي تقوم بها الورود الصغيرة وهي تتفتح صباحاً"(6). ذلك أن: "القصيدة الخالصة لا يمكن أن تقبل مهاماً وصفية ومعينة داخل فضاء مسكون بأشياء جميلة"(7).

القصيدة عند باشلار لا تتأسس على خيال يؤمن بتناقضات كبرى كما كان الأمر سالفاً، لهذا سيهتم أكثر بالتيار السوريالي الذي يتجاوز التناقض بين الحلم واليقظة، الواقع واللاواقع، الوعي واللاوعي. وذلك لتعطي القصيدة كميتافيزيقا لحظية، عوض أن تكون مشتتة في الزمانية ـ رؤية عن الكون. تنخرط بنا القصيدة في تأملات لا نهائية وصامتة، وإذا توخينا دراسة هذا الاندماج للصمت في القصيدة فإنه من الضروري أن نفهم بأن مبدأ الصمت هذا فكر مخفي. إن القدرة على خلق الدهشة وإعادة الاكتشاف لا تتأتى للقصيدة الشعرية إلا بالاختراق الميتافيزيقي للحظة المشتركة وتحويل الكون إلى لحظة للإحساس بالجمال: "حقاً، القصيدة نشاط Pancaliste للإرادة، تجسد إرادة للجمال. كل تأمل عميق هو طبيعياً وبالضرورة نشيد Hymne، تتجلى وظيفته في تجاوز الواقع والقذف بعالم رنان فيما وراء العالم الصامت"(8)، وللإشارة فإن مفهوم "Pancalisme" أو "Pancaliste" الذي استعاره باشلار من معجم Baldwin: "ينزع نحو تحويل كل تأمل في الكون إلى تأكيد للجمال الكوني"(9) إنها القصيدة التي تسعى لرؤية الجمال في كل شيء وبالضبط من خلال الأبعاد الحُلمية لعناصر الكون الأربعة: "ينعش حلم اليقظة عالم الأقوال الأولى، كل كائنات العالم تخوض في الكلام من خلال الاسم الذي تحمل... الماء الذي (يرقد) أسود كلياً في المستنقع، النار التي (ترقد) تحت الرماد، ثم هواء العالم الذي (يرقد) في العطر. كل هؤلاء (النائمون) شاهدون من خلال نومهم العميق عن حلم لا نهائي. في حلم اليقظة الكوني، لا شيء ثابت سواء العالم أو الحالم، الكل يعيش في حياة سرية إذن الكل يتكلم بصدق. الشاعر يسمع ويكرر، صوت الشاعر هو صوت العالم"(10).

لقد كان باشلار، يعشق توظيف الصيغة الشوبنهاورية: "العالم تمثل لي". وبالضبط التمثل الشعري، مما يجعل من القصيدة لعبة حوارية مع الأشياء والممكنات الكونية. وحينما ينقاد الشاعر جسداً وروحاً وراء هذه الروح، فإنه يتجه إلى الحقيقة النفسية الأولى أي الصورة L image: "وحيث الصور الناجحة تضيء مثل شهاب هذه اللحظات المقدسة. وحدها تعتمد حقاً في القصيدة في حين يظل الباقي مجرد خطاب. الزمان الأفقي، إطالة لصدى أو انتظار للحظة تالية. لذلك فإن باشلار يحكم بعدم جدوى الاهتمام بمسائل التركيب والإيقاع بل وحتى المقطع الشعري الحر أو الموزون"(11)، الصورة وحدها تعطي فضاء زمانياً ومكانياً للقصيدة وبالتالي تكمن مهمة: "الشاعر في أن يدفع الصور برقة لكي يكون متيقناً، أن الفكر الإنساني يصنعها إنسانياً، وبأنها صور إنسانية تعمل على أنسنة قوى الكون"(12).

لكن: "من أين يتأتى، بأن صورة لامعة تحتوي على قوة ما؟ نصل إلى السؤال الذي يناقش في الغالب منابع الإحساس الأدبي. بالنسبة لباشلار فإن رنين المجاز La metaphore يقوم في نجاحه على أن يجعل فجأة النور في المظلم فينا. سيجد فيه الشاعر والقارئ رمز نفس شبه غامضة، والتي هي نفسهم. إنهما سعداء، بأن ينكشفا في هذه المرآة المزينة، فسعادة القصيدة نرجسية"(13). القصيدة عند باشلار بقدر ما تصنع اللحظة الجديدة وتفتح سبيلاً للسعادة، فإنها كذلك تموقع الكائن واللغة الجديدة، وتعيد للخفاء الأشكال الكبرى للطبيعة. هذه القصيدة: "تعطينا انطباعاً بالشباب والفتوة، وذلك بأن تدهشنا باستمرار، فالقصيدة الحقيقية وظيفة لليقظة...

العالم لا يوجد شعرياً إلا إذا اكتشف من جديد"(14).

أكد باشلار في برنامج إذاعي شهر ماي 1954، خُصص لعلاقة الفلسفة بالشعر أن: "كل قصيدة مباغتة، هي في الجوهر حداثة للغة... قراءة قصيدة حقيقية يعني تمثل دهشة تجاوز اللغة الإنسانية"(15). القصيدة انفجار للغة وتشظية لأسسها، تعطيها دينامية جديدة وصورة أخرى تمكن هذا الكائن الباشلاري الجديد من التماهي كلياً، مع لعبة الخفاء التي تسعى القصيدة إلى تحقيقها.

القصيدة بصورها الجديدة تعيش حسب باشلار: "حياة اللغة الحية. نستدل عن ذلك في غنائيتها الفعلية وفي هذه الإشارة الباطنية التي تجدد النفس والقلب. تعطي هذه الصورة الأدبية الأمل في إحساس وكذا قوة خاصة إلى رغبتنا بأن نكون بشراً. بل تقوية لحياتنا الفيزيائية. فجأة يصبح الكتاب الذي يتضمنها رسالة قلبية. بالنسبة لنا تلعب دوراً في حياتنا، تحيينا وبها يرتقي الكلام والفعل والأدب إلى درجة الخيال المبدع. إن الفكر يغتني بإغنائه اللغة كذلك، وهو يتجلى في صورة جديدة. يصبح الكائن كلاماً"(16). سيبدع في هذا السياق مصطلحاً جديداً هو: Telepoesie. كما أن قراءة القصيدة يجب أن تكون "Telepoetique" وذلك: "لكي يحدد القصيدة الأصلية، تلك التي توفر تواصلاً شعرياً حميمياً Intime، عميقاً وخصباً بفضل كونية عناصر المادة الأربعة وقوتها الحُلمية"(17). لذلك أكد باشلار في كتابه "الماء والأحلام": "أن الشاعر الأكثر تجديداً، المُوظف للتأمل الأكثر حرية في العادات الاجتماعية، ينقل إلى قصائده أسباباً تتأتى من العمق الاجتماعي للغة، إلا أن الأشكال والكلمات ليست كل القصيدة. من أجل تنسيقها فإن بعض المفاهيم المادية ملحة، إنها بالضبط مهمتنا في هذا العمل أي إقامة الدليل على أن بعض المواد تنقل إلينا قوتها الحُلمية، نوع من القوة الشعرية تعطي وحدة للقصائد الحقيقية. إذا كانت الأشياء تنظم أفكارنا فإن مواد العناصر ترتب أحلامنا"(18).

كما يؤمن باشلار بأن الصورة الشعرية: "تخلق فينا حداثة الكينونة، وتلون نفسنا العاطفية. كما أن العالم ينمو من خلالها، من أجل ذلك يكون بالإمكان تبليغها. لذا، سيتخلى باشلار عن المقاربة النفسية للصورة الأدبية لصالح فينومينولوجيا تجد معناها في انجذاب القارئ من خلال مفهوم جوهري جداً أي: الرنين Retentissement والمستعار من "مينكوفسكي"، ممارسة قراءة تضخيمية حيث حلم يقظة القارئ يطيل ويضاعف من بعض النواحي ذلك الذي جاء به الشاعر"(19). هذه الصورة الفاعلة والمتقدة تحتاج إلى قارئ يقظ ومنتبه Attentif، ينخرط في جماليتها ويستنشق في أحيان كثيرة روحها العلاجية. لقد حاول باشلار البحث عن فلسفة للراحة وربطها بالقصيدة والشعر: "نفهم إذن المكانة المهمة التي كانت للمعالجة بواسطة الحُلم اليقظ مع R. Desoille، إلى جانب المادية الأدبية حيث تم تجميعهما في: l'air et les songes وla terre et les reveries de la volonte. تستفيد النفسيات العُصابية والمكبوحة، إذا أيقضنا داخلها الصور الأولية"(20).

إن قراءة باشلار اليومية للقصيدة: "القراءة ثم القراءة دائماً شغف عذب للأنيما "Anima"... وحيد ليلاً مع كتاب مُضاء بقنديل"(21). ومحاولة استيعابه فكرة السعادة التي شغلت الإغريق قبل ذلك، إضافة إلى تأمله الزمان ونقده فكرة الصيرورة البرجسونية، والتأكيد على أن الحقيقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها هي اللحظة L'instant. رافدان أساسيان لتجربة باشلار مع معطى الشعر والشعرية ومحوراً أساسياً في الاشتغالات اليومية خاصة لغاستون باشلار "الشيخ" يقول: "لقد دعاني "جون لوسكور J. Lescure إلى الأدب وأدخلني إلى صحبة أصدقائه الشعراء...، إنهم يأتون إلى دروسي العمومية، حيث أتكلم في الغالب عن الشعراء ناسياً الفلاسفة. مع هؤلاء الشعراء الذين لا يؤخذون دائماً على محمل الجد، عرفت الاحتفالات الحقيقية للصداقة"(22).

انكب باشلار في سنواته الأخيرة على عوالم اللغة وأحلام اليقظة من خلال القصيدة الشعرية وانصرافه عن العالم النظري والإبستمولوجيا، حيث كان الرجل/ الشيخ(23). بعيداً عن المختبرات العلمية ومفتقداً للقاء زملائه من العلماء وهم يجتمعون في الملتقيات والمؤتمرات العلمية، في وقت حققت فيه العلوم التجريبية وكذا تطبيقاتها التقنية قفزات ضخمة إلى الأمام. لكن بالرغم من هذا التأخر الباشلاري، فإن قراءاته للشعر والشعراء لم تكن: "تسلية بالمعنى المألوف، وليست نسياناً لقراءة الفلاسفة والعلماء"(24). تحدث جون هيبوليت J. Hyppolite وهو يقارب إبستمولوجيا باشلار عن "رومانسية الذكاء" مشيراً إلى خطوط التقارب بين القصيدة والعلم، بقوله في صياغة باشلارية: "الرياضيات قصيدة للفكر، في حين أن المجازات رياضيات للغة"(25). أما لوي غيوم L. Guillaume فقال: "نعاين انسياباً للقصيدة داخل روح هذا الفيلسوف الكبير"(26). كما أنه: "أحسن منبع شعري لحقبته"(27).

كل ذلك، للتأكيد على أن اللحظة الزمانية الباشلارية في مقابل الأنطولوجيا البرجسونية وتفاؤليتها بالزمان المستمر، تسعى لإبراز أن اللحظة هي قبل ذلك عزلة تفصل الإنسان ليس فقط عن الآخرين ولكن كذلك عن نفسه، ثم ظهور وانبثاق الإرادة المبدعة: "إذا كانت اللحظة الحقيقة الوحيدة، والزمان في ماهيته منفصل، فإن المسألة ليست كما عند برجسون بالتطابق حدسياً مع الديمومةla duree ولكن مضاعفة اللحظات الخصبة"(28). ففي "مقابل التفاؤلية البرجسونية بالزمان المستمر وكذا دوام الماضي الكامل في لحظة الحاضر، يطرح باشلار شجاعة ثاقبة لإدراك زمان مُغاير وحُبيبي Granuleux، تكون لحظاته نوعياً متعددة والتي يمكن أن تكون بالفعل كذلك لحظات للعزلة ولحظات الإبداع السعيد"(29).

الزمان المحدد في اللحظة، توقف إبداعي للكائن وانبثاق لمثيراته الحلمية التي تعطي لنا صورة جديدة. يتم استخراجها من أعماق النفسية الإنسانية ربما للمرة الأولى، الشعر وحده قادر على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ Gaston Bachelard: l'intuition de l'instant, Edition Gonthier 1932, p.p. 103-113.
(2) ـ Voisin Marcel: Bachelard, edition Labor, Bruxelles coll. "Problemes" 1967, p. 30.
(3) ـ G. Bachelard: L'air et les songes, essai sur l'imagination du mouvement, Librairie Jose corti 1944, 11eme reimpression 1978, p. 61.
(4) ـ Ibid, p. 206.
(5) ـ Ibid, p. 10.
(6) ـ Ibid, p. 12.
(7) ـ Ibid, p. 104.
(8) ـ Ibid, p. 61.
(9) ـ Ibidem.
(10) ـ G. Bachelard: la poetique de la reverie, edition PUF Quadgie, Paris 1957, 10eme edition 1981, p.p. 161/162.
(11) ـ Mansuy Michel: Gaston Bachelard et les elements. Librairie Jose corti 1967, p. 366.
(12) ـ G. Bachelard: L'air et les songes, p. 52.
(13) ـ Mansuy Michel, op. cit, p. 367.
(14) ـ Margolin jean claude, Bachelard, Ecrivains de toujours, seuil 1977, p. 16.
(15) ـ Ibid, p. 15.
(16) ـ G. Bachelard: L'air et les songes, p. 9.
(17) ـ Margolin Jean Claude, p.p. 87-88.
(18) ـ G. Bachelard: L'eau et les reves, essai sur l'imagination de la matiere, librairie Jose corti 1942, 15eme reimpression 1979, p.182.
(19) ـ Perraudin Jean Francois: Les therapies de Bachelard, in Cahiers Gaston Bachelard, annee 1998, N 1, p.27.
(20) ـ Ibid, p. 25.
(21) ـ Margolin Jean Claude, op. cit. p. 13.
(22) ـ Op. Cit, p. 19.
(23) ـ Ibid, p. 25.
(24) ـ Ibid, p. 18.
(25) ـ Ibid, p. 87.
(26) ـ Ibid, p. 14.
(27) ـ Ibid, p. 16.
(28) ـ Perraudin Jean Francois: Les Therapies de Bachelard, op. cit, p. 21.
(29) ـ Margolin Jean Claude, op. cit, p. 114.