يقدم الباحث الجزائري في هذا التحليل المتقصي لواحدة من الروايات الجزائرية المثقلة بالدلالات دراسة تمزج بين مقتربات التحليل النفسي والمفارقة الأوديبية واستقصاءات نقد ما بعد الاستعمار الذي يقرأ في طبيعة البطل الإشكالي القادم من دياجير الاستعمار آثار جراح التجربة الاستعمارية الدامية على النفس الجزائرية.

المفارقة الأوديبية

أسلبة البطل الإشكالي في رواية «بوح الرجل القادم من الظلام»

عبدالله شطاح

 1. على سبيل التمهيد.

صدرت رواية (بوح الرجل القادم من الظلام)1 لإبراهيم سعدي سنة 2002 عن منشورات الاختلاف، بعد أن توجت بجائزة مالك حداد للرواية في دورة 2000/2001، متزامنة مع نهاية الحرب الأهلية الجزائرية التي وسمت في الصحافة والأدب باسم العشرية السوداء، وواقعة بحكم توقيتها تحت طائلة توصيف أدب الاستعجال. كان ذلك الإطلاق قدحيا واختزاليا إلى أبعد الحدود، سبق لنا الاشتغال عليه في أطروحة أكاديمية كرست لهذا الغرض، وفي بعض المنشورات النقدية2 التي اشتغلت على قراءة أدب الاستعجال قراءة متأنية، راصدة، ومستقصية لوجوه الاستعجال في ذلك المتن الروائي الثري كمَا على الأقل. إلى هذا يعود نسبيا سبب اهتمامي بهذا النص الذي لم أدرجه ضمن المتن المرصود لقراءة أدب الاستعجال لاعتبارات خارجة عن المعيارية بالمرة، بيد أنني ظللت أعود إليه الحين بعد الحين، أسائله من حيث أسائل اللجنة التي توجته بالجائزة في تلك المرحلة القاسية من التاريخ الجزائري، حيث كان الاهتمام بالراهن السياسي يغطي على بقية الاهتمامات، والشأن الأمني سيد الشؤون، وأصداء الايدولوجيا أشد صخبا من جميع الخطابات، والأدب، في الخلفية الصامتة، مدفوع إلى الانتظار وراء الهم العام والحاجة الملحة إلى إطفاء الحرائق المشتعلة قبل الالتفات إلى رفاهية اللغة وبذخ الأدب الجميل.

لم يكن الاستعجال نصيب الأدب فحسب، بل نصيب النقد والذوق والتلقي، وسوائها من الحقول المتعقلة وجوديا برصانة الحكم واتزان التحليل وبرودة التداول. وفي هذا السياق المتأهب لقراءة ذاته، ومعرفة نفسه، وهضم الوقائع المتتابعة طوال عشرية من الزمان، والعثور على أجوبة مقنعة للأسئلة المعلقة: لماذا حصل ما حصل؟ و ألم يكن ثمة من سبيل لصد المحنة، وحفظ البلد من النزول إلى قعر الهاوية بلا مقدمات منطقية؟. في هذه اللحظة الرمادية الغامضة التي بدت أقرب إلى النهار منها إلى الليل، خرج الرجل المبهم من ليله ليبوح بأهوال القيامة، وملحمة الخروج من الجحيم والظلمات والخرائب. لم يكن البوح ترفا ولا ترفيها ولا ثرثرة للهو والسمر وتزجية الفراغ. لم يكن حتى رغبة في الإدهاش وفي ممارسة لذيذ الحكي في بلاد تمتد بجذور راسخة إلى ثقافة القص، وسمر الليالي، والمغازي وأيام العرب. كانت الحاجة إلى البوح ضرورة إنسانية، وحاجة روحية عميقة، وتطهيرا أرسطيا لفائض الانفعالات النفسية المكبوتة، وجوعا بشريا للمشاركة الوجدانية مع رفقاء المحنة الذين زج بهم الخوف، لعشرية كاملة من الزمن، في طور انطوائي بدائي شديد القرب من البيات الشتوي المعروف في مملكة الحيوان.

كتبت مفردة (البوح) لوحدها في عتبة العنوان، ثم تلاها في سطر تحتها المضاف إليها من بقية العنوان (الرجل القادم من الظلام)، تحديدا لمسار الرواية وماهيتها، وفحوى مضمونها الملتبس بمقام الاعتراف الذي أسس له مبكرا القديس أوغسطين في المسيحية، ثم كرسه جون جاك روسو باعترافاته (les confessions)  الشهيرة في كلاسيكيات الأدب الفرنسي، التي لم يتورع فيها عن ذكر ما لا يجرؤ عليه غير الممتلئين بفضيلة الإخلاص والنزاهة والصدق، وغير المحيطين بأسرار الرغبة الجارفة في التطهر بواسطة الاعتراف الذي أرسته الكنيسة ضمن شعائر المسحية الراسخة، والذي تكرر بعد ذلك، في سياقات مغايرة، مع كتاب كبار لم يبلغوا به على كل حال درجة التعري الكشفي الذي مارسه جان جان روسو، نذكر منهم تمثيلا لا حصرا تولستوي وأوسكار وايلد وجون بول سارتر.

بالتأكيد لا يدرج النص نفسه في هذا التصنيف السردي إلا من حيث الآلية والأداة دون المضمون، على الأقل في جانبه المحيل على الكاتب الحقيقي، لأن الحميمية التي يقتضيها هذا اللون من الممارسة السردية لم تتهيأ له بعد، في الفضاء العربي، شروط تلقيها الموضوعية، بحيث يظل محمد شكري يشكل الاستثناء، بحكم العوامل الوجودية المتعلقة به كذات لم يكن لها ما تخسره في الوقت الذي أنجزت فيه مشروعها الأدبي الذي اتخذ من العري والصدق أداة انتشار فعالة في ظرف زمني وجيز، وفي سياق عربي لم يتعود على الكتابات (الفضائحية الصادمة) المستقرة نسبيا في الثقافة الغربية.

لقد انتصبت مفردة (البوح) بذكاء تداولي لوحدها أعلى عتبة النص، مستدرجة للمتلقي عبر إثارة فضوله، ونخس غريزة التلصص المكينة في أغلب الطبائع. والبوح فعل حميمي مليء بالإمكانات الحكائية المثيرة، يتجاوز من حيث المبدأ مألوفات الوقائع، والمعتاد من السير والأقاصيص، ويشتبك بقوة مع المدهش والمحظور والمحرم، ويعد، من حيث يريد ذلك أو لا يريده، بمضامين استثنائية، ليس أقلها العجب والغرابة. من هنا ينقلب فعل القراءة إلى استيفاء للوعد المقطوع منذ العتبة الأولى، لا ينفك أن يقفز فوق ضرورات البدء والاستهلال إلى مظان المحظورات المحببة، والممنوع المرغوب. بيد أن النص يكسر أفق التوقع مرتين، توقع قراءتنا هذه في الحقيقة، مرة بانفراده بخط موضوعاتي غير مرتبط بسياقه الزمني، سياق العشرية السوداء، سوى بضرب من الانزلاق الخفيف على فضاء الرعب والإرهاب الدموي، ومرة بالخيبة في تفاصيل البوح نفسه، الذي جاءت تفاصيله دون مستوى التوصيف الاعترافي الصادم من حيث التعريف، واكتفت بسرد صدمات شخصية وحيدة مهيمنة على طول السيرورة السردية الممتدة لما يزيد على 336 صفحة من الحجم الكبير. شخصية إشكالية بالتوصيف اللوكاتشي، (نسبة إلى جورج لوكاتش، المنظر الشهير)، تنهار تحت وطأة الصدمات النفسية المتكررة، التي تخرجها مبكرا من براءة الطفولة اللاهية إلى صعيد الرشد الصلب ذي القساوة البالغة، وتأخذ مقومات البطل التراجيدي الذي يدفعه القدر إلى اقتراف الخطيئة التراجيدية (الهبارتيا بحسب التعريف الأرسطي) التي لا يحمل إزاءها أية مسؤولية أخلاقية حقيقية، شأن أوديب الملك الذي حكمت عليه الآلهة بأن يقتل أباه ويتزوج أمه، ولم يقدر، برغم جهوده المضنية لتجنب هذا المصير المؤلم، على أن يغير من حكم القدر شيئا، بل على التقيض من ذلك، لا يؤدي مسعاه للالتفاف على النبوءة سوى إلى توريط نفسه في عقد المأساة المشدودة بعناية (قدرية).

بالإضافة إلى عتبة العنوان المغرية بالإنصات إلى حميمية البوح اللذيذة، جاء الموازي النصي الذي صدرت به الرواية بمثابة خطبة بين يدي القارئ، تتضافر مع العنوان بغية رفع سقف التوقع، واستثارة فضول القارئ إلى الغاية، لا سيما والمتكلم هو الناشر  الذي حرص على أن يعرفنا بملابسات حصوله على مخطوط النص من رجل أصم تبين فيما بعد أنه قريب البطل الذي ليس النص سوى سيرته الذاتية أو مذكراته الشخصية في نهاية المطاف، اسمه منصور نعمان، لم يكن في واقع الأمر، بحسب سيرته المسرودة بعناية لا منصورا ولا منعما، فتصادم اسمه منذ البداية بغياب الانسجام المفترض (حسب ما قرر فيليب هامون في سيميولوجية الشخصية الروائية) بين لفظ الاسم وهويته الروائية.

سعى الناشر المتخيل منذ عتبة النص الموازي إلى تدعيم العنوان في استثارة الفضول وتفعيل التلقي برفضه للعنوان الأصلي للمخطوط ( حياة الحاج منصور نعمان) واقتراح عنوان (بكاء الشيطان) دافعا بالمراهنة على غريزة التلصص والفضول إلى مداها الأقصى، بيد أن القريب الأصم الذي لم يكن (منصور نعمان) صاحب البوح القادم من الظلام سوى خاله، فكاد اقتراحه "أن يتسبب في ما لا تحمد عقباه."4 فالمخطوط فيما يبدو تركة لم يكن الورثة ( الزوجة وابن الأخت الأصم) يرغبون في نشرها أصلا، ولم يقدمها الحفيد الأصم إلا بعد تردد، سنعرف لاحقا أن اسمه الهاشمي سليماني، فنان تشكيلي عبقري، مرتبط بخاله ارتباطا وثيقا، حصل أن وقع على المخطوط بمحض الصدفة لأن صاحبه لم يكتبه بنية النشر أصلا، هذا ما يفسر إل حد كبير غضبه الشديد على العنوان المثير الذي اقترحه الناشر للمخطوط.

بالإضافة إلى العنوان المثير الذي اقترحه، نجده، مرة أخرى، يمعن في اتخاذ الاحتياطات اللازمة من تبعات النشر لمخطوط يوحي مسبقا بأنه يحمل قدرا كبيرا من المحظورات الدينية، على الأقل هذا ما يؤكده الناشر في نصه الموازي الذي يبدو أنه جاء ليؤدي مهمة موازية لعتبة العنوان في تحفيز التلقي واستدراج القارئ المفترض. قال: " وقد عرضت عليه أن نغير بعض التعابير التي قد يساء فهمها، من وجهة نظر الدين خاصة، وحتى أن نحذف التوطئة، إلا أنه أفهمني بأنه لا يقبل حتى بحذف فاصلة. وأنه إما أن أنشره كما هو أو لا أنشره."5.

بهذا الحذر الواعي، وبهذا الاحتياطات المنجزة بمهارة، يتم النص الموازي أركان الإغراء المرصوصة بعناية، بين البوح والحذر من تبعات التأويل الديني، وبكاء الشيطان، لم يبق سوى التصريح الموجه لأفق القارئ نحو عوالم الغرابة والصدام، واقتحام المناطق المحرمة في واقع عربي محكوم بالمقدس والتابو في كل تفصيل من تفصيلات حياته المعلقة، أصلا، بماض مسطر بالمدرجة والفرجار. أما طبيعة المخطوط الذي لم يكن يعده صاحبه للنشر بقدر ما كان يمارس به نوعا ما الاستبطان الذاتي الشبيه بالاستشفاء عن طريق اللغة، بالبوح والاعتراف، ودفع مكبوتات اللاشعور المغيبة في الأعماق المعتمة نحو إشراقات الوعي وأضوائه، فقد ألزمت النص باستعارة أدوات السيرة الذاتية دون أن تكونها في العمق، جاعلة من زمن القص يأخذ اتجاهين متعاكسين تماما، اتجاه ارتدادي نحو الماضي وفق تراتبية كرونولوجية مضبوطة، واتجاه متزامن مع الحاضر، مرهن واقعيا إلى حد التماهي مع اللحظة التاريخية الواقعية، يلتقيان مرارا في لحظة واحدة هي خروج الناص من لحظة الكتابة السيرية إلى لحظة الواقع الحياتي على حادث من حوادث العالم الخارجي في زمن العشرية السوداء، انفجار قنبلة، صرخة مدوية وفي غالب الأحيان دخول زوجته عليه في المكتب حيث يختلي بنفسه، طوال الوقت، في مواجهة الورق وذاكرته المسكونة بأوجاع ماض متفجر بالحسرة والآلام، والأوجاع المحفورة كالأخاديد في ذاكرة شيخوخة متعبة.

لم يفسح النص، بحكم آليته السيرية، حيزا كبيرا لنفاذ شخصيات أخرى إلى متن السرد، واكتفى بتحبير (المآسي) التي تعرضت لها شخصية البطل، والتي جهد خلالها جهدا غير يسير بغية إلباسها لبوسا تراجيديا ملحميا مؤثرا، فجاءت أوديبية بمعنى من المعاني، أو بالأحرى بالمعنى الذي يجعلها ضحية قوى غامضة، وقدر قاس لا يرحم، تتلقى ضرباته تباعا، دون سبب منطقي ولا مبرر مقنع باستثناء الانتماء إلى جنس البشرية المستسلمة لضعفها تحت قوى القدر اللامبالية، ضربات متعلقة بالقدر الأوديبي المسكوك تحت طائلة الجنس والجريمة المترابطين دوما بأوثق العرى القصصية والتخييلية، بيد أن بطل الواية هنا لم يرتكب أي جرم سوى أن حبيباته اللواتي دفعهتهن الأقدار إلى حياته يلقين كلهن مصيرا مأساويا يكاد يكون مستنسخا، من (زكية) حبيبة المراهقة التي انتحرت وهي تحمل جنينه خوفا من أهلها، إلى عشيقته زوجة محافظ الشرطة التي باغتها زوجها وهي في أحضانه فأرداها قتيلة بمسدسه، إلى (مسعودة) جارته المطلقة التي ضاجعها مرة فهربت بحملها من بيت العائلة إلى التشرد في أزقة العاصمة المتسخة الضيقة، إلى (سيلين) اليهودية التي كان يعاشرها في باريس إبان حرب 67 ثم انتحارها لما عاد إلى الجزائر مخلفا إياها وراءه.

وحتى عندما عاد من منحته الدراسية في فرنسا ليستقرر في الجزائر إثر بلوغه خبر قتل والده لأمه، رفض الأب القاتل أن يستقبله في السجن، كما رفض أن ينبس ببنت شفة للمحققين والقضاة، مفضلا مواجهة الإعدام على البوح بالسر الذي دفعه إلى قتل زوجته ورفض استقبال ولده الوحيد. ولاحقا يصر على تحمل المصير الأوديبي إلى الآخر عندما جاءه الأمير (أبو أسامة) الإرهابي، صهره وأخو زوجته الذي طالما أحسن إليه، ليذبحه في بيته وأمام زوجته/أخت الأمير، بدعوى انتمائه إلى تنظيم الإخوان المسلمين الذين أحلت الجماعات الإرهابية دماءهم بسبب ولائهم للسلطة، لم يدفع عن نفسه التهمة الباطلة لأنه لم ينتم أبدا إلى الإخوان.

وحتى عندما يتنكر له أبناؤه الكثيرون من زوجاته الأربع اللواتي تزوجهن بإشارة من زوجته الأولى، بعدما أصابها البرود الجنسي التام على أثر وفاة والدها، وبعد انتحار ابنه الأثير، يظل منصور نعمان  بائسا ومنكسرا، ومسكونا بأوجاعه التراجيدية حتى النهاية، لم يجد طوال حياته أثرا من سكون، ولا برهة من دعة وطمأنينة إلا عند الولي الصالح الصوفي سعيد الحفناوي الذي ينتهي بدوره مذبوحا تحت قبته المهدمة وضريحة المدكوك.

وعليه لم تفعل الرواية الشيء الكثير، بالقياس إلى واقعها المأزوم، سوى استدعاء المصائر التراجيدية التي  أحاطت بالبطل إحاطة محبطة، جعلته يختار منفاه في عمق الخلاء الجنوبي من البلاد لكي يمارس طقوسه التطهيرية التي جعلت زوجته ورفيقة عمره تصرح، في ما يشبه الخاتمة التأبينية الملخصة لفحوى النص ولفحوى التراجيديا الأوديبية التي كانت عليها حياة منصور نعمان، بالقول:" الحق أنه كان يحدث لي أن أفكر بأنه إنسان مريض، بأنه يحمل نفسه ذنوبا لم يقترفها، أظن الحاج هو كالملاك الذي ظل طريقه فوجد نفسه يرتكب الشر، مما جعله يسعى طوال حياته من ّأجل العودة إلى طبيعته الحقيقية. كان لقاؤه بالصوفي سعيد الحفناوي آخر محاولة له من أجل تحقيق هذه الغرض، قبل أن أعرض عليه تأليف كتاب عن حياته للتخلص من ذكرياته، فيغلق بعد ذلك على نفسه في مكتبه، ليلا ونهارا، إلى ذلك اليوم الذي جاء فيه عبد اللطيف وذبحه."6.

يرد هذا التصريح في الفقرة ما قبل الأخيرة من الرواية، على لسان الزوجة (ضاوية) التي تلقفت خيط السرد لثلاث صفحات أخيرة وبعد مقتل (الحاج منصور نعمان) زوجها مذبوحا أما عينيها على يد أخيها. ولم تكن قبل ذلك ترد إلا ممسرحة في حوارات مقتضبة تكسر تدفق السرد الاسترجاعي لذكريات مؤلمة لا يتحمل بصددها مسؤولية جزائية ولا أخلاقية باستثناء موقعها من روحه المريض ونفسيته المعذبة الساعية إلى الخلاص في التصوف وفي الكتابة.

2. أسلبة البطل الإشكالي/التراجيدي:

إذا أخذنا برأي أرنولد بنيت القائل: "إن أساس النثر الجيد هو تصوير الطبائع لا غير."7 اكتشفنا درجة الدور المحوري الذي تقوم به الشخصية في النص، وقدرتها بمفردها على القيام بأعباء التدليل وإسعاف النص على إنجاز معناه، وعلى توظيف الإمكانات التي تتيحها اللغة ويهيئها السرد، من حوار إلى أحداث إلى انفتاح على الأفضية والانتقال فيها ونصب ممكنات المقابلة بين الـ(هنا) والـ(هناك) والداخل والخارج  وتنويع التبئير، وإثراء وجهات النظر. ولن يكون من قبيل الاختزال المفرَط إذا قلنا بأن أهم ما يعلق بذهن القارئ والمتلقي في العموم، بعد نهاية السرد هو الشخصية، ليس بجانبها العاملي الذي حدده قلاديمير بروب بصرامة، ولكن بأبعادها السوسيوـ ثقافية وبقدرتها على اللعب بمهارة بهلوانية على وتري الواقع والتخييل.

من الصعب أن نفكر في الطيب صالح ولا يهجم على بالنا فورا مصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة إلى الشمال) الفذ ولا ود الريس وغيرها من الشخصيات المنحوتة ببراعة نحتية إغريقية، كأنها التماثيل المصبوبة في جسد الرخام والأبدية، صقيلة لامعة تستفز الذائقة والمخيلة. ومن الصعب كذلك أن نفكر في نجيب محفوظ من غير أن تهجم علينا شخصياته الحرفوشية التي جعلت من الهامش مركزا، ومن الحارة الضيقة ميدانا يعج بالأحداث والأضواء. الأمر نفسه يجري على شخصيات الأعمال الخالدة في كلاسيكيات الأدب العالمي، من جوليان سورال بطل (الأبيض والأسود) لستاندال الفرنسي إلى  راشكولنيكوف بطل (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي معلم الرواية الروسي العظيم،  وأندري وناتاشا والقائد كوتوزوف شخصيات (الحرب والسلام) لتولستوي، ضمير العالم الأوروبي في القرن التاسع عشر، ورائد الترجمات الكلاسيكية في منشورات الآداب العالمية لهذا القرن بحسب إحصاءات اليونيسكو.

من أجل ذلك قرر المعجم الفرنسي الشهير (Grand Larousse Universel) بأن بعض الشخصيات الروائية أخذت حضورا استثنائيا في الوجدان البشري وأصبحت  "شخصيات هي افتراضيا واقعية إلى حد بعيد، وخصوصا في الروايات الواقعية والتاريخية."8.

لا غرو، فالشخصية هي القارئ الحقيقي والمفترض، وهي تمظهرات الأنماط البشرية الواقعية والممكنة، تضيف بتكويناتها المكتملة إلى رصيد المعرفة والتواصل الإنسانيين شيئا جديدا، تكاد صفتها الورقية التخييلية ألا تلغي إلا قليلا من جاذبيتها وسحرها وسطوتها على الوجدان، وحتى على المقروئية بانتصابها في قلب الجنس الروائي الذي التهم الشعر ونوج على عرش الأدب المعاصر بلا منازع، يكتب المدينة الحديثة وتمزقاتها وصراعاتها ومصائرها المتشابكة. ولا يبعد أن تستحوذ تلك الشخصيات على الكتاب أنفسهم، فهاهو غارسيا ماركيز تفاجئه زوجته وهو يبكي بحرقة في مكتبه ولما سألته عن السبب " نظر إليها بحزن، ثم قال لها بأسى:(لقد مات الكولونيل أورليانو بوينديا."9، ولم يكن أورليانو بوينديا هذا سوى أحد أبطال روايته الشهيرة (مئة عام من العزلة)، ولم يكن خالقه وقاتله في منتصف الحكاية سوى ماركيز نفسه.

على هذا الأساس تصبح دراسة الشخصية المحورية/ البطل، دراسة مندرجة بالقوة في حقل أطلق عليه فيليب هامون توصيف (بلاغة الشخصية)10، ذات المنحى السوسيو ـ أسلوبي المحكوم بالإرغامات الإيديولوجية والثقافية، بما يجعل من الشخصية الإنسانية محور العملية السردية برمتها، وملغية نزوعات رواية الحساسية الجديدة التي سعت إلى إحلال الأشياء محل البشر، وأسندت إليها البطولة كما أسندها الكلاسيكيون إلى الإنسان.

لا غرو أن اسم العلم الذي اشتقه العرب من الوسم والعلامة الجسدية البارزة للعيان يظل أحد أبرز السمات المميزة للفرد عن الجماعة، وللذات المفردة عن الهويات المختلفة، الأمر الذي جعل رولان بارت يؤكد على المكانة الخطيرة التي يختلها الاسم كعلامة دالة بالقول:" يجب أن نسائل اسم العلم بدقة، ذلك أن اسم العلم هو، إذا جاز التعبير، أمير الدوال، إن إيحاءاته غنية، إنها اجتماعية ورمزية."11. سنلاحظ إلى أي حد كشف الاسم الذي أسنده الكاتب إلى بطل النص عن وعي كتابي مخصوص أو إلى غياب هذا الوعي بالمرة، نلاحظ ذلك وهو يسترسل عبر صفحات الرواية التي تنيف على الثلاثمائة، أ و وهو ينحت بصبر ودأب مختلف التكوينات النفسية والجسدية لبطله (منصور نعمان)، وأثناء ذلك يجب علينا، حسب فيليب هامون " إبراز الحركية السيميائية للشخصية التي تمتد من الأصوات المحاكية إلى المجاز مرورا بالرمز والنمط والتشخيص. وبطبيعة الحال، فإن هذا التعليل مبني حسب (قيمة) الشخصية، أي حسب مجموع الأخبار التي تعد هذه الشخصية سندا لها على امتداد الحكاية. إنها أخبار تبنى في نفس الوقت بشكل تتابعي واختلافي أثناء القراءة، كما تبني بشكل استعادي. "12.

لقد افترضنا ابتداء أن شخصية (منصور نعمان)، بالإضافة إلى تشابكها مع مفارقات أوديبية نمطية، ترتد في مساعيها الخلاصية إلى أسوأ من فجائعيات القدر المفروضة سلفا، تظل مع ذلك، أو بسبب ذلك، شخصية إشكالية بامتياز، على الأقل في استجابتها للتحديدات التي أرساها جورج لوكاتش، ناحت المصطلح والمنظر له، وفي أسلوبها الحياتي الذي شكلته ترسبات التجارب الحياتية القاسية، في جانبها المتعلق بالضمير على وجه التحديد، وفي سعيها المستميت إلى الخلاص من إكراهات المجتمع الذي ورطه في سلسلة من الحوادث الفجائعية التي ظلت على الرغم من ذلك معلقة لم ينل عليها جزاءه المفروض. أوديب نفسه في مسرحية سوفوكليس اليونانية، المكتوبة في القرن الرابع قبل الميلاد، لم يتحمل وطأة الضمير وعذابه لما تبين له أنه، دون أن يدري، قد حقق نبوءة الآلهة التي هرب منها، وأنه قد تزوج أمه وقد قتل أباه، فلم يجد عندئذ بدا من فقء عينيه بيديه، نقلا لمركز الألم من القلب والضمير إلى الجسد، وتكفيرا عن ذنب لم يرتكبه حقيقة ولكن ارتكبه بالقوة، لم يرتكبه بنية مبيتة، ولكن بفعل عجائب الاتفاقات بحسب التعبير التراثي وعلى حد التفريق الذي وضعه المناطقة المسلمون الأول بين الفعل الواقع والفعل المفترض.

قبل ذلك لم يكن أوديب إشكاليا بالمرة، كان ملكا وادعا، حقق الشهرة وحصل السلطة بعبقريته الفذه وشجاعته الخارقة، يعيش متناغما مع المحيط، ومع المدينة اليونانية العتيقة وأعرافها المستقرة، منساقا ومستسلما لقوانينها وعرفها ومتواصلا بكفاءة عالية مع أفرادها قبل أن تدركه اللعنة التي سطرتها الآلهة قبل ميلاده بأحقاب. نقيض الإشكالية في الشخوص، إذن، يكمن في الانسجام بين الفرد والجماعة، بين الاشتراك في الهدف والمصير. ومن الطبيعي أن نقرر هنا بأن هذا النموذج الانسجامي نادر يكاد يكون مستحيلا في المجتمعات الطبقية والرأسمالية على حد تعبير لوكاتش نفسه:" إن الفرد المعاصر لا يستطيع الحصول على التناغم الذي كان سائدا في المجتمع الثقافة القديمة  (antique)، لأن الضمير المعاصر ضمير ممزق، تشهد عليه الرواية والبطل الروائي (الإشكالي) بصفة عامة."12. بيد أن الصبغة الإشكالية أحيانا تكون فطرية، ومحددة سلفا، على الأقل هذا ما توحي به أسطورة الملك أوديب الذي جاء إلى الدنيا مسبوقا بالنبوءة المشؤومة وبالقدر الذي حكم عليه بما حكم، فلم تكن حياته سوى سلسلة من الانفعالات الحياتية التي أدت في النهاية إلى تحقق النبوءة والقدر بصفة مدهشة المصادفات.

(منصور نعمان) بدوره وٌلد وهو يحمل الجينات الأوديبية، ويحمل مواصفات البطل التراجيدي المسبوق باللعنة المستقرة عميقا في لباب تكوينه العصبي والجسدي، كأن القدر ليس في النهاية سوى الجينات المكيفة للطبائع والأقدار ولا شيء سواها. لا شيء يبدو استثنائيا في الاسم الذي ألحقه الناص ببطله. اسم لا يشبه صاحبه في الحقيقة إلا قليلا، يتقاطع مع المألوف والمستقر اجتماعيا إلى حد الانمحاء، يمهر إمضاءه في نهاية مقدمته التي جاءت بعد مقدمة الناشر في التقديم باسم (الدكتور الحاج منصور نعمان) الذي يشد الانتباه بظلال مفردتين مهمتين في سلم القيم الثقافية والأخلاقية في المجتمع العربي الإسلامي، فالرجل يحمل رتبة علمية (الدكتور) موقرة في بيئته، وإطلاقا دينيا (الحاج) يحدد عمره وطبقته والتزامه الديني التقليدي الواقع على النقيض من الإيحاءات الدينية التي ارتبطت بالأصولية الإسلامية الحديثة زيا ولغة وسلوكا وإيديولوجيا، قبل أن ترتبط عمرا وسنا كما هو الشأن في الواقع العربي التقليدي، الذي يطلق توصيف (الحاج) على صنف محدد من الناس الذين بلغوا الكهولة أو اقتربوا من الشيخوخة أو واقعوها بالكلية.

المفردة في نهاية المطاف نمطية الدلالة، تستدعي ظلالا وإيحاءات منسجمة مع الرغبة في التطهير المرافقة لنهاية مغامرات الفتوة والقوة والشباب، سبقتها مقدمة تقليدية متناصة مع استهلالات الكتابات التراثية المسبوقة دائما بالبسملة والحمدلة والصلاة على النبي (ص). كتب تحت عنوان توطئة:" بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد أشرف المرسلين. أما بعد. فإن تأليف كتاب أروي فيه حياتي، فكرة أرشدتني إليها ضاوية. بعدما لاحظت أن الحج إلى بيت الله لم يزل عني هواجسي ولا خفف عني ذكريات ذنوبي ولا أبعد عني سطوة كوابيسي. ويشهد الله، عزوجل، بأن الأمر شق علي تصديقه في بدايته، بل جعلني أظن بضاوية الظنون. فخمنت أنه لا غرض لها، رغم عشرتنا الطويلة على سنة الله ورسوله، على أزكى الصلاة والسلام، غير البحث عن معرفة أسرار جديدة عن الحياة التي كتبها الله لي. أنا عبده الضعيف. فإن إبليس لم يفتأ يسكن جوانحي ويضلل سبيلي. "13.

الرجل شخصية معذبة، مسكونة بالهواجس والكوابيس و(الضلالات) على الرغم من قيامه بركن الحج طلبا للسكينة والغفران والهداية على وجه التحديد، فراح يتوسل الكتابة والبوح والاستبطان بديلا عن الركن الديني الذي لم يجد فيه بغيته. وقد ارتبط الحج وما زال مرتبطا في واقع الأمر بهذا الغرض عند عموم طوائف المسلمين، شعيرة تقام في خريف العمر غسلا وتطهرا من تراكمات السنين الآثمة. فالرجل لم يكن (نعمانا) في نهاية المطاف، ولم يكن حتى (منصورا) من هذه الناحية على الأقل، كأن الناص الممسك بتلابيب السرد، المحيط بكل شيء، العالم بالظاهر والمغيب، وبالسطحي والعميق، بحكم التباسه بـ(الأنا) المترجمة عن نفسها، حيث يتماهى السارد والقاص والكاتب في الاضطلاع بمهمة الرؤية والرواية جميعا، كأنه لم يشعر بلحظة من تردد وهو يسم بطله ويعلمه. وتاريخ الرواية مليء بتجارب الكتاب وحرجهم وهوسهم بأسماء شخوصهم، ورولان بارت وفيليب هامون اللذان أسلفنا مجتزأين لهنا بالاقتباس وعامة السيميائيين يعلقون بأسماء الأعلام في الرواية مهمام دلالية جسيمة ومسؤوليات وتبعات، وإيحاءات (des connotations)  شبيهة بإيحاءات العتبات الروائية والنصوص الموازية وفضاءات الصفحة والغلاف بالنهوض بأعباء الدلالة وإنجاز المعنى.

أما البنية الإفرادية لـ(الحاج) فقد اضطلعت بدورها وأشبهت نفسها، على الأقل في المقبوس الذي أوردناه، حيث لا يكف الرجل عن إحلال الله بعد كل ذكر له، وعن الصلاة على النبي شأن المتدينين من المسلمين وغير المسلمين في واقع الأمر، بيد أن الإصرار على توطئة النص بالإلحاح على هذا المنزع التعبيري لا يخلو من إظهار للنزعة التدينية العارمة التي سوف تحدد الحكي وتأطره ضمن الحدود الأخلاقية التي يسمح بها الدين، ولم يفتها وهي تفعل ذلك من التحريض على القراءة والإغراء بها على نحو ما رأينا بخصوص عتبة العنوان والنص الموازي الذي أحاطه الناشر بغموض مثير في مقدمة النص، فالرجل الكبير الذي حج البيت وتاب واستوى على الطريقة المثلى سيبوح بأمانة بحياته الماضية المليئة بالذنوب التي ما زالت تقض مضجعه وتؤلم ضميره المعذب، و"هكذا، إذن، قر عزمي على تأليف هذا الكتاب، ليس سعيا وراء شهرة أو مكسب أو خلود، فلا خالد غير الله، بل بحثا عن راحة الضمير، إن شاء الله عزوجل....وإنني ألتزم أمام الله سبحانه وتعالى، أنني لن أغفل أي شيء ولن أحجب أي أمر، إيمانا مني بأنه لا حياء في الدين وأن لا خافية تخفى على الله عزوجل.. وعليه فإن كل ما سأذكر صدق لا غبار عليه إلا فيما يتعلق باسمي. أنا العبد الضعيف، وباسم زوجتي وبأسماء الأشخاص الآخرين الذين سيرد ذكرهم وأيضا باسم المدينة التي تزوجت وعشت فيها."14.

لا يخفى أن النص الموازي الثاني بعد مقدمة الناشر والذي تمثله هذه التوطئة، يعبر عن الوجه الثاني للغرض الذي جاء من أجله النص الأول، أي بيان (الخطورة) الاعترافية التي سينهض بها النص. وإذا كانت الأولى، بطريقتها الاحترازية، قد لعبت عن وتر الممنوع المرغوب، فإن هذه قد أكدت المنحى انطلاقا من أخلقة البوح والاعتراف وربطهما بالمقولة الدينية انطلاقا من عبثية الستر والاستسرار مع علم الله المحيط بكل شيء. بذلك يصبح الوعد مقطوعا، والكلمة نهائية، والتوقع مستثارا إلى الغاية، ولم يبق إلا مهرجان الأسرار الممنوعة معروضة على البياض، ونبع الحكاية الثر فياضا بملذات الأسماع والنفوس والغرائز.

ثم إن الاحتراز من ذكر أسماء الأعلام يقوم، بطريقة عير مباشرة، بوظيفة تجنيسية مساعدة للتلقي ومحددة للقراءة النقدية على وجه الخصوص، وذلك بإخراج النص جملة من نسق السيرة  إلى رحابة التخييل، فالسيرة والتخييل الذاتي يقتضيان التصريح بالأسماء الحقيقية المطايقة لمرجعها الواقعي، بينما السيرة الروائية تقتضي على الأقل مطابقة نسبية لحياة البطل وحياة الكاتب الحقيقي على رأي أمبرتو إيكو15، وخلاف ما رأي جيرار جينيت16 الذي ينادي بجعل القارئ والكاتب الافتراضيين أو الحقيقين خارج منظومة السرد كلية.

2.1 أصل الخطيئة/ خطيئة التكوين

يبدأ النص مغامرته الحميمية بجملة استهلالية  (incépit)مترعة بالدلالة، بعد عتبات النصين الموازين اللتين أرادهما أن تكونا خارج فضاء النص مبنى دون أن تحققا ذلك معنى، لأن النص الموازي الثاني جاء موازيا لمقدمة الناشر ومساعدا لها في تفعيل التلقي واستثارته، وجات العبارة الاستهلالية في منتصف الصفحة الحادية عشرة التي توسطها رقم(1) بالحجم الكبير إيذانا ببدء مغامرة السرد. قال:" لا أجد شيئا كثيرا أقوله عن نفسي قبل بلوغي الثانية عشرة."17، قبل أن يشرع في تفصيل مشاعره كابن وحيد لوالدين طالما أغدقا عليه العطف والحنان ووافر الرعاية مع شعور ممزوج بالذنب لعجزهما عن إنجاب إخوة له. الذي يسجل لعبارة الاستهلال التي أوردنا، أنها تلغي، بسرعة، ومنذ المطلع الحاد، كل توقع وانتظار للبوح بشقاوات الطفولة المبكرة ومباهجها، وهي مرحلة شائقة عادة في الكتابات السيرية العربية التي انبرت للحفر في أعطاف الطفولة وثناياها وأنجزت نصوصا بالغة العذوبة والعمق، نشير هنا تمثيلا إلى (حفريات في الذاكرة من بعيد) لمحمد عابد الجابري، و(الأيام) لطه حسين، و (مذكرات الولد الشقي) للكاتب الساخر محمد السعدني، ولا سيما (الخبز الحافي) لمحمد شكري الذي صور بشجاعة نادرة شقاوات طفولته المشردة البائسة.

يبدو الناص، بقفزه الصريح على مرحلة الطفولة الثرية عادة، مستعجلا الانفتاح على مرحلة العمر المراهق للبلوغ، الذي سرعان ما يفي بوعد (البوح)، بالإفصاح عن نبرة النزوع الجنسي ومغامراته التي حددت اللون المضموني الذي سيشتغل عليه السرد منذ العتبات الأولى للنص. وعلى هذا الأساس يبادر الناص إلى الاعتراف بنضجه المبكر الذي بدا في صوته الخشن غير المنسجم مع سنه وسن زملائه من الأطفال الذين كانوا يضحكون عاليا من صوته كلما انبرى للقراءة في القسم. كليرر ردمان، معلمته الفرنسية، وحدها من بدا عليه أنه يفهم ما أخذ يعتمل في تكويناته الفيسيولوجية والهرمونية، فأحاطته بالرعاية والفهم، وبكثير من اللطف الذي خفف من حدة انطوائه وخجله في تلك المرحلة من عمره، ولم يتردد الطفل طويلا قبل أن يقع، مثلما هو متوقع، في حب معلمته الفرنسية الرقيقة، كما لم يتردد في (الوقوع) في حب أخت صديقه الوحيد في تلك المرحلة، (شريف) الذي أخذ يتردد على بيته ليرى محبوبته أكثر مما يرغب في لقاء صديقه، وينتهي هذا الجزء الأول، القصير نسبيا، بانفتاح النص على أفضية ملغمة بالخيالات الإيروسية المراهقة والممكنات الجنسية المشتهاة.

بدأ الأمر فجأة مع زوجة والد صديقه (شريف)، التي يطلق عليها السارد اسم (خالتي وردية)، والتي أدركت، قبل غيرها، دلالات النضج المبكر في صوته الخشن، والزيغ الغريب عن سنه في نظراته المريبة، و"تفطنت إلى أن رغباتي ليست كرغبات غيري من الأطفال، بأن نظراتي مفعمة باللهفة والشهوة والشوق، بأنه ليس لي من الطفولة شيء."18. صفحات غير قليلة استغرقها الكاتب ليعبر عما اختصرته الخالة (وردية) في كلمات: لقد خرج (منصور نعمان) من الطفولة والبراءة مبكرا وبصورة غير طبيعية بالمرة. من أجل ذلك لم تراوده كثيرا عن نفسه لتستدرجه ذات يوم إلى غرفتها وفضائها الحميمي الذي استقر في مخيلة الطفل إلى الأبد، وأصبح بمثابة جرعة شيطانية سرت في عروقه، فيروسا تكاثر وانتشر، أو بداية إدمان فعلي على الجنس الذي سيصبح محور اهتماماته، والذي سيكيف شخصيته لتصبح آلة للجنس، ونداء حيوانيا مبهما، وغريزة ترشح من عينيه ومن رائحة شخصه، تجتذب النساء على نحو من الأنحاء التي ألحقها الطيب صالح ببطله (مصططفى سعيد) ليتمكن من خوض حربه (المقدسة) ضد الغرب الاستعماري عبر أداة الجنس، منتقما من الإنجليز بإيره، وإغرائه الساحر لإناثه اللواتي تساقطن عليه تساقط الذباب، مأخوذات بالغموض والسحر الشرقي وظمأ الصحارى في جلده ذي السمرة الغامقة.

كانت الخالة (وردية) عشيقته الأولى، أدخلته إلى غرفة الرجل الذي كان يناديه (عمي علي) ومارست معه الجنس مرارا على مرأى من وليدتها الرضيع، محدثة أول التصدعات في بنائه الداخلي الذي لم يكن قويا بما يكفي أساسا، ومحددة أصداء البوح والاعتراف بأنغام الجنس واللذة واقتحام المناطق المحرمة في المنظومة الأخلاقية التي ينتمي إليها البطل، في فضاء حي شعبي متعرج الطرقات، شديد الاكتظاظ، سرعان ما تظهر فيه (مسعودة المطلقة) متزامنة مع سنته النهائية في الابتدائي وظهور علامات البلوغ النهائية التي أصبحت تلح عليه بخيالات جنسية أكثر جرأة وإباحية وشذوذا، فيهجم عليها مغتصبا إياها ذات زيارة لبيته العائلي حيث تصادف وجوده في البيت بمفرده. تحمل (مسعودة المطلقة)، وتهرب من بيتها العائلي، وتتشرد في الطرقات والحارات، ويمتلئ قلب البطل بالخوف العصبي المحموم من انتقام إخوتها العديدين، لكن لا شيء من ذلك يحدث، باستثناء استقرار الخوف والشك والبارانويا من شخصيته التي بدأت تهتز تحت ألم الضمير الملح كلما صادف (مسعودة المطلقة) وولدها/ ولده في بعض منعرجات المدينة تلتحف الكرتون وتمد يدها للعابرين.

الفضاء الزمني لهذه الوقائع هو فترة الثورة التحريرية التي يعرج عليها الناص بسرعة ودون اهتمام يذكر، سواء من حيث تعلقها بالفضاء العام لكرونولوجيا القص أو تعلقها بالبطل كفرد ينتمي إلى جماعة، بدت مشغولة بالكلية، بوقائع الحرب التحريرية التي كانت معركة (الجزائر العاصمة) علامتها الفارقة. قال: "جاءت بعد ذلك فترة (فترة الثورة) لم أجد فيها ما أفعله، نصيرة (أخت صديقه شريف) تزوجت، زوجة أبها أصبحت بعيدة عني، والشقراوات الأوروبيات اللائي صرت أدرس معهن في ثانوية [فيكتور هيجو] بحسين داي، لم يكن يقبلن حتى مجرد الكلام معي، ربما كن، بتلك الطريقة، يخضن بطريقتهم الحرب ضد [الفلاكا] (الثوار) داخل تلك الثانوية. حيث حدث مرات عديدة وأن فتش الناظر، وحتى الأساتذة أحيانا، محفظتي. خاصة في الفترة التي كانت تنفجر فيها القنابل في أماكن تجمع [الأقدام السوداء] (الفرنسيون المعمرون)، أثناء معركة العاصمة."19.

لم يبد على السارد أي اهتمام بما يحدث حوله، لا الثورة ولا الإضرابات ولا الانفجارات التي كان يحمل قنابلها فتيات جزائريات في عمر الزهور، ولا الإضراب العام الذي شنه الطلبة الجزائريون والتحقوا على أثره بالجبال استجابة لنداء الثورة. لا شيء من ذلك يثير اهتمام السارد الذي بدا لا مباليا ولا منتميا سوى إلى ندائه الشخصي الخارج من بين غرائزه شهوة وشبقا وغواية. وفي الوقت الذين كان فيه شباب الجزائر يصنعون التاريخ ويطردون الفرنسيين بعد قرن وثلاثين سنة من التجذر المادي والمعنوي في الأرض والذاكرة، ذات يوم استقلال مشرق بالفخر والمجد، كان الفتى يحضن معلمته الفرنسية كلير ردمان ويستمع إلى بكائها على ضياع مجد وملك أجدادها الفاتحين، ويرث كلبها بوبي و(فيلا روز) فيلتها الفاخرة ويصحبها في لحظات الوداع الأخير للجزائر، وهي تركب الباخرة إلى موطنها الأصلي فرنسا بعد أن يمضي معها ليلة من الخمر والجنس وأكل لحم الخنزير.

يأخذ الكلب (بوبي) ملامح العشيق المدلل في جميع المشاهد التي تظهر فيها المعلمة (كلير ردمان)، تغمره بالعطف والحنان والقبل وترفض أن تمارس الجنس مع البطل بمحضره. "خفضت بصري نحوه فرأيته يحدجني بانكسار وانهزام. أحسست بالرغبة في أن أقذفه برجلي. كنا نتبادل الكره."20. كره مؤسس على أكثر من مبرر من طرف (بوبي) الذي يتحول إلى معادل إنساني، في مختلف مراحل السرد المتعلق بمغامرة البطل مع المعلمة الفرنسية التي تظل محتفظة بصفائها النفسي وقيمها الأخلاقية، على الأقل في احترام (مشاعر) الكلب في لحظة قاسية عبرت عنها في أكثر من موضع، فهي لم تعرف وطنا آخر غير الجزائر، فيه ولدت ونشأت وأحبت، ولم تتخيل نفسها تغادره أبدا، ولكنها تعترف بشجاعة كبيرة بأن اللحظة لحظة التاريخ، وأن الجزائر بلد يعود في النهاية إلى أصحابه، وتصرح بأنها لو كانت مكانهم لفعلت ما فعلوه بالضبط.

ستكون (فيلا روز) على موعد حاسم مع المنحى التصاعدي، أو التنازلي؟ في بناء التكوين الدرامي لشخصية السارد، إذ جاءها برفقة والديه فسكنوها كما سكن جزائريون كثيرون مساكن فاخرة خلفها المعمرون وراءهم، وتتحول الفيلة الفاخرة إلى بؤرة التوتر الكبرى التي تتجاوز مصير السارد إلى مصير والديه، إذ سيضطرون إلى مغادرتها هاربين متسترين بالظلام بعدما تنتحر (زكية) الفتاة البريئة التي أحبته في الثانوية، وحملت منه، مسحوبة بقوة قاهرة إلى الجاذبية الغامضة التي وصفها باللعنة الخارجة من عينيه ومن كيانه. لم يكن يعرف الحب الذي حدثته عنه (زكية) بهيام، ولم يشعر به يوما، كان آلة جنسية يحركها الشبق والاغتلام. بالإضافة إلى ذلك يورد الناص ملمحا جوهريا من ملامح شخصيته اللامبالية واللامنتمية وغير المؤمنة بأية قضية باستثناء نزواته الجنسية التي ظلت المحرك الأول لجميع انفعالاته الحياتية، حتى مرحلة متأخرة من حياته، يظل مدفوعا بقوته الجنسية البهيمية حتى وهو يلبسها لبوس الدين في زوجاته العديدات، ونعمي بذلك جبنه وخوره النفسي وتهلل تركيبته الشخصية  كما هو متوقع من شخصية سلبية لا أخلاقية بالمرة، من أجل ذلك صرح بأن     " الخوف من الموت هو الذي حال دون مشاركتي في الثورة."21، وبنبرة دالة وحاسمة:" أنا على أية حال لم أكن بطلا في يوم من الأيام. هذا أمر مفروغ منه."22.

وعلى هذا الأساس لم يتحمل مسؤوليته تجاه الموقف الذي وضع فيه (زكية)، الفتاة البريئة التي أحبته بسذاجة حارقة المشاعر، لفلم يفعل سوى ما يمليه عليه جبنه الراسخ، الهرب بصحبة والديه متسترين بجنح الظلام خوفا من الانتقام، ولكن الوالدة التي لبست ملابس (كلير ردمان) وعاشت في بيتها، والتبست بحياة الرفاهية الوافدة، وتقمصت أسلوب الانفتاح المتقاطب مع الحياة الشعبية التقليدية، ستفقد، هي الأخرى، عذرية الروح وطهارتها، ومن ثم تدفع بالبطل، الذي ستورطه لعنته الفطرية في المزيد من المآسي، إلى الانعطافة الجوهرية في حياته سنين بعد ذلك. أما (حورية) المتزوجة فقد شدها هي الأخرى ذلك النداء الغامض، وتلك اللعنة الخفية التي اجتذبت قبلها العديد من الضحايا، قالت له في ما يشبه النبوءة الصادقة: "لا أعلم لماذا أنت تثير في نفسي إحساسا قاتما، لكن ربما ذلك ما يشدني إليك."23. كما يشدها إلى مصيرها المحتوم حيث تنتهي تحت طلقتي رصاص من مسدس زوجها ضابط الشرطة. وهكذا تضاف (حورية) إلى قائمة الضحايا، والجرم الجديد إلى الجرائم العديدة، والأمن من الضابط المسجون لا يخفف من ألم الضمير ولا من خوف أهل (زكية) و(مسعودة). يتورم الخوف ويتورم الضمير، ويتسرطن الإحساس الفاجر بالذنب، ولكن اللعنة هي هي، والنداء الغريب القاتم، الراشح من شخصيته، لا يكف عن الفعل والإغراء.

لغز عابر، يلقي به والد (منصور نعمان) وهو يقرأ في الجريدة خبر مقتل زوجة الضابط الخائنة، يظل معلقا إلى النهاية، تكشف الزوجة (ضاوية) عن بعض غموضه عندما تتسلم خيط السرد في الفصل الأخير من الرواية، وتشير، تعريضا لا تصريحا، لما قال الأب، وتترك للقارئ الفعال مهمة ملء البياض الموارب بالإجابة التي تكاد لا تخفى عليه منذ البداية. لقد علق على الحادث بالقول: "لا بد وأنها فعلت شيئا. فلا أحد يقتل زوجته بلا سبب. ذات يوم قد أقتل أمك أنا أيضا."24. في فرنسا التي سافر إليها للدراسة والتخصص في الطب، لم يلبث إلا يسيرا حتى اندفعت لعنته القديمة في الاشتغال، كانت البداية مع (نسرين شيراز)، الطالبة الإيرانية التي تشبه (زكية) إلى حد التطابق، تبعث فيه طوفانا من المشاعر المتناقضة، من الحب الذي لم يعرفه قبلها مع أية أنثى، إلى الخوف الممزوج بالشفقة على نعومتها وبراءتها من الانتهاء كشبيهتها المنتحرة. وللمرة الأولى يغلبه الضمير، وتهزمه قساوة التجارب الماضية. وعندما ينفجر باكيا أما مرأى جسدها العاري في حميمية غرفتها الجامعية، تشعر بالإهانة البالغة، وتتهمه بعدم حبها واشتهائها، فتنسحب من حياته بهدوء محققة أولى انكسارات حياته المضطربة المحمومة، ومنجزة أولى تمظهرات الفضيلة المدفونة في العمق تحت إهاب لعنته الفطرية. حضور (نسرين شيراز) الخاطف في حياة البطل مثل خروجها السريع، يؤسلب البطل، على خلاف السابق، إيجابيا، ويحقق المثل الأوفى لعجز الجسد عن السيطرة على جموح الروح وتبعيته لمنطق التفاعلات العميقة التي ليست في متناول التحكم غالبا، الأمر الذي جعل السارد يلتبس بجلد الضحية للمرة الأولى، يعروه الضعف، ويهزه الألم من العمق، ويكره نفسه من حيث يكره  اللعنة التي تحيق بإناثه. يبدو (أوديبيا) مقهورا تحت لجاجة قوى لا ترحم، تحمله أوزار أفعال لم يقم بها، وتبعات ذنوب لم يرتكبها حقيقة.

وللمرة الأولى يصبح التعاطف مع السارد ممكنا، تتوارى إلى الحلف لا أخلاقيته ولا انتماؤه مبررين بالجبن والخور المسطورين عميقا في تكوينه، وبالكراهية القاسية التي راح يواجه بها نفسه، حتى بدا مقتنعا تماما بأنه لا ينتمي إلى فضيلة البشر وبأنه قذارة في صورة إنسان24. بيد أن رسيس الشفقة الناجمة في وجدان التلقي لا يلبث أن يلتبس بضده التقيض تماما، أقله الإنكار على السارد انكفاءه الكامل في قعر اللانتماء القومي والديني في علاقته المريضه باليهودية (سيلين) أيام حرب 67 التي لم يبد أنه كانت تهمه أو تعنيه بمعنى من المعاني، حتى قالت له مرة: "أنت موجود خارج التاريخ يا حبيبي."25. ولم يحرك وجدانه القومي ما شاهد من حبور (سيلين) وسعادتها الغامرة بالهزيمة المذلة التي مني بها العرب، ولم تبد عليه أية أنفة أو انزعاج وهو يقرأ البطاقة التي أرسلتها إحدى قريباتها من (إسرائيل) تخبرها بسعادتها بهزيمة العرب وزوال الخطر الوجودي الذي كان يهددهم: "لقد محقناهم، سيلين، أنا سعيدة جدا. تلك الأيام التي ظننت أنها ستكون أحلك أيام حياتي هي في الحقيقة أسعدها. تصوري: سحقنا طائراتهم وهي لا تزال جاثمة في مطاراتهم. لا تقلقي علي من الآن فصاعدا."26.

لم يأت هذا التزامن بين هزيمة 67 وعلاقة السارد باليهودية (سيلين) مجانيا ولا اعتباطا عند تحديد النظر، فالسارد، المشغول بملذات الجسد مع الخصم المجسد في العشيقة، لم تزعجه الخسارة الفادحة، ولا الهزيمة التي غيرت خريطة العرب الجغرافية والوجدانية وحتى الثقافية والسياسية، تماما على النحو الذي لم تخرجه الثورة  الجزائرية التحريرية من دائرة الجنس إلى أفق الانتماء، و"للحظة أوشك أن أضيف له أنه بينما كان الثوار يحاربون من أجل تحرير البلاد ويضحون بالنفس والنفيس، كنت أنا ألهث وراء النساء."27. هكذا كاد أن يصرخ بالحقيقة ذات مرة متقززا من نفسه ومن ماضيه، قبل أن يقرر الاستقرار في الجنوب الجزائري انتقاما من نفسه تلك واستلهاما للصوفي والمطلق من رهبانية المكان. مرة أخرى يرفض تكوينه الجسدي الاستمرار في (الخيانة) المستمرة لمنطق الحياة ونظامها العميق الذي يكيف البشر في بناهم الفردية والجمعية، فتكبو شهوته، وتنكس فحولته أعلامها، ويعجز أن يواقع (سيلين) في ليلة الهزيمة تلك، كأن لاانتماءه الظاهر لم يكن سوى صبغة لا تنطلي على الأعماق المغيبة، وأن اللاشعور الجمعي الذي يحتويه بالفعل و بالقوة  يفرض منطق وجوده ويكيف الظواهر غير الخاضعة لسلطان الإرادة والشعور.

لقاء (منصور نعمان) مع اليهودية (سيلين) في معترك حرب 67، وفي العاصمة باريس، كان بالإمكان أن يندرج ضمن موضوعة الصراع بين الغرب والشرق المطروقة على هامش أعمال عربية عديدة28 اشتغلت على هذه التيمة، كما اشتغل النقد متصاديا معها وبها ردحا من الزمان، بيد أن السارد الذي أراد لبوحه في هذا النص منزعا لا انتمائيا ولا أخلاقيا ينتصب مفرد النزوع وحيد التوجه، لا يرى رؤية (مصطفى سعيد) في (موسم الهجرة إلى الشمال) حتى وهو يتقاطع معه على أكثر من مستوى، من السلوك الجنسي المهيمن إلى المنفى الاختياري في أعماق البلاد هربا من جروح الذاكرة وتأسيسا لتجذر طالما أعوز الشخصيتين كليهما.

وعندما يعود السارد إلى الجزائر سريعا، إثر قتل أبيه والدته، تنتهي المرحلة الأولى من حياته التي ستنفتح على أفق مغاير جذريا للماضي، حيث سيسعى إلى بناء هوية جديدة ليس فيها من العلائق مع الماضي سوى ذاكرة عميقة الجراح، يتعرف فيها على الدين، ويتصالح مع القدر، ويعلن (توبة) تدينية تكيف حياته الباقية حتى النهاية، ويتخذ من مدينة (عين..) الجنوبية القفر موطنا، فيه يتزوج نساءه الأربع، ويموت مذبوحا يواجه قاتله بقلب صلب وعين لا ترف وشجاعة لا خور فيها، آخذا بثأره المتأخر من اللاموقف الذي اصطبغت به حياته المأساوية المفجعة، تماما كما تصالح (أوديب الملك) مع الأقدار وهو يخرج من (طيبة) أعمى تعوده ابنته (الكترا) إلى مدينة (كولونا) حيث ترضى عنه الآلهة وتجعله مباركا أينما حل. وعندما تكتمل الدائرة الأولى بذروة الفجيعة متمثلة في مقتل الأم على يد الأب، يصبح المكان فاعلا/ شخصية، تفرض وجهة جديدة على الأحداث، وتنميطا خاصا يتعين على السارد تقمصه لينجز (بوحية) النص، من بيت (كلير ردمان) الذي لوث طهارة الأم إلى الفضاء العاصمي الذي لم يعد يتناسب مع روح القداسة المنشودة التي تلبست بوجدان السارد وعقله، جاعلا من الهجرة في المكان موازيا فضائيا للهجرة في المعنى.

 

 جامعة البليدة 2

هوامش

1.  بوح الرجل القادم من الظلام، إبراهيم سعدي، منشورات الاختلاف، سنة/2002، الجزائر.

2.  ـ إيديولوجيـا التّـقاطبــات المكانيّة في رواية الشّمعة و الدّهاليز للطّاهر وطّار '  مجلة التبيين الصادرة عن الجاحظية، سنة 2009.

ـ مقال منشور تحت عنوان ( الرواية الجزائرية التسعينية: كتابة المحنة أم محنة الكتابة؟) بمجلة (تبين) الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد/02، سنة/ 2012، الدوحة/قطر.

ـ إصدار مؤلف نقدي بعنوان ( نرجسية بلا ضفاف/ التخييل الذاتي في أدب واسيني الأعرج)، منشورات دار الجكمة/الجزائر، سنة/2012.

3.  انظر الترجمة التي أنجزها سعيد بنكراد. من موقعه على الانترنت

4.  بوح الرجل القادم من الظلام، إبراهيم سعدي، ص:07.

5.  المصدر نفسه، ص: 06.

6.  المصدر نفسه ص: 336.

7.  Article personnage dans : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Todorov et ducrot

8.  Grand Larousse Universel, Larousse-Bordas, Paris, 1997

9.  الوعي الكتابي في الرواية، ناصر عراق، جريدة القدس العربي، عدد 4/01/2013.

10.          سيميولوجية الشحصية الروائية، ترجمو سعيد بنكراد، مرجع سابق.

11.          Analyse textuelle d'un conte d'E poe" paru dans 10. l'ouvrage collectif Sémiotique narrative et textuelle, Paris Larousse, 1974,p 34

12.          Lukacs Georges, La Théorie du roman, Goutier, 1963

13.          بوح الرجل القادم من الظلام، إبراهيم سعدي، ص:09.

14.          المصدر نفسه، ص:10.

15.          انظر تفصيل الحديث عن الفرق بين كل من الكاتب الحقيقي والضمني والمفترض والقارئ كذلك في: نزهات في غابة السرد، أمبرتو إيكو، ص:38. ترجمة:سعيد بن كراد، المركز الثقافي العربي، سنة/2005، ط/1، بيروت/ الدار البيضاء.

16.          يقول: " ليس للسرديات، في نظري، أن تذهب إلى ما وراء المقام السردي، ومن الواضح أن مقامي المؤلف المفترض و القارئ المفترض يقعان في هذا الماوراء.". انظر:عودة إلى خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، سنة/2000، ط/1،  بيروت/الدار البيضاء.

17.          بوح الرجل القادم من الظلام، إبراهيم سعدي، ص:11.

18.          المصدر نفسه، ص:19.

19.          المصدر نفسه، ص:35.

20.          المصدر نفسه، ص:60.

21.          المصدر نفسه، ص:97.

22.          المصدر نفسه، الثفحة نفسها.

23.          المصدر نفسه، ص:105.

24.          المصدر نفسه، ص:131.

25.          المصدر نفسه، ص:142.

26.          المصدر نفسه، ص:155.

27.          المصدر نفسه، ص:147.

28.          "الحي اللاتيني" ليوسف إدريس، و " موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم.