زقاق يتفرع من الشارع الرئيس ، تظلل سقفه رائحة السمك ، تمسك يدي لندخل فيه ، ارفض ، تتوسل ، وتقنعني بشراء الحلوى و اللعب وارفض فتجرني وتقول دقائق نشتري السمك ونخرج . اتبعها والرائحة تمتزج بأنفاسي ، فيملئ القيء المكان . وتعبق ذاكرتي برائحة القيء والسمك .
كل سبت ، تصحو مبكرا ، ترتدي عباءتها وتأخذني معها . أضع عباءتي السوداء الصغيرة التي اشترتها لي خصيصا لهذا اليوم فقط ، ونركب الباص الأحمر ذا الطابقين ، كان يحلو لها أن تجلس في الطابق الثاني حتى وان كان فارغا لتراقب المارة والسيارات في طريقنا إلى حي الكاظمية ، اتبعها متعثرة بعباءتي التي تتزحلق من رأسي كل لحظة .
كل سبت ، كانت تزور الإمام الكاظم لتطلب منه نذرا ، انه سبت النذور والسمك .
نطأ الساحة الأمامية المقابلة للمسجد المذهب ، تتعالى صيحات الباعة المفترشين بضاعتهم على الأرض أو على صناديق صغيرة . كانوا يبيعون المسابح التي زارت الإمام والترب وحلوى النذور والأعشاب والبخور . نخلع أحذيتنا وندلف المسجد حفاة . ندور حول الضريح المسيج ، خلف النسوة المتشبثات بقضبانه ، يقبلنها ويمسحن أيديهن عليها من ثم يضعنها على أجسادهن ورؤوس صغارهن للبركة ويعقدن الخرق الخضراء حولها طلبا للنذر ويدعين بصوت عال وبنشيج يفطر القلب طالبين منه أن يفك ضيقهن.
ندخل إلى قاعة الصلاة ، فالتصق بها خوفا من الجموع ، نساء متلفعات بالسواد؛ البعض منهن كان يصلي ، والبعض يسبح وأخريات يثرثرن مع بعضهن البعض ، ونساء اختلين لوحدهن في الزوايا وكفوفهن على خدودهن .
تتخذ عمتي زاوية لها واجلس جنبها وتبدأ بالتسبيح والدموع تتساقط من عينيها ، أمد يدي وامسح دمعة وأقول لها لم تبكين فترد " ادعوه أن يفرج عن كربتي" و تصمت ، ولم أفهم لم هي مكروبه ولا معنى الكرب .
ويجئ آخر الأسبوع فتزور الشيخ عبدالقادر الكيلاني ومسجد أبا حنيفة ، ومابين اليومين تلف بيوت الجارات لتعرف أخبارهن ولتنقل أخبارنا . لم تكن تطيق الجلوس في البيت ، دائمة الحركة كانت و دائمة الكلام .
كانت تشتكي دوما وتندب حظها وتقول إني مظلومة ، خطف مني الموت احن إنسان علي ولم أكمل سنة معه . لم تخلع خاتم الزواج وأساور الذهب من يدها، هدية عرسها . صغرت الأساور وضاقت على معصمها وأبت أن تخلعها فهي كل ما تبقى من رائحته .
تجلس أمام المرآة تسرح شعرها الناعم المجعد وتجدله جديلتين تتدلى حتى صدرها ، تطيل النظر في وجهها الدقيق الملامح ، انف صغير وشفتان رفيعتان وعينان تشبه لوزتين صغيرتين اخذ الزمن يقضم من جمالهما ، ويظهر القلق عليها كم ستطول بقايا الشباب هذه وأنا انتظر .
وتستعر حمى الدوران ، ولا تطيق الجلوس في البيت إلا حين يحل المساء . تحضر مآتم المحلة كلها من تعرفه ومن لا تعرفه وتقول انه اجر لنا ، تتشح بالسواد وتعود من هناك محمرة العينين ، وجهها منتفخ وصدرها يكاد ينشق من اللطم عليه .
ويأتي شهر محرم وتبتدئ طقوس عاشوراء عند جاراتنا اللاتي يقمن العزاءات للإمام الشهيد، تأخذنا معها ونقضي اليوم كله في الانتقال من عزاء إلى آخر ولا تكتفي . مجمع نساء يرتدين السواد ، شعورهن مسدلة تنتظر دورها في الطقس المقام وأقدام حافية . و ما أن يعلو صوت الملاية التي تعدد مآثر الموتى وترثيهن بصوت اخشوشن على مر السنين من الصراخ والنحيب ، حتى يبدأن باللطم على صدورهن بإيقاع يتماشى مع صوتها والبعض منهن يضربن أفخاذهن ويستمر الإيقاع حتى الإحساس بالخدر . وفجأة تصرخ الملاية بآهات تشعل جنون النسوة وتفصلهن عن ما حولهن فتتصاعد الحمى والصرخات فيمزقن أثوابهن ويبقين بملابسهن الداخلية ومن ثم يشكلن حلقات يدرن فيها وهن يقفزن ويلطمن على صدورهن ورؤوسهن ويشدن شعورهن والأثداء تتقافز واللحم الأنثوي يترجرج محموما .
أجساد علمت عليها صاحباتها ببقع حمراء كأنها آثار سياط أحلامهن المخنوقة ، أجساد تتحرر من حيزها الضيق لتطلق محرمات المخيلة ولتستكين العقول التي سحقها قمع الرجال في رقصات دموية نذرت الدموع واللطم قربانا للحظات الفرح .
لم أكن لأرى هذا العالم لولا عمتي ، فأمي لا تختلط مع نساء الحي ولا تقيم الصداقات ولا تشاركهن الطقوس لتتحرر عبر البكاء ، لها طقس تمارسه لمرة واحدة في السنة تصنع طبقين من حلوى الرز بالحليب والرز بدبس التمر وتوزعه على الجارات في يوم مولد النبي . عالم بسيط خطوطه واضحة بلا متاهات ودهاليز وعرة ، سمته الاستسلام والقبول وكبت المشاعر .
يحتقن وجه أمي غضبا حين نخرج مع عمتي ، فهي لا تنفك تقول أمام الجارات وأمامها أنا التي ربيت البنات، وتسخر أمي؛ هل التسكع في الشوارع تربية. و اسألها، ماما ما بها عمتي لا تهدأ ! وتدير وجهها الذي يأبى أن يتعاطف، وترد؛ اسأليها هي.
في يوم اصطحبتني عمتي إلى الحمام التركي في السوق القريب. وهناك تكشف لي سرها كما تكشف النساء عن خباياهن . وسط البخار الذي يحجب الرؤية تبدو الأجساد العارية وكأنها في حلم بعيد غير واضح ، تخلع ثيابها و تأخذ ليفتها والصابون وحجر القدم ومشطها والمنشفة وتدخل .
تجلس النسوة على دكة ساخنة وسط البخار يدعكن أجسادهن التي تتصبب عرقا ، تتخذ مكانا لها قرب حنفية ماء ، تأخذ طاسه نحاسية وتسكب الماء على رأسها وعلى رأسي لتخفف من حرارة المكان . تكمل سريعا لتسلم نفسها ليد امرأة خشنة لها عضلات رجل وكف ملاكم تدلك في ركن الحمام . تتمدد فوق دكة حجرية عارية لا تغطيها إلا منشفة ، تدهن المرأة جسمها بالزيوت ، وتضع يديها الضخمتين على كتفيها وتبدأ بتدليكهما ، تئن عمتي مسترخية وكأن الألم يتصاعد منها كالبخار ، وتعلق المدلكة " كتفاك متخشبان لابد انك متوترة وعصبية " وترد " آه كيف عرفت ". وكأنها كانت بانتظار هذه الجملة ، لتنفض ماضيها الذي لم يتكلل بالأحلام تحت تأثير اليد الخشنة التي تريح جسدها .
لم أجد الراحة في حياتي زوجوني وأنا صغيرة من رجل يكبرني كثيرا ، يفقد أعصابه بسرعة ويفرغ جنونه بي ، يتركني وحدي مع أهله فأنال نصيبي من قسوتهم ، و لم يطل بقائي معه فما أن ولد ابني طلقني بسبب أهله . بعدها تقدم لي شاب كان وسيما وطويلا من محافظة أخرى قالت أمي لنزوجها فالزواج ستر للبنت ، ودخلت عالما باردا بلياليه الموحشة ، تفوح منه رائحة الخمور ، حملت وولدت بنتا فأحس باهانة لرجولته وسط العشيرة وبدأ يسئ معاملتي هربت إلى بيت أخي وتفهم وضعي وأتفق معه على الانفصال شرط أن يأخذ البنت ، وأخذها . عشت جحيم الحنين إلى طفلتي وصرت أهذي في نهاري وفي ليلي . خافت أمي لئلا افقد عقلي فاستنجدت بجاراتها كي يواسينني ، وكان لإحداهن أخ وحيد يعمل حدادا وأرادت أن تزوجه فتقدم لي وكان بسيطا طيبا طيبة الأرض البكر ، عشت معه حلما دافئا في بيت صغير اشتراه لي وصحوت منه على قسوة موت يخطفه وطفلة في حضني .
تأثرت بقصة عمتي وتأثرت معي مدلكة الحمام، و لكنها قالت ممازحة لها على الأقل لقد ذقته لثلاث مرات، أنا لم أتزوج أبدا.
وتنهدت قائلة حسبت علي ثلاثة زيجات ولم تدم كلها سوى ثلاثة سنوات وصار في رقبتي ثلاثة أطفال لا يحب احدهم الآخر ، وفقدت استقلاليتي في بيت أخي الذي كان يخجل من تعدد زيجاتي ، وظل في داخلي شوق إلى من يضمني بعد أن تذوقت الحنان وتقدم لي الرابع.....
فتحت عيني مندهشة وقبل أن افتح فمي لأقول شيئا ، فإذا بالمرأة تدعك جسمها بضربة قوية صرخت عمتي منها ، ولم تمسك لسانها وقالت كفى طمعا ألا تشبعين ، لم احصل أنا على رجل واحد.
فردت عمتي والحسرة تخنقها لم يوافق أخي ورفض أن يُفتح الموضوع ثانية أمامه .