تقدم الكلمة حوارا مع الناقد والمبدع المغربي عبد الرحيم جيران حول كتابه "علبة السرد:النظرية السردية:من التقليد إلى التأسيس" ويوضح فيه أسباب انجازه لهذا الكتاب ويضيء عددا من المفاهيم الأساسية التي اعتمد عليها، والروافد المعرفية المتنوعة التي شكلت مهادا لهذا الكتاب

حوار مع الناقد والروائي المبدع عبد الرحيم جيران

عبد اللطيف الزكري

 

1. كتابك(علبة السرد) يؤسس لنظرية سردية عربية.ما الذي جعلك تجازف باشتراع هذا المنجز النقدي الهام،متجاوزا التقليد الذي هيمن على النظرية السردية العربية مغربا ومشرقا؟

ج- ربما كانت الإجابة مركبة؛ منها ما هو مرتبط بالتنشئة، وما هو ذو صلة بالموهبة الإبداعية، وما له صلة بوضع الذات العربية في العالم وحضورها في التاريخ. في الطفولة كنت معجبا باللعب، وكنت أصنعها من أشياء مختلفة، أجمعها إلى بعضها، فأحصل على لعبة ما، هذا الأمر جعلني أحلم بأن أكون مخترعا، لكن لم تجر الأمور كما أردت، مسار الدراسة كان مغايرا للإرادة. وربما كان عدم تحقق ما أردت وراء تصريف له على نحو غير واع إلى مجال الإبداع، فشرعت مبكرا في كتابة الشعر. إن هاجس الابتكار أو لنقل الإيجاد كان ملازما لي، وله صلة أيضا بإثبات الذات. وربما كان وراء هوسي بمحاولة إيجاد أشياء من صنعي، لكن لا ينبغي النظر إلى الأمر بصفته فرديا، فعوامل التاريخ تفرض أيضا نفسها، ومن ضمن ذلك أسئلة اللحظة التاريخية الملتبسة التي نمر بها والموصوفة بالتبعية للغير في كل المجالات بما فيها النقد من دون حضور للذات التي تكتفي بدور التلميذ السيئ فحسب. هذا فضلا عن كون النظرية السردية عرفت نوعا من التحجر، أو الجمود، فلم تنتج تصورات جذرية ومغايرة منذ أن تآكلت البنيوية بفعل الأزمة المنهجية التي كانت تجملها في داخلها. في ضوء هذا السياق المركب كان إنتاج كتاب علبة السرد، وهو كتاب لا تنحصر أهميته في ما يتضمنه من اجتراح لتصور جديد فحسب، بل أيضا في كونه فعلا يتسم بمسؤولية لا يمكن إخطاؤها في طرح السؤال، من دون استناد إلى مضاعفة الذات بالغير تجنبا لكل نقد. لقد حان الوقت لنتساءل بكل التواضع الذي تحتمه المعرفة عن دورنا في التاريخ، وعن مساهمتنا في ما تراكمه الإنسانية من إنتاج. وعما نضيفه نحن العرب إلى العالم غير الاستبداد والقتل والتفجيرات.  

2ما يدل على أن علبة  السرد كتاب تأسيسي بناؤه لنسق نظري محكم انطلاقا من تصور عام يسري في الكتاب كله وتبلوره مفاهيم دقيقة عديدة.كيف تأتى لك ذلك؟وما الإيبستمي الذي كان حافزك في هذا الـتأسيس؟

ج – كان من الممكن أن أكون غزير الإنتاج، لقد كنت نشيطا في الثمانينيات، إبداعا ونقدا، وكنت أنتمي إلى جيل يتمتع بقدرة على نقل المعرفة الغربية إلى المغرب، وتطبيقها على النصوص، وكان من الممكن أن أتصدر المشهد النقدي مبكرا، لكنني اختفيت. وقد كان هذا الاختفاء مدبرا، وله تبريراته الشخصية والعلمية.  لقد حدث ذلك مباشرة عقب مناقشتي الأطروحة الأولى. والسبب كان اطلاعي على كتاب بتوتو كوردا "وحدات تكون المعنى". وجدت الرجل يناقش تصوره المبني على النظرية الكارثية انطلاقا من معارف شتى: المنطق والبيولوجيا والرياضيات والابستمولوجيا والفلسفة...الخ. فقلت مع نفسي كم أنا أمي، الناس يشتغلون هكذا، ونحن نكتفي من المعرفة بأقل ما فيها، ونسجن أنفسنا في دائرة محدودة، إذن كان علي أن أعيد تكويني بما يجعلني ملما بالأسس العميقة التي تكمن خلف المعارف. في غضون ذلك تبين لي أن لا معرفة أدبية من دون ربطها بسياقاتها المعرفية المولدة لها. ولذلك صاحب السؤال الأدبي عندي سؤال فلسفي وهو كالآتي: إلى أي حد أن مسألة "الحقيقي" وكيف يمثل (ويعرف أيضا)هو ما يكمن خلف المعرفة برمتها؟ الميتافيزيقا تضعه في الماهية، والعقلانية الكانطية تضعه في المعرفة وتأسيسها، والوضعية تضعه في صلب الملموس القابل للتجربة والاختبار، والفلسفات النقدية للعقلانية على اختلاف مشاربها تضعه في ما تلافته الميتافيزيقا بوصفه غير موصل إلى المعرفة الحقة، ومن ضمن ذلك الخطاب التخييلي. كما تبين لي أن الأمر يتعلق في هذا الجانب بالانحياز إلى الثابت أو إلى المتغير، العقل أو الحياة، الجوهراني أو الملموس المفرد، البنية أو الفاعل. وكان علي أن أفكر في منحى ثالث هو التجديل بين هذه الأطراف الثنائية، والبحث عن فضاء يسمح لها بالاشتغال معا. فالبنية يُعاد إنتاج ثباتها بفعل حركة الفاعل، وهذا الأخير يغير من فعله في علاقته بما تضعه البنية أمامه من إمكانات. ومن ثمة فالممكن هو مجال الالتقاء بين الاثنين وتبادل الفعالية.

3مفهوم"التجديل التضافري"يرقى في علبة السرد إلى مقام المفاهيم المفتاحية التي تسعف في تمثل التصور النظري للسردية.لماذا هذا المفهوم؟وكيف انبثق إلى الوجود؟وما الرهان الذي وضعته فيه؟

ج- مفهوم التجديل التضافري أنتج انطلاقا مما سبق أن أشرت إليه من قبل في السؤال السابق. والغاية منه أن يحل معضلات محددة في النص الأدبي. وهو يقوم على مبادئ خمسة مؤسسة تتحكم في صياغة مراقيه وهيكله الاستراتيجي. وهناك سببان، إلى جانب أسباب أخرى بطبيعة الحال، لكنهما يعدان مركزيين في نظري. فالسبب الأول يمثل في البحث عن مقاربة تشمل كل مستويات النص، ولا تجزئه تحت أي مبرر، فلا يعقل أن يتفرق دمه بين منازع قبائل نظرية، كل واحدة تقتطع منه ما يتلاءم مع انشغالاتها المعرفية، وتترك الباقي معلقا. ومهمة من هذا القبيل ينبغي أن تؤسس على التفكير في الآليات التي تتفاعل بها هذه المستويات النصية، وتتبادل في ما بينها التأثير. ويمثل السبب الثاني في تجاوز البعد الميكانيكي في المقاربات الدقيقة للنص. فلا ينبغي أن يتحول النص إلى مجرد ظل لآليات جامدة، تجعل من تحليل النص متشابها مكرورا. مثل هذه المهمة اقتضت التفكير في هيكل تحليلي استراتيجي مفتوح يسمح بمراعاة تنوع النصوص من جهة، ويسمح بحضور ذات المحلل. لكن ذلك لا يتم انطلاقا من ضرورة مطلقة أو حرية مطلقة، بل انطلاقا من التجديل بينهما، فهناك أدوات موجهة لها طاقة توليدية، وهذه الطاقة التوليدية هي التي ينبغي على المحلل استغلالها وفق مهارته في تكليم تنوع النص وذاته معا. ولي مبرراتي في نحت هذه المقاربة، وهي مبررات فلسفية ومعرفية. إنني أفكر في العالم بوصفه إنتاجا بشريا، هو من صنعه، لكنه يحيره. وحين أقول العالم لا أقول الكون الذي يضم الأرض، وإنما المنتج المضاف إلى الكون. وتفكيري في العالم هو نابع من كونه نتاج تضافر تجديلي بين الكوني فيه، والإضافة إليه. وهنا ينبغي التفكير في العبر- الحيوي بوصفه مستندا ّإلى مبدأ حيوي أول. وهذا العبر الحيوي هو إمكانات الحيوي في الوجود، وقد تفرق حيويا في الكائنات. الإنسان وحده يسعى إلى مجاوزة هذا التفرق، هذه المجاوزة تسعى إلى تجاوز نقص العالم من حيث هو منتج مرتهن بإمكانات الحيوي (الكوني). فالكل مبتدأ الوجود موضعه الحيوي، وهو منتهى التطلع الإنساني أيضا من حيث هو سعي إلى مجاوزة المتناهي المتمثل في تفرق الإمكان الحيوي، بينهما يكمن الإظهار؛ أي إظهار الفعل من حيث هو تحيين إرادة تتخطى حدودها دوما، وهو إظهار تاريخي زمني. هنا يمكن فهم البنية بوصفها إمكانا حيويا، والفاعل بوصفه إظهارا له ومجاوزة لتفرق الحيوي في هيئة إمكانات في الكائنات.     

4يتبدى جليا لقارئ علبة السرد تنوع الروافد التي تنهل منها.لتيسير ولوج القارئ إلى عمق كتابك هذا، نود لو تعرف القارئ بنفسك بهذه الروافد المتنوعة؟

لقد قلت سابقا أن بيتوتو كوردا علمني من خلال كتابه "وحدات تكون المعنى" ما ينبغي على الباحث فعله، وما هي المعرفة التي يتسلح بها لكي ينتج. هذه الروافد متنوعة، منها ما يعود إلى الفلسفة، وإلى الابستمولوجيا، وإلى علم النفس، والذكاء الاصطناعي، والبيولوجيا، والرياضيات، والمنطق.  وفي مقدمة ذلك تأتي الفلسفة، فمن دونها لا يمكن فهم الكيفية التي تتكون بها المعرفة، ولا يمكن ضبط أصول الأشياء، ولا يمكن فهم الفروق بين هذا التوجه أو ذلك، فهي المعرفة التي تمكننا من فهم خارطة الفكر البشري، وتجعلنا نعرف أين نضع أقدامنا حتى لا تزل. لقد تعلمت من دولوز شيئا هاما، ألا وهو أن الفكر لا يتأسس إلا بقدرتنا على توليد المفاهيم. فبوساطتها يمكننا استيعاب تنوع الواقع، والقبض عليه. وكما تلاحظ فالكتاب مؤسس على هذه الخاصية. إنه بمثابة آلة ضخمة لإنتاج المفاهيم، لكن هذا الإنتاج لا يتم هكذا، أو لغاية إنتاجها فحسب، بل لأسباب علمية تقتضيها المقاربة الجديدة والأسئلة التي تقوم عليها، ومن ثمة فعلاقتي بالروافد المعرفية المختلفة كان قائما على هذه الأسئلة ذاتها، فهي التي كانت تملي على الرجوع إلى هذه المعرفة أو تلك. كما أنني لم أتعامل مع هذه المعارف انطلاقا من التامين على صدقها، بل على فهمها أولا ثم محاروتها في ضوء ما أراه من تصور خاص بي.    

5إذن فالتأسيس ليس سهلا ولا ميسورا..ما هو القارئ الذي تراهن عليه ليشاركك مغامرة الـتأسيس وفرح مخاطراته المعرفية؟

كل تأسيس هو مغامرة، قد تنجح أو تخفق. وهو بكل تأكيد عمل شاق ومضن، يتطلب جهدا غير مستهان به من التصويب والمراجعة. لقد تطلب مني تشييد هذا الصرح النظري ما يقرب من ربع عمري. ولذلك أحرص على نعت هذا الكتاب بكتاب العمر. ولا يهم ما إذا كنت قد اجترحت تصورا جديدا، بقدر ما يهم أنني فتحت الباب أمام أسئلة خاصة، أتحمل فيها مسؤوليتي، ولم أردد ما هو منتج من قبل الغير. وأظن أن عملا بهذه الجرأة الشخصية، والتي قد ينعتها البعض بالجنون، له حسنة التمهيد للأجيال المقبلة لكي تأخذ على عاتقها مسؤولية مراكمة السؤال، وعدم التهيب من طرحه. أما بالنسبة إلى القارئ الذي أراهن عليه، فأظنه الباحث أولا، بما يعنيه ذلك من بعد أكاديمي في تحديده، فأنا أنتج في هذا الكتاب معرفة علمية مؤسسة لا صلة لها بأي قارئ يقع خارج دائرة الاهتمام العلمي. كما انني لا أوجه هذا الكتاب إلى الأكاديمي العربي فحسب، بل إلى الأكاديمي الإنساني أينما وجد. إن الكتاب ينخرط في المعرفة الإنسانية ومراكمتها، ولا يتعين داخل دائرة ضيقة. وأتمنى أن يثمن هذا الكتاب في الدوائر العلمية العربية، وأن يترجم إلى اللغات الأخرى، حتى يتمكن القراء الأكاديميون في العالم من قراءته، وإبداء أرائهم في صدد ما يطرحه من تصور جديد. 

6إننا مع ذلك نحتاج إلى نظرية سردية عربية مؤسسة،لكنها في الآن نفسه، في مكنة محبي السرديات بكل أصنافهم،ألا ترى أن الكثافة المعرفية-وهي خصيصة إيجابية تحتسب لعلبة السرد وصاحبها-أقول ألا ترى أن الكثافة المعرفية قد تجعل فهم هذا التأسيس للنظرية السردية هاته بطئ الانتشار،خاصة وأن المألوف في النظرية السردية هو تلفيقيتها التي يهواها الكثيرون؟

ج – الكثافة المعرفية متأتية من طبيعة المشروع من جهة أولى، ومن تنوع المفاهيم من جهة ثانية، ومن جدة هذه المفاهيم من جهة ثالثة. لكن هذه الكثافة تحتاج من القارئ صبرا وجهدا يوازيان ما عانيته من مشقة في صناعة الكتاب، وأظن أن القارئ الصبور الجاد يستطيع تجاوز هذه الكثافة بقراءة ما أقدمه من شروح للمفاهيم داخل المتن أو في الهوامش. كل عمل أكاديمي رصين وجديد يتطلب هذه الكثافة، لأن ما هو علمي يتأسس على المفهمة، وهذه الأخيرة من طبيعتها اختزال التنوع بإرجاعه إلى وحدة ما ذات طبيعة تجريدية. أما بالنسبة إلى الانتشار، فهو صنفان انتشار علمي كيفي، مجاله الفضاء الأكاديمي، وانتشار استهلاكي كمي. وعلى المشتغل بالنقد والنظرية الأدبية أن يختار بين أن يكون مفكرا، وعالما، وأن يكون مسود صفحات. بطبيعة الحال كل عمل ترقيعي مصيره الزوال، لأنه لا يستند إلى وحدة ما في التصور، ولا إلى مشروع نظري دقيق. أعرف أن أغلب النقاد يتحصن اليوم بهذه الترقيعية أمام غياب تصورات جديدة لها قدرة إجرائية تسمح لهم بمقاربة النصوص على نحو مطمئن. لكن ما ينبغي فهمه- كما أشرت إلى ذلك في كتاب "إدانة الأدب"- هو أن كل توجه نظري في النقد يستند إلى خلفية معرفية خاصة به، تصل إلى حد التعارض مع غيره من التصورات الأخرى، والجمع بينها في المقاربة النقدية عمل غير رصين، لأنه ببساطة جمع بين متنافرات، بين ما لا يجمع أصلا، بين ما ولد لكي يستقل بنفسه. إنني أقرأ كثيرا من الكتب النقدية العربية في هذا الباب، وكم أشعر بالقلق، حتى لا أقول بالشفقة، تجاه أصحابها. فهذا يجمع بين النقد الثقافي- من دون تمييزه عن الدراسات الثقافية- والنقد الموضوعاتي، والأسلوبية، والنقد الإيديولوجي. وذاك بين المقاربة السميائية على نحو اختزالي والذكاء الاصطناعي والتحليل السوسيولجي الميكانيكي، وقس على ذلك من يجمع بين البنيوية والتأويلية. لكن أظن أن آفة النقد العربي كامنة في عدم مراكمة الناقد لأسئلة جوهرية داخل توجه ما يختاره، قد يقول البعض بأن مسألة التطور تفرض ذاتها، وعلى الناقد أن يواكب ما يستجد من النظريات، صحيح هذا القول، لكن ينبغي وضعه في إطاره الصحيح. فلا بد لهذه المواكبة أن تحدث في اتجاهين: في اتجاه محاورة الجديد في ضوء التصور الخاص، وفي اتجاه عدم التقليد والتبعية.

7هكذا يكون قارئ علبة السرد مدعوا إلى إعمال التفكير،كيما يتسنى له المساهمة في التداول في قضايا النظرية السردية التأسيسية التي يدعو لها كتاب علبة السرد؟

ج – دعنا نتفق أولا على أن كل نظرية تحمل في طياتها قدرا من السراب؛ أي ما يقوضها. والقارئ مدعو بموجب هذا الأمر إلى أن يكون منتجا في قراءته هذا الكتاب. وهو ما عبرت عنه أنت بالدعوة إلى التفكير. ومعنى كون القارئ منتجا أن يولد أسئلته الخاصة أيضا، والتي تفضي به إلى رؤية ما ظل بمثابة ثغرة في الصرح النظري الذي اقترحه في علبة السرد. ففي القراءة الأكاديمية لا وجود لقارئ معجب سلبي، بل هناك دوما ضرورة قارئ غير قنوع، يتمتع بقدر هائل من الشك. لا أريد من قارئي أن يرى إلى ذاته المعرفية من خلال منظوري الخاص، بل العكس هو المطلوب، لا بد له من أن يرى منظوري من خلال وعيه الخاص. إن من مهام الكتب الرصينة أن تدفع القارئ إلى إعمال فكره، بطرح أسئلته الخاصة، لا بشل قدراته الفاهمة والنقدية.

8تحضر نظرية الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في الخلفية النظرية ل(علبة السرد)باعتبارها رافدا هاما ،لكن هذا الحضور اتسم بالمحاورة الندية التي تقارع التصور بالتصور الذي يدعو إلى الندية في التأسيس. لماذا بول ريكور بالذات؟

ج-يعد بول ريكور فيلسوفا يتمتع بخاصيتين هامتين: أولا بقدرته على بسط أوراقه وإظهارها، وثانيا بمحاورة من سبقه في المجال الذي يكتب فيه. وهذان الملمحان يسهلان ولوج عالمه المعرفي. هذا فضلا عن كونه قد أسهم بقدر هائل في مجال السرد على نحو تركيبي. وربما كانت نزعته التركيبية هاته هي ما دفعني إلى الاهتمام به. وبخاصة أنه كان واعيا بمزالقها، فهو يأبى الاسترفاد من النظريات المختلفة كما اتفق، بل يمررها من خلال تصوره الخاص. لكن كان علي أن أفعل تجاهه ما أؤمن به، فلا بد من الرؤية إليه من خلال تصوري. وهذا الأمر فرض علي محاورته، كما فعلت في صدد غيره. لكن ما ظل محل توتر بالنسبة إلي وأنا أقرأ  تصوره هو جعله التأويل عماد مقاربة النص، وتركيزه على الفعل، من دون انتهاج التجديل اللازم بينه والبنية. كما رفضت أن يظل الكل ماثلا في الحبكة، ورأيت إليه في ضوء التمثيل، أو المحاكاة، هذا الكل لا يمثل في الحبكة وحدها، بل يمتد إلى الحامل ذاته أيضا. كما نظرت إلى هذا الكل- بما يحيل إليه من تمثيل- في ضوء الزمن أو التاريخ. فكل الحامل وكل الحبكة يختلفان بين حقبتين: حقبة الحكي العريق، وحقبة الحكي الحديث. إن تغيرا ما حدث في بنية التفكير البشري قاد إلى اختلاف جوهري في نقل الغياب من الحقبة الأولى إلى الحقبة الثانية.

9إن القارئ المتخصص بعد أن ينتهي من قراءة كتابك علبة  السرد يخلص إلى أنه إزاء ثورة نقدية متكاملة، تنطوي على مشروع تأسيسي تبرهن عليه المفاهيم النقدية المنسربة في ثنايا الكتاب.دعني والقارئ لهذا الحوار، نعرف منك شخصيا الهندسة العامة للنظرية السردية ومفاهيمها الكبرى في علبة السرد؟

ج-هندسة الكتاب قائمة على ثلاث لحظات أساس: اللحظة المنطقية واللحظة الابستمولوجية المستندة إلى مفهمة ما هو منطقي، واللحظة الأَنطولوجية التي تعمل على تكثير اللحظتين الأخريين. اللحظتان الولى والثانية لهما صلة بما هو دلالي، بينما اللحظة الثالثة لها صلة بماهوتعبيري فرداني. فما هو منطقي يتعلق ببناء الصيرورة السردية، وضبط المكونات والمحددات التي تسهم في تكوين أي ملفوظ سردي. وهنا لا بد من التنبه إلى أنني أتبنى منطقا ثقافيا محضا. وإذ أفعل ذلك لا أروم إنشاء منطق جامد يتخذ هيئة هيكل قار، وإنما منطق متحرك له طابع سيرورة يسمح بأن يستوعب في طياته ما هو زمني. وفي ما يخص المفهمة فإن الاهتمام انصرف إلى الانتقال بالصيرورة السردية إلى ما تصير به ملتبسة بمادة دلالية معينة، مع الأخذ بعين المراعاة الامتداد في بنائها، وهنا كان من اللازم التفكير في الكيفية التي تتطلبها صيرورة سردية ما في إدماج ما يلائمها من العالم بوصفه مادة دلالية. أما في اللحظة الثالثة، فقد انصرف التفكير في مسألة تكثير كل من الصيروة والمادة الدلالية بما يمنحه الواقع من مفردات متعددة، وهنا لا بد من التفكير في هذه المسألة انطلاقا مما تمنحه اللغة من إمكانات هائلة ومتنوعة لقول العالم. إن الانشغال الأساس في هذا البناء المحكم كان يستهدف أساسا معرفة الكيفية التي تتنامى بها نواة سردية انطلاقا من طبيعتها الجدلية صوب التعبير اللغوي. ومبدأ (الوحدة / الكثرة) يسمح بفهم هذا التنامي. فهناك تدرج متنام من الوحدة التي تتكفل بها الصيرورة والتنامي صوب الكثرة التي تؤول إلى السرد من جراء التعبير الذي يتكفل بتغطيتها لسانيا، ويحمل إليه تنوع العالم من خلال الإمكانات التي يوفرها أمام الكتابة الخاصة.  

10 ـ إن التنظير النقدي يواكب ويرتكزعلى الإبداعات الأدبية،واللافت في كتابك علبة السرد إحالاتك المتعددة على نصوص سردية أسعفتك في بلورة مفاهيمك وتوضيحها،ألا ترى معي أن تجربتك في التأسيس لنظرية سردية عربية قائم على الانفتاح  الإبداعي،إذ تشمل إحالاتك الآداب العالمية(ومنها العربية)وهذا ما لانجده عند الكثيرين الذين يكتفون بالتطبيق التقني على الرواية أو القصة في الأدب العربي الرائج.في نظرك ما الذي يحتاج إليه المنظر السردي الذي يطمح إلى التأسيس النظري الندي؟

ج ـ لم يكن هاجسي في الانفتاح على النصوص الإنسانية على اختلاف انتماءاتها الجغرافية نابعا من ضرورة هوياتية، فأنا أنتمي إلى الإنسان، لا إلى شيء آخر، بقدر ما كان احترام قيد نظري أساس يتمثل في ضمان الشمولية لكل نظرية إذا أريد لها أن تتمتع بهذه الصفة من دون تشوه. فالمطلوب من أي جهاز نظري ماثل في تضمنه قدرة على الانطباق على جميع النصوص من دون استثناء، سواء أكانت نصوصا عربية أو غير عربية. وهذا هو السبب في تناولي نصوصا متعددة تنتمي إلى الثقافة العربية والثقافة الغربية معا.

11كتابك علبة السرد خروج على الجمود الأكاديمي الذي ران على النظرية النقدية السردية.ما الذي ترنو إليه من وراء هذا الكتاب؟

ج ـ أنا عاشق للسرد إبداعا وتنظيرا، عشقي هذا اصطدم بالأفق المسدود الذي وصلت إليه السرديات بعد خفوت البنيوية. كنت أتابع ما يكتب في هذا المجال، وبخاصة على المستوى الأكاديمي، وأعاين مدى التوه الذي يخيم على المشتغلين بالنظرية السردية، وكان هذا الأمر يزداد بؤسا بالنسبة إلى النقد العربي الذي ظل يتطفل على ما يستجد في الغرب من نظريات. لم أكن راضيا عن هذا الوضع بتاتا. وكنت راغبا في البحث عن أفق آخر يسمح لي بتطوير أسئلتي. فكان أن عولت على الاضطلاع بمهمة التفكير في صياغة تصور يجدد طاقتي أولا، وأفق البحث ثانيا، كنت أعلم أنني أحاول أمرا شديد الصعوبة، لا لأن التنظير مهمة شاقة تقتضي الكثير من العمل ومهارات عليا، ولكن لأن الوضع الثقافي والأكاديمي غير مهيأ على الإطلاق لتقبل مثل هذا الصنيع واحتضانه بما يليق به من اعتراف، وبخاصة وأنني أدرك جيدا أن المعرفة ترتبط برأسمال رمزي لا يمكن التضحية به، فلا يمكن لسدنة المعبد أن يقبلوا بأسئلة جديدة تهز الأرض من تحتهم، وتعصف بمكاسبهم. وعلى الرغم من ذلك آثرت المغامرة، ولم أحتط  أبدا مما يمكن أن يصيبني منها من  خسائر. كما كان علي أن أعمل بذلك على أن أتجاوز- وإن على نحو فردي- حالة الاطمئنان إلى وضع المستهلك الذي ارتضاه الفكر العربي لنفسه، حيث ساد فيه الركون إلى اتباع الغير في كل شيء سياسيا واقتصاديا وفكريا. لقد كنا أساتذة العالم في مرحلة من التاريخ، وعلينا أن نستعيد صفتنا هاته. صحيح أن هذا الطموح ينبغي أن يسنده طموح أمة، لكن ما لا يجب أن ننساه أن نهضة أوربا ابتدأت لما استيقظ الفكر من سباته، ولم يحدث ذلك إلا بتولد الرغبة في صياغة السؤال والذهاب به إلى أبعد مدى من دون تهيب. هذا هو الرهان الذي كان وراء كتاب علبة السرد، وهو رهان يشكل بالنسبة إلي بداية، والبدايات تمهد دوما لغيرها، وأتمنى أن يحدث ذلك في باقي المجالات المعرفية الأخرى. ولن يحدث ذلك إلا باستئناس القدرة في الذات على محاورة الغير ومساجلته، وببناء السؤال الخاص، حتى ولو كان ما نحاوله مخطأ، لا يهم، فهو يمهد الطريق لمن سيعمل على تجاوز ثغرات البداية.