ترجمة عبد العالي نجاح
في الحقيقة في العلوم، وفي المعنى المضاد للفلسفة حول موضوعها.
نجد في العلوم استعمالان متكرران للحقيقة، والذي يجب توضيحه.
يخول الأول تجاوزا إقرار الاستعمال "الجيد" أو "الفاسد" للعلوم. القول عن برهان بأنه "خاطئ"، لا يعني القول بأن ضده "صائب": يحيل "الخطأ" إذا على الغلط. يعني "الخطأ" الذي يكتبه أستاذ الرياضيات على هامش الورقة "أن الذي أقرأه هنا ليس له معنى رياضي". كما يمكن القول عن عبارة بأنها خاطئة نحويا: إنها سيئة البناء بالنظر للمنهج المسبق الذي حددته.
يستعمل الثاني لتقييم فرضية منطقية: نقول عن فرضية بأنها صائبة، كما نقول عن أخرى أنها خاطئة. الصواب والخطأ قيمتان ممكنتان ومتبادلتان لفرضية ما. مثلا، أحدد بأن العبارة "(أ) و(ب) خطان متوازيان" صائبة. إنها القيمة المنطقية لهذه العبارة. كان بإمكاني أيضا تحديد أنها خاطئة. تعمل المسلمات الرياضية بنفس الطريقة. إلى ذلك، حيث يتمثل تمرين الرياضيات في إنتاج مسلمات بواسطتها يمكن تقريب الحقيقة، إلى حقيقة فرضيات أخرى، عن طريق تحليل يسمى "منطقي". بمعنى أن إتباع قواعد معينة للاختبار يمكّن من إعادة تكوين مسلمة ما، المشروطة بفرضيات معينة والتي سبق إعطاؤها (اعتباطيا) قيمة "صواب". لكن اعتباطية الحقيقة لا تنمحي البتة: إنها احتمت في اختيار مبدئي، المتعلق بمنطق ما. المنطق الجد كلاسيكي، والذي أصبح المعنى المشترك لدينا، يقر من بين ما يقر به، بأنه إذا كان (أ) يساوي (ب)، و(ب) تساوي (د)، فإن (أ) يساوي (د)*. كان بالإمكان تحديد بشكل آخر. تعمل بعض المنطقيات الجد " فاعلة" بواسطة قواعد أخرى. في البيولوجيا، معطيات الاختبار تجريبية وليست منطقية. تكمن اعتباطية الحقيقة البيولوجية إذا في اختيار هذه المعطيات، الخ.
تطرح مسألة إذا: متعلقة بالخاصية العلمية. كيف تقيم العلوم النتائج التي تنتجها؟ إذا اتضح أن ال"حقيقة" العلمية دائما ترتكز في الأخير على اختيارات اعتباطية، كيف تتطور العلوم؟ كيف تحدد أهمية "مسلمة" ما، إذا كانت نفسها مشروطة سابقا بنظام مسبق حيث لا وجود لأي مبرر للتفكير بأنه يسمو على الآخرين؟
الجواب معروف عند كل العلماء، إنه واضح بالنسبة لهم، وبالنسبة لنا نحن الذين لم يزاولوا العلم إلا بضع سنوات، بأنه لم يتم قط التعبير عنه بطريقة واضحة، ويستحسن، خاصة بالنسبة للفلاسفة، إصلاح هذا النسيان. يمر الاعتراف بنتيجة علمية في الحاضر بمرحلتين: بداية ضرورة تصنيف النتيجة كنتيجة علمية. نحاول إذا تحديد صحة برهانها (نتحدث عن البرهان في الرياضيات، ونتحدث عن التجربة في البيولوجيا، وعن النموذج في الفيزياء، وسرعان ما تلتقي وتمتزج هذه النماذج، لكن ذلك غير مهم هنا). يتعلق الأمر بتحديد حقيقتها بالمعنى الأول المحدد سابقا: النتيجة جد مفهومة علميا، لا يتعلق الأمر ب"غلط" ما. المرحلة الثانية هي تلك التي تنفلت غالبا للأشخاص الذين لا يزاولون العلم. في هذه المرحلة الثانية، لا نقيم الصحة أو الغلط، ولكن سلطة وقوة النتيجة. قد يثير هذا الكلام الريبة. إنه لا يفاجئ العلماء الذين تعودوا مناقشة قوة أو ضعف مسلمة ما، ومقارنة وترتيب المسلمات بعبارات القوى المماثلة. يتعلق الأمر بفهم القدرة التفسيرية لنتيجة ما، و تقييم فائدتها على قياس الفهم الذي تمنحه لنا القضايا التي أنشأتها، وعلى قياس تطبيقاتها داخل المجال العلمي ذاته الذي اعترف بها فيه.
في أية لحظة، " نجاعة " نتيجة ما ليست ذات معنى إذا بالنسبة للعالم: بداية النتيجة صحيحة (وليست 'صائبة') بمعنى أنها علميا مفهومة، إنها ذات معنى مثل عبارة نحوية تؤدي معنى ما. بعد ذلك، فإنها قوية وجيدة. لا يتدخل "الصواب" إذا في العلوم: حيث يمكن ببساطة صناعة نتائج "صائبة" لا نهائية بمعنى الفرضية المنطقية، وخالية كليا من القوة. إذا أخذنا 10000 خطوط مستقيمة 2 على 2، 10000 خطوط متقاطعة 2 على 2، فهناك العديد من المسلمات الصائبة في إطار الهندسة الأقليدية حيث يمكن قضاء بضع سنوات في كتابة في شأن الحالات الممكنة للوضعيات المماثلة لـ10000 خطوط جديدة موضوعة كل واحد في استقلال بشكل موازي أو متقاطع عن الآخرين: لكن ذلك لا يثير فضول أحد.
من أجل الدقة، ليس "الصواب" غائبا كليا في العلوم. إنه يتدخل في مجال المنطق، حين يتعلق الأمر بدراسة وخلق طرائق تمكن من صناعة قواعد جديدة لتحديد صواب أو خطأ فرضية ما، كما هو الشأن بالنسبة لأخريات أيضا. في هذا الإطار، يُمثَّل "الصواب" ب 1، للدلالة على أنه لا شيء آخر غير قيمة معطاة لفرضية ما. إن "الصواب" في العلم هو موضوع المنطق، مثل الخطوط هي مواضيع الهندسة الأقليدية. تجاوزا، يعني "الصواب" (لكنه استعمال ناذر) ما له معنى، في تعارض مع ما هو مُشكَّل بشكل سيء، مثل "برهان خاطئ".
يخول تمرين بسيط وفي متناول الجميع الإلمام شخصيا بهذه الأفكار. لنتخيل رجل علم. لنتخيل أن هذا العالم يعرض نظرية لا نفهمها البتة. لنتخيل طرح إذا سلسلة من المسائل على هذا العالم قصد شرح معنى أقواله. هل يمكن الاعتقاد أنه في لحظة ما سوف ينتهي إلى فرض الفهم علينا لنظريته بطريقة أكيدة؟ يتطلب قصد ذلك إمكانية التأكد من عنصر أول للفهم المشترك بينه وبيننا؟ لكن والحال هذه، يتكلم كلاما لا يوجد له قاموس خام: لا يوجد قاموس محدد رياضيات/ حدس مكتوب بالرياضيات. العلامة الأولى التي من المفروض ذات معنى بالنسبة لنا، لا يمكن فرضها علينا. رغم وجود الإرادة الحسنة، إذا لم يُخترق ذهننا، بصدفة استثنائية، لحدس يمكننا من الإلمام بهذا المعنى الأول، فإن كل ما يعبر عنه العالم يظل غريبا بالنسبة لنا. يحصل هذا الحدس بالنسبة لبعضنا، ولا يحصل بالنسبة للآخرين. لكن كل العلماء بدون استثناء استشعروا محدوديته: في هذه اللحظة حيث آخر بجانبنا يفهم بسهولة جدا ذاك الذي يظل مستعصيا على حدسنا. سيكون من المضحك التخيل بأن هذا المسار، والذي هو جزء لا يتجزأ من العلم بما أنه القاعدة قطعيا حتمية لأساسه، فإنه جد مضحك التخيل بالإمكان وضع شيء ما كحقيقة كونية حول كونية مسار حيث المنفذ غير مؤكد، عن حق (لا توجد أية وسيلة للتأكد بأن هذا المسار يشتغل،ففي الواقع، إحصائيا، أنه غالبا ما يتعطل).
بالنسبة للعلم طبعا ذلك غير مهم، بما أنه لا يحتاج لكي يوجد الزعم الوصول إلى هذه الحقيقة "الكونية". إن اجتماع مجموعة من الأشخاص لدراسة قوة أو ضعف الفرضيات التي يتفقون حول القول بأنها تم اختبارها على ضوء معطى محدد مسبقا، فالعلم موجود. إنه موجود في ماديته التاريخية، إنه موجود كما تشهد على ذلك قوة نتائجه: ذلك غير مفاجئ، لأن قوة نتائجه هي بالتحديد الخاصية التي من خلالها يبحث عنها. العلم قوي لأنه لا يبحث عن الصواب، لكن تحديدا لأنه يبحث عن القوي، وإننا نفهم ببساطة بأنه لا وجود لأية مفاجئة هنا.
يعمل الطرح الفلسفي في الغالب الأعم بطريقة عكسية: يبحث على " نجاعة " نتيجة أخيرة بواسطة الضرورة المطلقة لحدسه الأولي، غاضا الطرف على استحالة تأسيس حقيقة أولى وكونية. يقول الفيلسوف :" أجد أن هذا التفسير للعالم صائب"؛ ويقول العالم :"أجد أن هذا التفسير للعالم قوي". فعوض التساؤل حول سلطة وقوة وجمالية النتائج المحصلة، يعارض الطرح الفلسفي التيارات نقطة بنقطة. هل يتبادر إلى ذهن فيزيائي البحث باستمرار في الحسم بين الفيزياء الكوانطية وفيزياء نيوتن؟ بل بالعكس، تركز المجموعة العلمية مجهوداتها في اتجاه تصالح هاتين النظريتين. ماهي النتيجة المحصلة من نقاش يبحث عن تحديد ما هو لأقليد أو لكونتور الأكثر صوابا؟
يتطلب من الفلسفة قبول بأن الفكر لا يوجد إلا من خلال تاريخ القوة التفسيرية لنتائجه الخاصة في حقل الفكر، كما أن الرياضيات هي تاريخ النتائج الرياضية التي قيمت على ضوء قوتها التفسيرية في الرياضيات، وأن الفيزياء هي تاريخ نتائج الفيزياء التي قيمت على ضوء قوتها التفسيرية في الفيزياء. لقد اعتدنا دائما القول بأن الفلسفة تستحضر تاريخها حين لا تنشغل العلوم إلا بوضعها الحاضر (جاعلة بالتالي إمكانية تقدم العلوم). إن العكس هو الصحيح: إن الفلسفة ببحثها المستمر عن حقيقة أولى وقطعية لذاتها، ترفض التشكل كسلسلة تاريخية لنتائجها، ول"حقائقها" بالمعنى المرن، لكنه القوي جدا، حيث أن الحقيقة ليست ذلك الصواب الكوني والموضوعي، لكن ببساطة ذلك "الصحيح" والتفسيري القوي في إطار محدد.
من جهة، تضع للعلم صورة لصرح بارد وغير مراقب والذي يراكم النتائج بدون التفكير في مضاعفاتها: تعترف إذا قطعيا بحقائق مختلفة وتناقش بحدة لمعرفة هل هذه الحقائق بإمكانها إزاحة الدخيلات. ومن جهة أخرى، تستنسخ العلم بسذاجة، ملوحة على السطح معطيات الاعتراف لذيها (براهين غير مقنعة في ما يخص صحتها)، وتعتقد بالتالي القدرة على تأسيس جيد ل" نجاعة " نتائجها: إنها حين تغفل تقييم تلك النتائج على ضوء أهدافها التفسيرية الخاصة.
لن تحقق الفلسفة أي تقدم إذا ظلت ترفض مسايرة العلم، وتهجر الحقيقة والكونية لفائدة السلطة والتاريخ. إنها تظل حبيسة أوهامها الخاصة معتقدة معارضة مقاربة علمية الموصوفة خطأ بجد عقلانية وبجد " كونية " بأسئلتها القارة حول الحقيقة. ضحية لسراب الحقيقة الذي تعتقد رؤيته والذي تقارعه خفية بمسائلة العلوم، تستنفذ الفلسفة في خطاب دون أن تتمكن نفسها من تحديد ماهية طبيعتها.
La notion scientifique de ‘vérité’, et la mécompréhension philosophique de la ’science’ http://michelfoucault.fr/