عادة ما تُلمس الثورات العربية في حدود الدول التي تحدث فيها، حيث يشار إليها على أنها حدث "داخلي" منعزل، بلا تاريخية ولا ترابط مع المحيط، وأيضا بلا ارتباط بالوضع العالمي.
وهذا ما يفرض رؤية سكونية وتجزيئية لا أعتقد أنها تفيد في فهم ما يجري، هذا ما يفرض السير في دائرة أوسع تنطلق من فهم الوضع العالمي، ومن ترابطات المنطقة ومشكلاتها، ومن هذا الأساس سيكون موضوع الصراع العربي الصهيوني جزءا منها، حيث يتعلق الأمر بوضع عالمي يفرض متغيرات لا بد من أن تُلمس.
وحين نتناول الصراع العربي الصهيوني وأثر الثورات على مجرياته، لا بد من تلمس مجمل عناصر الصراع، سواء متحولات الواقع العربي التي يمكن أن تنتج عن الثورات ذاتها، أو انعكاس الأزمة العالمية على الدولة الصهيونية.
والسبب هو أنه عند دراسة المتغيرات يجب أن نتناولها في طرفي المعادلة، أي: العربي والصهيوني، ما دمنا نبحث في الأثر الممكن على الصراع العربي الصهيوني.
طبعا، لا بد أولا من القول إن الثورات العربية ذاتها بحاجة إلى تقدير، نتيجة أن فهمها هو الذي يحدد طبيعة فهم الأثر الممكن على الصراع العربي الصهيوني. فهل انتهت الثورات واستقرّ الوضع على ما تحقق؟ أو أن الثورات ما زالت مستمرة، وبالتالي إلى أين ستصل؟ وماذا يمكن أن تحققه؟
هذا الأمر يحتاج إلى تحديد الأسس التي فرضت انفجار الثورات، وما قد توصل إليه، أما أنها انتهت فهذا أمر سابق لأوانه، وقد أصبح واضحا أنه حتى في البلدان التي حققت التغيير (الذي أعني به تنحية الرئيس، وإبعاد حاشيته) ما لبثت أن شهدت حراكا جديدا، وثورة جديدة. بالتالي أعتقد بأننا نعيش عقدا من الحراك الثوري ومن الثورات، وربما أكثر.
الفرضية هنا هي أن ثورات الشعوب لا تحدث إلا في أزمان متباعدة (نصف قرن كما يبدو)، لأن الشعوب تميل إلى الاستقرار وليس لديها ميل للفعل السياسي، وبالتالي الصدام مع السلطة.
هي على العكس تبتعد عن هذا الصدام، وتتكيف في إطار "علاقاتها الاجتماعية" (العلاقات الطبيعية)، لكنها تتحرك حين تصبح على حافة الهاوية، بحيث تشعر بالعجز عن تجديد تلك العلاقات، لأنها تشعر بالعجز عن الحصول على أساسيات الحياة. هذا هو العنصر الجوهري الذي يحكم الأغلبية الشعبية، البعيدة عن السياسة والشأن العام، لكنها التي تصنع هذا وذاك في لحظة إحساسها بالموت.
ما جرى في الوطن العربي خلال العقود الأربع السابقة (منذ سنة 1974 وبداية سياسة الانفتاح الاقتصادي في مصر) هو انهيار وضع كتلة شعبية كبيرة، بين البطالة (30% تقريبا) والفقر الشديد (30% تقريبا كذلك) والفقر النسبي، مع تحوّل كلية التكوين الاقتصادي لمصلحة سيطرة قطاع ريعي (ينشط في الخدمات والعقارات والسياحة والبنوك والاستيراد)، ومن ثم انهيار الزراعة والصناعة (القطاع المنتج)، وأيضا تمركز الثروة في أيدي أقلية ضئيلة، وإفقار قطاع كبير من الشعب.
مسألة السلطة وطبيعتها كانت مرتبطة بهذا الأمر، لأن السلطة كانت أداة سيطرة تلك الفئة الرأسمالية، وأداة تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي، وتدمير التعليم، وإهمال الصحة والبنية التحتية، ولهذا حدثت الثورات في بلدان استبدادية وأخرى كانت توصف بأنها ديمقراطية بشكل ما.
هذا التوصيف يوصل إلى أن الشعوب تعيش "اللحظة الحرجة"، وبذلك فقد تمردت على سطوة السلطة، تريد تغيير الوضع عبر تحقيق مطالبها: العمل، والأجر المناسب، والتعليم المجاني، والصحة، إضافة إلى مطلب النخب في تأسيس دولة علمانية ديمقراطية (أو دولة ديمقراطية فقط).
إذن، إن جوهر الثورات يتمثل في حل معضلة النمط الاقتصادي وليس في شكل السلطة السياسي فقط. فما هو النمط الاقتصادي الذي يوجد فرص عمل لهذه الكتلة الهائلة من العاطلين عن العمل، ويوجد فائضا يسمح برفع الأجور، ويسمح بإعادة بناء التعليم والصحة والبنية التحتية؟
الفرضية هنا تتمثل في إننا نحتاج إلى إعادة تطوير الزراعة وإعادة بناء الصناعة، أي العودة إلى اقتصاد منتج. من يحقق ذلك؟
لن ندخل في هذا الأمر هنا، لكن نشير إلى أن هذا الحل يفترض الصدام مع الرأسمالية العالمية التي فرضت النمط الريعي القائم، والمحلية التي تبعتها وسهلت سيطرتها وهي تحقق مصالحها.
هنا سنلمس مؤشر انعكاس ذلك على الصراع مع الدولة الصهيونية التي فُرضت ضمن الترتيب الإمبريالي للمنطقة، ومن أجل الحفاظ على هذا الترتيب، فالشعوب تنهض لنفي ذلك الترتيب، لهذا سيكون صدامها موضوعيا مع القوى الإمبريالية، وستعاد سخونة الصراع مع الدولة الصهيونية.
لم أتحدث هنا عن احتمالية نجاح ذلك، حيث إن ذلك ينطلق مما أسست له قبلا، أي عجز الشعوب عن المقدرة على تحمّل وضعها، ومن ثم فإن حراكها سوف يضعف النظم، ويفتح أفق التغيير الذي يوصل إلى انتصار حل يحقق مطالبها.
من القوى التي ستفعل ذلك؟ القوى القائمة عاجزة بالطبع، وأغلبها يميل نحو "اللبرلة"، وبالتالي إعادة إنتاج النمط الاقتصادي القائم، أي أنه لا يمتلك حلا لمشكلات الشعب، وهو أصلا غير آبه بالشعب.
هذا الأمر يؤسس لطول أمد الثورات، والفرضية الضمنية هنا هي أنه في صيرورة الثورات سوف تتبلور القوى التي تحمل مشروع التغيير، من الشعب، ومن الشباب الذي انخرط للتو في السياسة.
إذن، أحسم بأن الأفق هنا هو أفق تغييري، وأن ذلك سوف ينعكس على الصراع العربي الصهيوني من زاوية تصعيد التناقض الكامن.
كان يمكن أن نتوقف عند هذا الحد، أي التأكيد على أن تطور الثورات وانتصارها سوف يفرض تطوير الصراع ضد الدولة الصهيونية، لكن الموضوع سيكون أغنى، ويمكن أن يوصل إلى صورة أوضح لما يمكن أن تكونه طبيعة الصراع العربي الصهيوني وآفاقه، من خلال تناول وضع الدولة الصهيونية ذاتها.
والفرضية هنا تتمثل في أن الثورات العربية -رغم أنها نتاج تناقض داخلي حاولت توصيفه سريعا- إلا أنها مرتبطة بالوضع العالمي، والأزمة التي عصفت بالرأسمالية سنة 2008، فالتكوين الاقتصادي الذي أشرت إليه نتج عن سياسة الانفتاح الاقتصادي وتعميم "اللبرلة"، بفعل ضغوط الطغم المالية الإمبريالية، ولهذا كان لدخول تلك الطغم في الأزمة منعكس مباشر على المنطقة.
وما يمكن قوله هنا إن هذه الأزمة ليست عابرة، وهي أعقد مما يشار إليه في الخطاب الإعلامي، وربما ستبقى قائمة دون حل نتيجة التشكل الجديد للرأسمالية بعد أن هيمن المال على الرأسمال، أي بعد أن أصبح المال الذي ينشط في المضاربات في أسواق الأسهم والعقارات، والمشتقات المالية والمديونية، هو المهيمن في إطار مجمل الرأسمال، وهو بطبيعته يؤدي إلى نشوء فقاعات مالية سرعان ما تنفجر مخلّفة أضرارا جسيمة على مجمل الاقتصاد الرأسمالي.
الأزمة الأخيرة لحقت بأميركا بالأساس وأضعفتها، وظهر للإدارة الأميركية أنها غير قادرة على حل الأزمة أو تجاوزها، لهذا قررت "إدارة الأزمة"، أي منع توسعها وانفجارها من جديد، لكن الأخطار كبيرة واحتمالات حدوث انهيارات جديدة كبيرة كذلك.
هذا الأمر فرض على أميركا أن تعيد صياغة إستراتيجيتها، ونقل الأولوية إلى منطقة آسيا والمحيط الهادي (الباسيفيك)، وهذا يعني انكشاف الدولة الصهيونية -التي كانت تشكل جزءا عضويا في إطار النمط الإمبريالي، والتكوين الأميركي خصوصا، وأداة ردع التطور في المنطقة: انكشافها السياسي، وانكشافها الاقتصادي المالي.
فأميركا تترك فراغا في المنطقة، وهي لذلك لا تعود بحاجة إلى "ثكنة عسكرية" (وهو التكوين الأساسي للدولة الصهيونية) في هذه المنطقة، الأمر الذي يغير من منطق الحماية، ويدفع إلى التخلي عن الدعم المالي، وكل المساعدات المباشرة وغير المباشرة في المجال الاقتصادي، التي هي ضرورية لـ "بلد" صغير، ويقوم بأعباء أمنية كبيرة لمصلحة الرأسمال، ويحتاج إلى أموال طائلة من أجل "الاستيطان" الذي هو جوهر الفكرة الصهيونية.
هذا الأمر يؤسس لأزمة كبيرة للدولة الصهيونية، لكن سنلمس أن الأزمة ربما تكون أخطر من ذلك، وهنا لا بد من تلمس انعكاس الأزمة الاقتصادية الرأسمالية على وضع الاقتصاد الصهيوني، الذي بدأ يظهر في تراجع الصادرات، فلأن السوق الصهيوني ضيق فإن الاقتصاد الصهيوني يعتمد على التصدير بشكل أساسي، وظهر ذلك في تراجع التصدير لأميركا وأوروبا أيضا، رغم محاولة التعويض بالتصدير إلى الهند والبرازيل والصين وروسيا، وهذا أمر بات يُفضي إلى إغلاق المصانع، ويؤدي إلى بطالة أعلى.
النقطة الأخيرة في هذا المجال، تتمثل في أنه رغم أن الدولة الصهيونية تمتلك وسائل الإنتاج، فإن أزمة نهاية سبعينيات القرن العشرين فرضت تحقيق الانفتاح الاقتصادي، والتخلي عن دور الدولة، وهو الأمر الذي أوجد الاستقطاب بين أقلية تزداد ثروتها وأغلبية تفقر، وبالتالي لم يكن صدفة ما حدث في صيف سنة 2011 من حركة احتجاج حاولت تقليد الاحتجاج العربي.
نستخلص من ذلك بأن الدولة الصهيونية ستعيش مأزقا، وهي معرضة لانفجار اجتماعي كبير. بالتالي فإن انتصار الثورات العربية، مع تعمق أزمة الدولة الصهيونية، واحتمالات حدوث انفجار اجتماعي فيها، سوف يعيد بناء الصراع العربي الصهيوني على أسس جديدة، ستكون الدولة الصهيونية هي الأضعف فيها. ربما هذا هو أفق العقدين القادمين.