يقدم الكاتب السوري وجهة نظره النقدية التي تتأسس على مفاهيم علمية اجتماعية تتغيا البحث في المصطلحات السياسية من ديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والمواطنة، ليخلص للقول بضرورة اجتماع المعارضة على أرضية الانفكاك عن الارتباطات الخارجية.

من يريد لسوريا الحياة؟

أو سوريا وثنائية قدسية النخب ودونية الأكثرية

علي محمد

-1-

ليست القوانين اختراعا بشريا (حمورابي أو غيره)، فرحمها البكر هو الطبيعة، والقوانين العامة الناظمة لها تعبر عن (وتكرس) نزعة الاستقلال عند كل عنصر فيها، وعن ميله لبناء علاقات تشاركيه مع محيطه في آن معا. كذلك بدأت قوانين البشر (العصر الحجري الأعلى)، لكنها تطورت في حقب لاحقة (عصور المعادن وبناء المدن) إلى حالة تعسفية كرست ثنائية: "قدسية النخب (علوا إلى الربانية)، ودونية الأكثرية (هبوطا إلى العبودية)"، والحاكم على أنه هو القانون!، اكتشف الفساد وثبت الانفصال عن الطبيعة.

ازدهرت حضارات واندثرت وهي ممسكة بذلك بمعول تلك الثنائية. لكن وفي عصور لاحقة باتت فرص الازدهار أكثر ارتباطا بتقليص المسافة بين طرفيها وتنامى ذلك.

تميزت فترة تحلل الحضارات باجترار أجوبة سائدة ومألوفة وتحويلها إلى ثوابت، وبفقدان المقدرة على التجدد. بتقهقر الفكر والإبداع، وبفرز القوى السيدة من صفوفها لنخب تطرح الأسئلة وتجيب عليها، وبسحب النخب الفاسدة لجذر السؤال من تربة العامة، لتتحول إلى كتلة تقيس علمها وحضورها بما تحفظ من تلك الأجوبة عن ظهر قلب. وفي السياق ازدهرت صناعة الإنسان البسيط المهمش الذي يستسيغ دونيته، ويقف فاغرا فاه من الدهشة وهو يسمع أو يرى "أئمة وجهابزة" المعرفة، ليغدو بكليته وقودا لنار طموحهم وبيسر.

ثنائية أنتجتها وحمتها حضارة المركز البشرية، وباتت من السمات المميزة للبنية المنتجة للسياسة في العالم كله. كما بات الشكل "المافيوزي" في العصر الراهن هو الأكثر شيوعا وتفضيلا من قبل جل النخب سواء في الثقافة أو في السياسة والاقتصاد.

القفزات النوعية الموجبة القيمة بالنسبة للمجتمعات البشرية، سجلت كلها قضما نوعيا للمسافة بين حدي تلك الثنائية. حصل ذلك في عهد أخناتون وفي يثرب المنورة، وفي حرب التحرير الأمريكية، وكومونة باريس وثورة أكتوبر والثورة الكوبية وما زال في الذاكرة نداء جمال عبد الناصر للمواطن البسيط ومن أجل حيازة مصر لطاقة دافعة موجبة: "إرفع رأسك عاليا يا أخي".

لكن التجربة المعاصرة الأهم في ذلك المنحى، كانت ما أسسته إدارات الأنظمة الديمقراطية العلمانية، التي اعتمدت معايير ونظم موضوعية وعقلانية عززت تضييق المسافة بين حدي الثنائية أعلاه، ووضع قوانين لضبط تلك المسافة عند قيم تؤمن حماية الملاط الذي يحمي نسيج مجتمعاتها وأوطانها من شرور وعاهات قد تنتجها مبالغة النخب في تكريس مصالحها. وباتت تلك النظم والمعايير كاشفا لمستوى حضور الحرية والمساواة، اللتان لا ديمقراطية بغيابهما.

تاريخيا يمكن ربط انكماش وتراجع حضور الحرية والمساواة في الدول الديمقراطية بتجاوز النخب لتلك النظم والمعايير (حصل ذلك مرارا)، وربط نمو مساحة العدالة والمساواة، باحترامها. فالديمقراطية العلمانية ليست ضامنة للعدالة والمساواة على العموم، لكنها تمنح فرصة للرصد والقياس، وبالتالي لتصويب الانحراف.

في العالم العربي تظاهرت وتتظاهر تلك الثنائية بشكل متورم ومتخلف منذ قرون، وما زالت جل النخب وحتى اليوم تسرح من غير رقيب خارج معايير الموضوعية والعقلانية، متلفعة بشخصانية متورمة وافتقار للكفاءة المنتجة لقيمة موجبه. نخب تنتهك حق المواطن البسيط المنصوص عليه في الديانات السماوية وشرعة حقوق الإنسان وتدعي أنها تناضل لأجله، وتعيق الواقع من أن يطور مفاهيم ومصطلحات محددة الدلالات وبدقة ووضوح. تتشابك الدلالات والمفاهيم وتقبع في دائرة تعذر التمييز إلا لفقيه أو جهبوز. أو كما قالت الباحثة خديجة بن صفوت: " وفيما بات الكلام في أفضل الشروط يعنى أكثر من شيء في وقت واحد فقد سهل الرجوع عن الكلام في أي لحظة، بل في اللحظة التالية". وفي شأن أداء الفقيه والجهبوز في الأزمة السورية وفي الوضع العربي عموما (في العقدين الأخيرين عززت النخب التقليدية بأخرى هجينة صنعتها مراكز تابعة لدول أوروبية وللولايات المتحدة الأمريكية) نقتبس: "ثمة شخصيات تسعى كي لا تترك موقعا للتعبير عن حدث معين إلا وتشغله، وكلما تبنت رأيا جديدا ينقض أخر تبنته بالأمس، علا شأنها في سوق المعارضة السياسة، وكأنها تثاب لكونها برهنت على أهلية انتماء ضميرها لنادي النخب السياسية، ولكل سوق "شاهبندر" و"خلال فترة زمنية قصيرة، تتنقل شخصية سياسية "قيادية"، بين عدة منابر سياسية متباينة. وكلما تنقلت أكثر زادت قيمتها، وحجزت لها الدعوات لشغل مكان جديد، مع حفظ "حق العودة" لمكان سبق أن شغلته".

نخب (في السلطة والمعارضة) صادرت دلالات اللغة وهدفت تحويل المجتمع إلى طفل يبحث عما ينطق به وينجيه من عصا مشرعة. نخب استوطنت وجوهها شاشات الفضائيات وانتفخت جيوبها، وبحت أصواتها وهي تنادي بالحرية والديمقراطية والدولة الإسلامية، ولكل من الغلة نصيب. فكيف لملاط المجتمعات العربية الإسلامية أن لا يتهرأ.

-2-

ثمة شبه إجماع في الأدبيات المؤسسة للفكر الديمقراطي، على أن الممثل الشرعي الوحيد للشعب هو الشعب نفسه. للتوكيد، أقتبس من أدبيات أحد أعرق التجارب الديمقراطية بعضا مما تضمنته ديباجة إعلان الحقوق التي صدرت مع دستور "ماساشوسيت"عام 1780: "هدف كل حكومة هو ضمان تمكين الأفراد من التمتع بحقوقهم الطبيعية في أمن وسلام، وللشعب حق تغيير الحكومة إذا ما قصرت في تحقيق تلك الأهداف".

اختيرت كلمة "طبيعية" بعناية ودقة, وتم التأكيد على أن الشعب هو الممثل الشرعي لنفسه، وليس هناك من إنابة لأحد بذلك الحق، بل ثمة تكليف بمهام محددة لا أكثر، وتحت إشراف مباشر منه. وفي البلدان التي أنجزت بناء نظام ديمقراطي، كانت المهمة الرئيسة لمجتمعاتها المدنية، هي حماية الدولة من أن تحتويها مراكز قوى سياسية ومالية وأمنية وصولا للهيمنة. وتدفع المجتمعات ثمنا باهظا لتراخ قد يتسبب بارتكاس؛ لعب السناتور مكارثي لفترة محدودة دور الممثل الشرعي للشعب الأمريكي. لكن المجتمع استند على نواميس ديمقراطيته (محميته)وعزله.

في الدول الديمقراطية المعاصرة التي لم تنجح الليبرالية المتوحشة بابتلاع ديمقراطيتها (السويد مثلا) ليس البرلمان المنتخب هو الممثل الشرعي الوحيد للمجتمع (أو الشعب)؛ فذلك يتعارض حكما مع تعدد السلطات ومع الفصل بينها، ناهيك عن أن هيئات المجتمع المدني هي من مجموعة ممثلي الشعب، وكذلك هي المعارضة التي خسرت في صندوق الانتخاب.

لا يجرؤ رئيس وزراء بريطانيا الذي كان ممن منحوا صفة "الممثل الشرعي والوحيد" لإئتلاف الدوحة، أن يعطي لأحزاب حكومته الصفة نفسها، ولا يجرؤ رئيس فرنسا على أمر مماثل.

"الشرعي الوحيد"، نسف للشرعية الطبيعية وتدنيس للنواميس الديمقراطية. هي من مصفوفات اغتصاب الحق ودائما لخدمة طغيان. وإذ تقوم الديمقراطية على الحرية والمساواة، فإن منح صفة الشرعي الوحيد لغير الشعب تلغي كليهما معا.

السؤال هو: كيف يقبل سوري (أو سورية) يتبنى الديمقراطية، الانتساب لتكوين يعطى له صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري؟

عمليا، اغتصب حق الشعوب بتمثيل نفسها تحت مسميات كثيرة: دينية اشتراكية قومية وديمقراطية وثورية.

-3-

تدرس كليات الفيزياء طلابها، أن كل منظومة تميل إلى الاستقرار (ناموس كوني). وأن الكون من الجزيء إلى المجرة ينتج قدرا من الفوضى تتسبب بإخراج منظومات من استقرارها، فتبحث هذه عن وسيلة لإيجاد مستقر جديد.

أحد أدوات "الميل للاستقرار" في الطبيعة، آلية تعرف بقانون الكبح العكسي. شرح أينشتاين بواسطتها استحالة صنع عربه تسير بسرعة الضوء. موضحا أن الطاقة المستهلكة تنتج آلية كابحة من أجل منع استهلاك المزيد منها، وأن الإصرار على المتابعة ينتج جدلية بين تلك المستهلكة وبين الكبح الناتج لها، توصل وعند حدود معينة إلى دمار المنظومة.

تندفع الحضارة البشرية نحو مزيد من الإنتاج والاستهلاك، وتندفع الأمم نحو امتلاك مزيد من القوة، والشركات والأفراد نحو مزيد من الثروة. ويترتب على ذلك دفع فواتير لمواجهة الآثار السلبية اقتصاديا والناجمة عن آليات الكبح العكسي (دفن النفايات النووية مثلا). ويجري الالتفاف على ذلك من خلال تجيير الفواتير، بحيث تدفع من حساب المنظومات الأضعف مما قد يسبب مع الزمن تلفا في قدرتها، فتتملح تربتها وتخرج من حقل الفعالية.

هكذا وبسب النمو المتسارع لمساحة الأرض غير القابلة للزرع تضيق دائرة القادرين على الدفع من الضعاف. ويحتدم الصراع بين من يرغب بالنمو خارج القوانين والنظم جاعلا غيره يدفع. لذلك يبدأ الكبار الذين سبق أن التهموا كثيرا من الصغار بالاحتكاك الساخن، وتتفاقم الأمور فتنشأ حروب محدودة أو كبرى شاملة. عرف منها القرن العشرين ما أزهق أرواح قرابة مائة مليون من البشر ناهيك عن الأحصنة والبغال والحمير والكلاب والحمام الزاجل. فكان أن توقفت البشرية للحظة تأمل. خلصت منها لأمل مفاده أن لا يتكرر ذلك، ودفعت رغبتها تلك شرعة حقوق الإنسان لتخرج من رحم قبعت فيه طويلا بانتظار لحظة مناسبة. لكن نفس العام (1948) شهد قيام دولة إسرائيل. أي أن البشرية وفي حينه، كانت ما تزال تعيش انقساما شاقوليا يفصل منظومتها الأخلاقية إلى قطبين ضدين لا يفتأ فرق الكمون بينهما يولد مزيدا من صداع حاد يسكن دماغها مسببا مزيدا من ارتجاج صورة الحياة.

أصرت مراكز قرار رئيسة في العالم على إعادة إنتاج نماذج جديدة من ذلك الصداع، فكان أن استمرت لعبة النمو الفوضوي وإنتاج مزيد من التملح الذي باتت أنواع منه تهدد الحياة على الكوكب الأزرق حسب تقدير بعض من نال نوبل في العلوم.

الأزمة المالية العالمية الرابضة كصخرة سيزيف فوق صدر البشرية، هي وفي جوهرها ناتج لصراع بين نزعة النمو الفوضوي وبين النظم والقوانين الحاكمة والضابطة للنمو. صراع أسفر عن هزيمة أولية لتلك النظم والقوانين، فاندفع شبق الربح عند الشركات لتجاوز الأطر والمحددات المختبرة للسلامة على العموم، وسجل النمو الفوضوي معدلات كبيرة وجرى إغماض العين عن النتائج العكسية، التي صبت حممها على رؤوس الضعفاء كما هي العادة. وتحولت بعض الدول لفاشلة.

لم يأبه الأقوياء لنتائج إعادة العراق إلى العصر الحجري، أو لكون الدخل القومي للقارة الإفريقية بات بالكاد يكفي فاتورة مرض فرط نقص المناعة في حال قررت معالجته (سبق أن بيع طفل في أثيوبيا بدولارين من قبل ذويه). أو لأن معظم بلدان العالم الثالث ستكون وقريبا عاجزة عن دفع فواتير معالجة تلوث بيئتها".

-4-

سوريا اليوم هي ميدان الصراع الرئيس بين طاقة النمو الفوضوي للعولمة المتوحشة، وبين الطاقة الباحثة عن استقرار تتوفر فيه شروط السلامة للمجتمعات البشرية وللبيئة الأرضية.

صراع دمر 80% من بنيتها التحتية، المشافي والمدارس وشبكات الماء والكهرباء والزراعة والصناعة!!

سوريا ما عادت تغني "يا طيره طيري" و"شرشف قصب"، و"يا شادي الألحان"، و"على على موج البحر". بل يدوم في فضائها نواح أمهات وزوجات ثكالى، وينتشر في أديم وديانها وجبالها صرير أسنان الأطفال. ويعبر سهولها تهليل وتكبير قطعان هجينة "سبحان من حللك للذبح". هجين أنتجته مصانع الإسلام السياسي التكفيري (على اختلاف المسميات) من مكونين هما البشر والطغيان. نحر الشيخ رمضان البوطي في محراب مسجد، كما نحر "جعد ابن درهم" بجوار محراب مسجد. يبدو أن ذلك العصر ما زال حاضرا.

ثمة نافذة لتسوية سياسية ، جنيف2، تنتج سلما. لكن أدوات جنيف2 المعتمدة تهمل العناصر الفاعلة لاستقرار الدولة السورية، وتبدو أكثر تأهيلا لإنتاج عصارة ذات سمية مديدة كما سايكس-بيكو ووعد بلفو. والسجال يدور حول من يرغبون بها كما أسلاف لهم، وبين من يحلمون ويسعون لماء شروب.

الإئتلاف الذي تفرضه دول كبرى وأخرى إقليمية كممثل وحيد وشرعي للشعب السوري وللمعارضة السورية، ومفاوضا فردا للسلطة بالنيابة عنهما، هو أصلا أداة صنعت لإنتاج فوضى تحول دون التوصل لحل سياسي يمنح الدولة السورية فرصة استثمار ما تبقى من مؤسساتها لترميم هيكلها. تضفره التنظيمات الإسلامية التكفيرية التي هي مفوضة ومكلفة من الله، بحكم البشر جميعا وفق شريعة صاغها علماء ربانيون. وصولا لتدمير الدولة السورية. خلطة من نخب تتنافس وتتبارى بالجهر بعمق إيمانها وتجسيدها ميدانيا "للثنائية" أعلاه. تاريخيا، اغتصب حق الشعوب بتمثيل نفسها تحت مسميات كثيرة: دينية اشتراكية قومية وديمقراطية وثورية.

سوريا اليوم تواجه المغتصب الأبشع. تواجه صناعة فوضى متنوعة شكلا ومضمونا وغايات. ويدوم السؤال المؤلم:

كيف يقبل سوري يتبنى الحرية والديمقراطية، الانتساب لتكوين يعطى له ويعطي لنفسه، صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب؟

-5-

في الوعي الفوقي للإسلام السياسي (في "أناه العليا")، القيمة الرئيس هي للأمة وليست للوطن. والأمة تلك، هي كتلة تتكون ممن يلتفون حول "العلماء الربانيون" وحول "أهل الحل والعقد" حيث لا علاقة لصندوق انتخاب باختيار أحدا منهم. وإذا رغبنا الاختصار فجغرافية الأمة وهويتها، يستدل عليهما بالشيخ. أما الوطن فليس وكما في لسان العرب هو "المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان وجمعه أوطان"، بل هو الشريعة التي يحدد اجتهاد الشيخ كيف تفهم وتطبق.

حاكمية الشيخ، تحمى وتكرس بحد السيف إن لزم الأمر. فالمجتمع رعية عليها أن تخضع لسلطانة، ومفردة "كلكم" في الحديث الشريف "راع ومسؤول عن رعيته"، لم تعد تشمل كل الناس بل الأساتذة فقط، أساتذة مكلفين ومفوضين بحكم العالم.

وبالنسبة لليبرالي "المحدث"، الوطن هو حقيبة ورصيد مالي بوزن زئبقيته، وكاميرا تلفزيونية ترصد وتوثق نرجيسته.

وبالنسبة للمحافظين الجدد، الوطن هو فقاعة تمجد شخوصهم الملتهبة بشهوة التسلط، وضديد الوطن عندهم هو كل ما من شأنه أن يفقأ تلك الفقاعة.

من تلك العجينة تستعير منابر معارضة الخارج فقهاء وقادة، يخبزون ما تستسيغه شركات العولمة المتوحشة التي جعلتهم أثرياء.

-6-

"كيف للدولة السورية أن تبقى حية وثمة من يريد لها الاندثار"؟

لا يستسهلن حريصاً السؤال. فكل من طاقة الحياة المنشودة وطاقة التدمير الذاتي، كامنة في الآخر، كل آخر، كما يحرضها وعيه وتمليها حاجاته. وفروق الكمون بين تلك السدم من شأنها أن تولد عواصف رعدية. وهي تفعل ذلك اليوم فوق تراب سوريا بعد أن أشبعت القوى السياسية والعقائدية كتل وقود مشاريعها، بمنشطات الحسي الإدراكي ومثبطات المفاهيمي.

ويقول قائل: استنبطت البشرية تقنيات مختبرة لتخميد شرر التناقضات. وفي جنيف2، كان يفترض أن كل من يحضر يريد لسوريا الحياة.

ويلي صوت: من سيوصف مريد الحياة؟

لا نحسب أن هناك من مؤهل للإجابة غير السوري نفسه.

لو أجرينا سبر رأي لشريحتين من المجتمع استشرت العداوة بينهما: حول صحة عبارة "لا حياة من دون الماء"، فعلى الأرجح سيصوتان على صحتها. كما سيتفقان على أن النار ستلتهم حقل القمح إن شبت به، وعلى أنه من الأفضل لمن لا يعرف السباحة، أن لا يرمي نفسه في البحر. وربما سنجد لو تابعنا أن عدد المسائل التي تتفق الشريحتان عليها، هو أكبر من عدد تلك التي تختلفان حولها وبكثير. لا غرابة في ذلك، رغم تاريخ الخصومة بينهما، لأن ما يجمع بين أسلافهما هو حقبة ذات امتداد تبدو حقبة التاريخ الحديثة هزيلة إذا ما قورنت بها.

ثمة نافذة لعبور سوريا نحو سلم أهلي مستقر، ولدولتها نحو التعافي ومن ثم الازدهار.

من على محك التاريخ اليوم، هو السلطة والمعارضة الوطنية السورية والمجتمع السوري.

على البعض من المعارضة الوطنية، أن يعوض ما أضاعه من جهد وزمن في محاورة معارضة نخاسة، وفي التماس مصدر للقيمة من الخارج. وأن يسأل نفسه علنا: لماذا فعل ذلك؟ ثم يجيب المواطن عليه بشفافية لا تخفي مناطق مظللة. ربما يساعد ذلك ،لو حصل، على أن تتداعى كل أطراف المعارضة الوطنية لمائدة مستديرة لتوحيد صفوفها.

في صفوف المعارضة الوطنية أكثر من فريق عبر عن أهمية جسر الفجوة بين طرفي تلك الثنائية. ونافح بثبات وصلابة لمنع التدخل الخارجي، ورفض كل أشكال العنف، وأدان اغتيال العلماء والصامتين عن الجريمة، مستنهضا للقيمة وللطاقة الموجبة التي يفترض وانطلاقا من غريزة حفظ النوع أن تنمو وتتطور. فالدولة والوطن مهددان والجيش العربي السوري الذي يحميهما حتى اليوم، لن يستطيع ولوحده أن يحميهما لزمن غير محدد وبمواجهة قوى عاتية.

ويفترض أن تقتنع السلطة انطلاقا من الغريزة إياها بضرورة أن تكفر عما فعلته حكومة العطري (نموذجا) بالدولة والمجتمع، أن تلجم شره بعض نخبها لمباعدة المسافة بين حدي الثنائية. وتحيل رايتها المنفردة إلى التقاعد، وتقبل بالعمل كفريق تحت راية توحد السوريين.

يفترض أن تعي السلطة والمعارضة الوطنية أن الطاقة اللازم توافرها للخروج من الكارثة، ومن دفع فواتير اضطرابات دولية وإقليمية وتخلف تاريخي، تتوافر في المجتمع وليس في حقائب أي منهما. أن يفيئا قولا وفعلا للتشاركية ولجوهر مفهوم المواطنة كشرط لتجاوز قصورهما التاريخي، وأن ينجزا مؤتمرا وطنيا جامعا فوق تراب سوريا. أن يقدما للمجتمع حكومة وحدة وطنية، تطلب منه أن يمنحها وبرنامجها وفي استفتاء حر شرعية الحكم ومسؤولية مواجهة كل أشكال العدوان الخارجي والنخاسة، وحماية الوطن والمواطن والدولة.