في مدار صراع اللغات الضدي يكمن ارتكاس في المجال الثقافي. هنا يرى الأكاديمي المغربي أن الدعوة لتبنى الدارجة هو خطوة تكتيكية، الغرض منه تفكيك منظومة الهوية اللغوية والحضارية للعربية، ليتم التخلي النهائي عن العربية ودوارجها العاجزة عن مواكبة الإنتاج المعرفي، وبالتالي فتح الأبواب على تبني الفرنسية لاحقاً.

اللغة العربية والتغريبيون الجدد

عبد الرحمان غانمي

لسنا مضطرين لمناقشة أهمية اللغة العربية ومكانتها بالنسبة للمغاربة تاريخيا وحضاريا ودينيا، وغير المغاربة وانخراطها في العصر، وقدرتها على التكيف مع المعطيات الراهنة والمستقبلية، إضافة إلى أن الكثير من الدراسات الغربية –وليس المغربية والعربية فقط– العلمية الرصينة تؤكد على أن هذه اللغة لغة المستقبل، وليس فقط لغة الماضي، على مستوى حضورها المتنامي في التواصل والسياسة والاقتصاد والمعرفة، بيد أن بعض الآراء المحسوبة على بعض مغاربة تظهر هنا وهناك، وعلى أية حال فليست جديدة أو ابتكارا غير مسبوق، تثير الفضول حول طرح أسباب نزولها ودواعيها، تفرض الوقوف عندها، دون أن يعني ذلك أن هذه الآراء لها قيمة استثنائية، لأنها لم تصدر عن وجهات نظر صادرة عن خبراء ودراسات موضوعية متخصصة، وإنما تمليها دعاوى خارج هذا الإطار، فالذين ينادون بتنزيل الدارجة المغربية محل اللغة العربية لتكون بديلا عنها ويؤكدون عدم التفقه ومعرفتهم باللغة العربية والدوارج المغربية، بصرف النظر عن الاعتبارات الدستورية والتاريخية والسياسية والدينية قبل كل شيء للغة العربية.

إن الغرض من ذلك، أكيد، ليس البحث والسعي نحو طرح مناهج  ووسائل جديدة لتطوير التعليم حتى يستفيد منه أبناء المغاربة، وعليه كان من الأجدى لهؤلاء عوض أن يحولوا هؤلاء الأبناء الأبرياء إلى مختبرات لـ"تجاربهم" و"هواجسهم"، أن يقدموا النموذج من أنفسهم، وذلك بإخضاع أبنائهم وأهاليهم لهذه "التجارب" قبل أن تكون لهم الجرأة للدعوة إلى تعميمها، لأنه لاحق لأحد أن ينصب نفسه وليا على المغاربة وفلذات أكبادهم، ليرهنوا مستقبلهم وهويتهم وشخصيتهم.

لو كان الأمر مجرد تعبير عن الرأي لاعتبر ذلك شأنا "عاديا"، أما أن يتحول الموضوع إلى تقمص دور غير موكول ديمقراطيا وسياسيا وعلميا، وقبل ذلك أخلاقيا، لهؤلاء التغريبيين الجدد، فإن الموضوع لا يحتاج إلى عناء تفكير لدحض ما ذهبوا إليه، لكن التساؤل يطرح بحدة حول إقحام مؤسسة أمير المؤمنين في مثل هذه "الشعارات" والدعاوى الايديولوجية والنقاش الذي يثير التقزز، طالما أنه من المعلوم أن الإمارة ورمزيتها متحققة من خلال الدين الإسلامي والنص القرآني المقدس وخلفيته الأساسية التي هي اللغة العربية، المنفتحة على مختلف اللغات والثقافات باعتبارها وعاء حضاريا وتاريخيا، وليس إطارا عرقيا ضيقا، وبالتالي فإن استهداف اللغة العربية، هو في عمقه، مس بإحدى الثوابت الوطنية، وإمارة المؤمنين وأساساتها.

فالقول أن التعليم الأولي في مجمله تقليدي من خلال الكتاتيب، ولا ينبغي أن يكون دينيا فقط، وكأن ذلك سيؤدي إلى إبعاد الفرد عن الحياة، فيه الكثير من التبسيط، في مقابل ذلك لماذا لا نرفض توجيه التعليم الأولي إلى إثقال كاهل الطفل بتلقين الفرنسية، ثم ما العلاقة بين وقوع البعض في تناقضات بين الإدعاء والدفاع عن اللغة العربية ولكنه يدعو المغاربة إلى توجيه أبنائهم إلى الفرنسية البعيدة كليا عن اللغة الأم؟ ألا يكذب هؤلاء حينما يدافع هؤلاء التغريبيون الجدد عن إقصاء وتهميش اللغة العربية بدعوى الدفاع عن الدارجة، (وهذا غير صحيح البتة) وفي نفس الوقت لا يعلمون أبناءهم بهذه الدارجة.

أما القول باللغة الأم والتوسل بالتجارب العالمية ففيه الكثير من التحيز. فاللغة الأم بالنسبة للمغاربة، هي (الدوارج المغربية) و(الدوارج المرتبطة باللغة العربية المهجنة) أي أن الدارجة المغربية هي فرع من أصل هو (اللغة العربية)، وهذا يمكن أن يكون محور دراسات علمية لسانية ولغوية وتاريخية وسوسيولوجية بعيدا عن تلك الاستيهامات التي هي أشبه بأضغاث أحلام. فاللغة العربية هي لغة معيارية وقواعد ولغة فكر وفلسفة وعلم وبحث وهي الإطار الأمثل أو النموذج، إلا أن الدارجة توجه للتواصل اليومي، ولذلك تخضع لاعتباراتها الخاصة والأم علاقتها باللغة العربية واضحة (نطق الحروف وحتى الكثير من الكلمات والقاموس والمعجم اللغوي العامي).

وعليه، فإن الكثير من الذين يتجهون إلى اللغة العربية لتهشيمها يبحثون ويطرحون مسوغات عديدة من مثل أنها غير قادرة على مواكبة العصر، وليست لغة العصر، وأنها لغة يغلب عليها الطابع العاطفي، وغير دقيقة علميا ولا يمكن أن تستوعب المعطيات المستجدة، والمستحدثة، وأنها لغة معقدة، ويضعونها في نزاع وهمي في خيال معتقديه، مع الدارجة أو مختلف اللهجات الأخرى، ليتم إلصاقها بالتخلف وبالتالي إلقاء المسؤولية عليها بخصوص كل الموبقات والمشاكل المستعصية التي يعرفها المغرب في مختلف المجالات، والواضح أن هذه الاتهامات العدوانية الايديولوجية والسياسيوية لا تنبع من خلاصات علمية، حتى وإن تغطى أصحابها باسم الحداثة والديمقراطية المفترى عليها، لأن لا صلة لهم بذلك، طالما أنهم غير ديمقراطيين، إن الدفاع عن مكون ثقافي ولغوي لا ينبغي أن يكون سببا في السعي إلى إلغاء ومحو مكونات أخرى للهوية الثقافية والحضارية، مع أن الأمر لا يتعلق بنزعة إرادوية، بيد أن هذه العدوانية المرضية تكشف عن ما تشكله هذه اللغة من أهمية قصوى، في مقابل ذلك، لا يتساءل أمثال هؤلاء عن عوامل التخلف الحضاري واللغوي والتعليمي التي تقع في محل آخر، فاللغة العربية لغة فكر وثقافة،وأدب وعلم وطب ولغة للماضي والحاضر والمستقبل، كما بينت العديد من الدراسات العلمية الرصينة، ومن يدعي أنها معقدة، صعبة، فذلك ليس مبررا لوضعها جانبا. فهل يمكن أن نلغي مجالات معرفية لمجرد أنها معقدة مثل الرياضيات والفلسفة، وغير ذلك من العلوم الدقيقة والإنسانية.ثم إن أسباب التأخر والتخلف مسؤولية اللغة الأجنبية التي هيمنت منذ الاستقلال إلى يومنا هذا على مجالات عديدة، التعليم والاقتصاد والإدارة، والإعلام، فاللغة العربية في ظل هذه الوضعية المرتبكة لم تأخذ حظها حتى يتم محاسبتها، في مقابل ذلك لا يجرؤ أحد أو يتساءل حول مسؤولية اللغة الفرنسية في ذلك في مجال التنمية والثقافة وغير ذلك، مع أنها لغة أقلية ولم تتحول ألى لغة أغلبية "المجتمع المغربي"، وهذا ما تثبته معطيات كثيرة، لغة فئات معينة لا تعرف غيرها في الغالب الأعم، تنظر إلى الواقع المغربي بعيونها، لأنهم لا يعرفون غيرها، والحال أن الكثير من النخب الثقافية والفكرية والأدبية التي ترفع لواء الدفاع عن اللغة العربية، لها اطلاع واسع باللغات الأجنبية، ومنهم من يؤلف باللغتين. ما يجسد صورة الانفتاح الإيجابي وليس الانغلاق والتقوقع في اللغة الأجنبية وتحصين الذات والرغبة في تعميم النموذج الفرنكوفوني، والذي يتحدث ويدعي الدفاع عن الدارجة أو الأمازيغية، لا يهمه لا هذه ولا تلك، اللهم تهميش وإلغاء وإقصاء اللغة العربية، وتمجيد النموذج اللغوي الأجنبي، لا لكي يكون عامل تعدد وإثراء، وإنما ليحل محل النموذج المغربي العربي الأمازيغي اللغوي والثقافي المتعدد من حيث مكوناته ومرجعياته.

إن الفشل الذي تعاني منه الكثير من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية يعود بالأساس إلى هيمنة اللغة الفرنسية على المجالات الحيوية، والتدني القائم بسبب هذا العامل الذي يفرض بقوة الأشياء المادية والسياسية والعلمية والاقتصادية، في سعي لفرنسة المجتمع المغربي عن طريق اللغة، هذه اللغة تصبح عائقا وحجابا عوض أن تكون إضافة مثمرة، يقول ابن خلدون: "وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان، وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقتصرا في اللغة العربية" (دار الذهبية القاهرة ص.41)، وعليه، فإن بعض الطروحات تتمادى وتمعن في إهانة المغاربة بالمس بثوابتهم. ما يعني أن الموضوع أكبر من أي شخص أو فئة أو طائفة ما، ويستوجب استمرار النقاش فيه، لأنه لا يرتبط بظرفية عابرة أو وقائع منفلتة، وهو أكبر من أن يحصر في الزاوية، وإذا كان هناك من لا يخجل حين يرى أن الدارجة هي البديل عن العربية، ولا يشير لا من قريب ولا من بعيد، إلى اللغة الفرنسية المهيمنة في واجهات أساسية، كما أسلفنا الذكر، كان ينبغي أيضا أن يكمل "خيره" ويطلب الإعفاء من تعلم الدارجة في المدارس، أيضا مادام أن الشارع هو المدرسة "الواسعة" لتلقي هذه اللغة منذ الصبا، وتبعا لذلك، ووفق هذا المنظور ينبغي أيضا أن يتم التخلي عن تعليم اللغة الفرنسية والاكتفاء بالرطانات الفرنسية التي تخترق الدوارج المغربية، وبذلك سيتخلص هؤلاء من "عبء" اللغة العربية في مقابل أيضا التضحية باللغة التي يلهثون وراءها، دون أن تلهث وراءهم، والتي لن تجعل منهم أبدا مواطنين فرنسيين، على الأقل سيتحقق نوع من الانسجام حسب الرؤية التي تحركهم ظاهريا.

ما ينبغي استخلاصه، أن الدعوة التي تبنى الدارجة، ليس من أجل سواد عيون أبناء المغاربة، وليس لأنها هي اللغة الأم وغير ذلك أن هذه اللغة وجدت للاستهلاك والاستعمال اليومي، والتدريس بها سيكون هو إعادة إنتاج لما هو موجود ليس إلا، وهذا ما يوضح أن هذا التوجه هو خطوة تكتيكية الغرض منه تفكيك منظومة الهوية اللغوية والحضارية للعربية حتى يتم السطو عليها، بعد أن يثبت أيضا عجز الدارجة، ليتم التخلي النهائي عن العربية ودوارجها ونفتح الأبواب بصفة مطلقة للفرنسية لتحل محل الدوارج والعربية.

إنه مخطط بعيد المدى.

 

(أستاذ جامعي، بني ملال)