دكتور ياأخي، أم غير دكتور، هو تنميق لغوي فارغ، لكن المهم ماذا تنتج؟
في سيرته الذاتية، التي تقارب مايزيد عن سبعمائة صفحة،أرخ عبرها الفيلسوف الراحل عبد الرحمن بدوي، لدقائق تفاصيل حياته الشخصية والعلمية، حين استحضاره لحقبة استقراره بفرنسا، بعد اصطدامه مع نظام جمال عبد الناصر، وقف عند أشياء كثيرة ترصد الوضع الفرنسي عشية ثورة 1968، فكريا وسياسيا وفنيا.
لكن، من بين الأشياء التي أشار إليها هذا العقل الجبار، دون الوقوف عندها طويلا، كما صنع مع تأويلات أخرى، أن رسائل الدكتوراه التي تناقش في الجامعات الفرنسية آنذاك-ينبغي هنا الانتباه والتشديد على الكلمات، بمعنى فرنسا تعيش أزهى فتراتها الفكرية، إبان فترة متى وأين وليت وجهك، فثمة فيلسوف أو عالم أو أديب يقام له ويقعد- مع هذا، خلص بدوي وهو قيمة علمية شامخة، قال في حقه طه حسين "لأول مرة أرى فيلسوفا من مصر"، إلى حكم مفاده ضعف الأطروحات الجامعية ورسائل الدكتوراه المنجزة وقتها، ثم اقتصار سجال أعضاء اللجان على الملاحظات الشكلية، التي تطمس جوهر الموضوعات، مع غياب المختصين. لا أدري، ماذا سيكتب بدوي عن الجامعة المغربية، لو قدر له أن يمر ويعاين عن قرب مايسمونه بـ"الجلسات العلمية"، التي يمنح بعدها المترشح شهادة الدكتوراه؟
فصاحب أطروحة "الزمان الوجودي"، لم تقنعه حتى أجواء ما يجري تحت أسقف مدرجات، ترددت داخلها أصداء خيالات عقول من فصيلة فوكو وديريدا وألتوسير وسارتر وآرون وكانغليم وستراوس وباشلار وبارت وغولدمان وكريستيفا وجينيت ودولوز .. هؤلاء لم يكونوا مثقفين عاديين، بل مهندسين لجيولوجيا العقل البشري، فأقاموا وكرسوا ورسخوا تقاليد، مفادها أن الجامعة إما أن تكون، أو لاتكون وكفى. بالتالي، فالمهمة الوجودية للمفكر تتجلى في توليد المفاهيم ومقارعتها ومناظرتها ومصارعتها ثم تجاوزها نحو أخرى. أفق، سيمططه إلى آخر نَفَس من حياته.
هناك تصور شائع، مفاده أن المشارقة لاسيما المصريين، كرسوا وضخموا ثقافة الألقاب والأوصاف، والنعوت الزائدة المضافة حشوا إلى اسم الشخص، مثل: الدكتور المبجل، الأستاذ الفاضل، سيدي العلامة، القدير، الكبير، العملاق، شيخنا الجليل، إلخ. بل، قد ينظمون ثلاث متواليات دفعة واحدة، وفق وصفة واحدة "الأستاذ الدكتور الفاضل"، لذلك يستحيل على أي كاتب مشرقي أن يصدر كتابا من الكتب، دون الإسراع إلى التنصيص على غلافه، لقب الدكتور. في أحسن الأحوال، ربما يختزلها إلى(د)، ثم لابد أن تتضمن واجهة الغلاف الثاني كلمة تنويه يدبجها أحد التلاميذ النجباء، سيثني معها أيما ثناء على تنعم الثقافة العربية والإسلامية، بمجهودات "دكتورنا" الذي حصنها من سهام أعدائنا والمتربصين بها .. حين هيمن مناخ البترودولار، صارت ألقاب الدكتوراه مطروحة أكثر في المزاد العلني، وبموضوعات من قبيل دلالة ابتسامة الناقة عند الشاعر الشنفرى، أوزحافات بحر الوافر.
فترة سنوات دراستي الجامعية، كنت أتلهف لحضور مواعيد مناقشة أطاريح الدكتوراه. كم أشفق الآن على نفسي، وأنا أستعيد تلك الساعات التي ضيعتها هباء، حينما أتسمر في مكاني لساعات طويلة، كي أتابع نقاشا، يخبرنا رئيس اللجنة بأنه لن يكون إلا: "تناظرا علميا على منوال الفلاسفة المتكلمين، ثم يشكر الأقدار السماوية، التي أحبت هاته المؤسسة، فحباها الله بخير الرجال الفضلاء ،إلى أن يرث الأرض ومن عليها".
لكن طيلة ظهيرة بأكملها، لن تصادف غير كلام خطابي عام، و"شكرني نشكرك، ومجدني نمجدك، وكذب علي نكذب عليك، ونافقني نافقك"، فيلقى بموضوع الأطروحة جانبا، وتتجه الأحاديث المتداولة نحو استمالة الأنفس والألباب. مبناها ومعناها، إضفاء الرمزية، كل بدلوه، على من أوكلت لهم مهمة أن يناقشوا المترشح، بحيث تنفرد جامعاتنا بخاصية أن الذين يمتحنون المناقَش على منجزه، أغلبهم في الواقع لا يكتب شيئا، اللهم ذلك العمل اليتيم الذي ولج به موقعه المؤسساتي!! من تم، نجد عندنا دكاترة، يدرسون هنا، ويقررون هناك، ويرأسون الشٌّعب، ويخلقون الوحدات، ويغلقون أخرى، ويملكون اليد العليا في تعيين هذا وإقصاء ذاك. كل هذا تحت مسوغ ''الجْبْهة'' ليس''جبهة الكتاب التقدميين'' مثلا، لكن من "سنطيحة" وجوههم السميكة القشرة، التي لا يحتبس بين شرايينها دم الحياء.
على ذكر الشكليات، التي تكلم عنها بدوي بخصوص الجامعة الفرنسية، فالوضع لدينا يأخذ طلاسم علاقة صوفية خاصة، بين المشرف والمتشرف بظله، تكريسا للبناءات العمودية، التي أرست هياكل المشيخة داخل المنظومات التيولوجية التليدة. هي ذاتها، المحددة لمجريات نظام الدكتوراه المغربي، فالطالب عليه التحلي ليس بجرأة الفكر النقدي، أو الروح البحثية المستقلة، فقط يلزمه إتقان فنون –في الغالب تبني منهج التقية ريثما يقضي حاجته- السماع والولاء وتقبيل الرؤوس والأيادي والطاعة العمياء والانبطاح التام والتمسح ببركات الأستاذ الجليل، الذي سينعم عليه فاتحا له سبل الشهادة وخلافته في المنصب.
إذا، أبان عن مستويات عليا في التبلد الذهني والعاطفي والسلوكي، فسيتدبر له لجنة من الأصدقاء والمعارف الذين سيقضون لحظة التقييم في دعابة ومرح، وما يبهج الحاضرين، ثم يختمون الظهيرة أو الأمسية، بوليمة سمينة تحوي ما لذ وطاب من الأكل والشرب، الذي سيختلف باختلاف المرجعيات العقائدية والمذهبية.
بناء على ما سبق، فالوزير الذي ركبه الغضب، لأن منبرا إعلاميا أزال عنه صفة دكتور، أقول له بما أن المشهد بالكيفية التي سردت، وجامعاتنا بهكذا حال، مصنفة خارج التصنيف العالمي، فلا يهم دكتور أم غير دكتور، هي ليست دعاية مجانية للجهل، لكن الأسمى من قطعة الورق مثلما الأمر مع الشهادة، أن يتسامى كل واحد منا بإنسانيته المجردة، ويقدم خدمات للصالح العام انطلاقا من موقعه، بألقاب أم بغيرها.
مئات الأطروحات، التي نوقشت داخل أسوار جامعاتنا، لكن ماهي الدرجات التي يتحول بها، عقلنا ومن خلفه واقعنا؟ مئات الأطروحات، التي أعادت تقليب بكيفية من الكيفيات، عناوين مكرورة ومستهلكة، واحتُفي بها إخوانيا بناء على نسق المشيخة دائما، لكن ماهي الأطروحات التي أخرجت من جوفها مفكرين حقيقيين، بالمعنى الكوني للكلمة، وغيرت رؤانا للذات والعالم والمحيط والناس؟ مئات الكتاب والمؤلفين، يؤثثون ما يخرجونه للقارئ بلقب دكتور، ويخبرون العموم بـ"دكتوريتهم"، لكن ماهو وزنهم الجدير بالتوصيف، سواء في التأثير على التوجهات العامة للدولة، أو قياسا لبوصلة مسار مجتمع لايزداد إلا تسطيحا وجهلا وتخلفا؟ سنكتشف بالكاد، أسماء معدودة على رؤوس الأنامل.
لم يكن عباس العقاد، أو مصطفى صادق الرافعي، على سبيل الذكر يطويان في جيبهما غير الشهادة الابتدائية، لكنهما بعصامية نادرة أغنيا الخزانة العربية كميا ونوعيا ،بعشرات العناوين. في المقابل، نتوفر اليوم على سيل عرمرم من "الخبراء" و"رؤساء مراكز الأبحاث" والدكاترة، الذين ينتفخون على مقاعد بلاتوهات التلفيزيون، مقاربين مختلف قضايا العلاقات الدولية، بنفس الخطاب المدرسي الإنشائي الجاهز.
إبان زمن الجامعة الفرنسية، كما انتقدها بدوي، فقد شكلت جل الأطروحات والأبحاث ثورة معرفية، مست المناحي الابستمولوجية والايديولوجية والأخلاقية، منهجا ونظرية، بحيث دل محور الدكتوراه عن انفصال فكري يسائل جدليا ما سبقه. هكذا، اعتبرت الجامعة قلبا نابضا للتحديث المجتمعي، وورشا مختبريا لتهيئ الفرد الجديد.
بل كتابات، خلخلت أسس النظام الفكري السائد، لم تكن أطروحة جامعية من مئات الأوراق، لكن مجرد مقالة تحليلية من صفحتين. فأين، نحن من ذلك؟