لا يستحي الكبار من طرد الصغار، ولا يتردد الأقوياء في استبعاد الضعفاء، ولا تتأخر القوى العظمى المنتصرة عن الاستخفاف بالدول المهزومة، ولا يجبن أصحاب المصالح عن فرض شروطهم، وتحديد طلباتهم، وهذا كله يتم على قواعدٍ من المصالح والمنافع، التي تفرضها القوة العسكرية والإقتصادية فقط، في الوقت الذي تغيب عنها القيم والأخلاق، إذ لا مكان على طاولة المفاوضات لغير الأقوياء ولو كانوا ظالمين معتدين، أو بادئين في الحرب والعدوان، ولا صدقاتٍ يقدمها الأقوياء، ولا إحسان يقوم به المقتدرون في السياسة الدولية.
ولا احترام لدولةٍ مسالمة لا تعادي أحداً، ولا تقدير لدولةٍ محايدة لا تتحالف مع أحد، ولا حرمة لشعبٍ يرفض التدخل في النزاعات الدولية، ولا يوافق على انخراط جيش بلاده في المشاكل والحروب، كما لا تعاطف مع دولةٍ معتدى عليها، ولا مع شعبٍ مضطهد، ولا انتصار لمظلوم، ولا هبةً لصالح أصحاب الحق، ولا إدانة لقاتلٍ، ولا استنكار لجيوشٍ تجتاح، ولا لطائراتٍ تغير، ولا لدباباتٍ ومدافع تدك وتقصف، وتخرب وتدمر.
ومن قبل لا تقدير لدولةٍ دينية تشكل لقطاعٍ كبيرٍ من سكان العالم رمزيةً كبيرة، فقد استهزأ بعض قادة الدول الكبرى من ممثلي دولة الفاتيكان، عندما أبدت رغبتها في المشاركة في الاجتماعات الدولية التي تلت الحرب العالمية الثانية، عندما اجتمع المنتصرون ليوزعوا غنائم الحرب فيما بينهم، فاستنكروا وجود الضعفاء، ورفضوا جلوس الحكماء، إذ لا مكان على طاولتهم للقيم الدينية والأخلاقية، وإنما الاحترام كله للقوة الغاشمة، وللجيش الذي لا يقهر، وللسلطة لتي لا تهزم، وللدولة التي لا تغيب عن مناطق نفوذها الشمس.
وعندما تنازعت الأرجنتين وبريطانيا على جزر فوكلاند، رفضت الأخيرة الجلوس إلى طاولة المفاوضات لحل الأزمة القائمة مع الأرجنتين على ملكية الجزر، ولم تستجب للنداءات والوساطات الدولية، وأطلقت العنان لبوارجها البحرية في عمق الأطلسي لتحسم المعركة كلياً لصالحها، مستخدمةً أقصى ما لديها من قوةٍ نارية صاعقة، أجبرت الأرجنتين على الصمت والقبول والتسليم والإذعان، في الوقت الذي وقف العالم مؤيداً لبريطانيا، مسانداً لها، لا لأنها صاحبة الحق، ومالكة الجزر، بل لأنها الدولة الأقوى، والأكثر فتكاً وتدميراً، بينما دان العالم صاحب الأخلاق والمثل الأرجنتين، ولامها على موقفها، وعنفها على سياستها، لا لأنها معتدية ظالمة، ولكن لأنها ضعيفة وغير قادرة.
وعندما يطلق الكيان الصهيوني حمم صواريخه، وتغير طائراته على لبنان، وتدك مدافعه ودباباته قراه ومدنه، وتجتاح سواحله وجباله، وتقتل شعبه وتشرد أهله، وتنتهك سيادة القوات الدولية، ومقرات الأمم المتحدة، وتقتل الآمنين فيه، واللاجئين إليه، والباحثين عن السلامة في ظل حرمته الدولية، يسكت العالم عن إسرائيل وهي المعتدية القاتلة، المغيرة الغاشمة، ويبرر لها جريمتها، وتنطلق أبواق الدبلوماسية الدولية، تدين لبنان وحكومته، وتطلق وابل تهديداتها للقوى اللبنانية المقاومة، وتتهمها بالتحرش بالقوات الإسرائيلية، والاعتداء عليها، وتهديد سلامة مستوطنيه ومستوطناته.
أما في غزة فإن العالم كله يجأر بالتوسل، ويضج بالصراخ، وتندفع كبار الشخصيات الدولية لزيارة الكيان، وتكثر حملات التضامن، ودعوات الاستنكار، إذا ردت المقاومة الفلسطينية على الإعتداءات الإسرائيلية، وحاولت أن تفرض عليه معادلة الأمن مقابل الأمن، إذا اخترق الهدنة، أو تجاوز التفاهمات.
فلا يجوز عرف المجتمع الدولي أن يرد الضعيف، ولا أن يعترض على الإساءة، ولا أن يبدي وجعه من الألم، ولو كان بالدماء مضرجاً، وبالحديد مسربلاً، وتحت الحصار مخنوقاً، أما العدو فلا يصح أن يبكي وإن كان يضرب، ولا يجوز أن تتألم يده التي بها يضرب ويبطش.
على السلطة الفلسطينية أن تدرك هذه المعادلة جيداً، فالعدو الصهيوني كأي عدوٍ آخر لا يحترم الضعيف، ولا يحسن إلى خصمه، ولا يتنازل له عما بين يديه وإن لم يكن له، ولا يرحم ضعف الشعب، ولا ينظر إلى معاناته، ولا يهمه إن كان يعاني ويكابد، ولا يعنيه الرأي العام، ولا الموقف الدولي، إنما الذي يهمه ويحركه هي مصالحه ومنافعه، ومكاسبه وعوائده.
إن فهذه المفاوضات التي تخوضها السلطة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، وإن كانت هذه المرة برعاية وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، ويبدو منها ومن حركته النشطة، وزياراته المكوكية أنها جادة، فإنها لن تفضي إلى شئٍ مما تحلم به السلطة، وغاية ما سيكون هو المزيد من شروط القوي على الضعيف، والجديد من أتاوات المنتصر على المهزوم، وزيادةً على ذلك فإن الطبيعة الإسرائيلية، والجبلة اليهودية، منذ مطلع التاريخ وحتى اليوم، تفاوض وتضيق، وتشترط خلاف المنطق، وتفترض غير المألوف، وتضيق الواسع، وتقسم المقسم، حتى أنها جادلت رب العزة، عبر كليم الله موسى عليه السلام.
علينا أن نقرأ التاريخ وأن نعي دروسه وعبره، وأن نتعلم من تجاربه وفصوله، فالفيتناميون فاوضوا الأمريكيين، ولكنهم أبقوا على مقاومتهم كما هي، ولم يصدورا أوامرهم إلى مجموعاتهم العسكرية لتتوقف عن أعمال المقاومة، ولم يضعفوا أمام الغازي الأمريكي الذي حرق بيوتهم، ودمر أحياءهم، في هجماتٍ لم يعرف التاريخ الحديث مثيلاً لها، وتمكنوا بقوة المقاومة، وفعل البندقية، وإرادة الصمود، من فرض شروطهم على الأمريكيين، الذين غادروا فيتنام، وهم لا يصدقون أنهم نجو بمن بقي منهم أحياء.
والدرس نفسه كان في الجزائر، رغم أنه كان أكثر دمويةً وعنفاً، حيث كان الاستعمار الفرنسي يقتل مئات الجزائريين يومياً، ولا يتردد في تنفيذ عمليات الإعدام والقتل والسحل والذبح والإلقاء من علٍ، والرمي تردياً من أعالي الجبال، ومن فوق الجسور، وفي عرض البحر، ولكن الثورة الجزائرية مضت، وحافظت على قوتها وعنفها الذي لا يلين، في الوقت الذي كان المفاوض الجزائري ينتزع حقه بالقوة من المستعمر الفرنسي، الذي ما كان يظن يوماً أنه سيخرج من الجزائر.
هل تعي السلطة الفلسطينية الدرس، وتحصن نفسها بالمقاومة، وتتمسك بها ولا تتخلى عنها، وتعظمها وتحترمها، ولا تصفها بالعبثية، وتتحالف مع قوى الشعب الفلسطيني كله، وتواجه العدو الصهيوني بالأسلوب الذي يعرفه، وباللغة التي يفهمها، فتكون دبلوماسيتها القوة، وفعلها المقاومة، وإلا فإنها ستكون على مائدة المفاوضات نهباً للعدو، ومطمعاً له منها في المزيد من التنازلات.