يقلب القاص التونسي خزين الطفولة ليستقي خلاصة تجربة حيوية تتعلق بالعلاقة بين أم تحلم بولدها قوياً وهو يدخل تجارب الطفولة والشارع ويعود مكسورا، تحثه على التعرف على مواقع القوة في نفسه ليتمكن من أداء ما يطلب منه، فيجرب ويجرب ليحصل على الدرس الأول في الفهم والمحبة

أجمل الحب

خير الدين الطاهر جمعة

بنظراتها العميقة التي تجوب أرجاء بيت جدي على نحو حزين ، استقبلتْني أمِّي في ذلك اليوم  الصَّيفي القائظ مساءً و بصوتٍ قاطع تكتنفه القسوة و الحدّة :

-                     أين الحليب ؟

نظرتْ إلى إناء الحليب الفارغ المتسخ في يدي فواصلتْ بصوت راعد :

-                     وين باقي الفلوس ؟؟

نكسْتُ رأسي  إلى الأرض فما كان منها إلا أن أمسكتني من ذراعي و انهالتْ على ظهري ضربا كعادتها حينما تغضب ، ثم دفعتني إلى الأرض و هي تصرخ : وِلدْ عمَّك جاب الحليب لأمّه و أنت ..

فقاطعتُها باكيا : أولاد الحي المجاور ضربوني ....

أمسكتني من كتفي وراحتْ تصيح بكل قوة : ما يْهِمْنِيشْ دَبِّرْ راسكْ ..ياخي ولْد عمك أقوى منك ؟ ..أنت عندي أقوى منه أما خَدِّمْ مخك شوفْ قوتك وين ...

تركتْني مرميًّا على الأرض وذهبتْ لا تلوي على شيء.....

كنتُ صغيرا لم أدخل بعدُ المدرسة الابتدائية...و كل غروب تبدأ رحلتي اليومية مع ابن عمي  إلى مقهى القرية لشراء الحليب الطازج فكنا نشقّ طريقا ترابيا تتكاثر به أشجار النخيل العالية و كانت المقهى تتوسط البلدة و من أجل الوصول إليها كان لابدَّ أن نصعد تلّةً غير بعيد عنها يوجد الحيٍّ المجاور ، كانت رحلة ممتعةً ...حتى جاء ذلك اليوم القائظ الذي اعترضنا فيه مجموعةٌ من الصبية ..صبية الحي المجاور ...أحاطوا بنا أنا وابن عمي أعلى التلة وما كنا نستطيع العودة أدراجنا و الليل قد لفّ القرية والبساتين بردائه الأسود ..كا نعلم أن أطفال ذلك الحي شَرِسُون و لكن لم نكن نتصوَّر أنَّ عنفهم سيصل ذلك الحد غير أن الذي لم أتوقَّعْه هو أن ابن عمي – ودون أن يقول لي _ غافلَهُم و بسرعته المعهودة انفلت يعدو هاربًا قبل أن يسدُّوا الشارع و هكذا وجدتُ نفسي في لحظة في مواجهتهم وحدي ، اقتربتُ من إحدى أشجار النخيل  لأحمي ظهري عبثا فقد ضربني أحدهم على جنبي و كان أكبر مني ، حاولوا مسكي لكني التصقتُ بالنخلة غير أن ذلك لم يمنعهم من افتكاك القِطَع النقدية من يدي و عمد أحدهم إلى ركل إناء الحليب الذي سقط من يدي واندلق على الأرض ، التصقتُ بالنخلة أكثر و فيما كانوا يتصايحون وهم يقتسمون القطع النقدية سحبتُ نفسي في خوف وشرعتُ أعدو في تعثّر غير مصدق أني نجوتُ.......

و الآن ماذا عساي أفعل يوم غد لو طلبت مني أمِّي الذهاب لشراء الحليب مجدَّدًا ؟!.. ليلتها لم أنمْ ..كنتُ أمنِّي نفسي أنَّ أمّي ربَّما تكلّف أحد إخواني الكبار بذلك و في الغد ادّعيتُ المرض و التعب ..كنتُ أنتقل من غرفة إلى أخرى عساها ترحمني من ذلك العبء ...لم أتغدَّ جيدا و عند الظهر أصابني الأرق كنتُ أفكر في كلمة أمي : " خدِّمْ مخَّك شوف قوتك وين .." لا أتصور أنني قد نمتُ و لكن ما كنتُ متأكدا منه هو أن نظراتها العميقة الخالية من أيِّ معنى كانت تخنقني ..

قبل الغروب بنصف ساعة  تقريبا سمعتُ صوتها يناديني حادا كالسكِّين فخرجتُ إليها ..وجدتُني أغرق في عمق نظراتها الباردة حين أمرتني بصوت قاطعٍ و هي تناولني الإناء مع ورقة مالية من فئة الدينار : "  امشِ اشري الحليب "  .

خرجتُ متثاقلا والمرارة تخترقني ، و في السقيفة وجدتُ ابن عمي ينتظرني بلامبالاته المريعة .....

في الطريق بدأتُ أفكر بعمق ، لم يُرِدْ ابن عمي أن نوجد حلاًّ جماعيا و لذلك تدثّرْتُ بالصمت الكاذب مثله ، ولكن عقلي الصغير لم يتوقف عن التفكير ، آخر الطريق الترابي بدتْ التلّة مقفرة إلا من أشجار النخيل العالية الجامدة من القيظ منتظرةً نسائم البحر الليلية الباردة ، مازال الصبيان لم تطردْهم بيوتهم المتباعدة بعدُ، كنتُ مسكونا بشيء واحد : العودة بالحليب و بقية الدينار قبل حلول الظلام ..ولكني كنتُ خائفا من أمريْن : الأطفال الشرسون الذين سيتربصون بنا في طريق العودة و كذلك وحوش الليل إذ تتحوَّل أشجار النخيل في الظلام إلى وحوش متمايلة  تتمدّد أغصان جَريدها المتدلّية نحو الأرض في شكل أذرع طويلة تخطف الأطفال و القلوب ..أحسستُ أنني سأفشل في هذه المهمة خاصة حين وقعتْ عيني على ابن عمي بلامبالاته المريعة وسُمْرته الشَّرسة ....

وصلنا إلى المقهى كان الكثير من الأطفال ينتظرون دورهم كالعادة عند الشباك الخارجي فاندفعتُ حاملا الإناء على رأسي ملوحا بالدينار باليد الأخرى و بعد دفع واندفاع وصلتُ إلى الشباك ناولتُ عمي الطاهر الإناء و الدينار فملأ لي: لترين من الحليب و ناولني بقية المال فأطبقتُ على القطع النقدية بكلّ ما أوتيتُ من قوة و عدتُ في رحلة الدفع والاندفاع إلى الخارج يتبعني ابن عمي ..و أخذنا في رحلة الصعود إلى أعلى التلّة عائدين إلى البيت ..الشمس تميل إلى الغروب و بدأ الاختناق يحاصرني ، كان ابن عمي يسير إلى جانبي حين لمحتُ أولئك الأطفال أعلى التلّة و كأنهم ينتظروننا كانوا يبدون من بعيد و كأنهم يتربّصون بنا بملابسهم الصيفيّة الخفيفة و جلودهم التي لفحتها شمس الجنوب و دبغتْها مياه البحر المالحة ..بدتْ لي الرحلة إلى أعلى التلّة طويلة لا تنتهي و كنتُ أبحث عن حلٍّ لمشكلتي قبل أن يداهمني الظلام ، أطبقت على القطع النقدية الصفراء بقوة وخفتُ أن تخذلني قدماي و واصلتُ البحث عن سرّ قوتي عبثا ..وفي لحظة وحين صرنا غير بعيدين عنهم تقريبا ..رأيتُ ابن عمي يقتفي أثر درَّاجةٍ عاديةٍ - كان عليها أحد الشباب العائد من المقهى  - ويقفز على المقعد الخلفي مختبئا وراءه واضعا إناء الحليب بين فخذيه ..عندها أحسستُ أن الحزن الحالك قد ابتلعني ووجدتُني وحيدا مرة أخرى..بيدين نحيلتين متعبَتَيْن شرعتُ أبحث عن سر قوتي عبثا واصطرعتْ الأفكار في ذهني كالمِرْجل ....وفي لحظة وجدتُ نفسي أتراجعُ إذ من الجنون أن أذهب إليهم بقدميَّ لستُ مستعدًّا أن يحدثَ لي ما حصل يوم أمس ..عدتُ أدراجي إلى المقهى ..دون أن أشعر كرهت نظرات الرجال الفضولية المشفقة الفارغة ، فخرجتُ عجِلاً ، و هكذا عدت إلى التلة أتأمَّلها عن بعد و قد غرقتْ في الظلام ..لمحتُ الأطفال وكأنهم بدأوا يتفرَّقون ,,و أخذتْ النخيل تلتحف السواد وُحوشًا من الظلال و الأشكال تحرِّكها نسائم الليل الخفيفة ...

قلتُ في نفسي عندما رأيتُ رداء اللَّيل يغطِّي التلَّة :

- " على الأقل وحوش الليل الطويلة لن تفتكَّ مني مالي ..ربما يمكن لها أن تخطفني و لكني لن أترك لها المجال!.

و هكذا قرَّرْتُ العودة بالمال و الحليب و مواجهة الوحوش رافضاً العودة بلاشيء و دخول معركة خاسرة .

التقطتُ عصا من جريد النخل يابسةً وجدتُها مطروحة في الطريق و أمسكتُ بيُسرايَ طرف الإناء والقطع النقدية الصفراء و أطبقتُ عليها بكل إصرار و شرعتُ أسير بثبات في كل خطوة أخطوها كانت عيناها العميقتان ترنو إليَّ بكل قوة وتشجعني و قد بدأ الخوف يتبدَّد ، شعرتُ بقوة دفينة تخترقني و امتنعتُ عن النظر إلى فوق حتى أبتعد عن وحوش الليل العملاقة لم أعد أحس بصغر حجمي ، سرتُ و أنا أشعر أن جسمي يتعاظم و يذوب مع نسمات البحر البعيدة ...يتخلّلني الظلام بروح يملأها العزم ..أنا والليل أخي و هذا الليل رفيقي ..لستُ وحدي ومن الآن فصاعدًا لن أكون بمفردي ...جزءا من رداء الليل كنتُ ..أتخفّى في الظلام ...قيظٌ وجهي و النسيمُ عيوني ...أمشي بقدمين ثابتتيْن ..خوفي يتبدد خلف رداء الظلام ..أفتح عينيَّ جيدا ..لقد تجاوزتُ التلة و لا أثر للأطفال ..أخُ الليل أنا و هاهو بيت جدي يبدو من بعيد بنورٍ خجولٍ وبياضٍ عتيق ..تعثّرْتُ بأحجار فسقطتُ ، لم تكتمل سعادتي فقد اخترق الشوك اليابس راحة يدي أحسستُ بشيء من الدم يسيل و ألم في ركبتي و لكنني لم آبَهْ لذلك ، ما آلمني هو أنَّ الإناء قد اندلق منه بعض الحليب أما القطع النقدية فقد ظلَّتْ في يدي أعصرها عصرًا و رغم ذلك كلِّه نهضتُ معتمدًا على مرفقيَّ ، لم يزعجني التراب الذي وسّخ ملابسي ، ولكني لم أبكِ ..صررْتُ على أسناني لأنني لا أريد أن أبكي ، كنتُ أشعر بالزهو و النصر ..أنا والليل أخي و هذا الظلام رفيقي ..أواصل طريقي والعصا الثقيلة أصبحتْ مؤلمة و زلِقةً في يدي مع امتزاج الدم بالعرق في راحتي ..

ألقيْتُها و أمسكتُ القطع النقدية باليسرى في حين تيبَّستْ اليمنى على الإناء لتحمي ما بقي فيه من حليب .....

ها أنذا أمام بيت جدي ، أدخل السقيفة فأفاجأ  بابن عمي باكيا و أمامه أمّه تصرخ في وجهه ، لقد قفز من الدراجة المسرعة عند المنحدر فانسكب الحليب وأضاع النقود وانكسرتْ سنّه أيضا ، بدتْ الدماء تسيل من أسنانه الأمامية ..رغم كل ذلك لا ألتفت إليه ، أواصل الطريق إلى فناء البيت فأجد أمي عند باب غرفتها واقفة تخفي جزعها عبثًا ، أتقدَّم منها ، أقف أمامها بملابس متسخة و إناء به قليل من الحليب ، أمدّ يدي إليها مناولاً إياها القطع النقدية التي امتزج لونها الأصفر بدمي و تبلّلتْ برائحة عرقي الخفيف ،  تأخذ المال ، تتأمله جيدا ، تنظر إلى الإناء ، رأيتُ في عينيها فرحا وشموخا ، مدَّتْ يدها لتداعب شعري متحاشيةً النظر إليَّ..و لكنني استرقتُ النظر إليها فرأيتُ عينيها تلتمعان فرحًا بحزن...

ليلتها بدأتُ أفهم لأوَّل مرَّة سرَّ نظراتها العميقة و سبب حزنها الذي يجوب زوايا بيت جدي ......

كان أول درس صامت أتعلّمه ...

ليلتها خًيِّل إليَّ و أنا في مثل تلك السن أنِّي عرفتُ أسرار القوة وأوهام الضعف .....

و لكنَّ الشيء الوحيد الذي عرفتُه حقًّا هو أنَّ حبَّها لي يجلُّ عن الوصف...

 

تونس-  ديسمبر 2009