تبني القاصة السورية نصها على ثيمة عناء الحياة ومحاولة بطلتها الراحة في الاعتزال في بيت بعيد عن صخب المدينة، ومن هنا تدخل الشخصية عالم الوحدة المكتظ بالخيالات التي ترعبها أول الأمر لكن سرعان ما تتوحد مع عزلتها لتعيش مع تلك الخيالات ببهجة.

الجيــــران

وفـاء خـرمه

        إذا كان بيتي قائماً على تل فلأنني اخترت المكان بعد بحث طال. هكذا أحببته مرتفعاً يشرف على غابة غير بعيدة، وعلى أرجاء برية واسعة تحيطه على مدار العام بأخضر نباتها ويابسه وبالأخص بزهورها التي تطلع في الربيع صانعة من الأرض سجادة ملونة تحس وأنت تنظر إليها بجمال الكون كله !

        ولا أخفي أن اختياري هذه البقعة البعيدة كان دافعه أيضاً الرغبة في عيش هادئ بعد سنين طويلة سلختها من عمري في جو المدينة المزدحم والممتلئ بالضوضاء.

ولما لم يعد في جعبتي ما يسمح لي باقتناء أثاث جديد فقد فرشته بقطع أثاثي القديم معتمدة أسلوباً جديداً في ترتيبها محاولة بتعديلات مبتكرة صغيرة وفي جو المكان الجديد أن أجعلها تبدو أجمل وأكثر اختلافاً ... وحين انتهيت من وضع آخر كتاب على رفوف مكتبتي أشعلت الموقد الجداري الذي استعرت تقليده من بلاد بعيدة، ملأت جوفه بالحطب واسترخيت على مقعد مريح أتأمل ألسنة النار... ما الذي رأيته وأنا أحدق في الألسنة الحمراء والصفراء؟ هل غفوت فحلمت أم غزا ضياء النار عيني فشوَّه انعكاس الأشياء على عدستيهما ؟ إنّ ما رأيته خلف النيران على الخلفية الحجرية لذلك الموقد كان يداً بشرية! تحركت اليد يميناً وشمالاً ... مدت أصابعها باتجاهي وكأنها تهم بخنقي؟ لم يُجدِني فركي عينيَّ ثم فتحهما، كما لم تُجدِ مغادرتي المقعد إلى المطبخ لأتشاغل قليلاً قبل أن أعود بخطوات متوجسة فأختلس النظر إلى ما وراء النيران... كانت اليد هناك في كل مرة... يد من لحم ودم تتحرك وتحرك أصابعها في إشارات عشوائية تارة وواضحة الإيماء تارة أخرى... مشكِّلة قبضة مهددة، أو رافعة السبابة محذرة... أو ملعبة الأصابع كما لو كانت تحرك دمى مسرح للعرائس.

        حين فتحت عيني صباح اليوم التالي تناهى إلى سمعي أنين... بدا لي صادراً من مكان بعيد أو عميق... نهضت وأنا أقاوم خوفي، فتشت البيت شبراً شبراً... دققت في جميع زواياه علي أعثر على مصدر الأنين آملة أن يكون قطاً أو كلباً جريحاً شارداً تسلل إلى البيت بطريقة ما... لكن بحثي لم يسفر عن نتيجة... بدا الأمر غامضاً غموض تلك اليد التي سرقت صورتها النوم من عيني طيلة الليل.

بخار القدر الذي انطلق في موجات متصاعدة اخترقت ضبابه فجأة رِجل... رِجل رفست غطاء القدر فطار بعيداً. سعيتُ هاربة... فتحتُ الباب وخرجتُ راكضة في أرجاء البرية كما لو أن الرِجل يطاردني ! لكني رأيتني ، ويا لعجبي، استعيد  هدوئي تدريجياً فأنكفئ عائدة إلى البيت... أدخل المطبخ... أرفع غطاء القدر... وأتناول غدائي بشهية!

        لا يسعني أن أشرح تفصيلاً كيف جرت الأمور بعد ذلك، وليس من المجدي كما أرى، أن أصف بدقة كل واقعة حدثت لي في بيتي الجديد الجميل... بيت أحلامي وواحتي في سنوات عمري الباقية... حسبي أن أوجز فأقول أني صرت كيفما تحركت أقع على عضو من جسد بشري... عين طفل تحدق إليّ بقوة من قلب شاشة عمياء لرائي لم تمتد يدي لتشغيله بعد ... ثدي امرأة ينضح حليباً يرتسم على هذا الجدار... وعلى ذاك رأس رجل بلحية طويلة... وعلى باب غرفة النوم الذي هممت بفتحه تبدّت عنق تضغط عليها يد فسمعت حشرجة الاختناق .

        وصرت أقع بعد ذلك، وأنا أتحرك في أرجاء البيت، على قامات بشرية كاملة أراها تتصارع حيناً أو تجلس بهدوء تشرب القهوة وتدخن فلم أعجب بعدها من تناقض كمية القهوة في خزانتي ولا من فناجين وصحون ملقاةٍ بإهمال في حوض المطبخ... كما لم تعد ترعبني أصوات تأتيني في أي لحظة من هنا أو هناك... في الطابق الأعلى أو الأسفل... أو من خارج البيت في الحديقة أو حتى من عمق الغابة البعيدة... وانتابني إحساس بأن هؤلاء جميعاً سكان يقيمون في باطن هذه التل التي أقمت بيتي أعلاها... وأنهم أشبه بجيران لا يتمالكون أنفسهم عن الإزعاج بمختلف الطرق.

أمس تدفقوا إلى داخل البيت رجالاً وأطفالاً ونساءً ... رأيتهم بعين الحقيقة... سمعت جلبتهم... انتظم بعضهم في صفوف... رفعوا بأيديهم آلات موسيقية، فانطلقت ألحان عذبة دفعت الباقين إلى وسط القاعة حيث تحلقوا وشرعوا يرقصون متماسكي الأيدي يعلو وجوههم الابتسام والرضا ، تتلاصق أجسادهم حيناً وحيناً تتباعد في حركات مدروسة متقنة... ترتفع أذرعهم في الهواء كما لو كانوا يؤدون تحية جماعية... ثم تهوي الأذرع لتتقاطع في منتصف الدائرة فتتراكب أكفها وتتجمع كأن أصحابها يؤدون فيما بينهم قسماً، وذلك قبل أن يتباعدوا من جديد معاودين تشكيل حلقة الرقص.

        ووجدتني أترك زاويتي... أتقدم منهم وأمد إليهم ذراعيَّ لأشتبك معهم في حلقة رقصهم تلك !