هذا جليس ماتع الصحبة، أنيس الرفقة، شيق المطالعة، متنوع المحتوى، رحيب المبنى، وعميق المعنى، لأنه منخول ومستل من معانى جليلة الأثر، جلية النظر في وقائع الحياة الفكرية والثقافية والإجتماعية في أوروبا، لا سيما وأن موضوعاته في عمقها الفكرى تتناول قضايا إندماج الأقليات في ألمانيا، وتفاعلات الإسلام في أوروبا من خلال تراجم بعض الأعمال الهامة لكبار المثقفين والمفكرين والخبراء الألمان. وهي موضوعات شديدة الحيوية، عميقة الفاعلية والجاذبية، ماتزال تصطخب بكثير من الجدل بين المثقفين والمفكرين والساسة وصناع القرار في أوروبا.
(أحاديث برلينية) عنوان يختزل تجربة حياة مفعمة بالنشاط والحيوية، صاخبة وممتدة لا تعترف بحدود جغرافية للممكن والنسبي لأنها زاخرة بالإنجاز وحافلة بالثراء والتنوع، يمتزج فيها الذاتي والموضوعي والإجتماعي والأدبي والفكري والثقافي بسلاسة عذبة وترابط منطقي بديع. ويستبطن العنوان معاني طريفة ممعنة في الجنوسة، لأن الكاتب أرتبطت حياته المهنية ودفقات يراعه الفكرية وسمات عطائه الثقافي بترميزات عميقة لبدء الحياة في غرفة الولادة التي يستهل بها الطفل صرخة الميلاد. وغرفة الولادة هي المسرح الذي ظل يعتليه الكاتب في حياته المهنية الممتدة زهاء أربعة عقود، ممسكا بالمقصات والمشارط والأدوات الطبية المتنوعة حتي يخرج الطفل من ظلمات الأرحام الي أنوار الحياة. وكذلك محتويات هذا الكتاب التي تحفل بالقضايا التأسيسية المتفجرة، وتموج بالإشكالات الفكرية والثقافية المتشابكة خاصة تفاعلات الإسلام في أوروبا وسرديات السيرة الذاتية والمذكرات الشخصية، والإبداع الأدبي والقصصي النابع من توترات حالة المنفي و الإغتراب الذاتي. وعليه ينطلق الكاتب من وعيه الذاتي بنفسه كمثقف عضوي يهتم بأداء دوره في المجتمع، وثاب نحو المطلق،غير هياب ولا مكترث للسائد من التنميط والمعايير التقليدية.
تستعلي رمزية المثقف علي إرتكاسات الواقع لنشدانه تمثلات الحقيقة وتجلياتها في الضمير والوعي، ورفض المساومات علي الظرفي والعابر والبراغماتي. قلبت مع أنطونى غرامشى دفاتر السجن فأهتديت الي أن المثقف العضوي رغم اجتراحاته العميقة إلا أنه يضم أصحاب المهن والتخصص ممن يرفدون الوعي العام بخدمات فكرية جليلة، أو نشاط خلاق أو خبرات موجهة لكسب رأي المستهلك أو الناخب في المجتمعات الديمقراطية، ويعملون من خلال تكثيف الوعى الجمعى الي خلق ثقافة جديدة.
ويعتبر غرامشى أن كل الناس مثقفين، ولكن الفرق الحاسم أن أغلبهم عاجز عن أداء دور المثقف الحقيقي في المجتمع. ولكن يفرق غرامشي بين المثقف في حدود وعيه الذاتي، وبين من ينتدب نفسه ليقوم بدور المثقف في المجتمع. وبهذا المعني فإن الدكتور حامد فضل الله مؤلف هذا الكتاب لا يقع ضمن تصنيفات المثقف التقليدي الذي كان يراه العالم الموسوعي عبدالله الطيب بأنه الشخص المتعلم الذي يأخذ من كل علم وفن بطرف. ولكن بحكم تخصصه المهنى، ونشاطه الثقافى، وإبداعه الكتابي وناشطيته الحقوقية يعتبر مثقفا عضويا صلدا، لأنه يقدم خبرات فكرية تصب في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع ويصطنع نشاطا خلاقا، ويهتم فوق ذلك بأداء دور المثقف الحقيقى في المجتمع.
وعندما دققت مع إدوارد سعيد في محاضراته النابضة في برنامج ريث مع الهيئة البريطانية عن (صور المثقف) توقفت عند مفهومه الحاذق عن (المنفى الفكرى) وتداعيات المثقف في منفاه الجديد، و يقول إدوارد سعيد إن (المنفى يعيش في حالة وسطية لا ينسجم تماما مع المحيط الجديد، ولا يتخلص كليا من عبء البيئة الماضية، تضايقه أنصاف التدخلات وأنصاف الإنفصالات وهو نوستالجي وعاطفى من ناحية ومقلد وحاذق ومنبوذ لا يعلم به احد من ناحية اخرى). ودكتور حامد فضل الله يعتبر نموذجا مغايرا لحالة المثقف في المنفى الذي أطلق عليهم أدوارد سعيد أسم (مغتربون وهامشيون)، فهو من ناحية لا يعتبر نفسه أجنبيا ولا يحس بالغربة. عندما أختارته صحيفة تاقسشبيجل الصادرة في 3 يونيو 2013، كشخصية إستثنائية في برلين مع عدد قليل من الألمان المنحدرين من أصول أجنبية قال للصحيفة أنه لا يحس بأنه أجنبي في ألمانيا، وقال (أنا لا أشعر بأننى أجنبي في برلين، ولم ينتابنى انطباع بالغربة على الإطلاق. ففي عام 1957 سافرت لأول مرة من السودان إلى ألمانيا الشرقية سابقا لدراسة الطب. وفي فترة الإمتياز عدت إلى السودان مرة أخرى، ولكن الثقافة الألمانية رافقتني. وفي خلال الحرب الأهلية في جنوب السودان حيث كنت أعمل طبيبا عسكريا، تعرفت على مهندس ألمانى يعمل بمنظمة الأمم المتحدة. لقد قمنا أنا وزوجتى بدعوة هذا الشخص للإحتفال معنا بعيد الميلاد في منزلنا. وقد أصابته الدهشة عنما سمع أناشيد عيد الميلاد بالألمانية معنا!). وهو بهذا الوصف يعتبر نفسه مثقفا تخلو جيناته من داء الغربة، ويصفو دمه كذلك من تلوثات الإحساس بالمنفي. ولكن بهذه الكلمات يجد حامد فضل الله نفسه في مواجهة فكرية افتراضية مع إدوارد سعيد الذي يؤكد ان المنفيين اللامستوعبين حسب تعبيره، وهم من القلة المهاجرة للمجتمعات الغربية تتعقد حيواتهم مع التجانس التكوينى المفترض للمجتمعات الجديدة، والمثقف الذي يجد نفسه في هذا الوضع كما يقول إداورد سعيد يكون: "علي الأرجح مصدرا لا للتثاقف والتوافق بل للتقلب واللاإستقرار".
إذن في الوقت الذي يبرز فيه د. حامد فضل الله نفسه كمثقف كامل الإندماج في المجتمع الألماني لا يحس بالغربة ولا تلوثات المنفى الفكرية، يري إداورد سعيد أن المنفي هو حالة فعلية وحالة مجازية، ويقرر بوثوقية عالية أن المثقفين المنتسبين مدي الحياة الي مجتمع ما، ينتمون إليه كليا ويزدهرون فيه دون اي شعور بالتنافر يمكن تسميتهم بالإمعيين لأنهم منفيون فيما يختص بمصادر الحفاوة والامتيازات والسلطة. وهو بهذا المعيار يقرر أن كسينجر وبرزنسكي مفكران في المنفى نظرا لخلفيتهما اليهودية والبولندية رغم تفتق عبقريتهما في الولايات المتحدة. وبهذا فإن إدوارد سعيد – على عكس النموذج الذي حاول أن يبرزه حامد فضل الله- ينكر حالة الإندماج الكاملة لأي مثقف في المنفى، مهما بلغ تناغمه وذوبانه وإستيعابه في ذلك المجتمع لأنه في كل الحالات يصبح محروما من الإمتيازات الحقيقية فى ذلك المجتمع خاصة تلك التي تتصل بالسلطة والثروة ومصادر الحفاوة الأصلية.
يستشهد بيتر واطسون في كتابه (العبقرية الألمانية) بالمفكر الفرنسى والكاتب اليهودى جوليان بندا صاحب كتاب (خيانة المثقف)، والذي أيضا أعتمد عليه إدوارد سعيد في سلسلة محاضراته سابقة الذكر، وانتقد بندا ضمن إنتقاداته لمثقفى أوروبا، مسار المثقفين الألمان الذين خانوا رؤية التاريخ لأنهم لم يجسدوا نموذج المسيح او سقراط، وقال انهم يتحملون وزر النزعة الشوفونية والعصبية القومية، التي قادت الي تفجر مآسي الحروب العالمية منها والمحلية، وهو في هذا السياق يصوب لومه أكثر علي المؤرخين أكثر من الأدباء والمفكرين والفنانين. وبالتالى فإنه حسب هذه الرؤية أن العصبية القومية الكامنة في الفكر الأوروبى تجعل من عملية الإندماج الكامل لما أسماه إدوارد سعيد عملية النزوح والرزوح صعبة أو شبه مستحيلة.
في دراسته الرائدة عن (المسلمين والعرب وإشكالية الإندماج في المجتمع الألمانى ودور النخبة العربية)، والتي ترد في مستهل الفصل الثانى من هذا الكتاب، يخالف د. حامد فضل الله جملة التوجهات الفكرية التي صدع بها إداورد سعيد في هذا الشأن، فهو يري أن أكبر معوقات الاندماج هو الخوف من فقدان الهوية العربية والإسلامية، ولكنه في المقابل شديد الإقتناع أن الإندماج ممكن دون فقدان هذه الهوية، لأن القومية والدين حسب رأيه لا يلعبان دورا فعالا في المجتمع والدولة الألمانية.ويشير في المقابل الي تيارات المقاومة الداخلية حيث كشف إستطلاع سابق أن 75% من الشعب لا يؤيدون هجرة المسلمين الي ألمانيا كنتيجة طبيعية وحتمية للإسلاموفوبيا.وينحو باللوم الي قصور الجاليات وتردد النخب العربية في إختراق وولوج المؤسسات السياسية والإجتماعية والثقافية الألمانية، وعجزها عن تكوين لوبي مساند للقضايا العربية. وهو في نهاية المطاف شديد التفاؤل بإمكانية الإندماج والتفاعل الخلاق مع المجتمع الألماني دون أي خسائر فكرية أو ثقافية أو دينية للأقليات المهاجرة.
ويمثل الكاتب في نشاطه الخلاق مزيجا مركبا من خصائص المثقف العضوي، الذي لا يحصر دوره في توليد الأفكار، وبلورة الرؤي والتصورات، ولكن يحتفي بدوره في تشكيل الوعي الجمعي. فلا تكاد تذكر فعاليات النشاط الثقافي للجالية السودانية أو العربية في برلين خلال نصف قرن من الزمان إلا يطل عليك أسم الطبيب السوداني حامد فضل الله كأبرز وجوه الفعل الثقافي في جيله. له نبع من البذل لا ينضب، و معين لا ينقضى، وأياد سابغات لا تنقبض، وتدفق إنساني شفيف لا يعتكر ولا يجف. وحامد فضل الله من الجيل الثانى للسودانيين الذين درسوا بالخارج،إذ جاء الي ألمانيا الشرقية محمولا علي أجنحة الطموح والحلم عام 1957 لدراسة الطب. أشتمل الجيل الأول علي رواد الثقافة السودانية أو ما أطلق عليهم صاحب أصول الفكر السودانى (جيل اليقظة) منهم د. سعد الدين فوزي صاحب أول دكتوراه في الإقتصاد، البروفيسور عبدالله الطيب، ود. احمد الطيب صاحب أصوات وحناجر وهؤلاء درسوا في بريطانيا العظمى، وفي الضفة الأخرى من النهر ذهب عقيل أحمد عقيل الي فرنسا. أما الجيل الثانى الذي غادر للدراسات العليا الي أوروبا فقد ضم د. مدثر عبدالرحيم ود.منصور خالد، ود. حسن الترابى وغيرهم، وكان منهم هذا الرهط الذى جاء الي ألمانيا الديمقراطية عام 1957، فرشفوا من نبيذ التجربة، وإرهاصات الشيوعية، والفلسفة الماركسية، حيث كان يلتقى العالم هناك مع تطلعات الثورة وأفق العبور ولعنات الإمبريالية. صدمته تهريجات أحدهم وهو يخاطب القادمين من وراء البحار، أن هؤلاء الجياع القادمون من أفريقيا سيحملون مشاعل الوعي الماركسى الي أولئك العراة في تلك المجاهل.
ينحدر الكاتب من أرومة أصيلة في السودان حملت معها تطلعات التعليم والتجارة من دار الجعليين الي أمدرمان. جاءوا من شندي التي رفدت أم درمان بالطنبارة، والبطان ورقصة الصقرية وقصص البطولة والمقاومة، ومنها تفرقت ببعضهم سبل الحياة الي الأبيض والمسلمية ومدن السودان الأخري. وتحمل أسرته في وجهها وشم الفن وتجري في عروقها جرثومة الشعر، فعمه الشاعر الكبير محمد عوض الكريم القرشي الذي شكل ثنائية رائعة مع الفنان الخالد عثمان الشفيع، وتكاد تلامس ذلك الحس الفني الشفاف في عصب الكاتب، وحسه الأدبى وفنه التعبيرى، وشعره النثرى والشعبى ويسمها بتلك الغلالة الراعشة من حسه الإنسانى الشفيف، ومنمنمات اللون والحروف التي تستقي من نهر الفن وبحر الجمال. تعتبر مهنة الصحافة والكتابة جزءا من تراث الأسرة الممتد، فقد أصدر الشاعر الكبير محمد عوض الكريم القرشى صحيفة يومية أسماها (الجريدة) بعد ثورة أكتوبر 1964 إلا أنها لم تعمر طويلا، كما أشتهر عمه محمد الشيخ القرشي المسمي بـ(القرشي الصغير) مع الفاتح التيجاني بأنهما من رواد الصحافة الإقليمية، إذا أصدر بعد تجربة الفاتح التيجاني الرائدة صحيفة دورية في الأبيض، كما عمل مراسلا ومحررا إقليميا لصحيفة الرأي العام لعقود خلون.
كان الفتى يحمل قلبا راعشا وجلا من تجربة الغربة التي تلوح في الأفق، فأخذه والده الي السيد علي الميرغني زعيم وشيخ الطريقة الختمية فبارك رحلته بالفاتحة والدعوات،وفي مدينة لايبزج بألمانيا الشرقية تفجر الحلم..حيث كان يختلط الصحو بالمنام، والماركسية بالنبيذ، والرقص بالصلاة..قال الطيب صالح يصف لحظة وصوله لندن،أنه كان يحمل مصحفا ومصلاة ومعطفا أكبر من جسمه وشاربا كثا،وبعد تداول الأيام إختفي المصحف والمصلاة، وغدا الشارب محفوفا وأكثر أناقة وبريقا، وصار المعطف مستويا علي الجلد الأملس وكان في الوجه نضرة وفي الجيب مال. أما حامد فضل الله فقد وصف لحظة هذه الصدمة الحضارية بقوله (لايبزج مدينة الجمال والنور والحلم، البشرة البيضاء والوجوه اللامعة، تعليم اللغة الألمانية واللآتينية، الصدمة الحضارية مقهى أورباخ وركن جوته، معاقرة بنت الحان، الغثيان ودوران السرير – الخوف والندم، العبقريات – الفتنة الكبرى، مرآة الإسلام، ماركس والماركسية، لينين واللينينية، الهذيان وحافة الجنون – إن القابض على دينه كالقابض على الجمر. في أعياد الميلاد نستمع الى أغاني"كورس"بنات المدارس وجوه الملائكة وتغريد البلابل..يهتف بلال هذه عصافير الدنيا.كيف تكون عصافير الجنة؟ يا الهي).
لم يخرج الفتى بأسئلة وجودية حائرة في ذلك الوقت إذ كان الجميع يشرب أنخاب التحرر ويعد أنفاس الإستقلال، ولم تكن إرهاصات الصدام الحضاري قد شكت سهمها في عقل المثقف السوداني بعد، رغم فوران الهوية وثورة التحرر التي عبر عنها شعراء المارتينك ومدرسة الزنوجة وفرانز فانون في ثورة الجزائر. جاء الفتى متطلعا لدراسة الطب بعد أن سدت في وجهه جامعة الخرطوم،وجامعة القاهرة التي تحصل فيها علي منحة لدراسة الطب البيطرى بينما فاز أبناء السادة بالكليات الأعلي مع منح إعاشية كاملة.
تشكلت ثقافة الكاتب الباكرة وتوجهاته الفكرية من مصدرين، هما ثقافة أمدرمان التي عاش وترعرع فيها خاصة في فترة الفوران الثورى ومعركة الإستقلال والندوات والمناظرات التي كانت عنصر إبهار للشباب المتطلع، تغذيه تجليات الحراك الثقافي المبدع و الحوار السياسي الفاعل .كانت أمدرمان هي بوتقة الحياة الإجتماعية والسياسية وأكبر مصاهر الهوية الوطنية في السودان، منها خرجت أغنية الحقيبة، ومنها تدفق جل النشاط المسرحى والفنى والرياضى الذي شكل هوية السودان الثقافية والإجتماعية في تلك الأيام . أما المصدر الثانى فهو الثقافة المصرية الليبرالية التي كانت كما قال الشاعر التجانى يوسف بشير هي العلائق الوثقى الباقية. ومصر كانت مصدر الإشعاع الثقافى المتقد وموئل النخبة السودانية، كانت تمور بنشاط أدبي وفكري خلاق وكان رموز فترة النهضة الأدبية في مصر مصدر إلهام وتطلع للمثقفين السودانيين ماعدا قلة تعلقت بالثقافة الغربية. وتكشف المناظرة التي تمت بين حسن صبحي (أول رئيس تحرير لجريدة النيل) ومحمد أحمد المحجوب حينها عن عمق الجدل حول توجهات الثقافة السودانية وأمكانية إستقلالها عن مصر. تبني المحجوب والذي يعتبر أحد رموز وأساطين الدفاع عن الهوية و الثقافة العربية الإسلامية الرأي الإستقلالى، مشيرا الي أن مصر مقلدة وعالة علي غيرها والسودان بمقدروه أن يتصل بالمراكز الحضارية والثقافية الأصيلة لينهل منها دون المرور عبر القنطرة المصرية، مؤكدا أن مصر تفتقد هي نفسها لهوية جامعة للأدب القومي، معددا بعض المحاولات النثيرة في هذا الإتجاه. وهو ذات الرأي الذي صدع به بعدها حمزة الملك طمبل عندما نادي بتوطين خصوصية وقومية الأدب السوداني بعيدا عن الثقافة المصرية. أما الأستاذ حسن صبحى فكان يري أن السودان لا يملك مقومات الإستقلال الأدبي ومجافاة تيارات النهضة الثقافية والأدبية في مصر.عاد المحجوب ووثق لحجته وبسط رأيه ومناظرته التي نشرتها صحيفة الفجر عام 1935 في كتابه (نحو الغد) الصادر عن جامعة الخرطوم عام 1970. قال المحجوب موضحا رأيه الراجح في هذا الشأن: " ستصبح للسودان ثقافته الخاصة به المنفصلة عن الثقافة المصرية المستمدة منها بعض نورها، والمشعة عليها بعض خيوطها الفضية الجميلة، والسودان وأبناؤه لابد ساعون لخلق ذاتيتهم وتكوين شخصيتهم وثقافتهم التي يجب أن يعرفوا بها لدي العالم لأننا نريد الحياة والبقاء". وطلب في ختام مرافعته الأدبية القوية من أدباء مصر التفهم العميق لمرامي وغايات فصل الأدب السوداني وإستقلاله عن الأدب المصري داعيا للتفاعل التلقائى والتعاون بينهما، وقال: " أننا لا نرضى بكم بديلا، ولكننا لا نستطيع أن نقول لكم أننا نفضلكم على أنفسنا، فهذا منطق لا يقبله عقل".
تعرض الكاتب في فترة إقامته القصيرة في مصر عام 1955 الي شعاع من توهجات الثقافة المصرية حيث حضر لمدة عام كامل (حديث الأربعاء) لعميد الأدب العربي د. طه حسين وتفاعل مع مبدعى مصر، وكان يتردد علي مدرسة الألسن، ونادي القصة، وعاصر حينها في القاهرة الجيل الثانى من رواد النهضة الشعرية في السودان، الفيتورى، جيلى عبدالرحمن، تاج السر الحسن وغيرهم. هذا فضلا عن تعلقه بمجلة الآداب البيروتية التي كانت حينها هي مركز النشر للنخبة العربية المبدعة، والنافذة التي تطل بها الأصوات الشعرية الجديدة علي عقول وقلوب جمهرة المثقفين. ولكن رغم إنتماء الكاتب الأصيل الي ثقافة أمدرمان ومؤثرات الثقافة المصرية الليبرالية إلا أنه لم يرهن نفسه عندما جاء الى ألمانيا الي هذين المصدرين، بل أنفتح الي العوالم الجديدة التي كانت تفيض بالجدل الماركسى وتزخر بالأضواء الباهرة، وتنهض بالأفكار الثورية والشعارات التقدمية. كان قد تعرض الى ما أسماه غسيل مخ شديد التنظيف إلا أن النظافة لم تكن كاملة حسب وصفه، فنجا من الوصم الغليظ بالماركسية الكاملة ليصبح يساريا مستقلا وعلمانيا معتدلا.
شهد مطلع الستينات في ألمانيا تفجر أسئلة الهوية الكبرى وعذابات الإنتماء بتلقائية بين شباب ذلك الجيل المتطلع، نتيجة التفاعل الخلاق مع البيئة الجديدة. ولعل البداية كانت بين النور عثمان أبكر الذي أصطك مصطلح الغابة والصحراء، و محمد المكى إبراهيم رائد هذا التيار الشعري وأحد كبار مؤسسيه الذي جاء في إجازة صيفية عابرة الي ألمانيا ومكث فيها ثمانية عشر شهرا فعاد الي السودان وفي جعبته قصائد الغربة ومتاهات العودة والنداء الجميل الي هايدى، وكذلك جينات التيار الشعري الذي شكل توجهات الجدل والنقاش حول الهوية وأشكال التعبير الشعرى كناظم جمالي كما قال الناقد الحاذق عبد المنعم عجب الفيا. في ألمانيا تذوق ذلك الشباب المتطلع حلاوة ان يعيش الحمي والرعب وأن يصمد للجليد، كان إيقاع الجاز كما قال محمد المكى في شعره يثب في أعصابهم امـلساً، رخواً، مديداً خائناً ومبهماً مثل عيون المئذنة، و مليئاً بالشجن و الجوع و الرعب الخرافى الأصول ولكنه عاد بلا أبل يسوقها، وبكف ملؤه قبض الريح وحب الحصيد.وعندما غادر ألمانيا الي السودان كتب رائعته الخالدة..
سأعود لا إبلا وسقت ولا بكفي الحصيد روائعا
مدوا بساط الحب واغتفروا الذنوب
وباركوا هذي الشهور الضائعة
ما زال سقف أبي يظلُ.. ولم تزل أحضان أمي
رحبة المثوى مطيبة الجناب
كانت ليالينا بلون الثلج كنا نرقص الشاشا
ويفضحنا النهار
خرست تعاويذ الجدود، تساقطت شعل الحنين
كسا ذوائبها غبار
في ظلمة التابو تسلقنا نحاس البوق
وانفتحت مسالكنا الى رحم الحياة وطيبات عطائها
أنثى من اللحم الصقيل توهجت خصبا
وضج النسل في اعضائها
ومواسما طفح النبيذ، مواسما دفء الربيع سرى
تذوقنا حلاوة أن نعيش الرعب والحمى
ونصمد للجليد
عندما كان النور عثمان أبكر ومحمد المكي إبراهيم في ألمانيا يشكلان جينات هذا التيار الشعرى كان حامد فضل الله في السنة الثالثة بكلية الطب في جامعة مارتن لوثر بمدينة هالا. لم يستشعر حينها أسئلة الهوية التي أرقت الشاعرين. ولكن بعد نصف قرن يعود حامد فضل الله ليركز ترجماته ودراساته عن الهوية وأسئلة الإندماج في المجتمع الألمانى.
يقول الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم عن ألمانيا في ذلك العهد من مطلع الستينات في توثيقه الرائع عن التاريخ الشخصي للغابة والصحراء: (تميزت ألمانيا الستينيات بروح الندم والتكفير عن خطاياها في الحرب الأخيرة وانسياقها وراء الدعاية العنصرية التي جعلتها تحارب العالم أجمع وجعلتها تتصرف بإحتقار نحو كل الأعراق والأجناس. ولم يكن ذلك تيارا فكرياً أو تنظيراً لدى مجموعات من المثقفين وإنما كان روحاً شعبياً عاماً وفي كل مطاعم ومقاهي ألمانيا لم تكن تعدم من يستأذن عليك ليقول لك انك مخلوق بشري مثله تماماً، وأنه لا يفهم كيف كان عكس ذلك يقال لهم. وكان ذلك البوح البشري الدافئ يتكرر برتابة تدعو للضجر كما انه اقترن بدرجات من الثمل جعلتنا نستقبله بنوع من الفتور، ثم بقدر من العداء وبالنتيجة استحدثنا لذلك النوع من الأماكن اسما هو «مقاهي الكمراد» لأن روادها يبدءون مواعظهم بقولهم أيها الرفيق الكمراد).
حادث عابر أثناء فترة دراسته في الجامعة تركت أثرا بينا في ضميره المهني الذي شهد له الجميع بالحذق والإتقان والإنسانية المتدفقة والحرفية العالية. كان البروفيسور غونتر بيرنز Günter Bruns أستاذ علم الأمراض في جامعة مارتن لوثر بمدينة هالا بألمانيا الشرقية حينها يلقي درسه علي الطلاب الذين كان من بينهم المؤلف، عن الأمراض السرية وعلاقتها بالعبقرية. وأستشهد في محاضرته بأن كثير من العظماء أصيبوا بمرض الزهرى، منهم لينين. فكتب المخبرون من الطلاب تقريرا لإدارة الجامعة التي أستدعته وفتحت له تحقيقا وطالبته بالإعتذار، فرفض مشيرا الي أنه يدرس طلابا سيتخرجون أطباء في القريب العاجل ولا يستطيع أن يحجب عنهم معلومات طبية وعلمية لأسباب سياسية أو أيدلوجية. فقدم أستقالته ورحل ملتحقا بقسم التشريح البيطري في جامعة أخري لأنه يريد حسب قوله في محاضرة الوداع أن يتعامل مع كائنات بكماء لا تتحدث ولا تتكلم. تراجعت الجامعة حينها عن موقفها فرفض في إباء وشمم، وتم تكريم هذا البروفيسور بعد توحيد الألمانيتين في مطلع التسعينات وقدمت له الجامعة إعتذارا رسميا. هذا الموقف ترك أثرا عميقا في الضمير المهني للكاتب، وعده من آيات الشجاعة والشفافية والإلتزام الصارم بأخلاق المهنة. وراسل الكاتب إدارة الجامعة بعد تكريم البروفيسور لتمده بالوثائق.
عمل د. حامد فضل الله طبيبا ممارسا وإختصاصيا زهاء أربعة عقود في مستشفيات برلين العامة والخاصة، ولكن رغم انشغاله بممارسة مهنة الطب، إلا أنها لم تقتل في روحه ذلك التمرد الغامض في تجليات حسه الإبداعى، ولم تكفكف جماح توجهاته الناشطية. ويعتبر أبرز ما يسم شخصيته هو أنه ناشط حقوقى وفاعل ثقافى،وبينهما بعض اللمم من السياسة، وتفاعلات الإيدلوجيا وبقايا ود قديم للناس والأشياء في السودان وفيض إنساني غامر. جاء حامد فضل الله الي ألمانيا يمينيا معتدلا، فخرج منها يساريا معتدلا، وانتهي به المطاف بعد تأملات ومشاكسات في معمعان التدافع الثقافى والأيدلوجى ليكون علمانيا وسطيا وعقلانيا معتدلا، ولكنه يصف نفسه بأنه يساري مستقل في بحر التعلمن الطامي. وبمثل نقده للإسلام السياسى، يقول في نقده للحزب الشيوعى السوداني (الحزب أحيانا يفتقد الوضوح النظرى والتحليل للقضايا والاكتفاء بالوصف فقط وعدم الالتفات الى موضوع الدين ودوره الروحى في حياة الفرد وفي تأصيل القيّم الانسانية الرفيعة مثل حب الخير والتسامح والتضامن في المجتمع وكذلك عدم الإنفتاح على الثقافة العربية الإسلامية).
لا يتجرد دور الكاتب د. حامد فضل الله فقط في تأسيس الجمعيات الأدبية والثقافية، وأصدار المجلات والدوريات، وتنظيم المحاضرات وأستضافة النخب السودانية والعربية، والمشاركة في تأسيس وتنظيم نشاطات جمعيات الفكر التنويرى الحر كجائزة أبن رشد، أو ناشطيته الحقوقية من خلال عضويته ومشاركته في أعمال ونشاطات المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ولكن كذلك حرصه علي نشر التراث و الفكر والثقافة السودانية والتعريف بالرموز الفكرية والأدبية والأكاديمية للسودان في المؤسسات والمعاهد ومراكز البحوث الألمانية المتعددة. وتشهد علي ذلك مبادرته وتبنيه لطبع كتاب د.عبدالغفارمحمد أحمد (السودان والوحدة في التنوع) ببرلين للمرة الأولي، وكذلك مساهمته الفاعلة في إعادة طبع ديون صلاح أحمد إبراهيم (غابة الأبنوس وقصائد أخرى) بباريس. كتب اليه صلاح أحمد إبراهيم في الإهداء (أخي د. حامد فضل الله .. أشكرك من صميم قلبي لما بذلت من جهد أخوي كريم لكي يرى هذا الديوان في طبعته الجديدة النور، وقل عليك الشكر..باريس 3 أغسطس 1990). وهو رغم إنجازته البينة في هذا المجال إلا أنه يتمتع بحس أبوى رحيب حيث لم يفرض شخصيته أو نفسية الحرس القديم علي خيارات الأجيال التالية الذاتية. وتعد أبرز فضائله الثقافية بالإضافة الي قدرته علي تحريك الراكد من مياه الفكر والثقافة وسط مجتمعه، هو أنه ظل يلعب دور القنطرة بين تيارات اليسار العربي والعلمانى والنخبة السودانية المثقفة في ألمانيا.
بكل هذا المحمول الثقافي يطل علينا حامد فضل الله بكتابه الذي بين يديك، وهو يمثل غيض من فيض تدفقه الثقافى، وناشطيته العامة في المجال الحقوقى والإنسانى. وهو كتاب يمزج بين المذكرات والدراسات والمقالات الأدبية و النقدية والترجمة والفن القصصي، وهى مختارات مما وعيته حافظته وسجله قلمه خلال رحلته الثقافية والإجتماعية الممتدة.
تكاد تطالعك شخصية الكاتب في سطور هذا السفر، بشفافيته في التوثيق وسخريته المالحة، وحسه الأدبى المتدفق. ففي مذكراته التي إختار لها عنوان (من حقيبة الذكريات) والتي تصدرت الفصل الأول من هذا الكتاب، يكتب بشفافية عالية، وبأسلوب رفيق النزعة عميق النبرة من التداعي الحر، إذ لم يخف نوازعه الفكرية الباكرة وهو قد عاد من مصر مجندا في صفوف الإخوان المسلمين، وأنتقل عبر سياقات فكرية متنوعة وعبر تجارب شديدة التفاعل والحيوية في أم درمان،والقاهرة و لايبزج وبرلين، وجوبا. وسرد علي نحو شيق الأشخاص والأحداث التي مرت به في حياته الطلابية والعملية، كأنه يتقمص في مذكراته روح الرائد بابكر بدري في كتابه حياتي عندما يقول. (كانت الآداب أيضا نافذتنا للفكر القومى العربى والفكر الأوروبى – مثل الماركسية والوجودية التي كانت وقتها موضة العصر. قرأنا رواية المومس الفاضلة لجون بول سارتر – هزتنا من الداخل وتركت تأثيرا بالغا على عقولنا الغضة ومع خيالاتنا وتهويماتنا قررنا البحث عن هذه المومس الطاهرة وكان يا ما كان و"خلوها مستورة"). وتتعجب من روح الشفافية وهو يكتب عن محاولاته بعد عودته الي ألمانيا لإيجاد وظيفة ببرلين مع أستاذه القديم بروفيسور لاكس، وهو لم يكتم شهادته عن رد أستاذه الذي أبدي أستغرابه من طلبه رغم تفهمه لدواعيه فقال له بنبرة حادة حسب روايته في المذكرات " أننا بذلنا جهداً كبيراً في تدريبك وتعليمك، فبلادك أحوج إليك من برلين ." فقال المؤلف "ما كان أمامي الا أن اتجرع هذه الحقيقة الناصعة والمرة في عين الوقت".وتستمر مذكراته لتكشف عن نبض الحياة الإجتماعية والثقافية في المدن الألمانية المختلفة مثل لايبزج وهالا وبرلين أثناء حياة الطلب والعقود اللاحقة وتكاد تكون وثيقة شخصية وسيرة ذاتية للأشخاص ورائحة المدن وضجيج الحياة الثقافية وتدافعات الصراع السياسي بين تيارات الطلاب المختلفة، خاصة وأن ألمانيا كانت حينها مركزا تحج اليه النخبة اليسارية وبؤرة تضج بالحياة والنشاط الخلاق، تزورها طوائف المثقفين المختلفة من السودان وأنحاء العالم العربي الأخري. وتكاد تقرأ المأساة في عيون المدينة وهو يكتب عن شخصية سودانية ضاعت وسط الزحام حيث لفها الغياب وأنتزعها الموت من براثن الوحدة وصفير الشتاء وسقوط الجليد. وتقف في هذه المذكرات أيضا علي المحاولات الباكرة لتأسيس الجمعيات السودانية لتكون موئلا للنشاط الثقافي والدفء الإجتماعي، وكذلك الجمعيات الحقوقية العربية في برلين. وتكاد تلحظ أطلالة خفية لشخصية زوجته الألمانية التي التقاها في الجامعة في مدينة هالا وذهبت معه الي السودان مع إرهاصات ثورة أكتوبر بعد التخرج في معية طفليه الصغيرين. والتي يبدو من سياق هذه المذكرات أنها شجعته للعمل في جوبا في وقت كان يهرب فيه معظم الأطباء من الخدمة في مناطق الشدة خاصة جنوب السودان. ويتماهي المؤلف مع جينات ميراثه الجعلي فلا يذكر زوجته التي يبدو واضحا دورها المحوري في خياراته ونجاحه المهني واستقراره الأسري، والتي تمثل بشهادة المخضرمين من النخبة السودانية نموذجا يحتذي مع أخريات يستحق التنويه والتكريم. ويكفي أن تقرأ في مذكراته هذه الجملة المعبرة وهو يختتم حياته العملية (بعد اربعة واربعين عاماً من العمل المتواصل علقت سماعة الطب في الشماعة . بكمال التوفيق والراحة النفسية والرضى الداخلي وحسن الختام ).
يتجلي العمق الفكرى في هذا الكتاب في محتويات الفصل الثانى (الإندماج وتفاعلات الإسلام في أوروبا) والذي حوي دراسته الرائدة عن المسلمين والعرب وإشكاليات الإندماج في المجتمع الألمانى، وكذلك أشتمل علي الموضوعات التي كتبها كبار الكتاب والمفكرين الألمان وترجمها بمشاركة آخرين عن قضايا الإسلام وتفاعلاته في السياق الإجتماعي والثقافى والعقدى في أوروبا، وهي موضوعات يجمعها أتساق نظري سديد وخيط فكرى ناظم. إن الناظر في موضوعات هذا الفصل مثل (القرآن جزء من أوروبا، وصور الإسلام في ألمانيا، والمسلمون في دولة القانون العلمانية، أو الإسلام والحداثة والفكر التقدمى في الإسلام المعاصر) يجدها تنطلق من نقطة محورية واحدة، وهي هل الإسلام قابل للتوطين في البيئة الإجتماعية والثقافية الأوروبية وأن يكون جزءا من التراث الديني الفاعل في أوروبا، وأن يخضع لميسم الدراسات اللاهوتية وفق المناهج الأوروبية؟. أم أن ظاهرة رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) قادرة علي تجريف التراكم المعرفي والثقة النسبية التي توطنت من قبل. ووفق هذا السياق تربط الدراسات الدينية في أوروبا بين الإسلام والتراث اللاهوتى التوراتى، وتعتبر أن الأول عالة علي الثاني. قالت البروفيسور أنجليكا نيوفرت أستاذة الدراسات العربية والقرآنية بجامعة برلين الحرة في ورقتها المترجمة في الفصل الثاني عن (القرآن جزء من أوروبا)، وهي تنافح لإستكمال مشروع المدونة القرآنية:( إن ما يترتب على مشروع المدونة القرآنية من تأثير متبادل هو مكسب لا يقدر بثمن لكل الطرفين: فسوف يكتشف الشباب المسلم المثقف في الشرق الأوسط كما في أوروبا ممن يمعنون التفكير في تاريخ دينهم وثقافتهم بأن نهاية العصر ـ القديم تشكل حقبة تكوينية (حاضنة تاريخية) صقلت تاريخهم الروحي وباتت بذلك وديعة (عهدة) ثقافية للإسلام وبذلك يعون مدى تغلغل نسيجهم في التاريخ الثقافي لأوروبا. وبالنسبة للأوروبيين غير المسلمين سوف تتضح نهاية العصر القديم على أنها أيضا وديعة مشتركة).
يتمتع دكتور فضل الله كما يحلو للألمان أن ينادونه (بنبرة تستظهر الإدغام والإمالة بلغة أهل التجويد) بفيض غامر من الصداقات الممتدة مع المثقفين العرب في برلين، وقد وقفت علي هذه الحميمية في الرسائل المتبادلة بين الفنان والرسام العالمي مروان قصاب باشي والروائي الكبير عبدالرحمن منيف والتي طبعت في كتاب صدر في العام 2012 بعنوان (في أدب الصداقة).كتب الفنان والبروفيسور مروان قصاب في رسالته الي صديقه الأديب والروائي عبدالرحمن منيف و المؤرخة في 17 فبراير 1997 عن حامد فضل الله: " الأخ والصديق عبدالرحمن. زارني يوم السبت عدد وفير من الميقيمن العرب في برلين مع بعض الزوجات وبعض الأطفال، وتكلم حامد فضل الله من السودان ربع ساعة أو أكثر عن الكاتب والكتاب والرسام وما بينهما. وهو مثقف من السودان ومتحمس لقضايا الفكر والأمة ومطلع أيضا". وهذه شهادة رصينة من كبار المثقفين العرب في حق الكاتب والتي تم توثيقها في الكتاب السابق الذكر.وقد سما الكاتب بفعله الثقافي في أن يكون جزءا من موضوعات المراسلات الخاصة بين الرسام والفنان مروان وصديقه الأديب عبدالرحمن منيف، مما يدل علي مكانته الأثيرة بين أهل الأدب والفن والفكر من المثقفين العرب في برلين.
كفتنى الشهادت المنصفة والمتواترة عن إبداعه القصصي، الذي نال إعجابا وإستحسانا من بعض كبار النقاد والأدباء في العالم العربي، خاصة أقصوصته (الأجنبي) التي نالت القدر الأكبر من تعليق النقاد، وأعتبرها البعض وثيقة أدبية تكشف طبيعة تعامل الألمان مع الأجنبي في بلادهم، والبعض عدها سردا فنيا لتجربته الذاتية وسط ثقافة ألمانية طاغية كانت تتجشم حينها مشاق تطهرها من زكام التمييز ورشح العنصرية. ويميز قصصه التي تختزن توترات الحدث في عنواناتها المختصرة مثل (الأجنبي، العثرة، عنبر دقدق، والجدار)، براعة السرد، واللغة المكثفة، واللمحات الذكية التي تنبثق من خبرته المهنية وتداعيات صور الحدث ونبضه، وكذلك روح السخرية المالحة في الحوار. تتكشف سخريته المالحة و روحه المرحة في الحوار الذي دار في أقصوصته عن الأجنبي إذ يقول (قالت المرأة: ابنتي تداوم عندك يا دكتور منذ أربعة أعوام فيسألها:كيف حالها؟ فتجيب:جيدة ولها ثلاثة أطفال وتضيف: كله من فضلك فيقول: بل من فضل زوجها)!.
لم أجد وصفا أكثر تعبيرا ودقة عن الأسلوب القصصي للكاتب مما سطره الدكتور سيد البحرواى أستاذ النقد الأدبي في جامعة القاهرة، عندما نشرت له مجلة (أدب ونقد) بعضا من قصصه. يقول د. البحرواى: (الأزمة دائما في معظم القصص هي أزمة الإنسان الغريب الذي يمر بأشكال من التجاهل أو الإهانة أو التعصب، غير أن البطل أو الراوي لا يضخم هذه الأزمة، لأنه يمتلك من وسائل الدفاع عن النفس الثقة والقدرة علي السخرية والوعى العميق بالنفس البشرية، ما يجعله قادرا علي تحويل الأزمة الي الآخرين..تعتمد هذه القدرة علي وعى عميق بتركيب المجتمعات الأوروبية أو حساسية عالية لإلتقاط الحالات الإنسانية، التي هى علي كل، حال متشابهة في كل مكان في العالم. ومن هنا يأتي تنوع الشخصيات في القصص بين سوداني وألماني وتركي..الخ، وأظن أن هذه الحساسية هي قدرة شخصية لدي د. حامد فضل الله صقلتها خبرته كطبيب، خاصة للنساء اللائي يشغلن هاجسا أساسيا له في كل القصص، أما الخاصية الأهم للقصة القصيرة عامة، وهي متحققة بقوة في قصص الكاتب، فهي اللغة الحساسة والدقيقة والمكثفة المليئة بالدلالات المركبة رغم بساطتها الظاهرة وميلها للفكاهة والسخرية التي تخدم البناء المحكم القائم علي المفارقة، سواء كانت حادة أم بسيطة) .أما الدكتور صبري حافظ أستاذ النقد والأدب السابق في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن فقال عن قصص الكاتب في مجلة الكلمة: (يقدم القاص السوداني - حامد فضل الله- في لقطات رشيقة طبيعة تعامل المواطن الألماني في الحياة اليومية مع الأجنبي عارضا ثلاثة نماذج مختلفة يحتك بها السارد في بحر النهار تعطينا صورة مكثفة ودقيقة عن طبيعة نظرة الأوروبي للأجنبي). وفي أقصوصة عنبر دقدق لفت الناقد الأدبي الكبير الدكتور صبري حافظ النظر للعلاقة بين الطبيب والمريض قائلا: (كثيراً ما أغنى الأطباء عالم الأقصوصة بتجاربهم اليومية التي يتعاملون فيها مع الإنسان في أشد لحظاته ضعفاً وهشاشة،هنا يكشف القاص السوداني برهافة وشعرية واقعية عن أن الطبيب لا يقل ضعفاً عن مرضاه).
أما الدكتور الراحل كمال حنفي فقد نشر في عموده (إلا قليلا) في صحيفة الرأي العام كلمات جمعت فأوعت ولم تترك مجالا لمستزيد قال: (عاشت كلمتا النساء والولادة بيننا مقترنتين،عِلْماً من العلوم الطبية السريرية في كليات الطب وممارسة طبية آناء الليل وأطراف النهار،لايصيبها الكساد في المستشفيات والمستوصفات وعيادات الاِختصاصيين وسيدوم طب النساء والولادة عِلماً وعَلَماً ومهنة لا يراها ممتهنوها إلا من نافذة الجهاز التناسلي للمرأة!..بين يدي الآن أوراق تثبت عكس ذلك، إذ يمكن النظر إلى عالم النساء والولادة من غير تلك النافذة وهى مجموعة القصص القصيرة لدكتور حامد فضل الله! تقرأ المجموعة القصصية فتجد أنها تتصل ببعضها بخيوط حريرية، أو بخيوط أمعاء القط التي يخاط بها رحِم المرأة بعد عملية قيصرية. فالقصص على تباين شخصياتها ونقاط قوتهن وضعفهن، وعلى اِختلاف مواقفهن من الحياة إقبالا أو إدبارا،فهي تلتقي في نقطة العلاقة الدقيقة بين الرجل والمرأة أو المرأة والرجل التي تنتهي بزيارة عيادة النساء والولادة، ويبقى أمامهما مدى مشروعية هذه الزيارة! بمقدرة الروائي المتمكن ومهارة طبيب النساء والولادة يقص علينا الكاتب أدق القصص من ملفات عيادته، فيقدم لنا الصراع بين النزوة والحب فيستبين لنا أن طبيب النساء والولادة لا يستقيم تخصصه لو لم تتوافر له أدوات الروائي، وأن الروائي في أدب المرأة لن ينتج رواية لو لم تكن له خبرة تتقاطع مع طب النساء والولادة! معظم قصص المجموعة تدور أو تنطلق أو تنتهي في عيادة المؤلف في برلين لكنها في جوهرها تصب في مصب الأدب الاِنسانى أو في أحد روافده: أدب النساء والولادة!). وقد تجد أثرا شبيها لمهنة الطب في الأعمال الأدبية والروائية للأديب السوداني الدكتور أمير تاج السر خاصة روايته (مرايا ساحلية).
يري الناقد باقر جاسم محمد من خلال قراءته لقصص د. حامد فضل الله أن القصة القصيرة قادرة علي أختزال المشاهد والقضايا الكبري لما أسماه (من إشتباكات الحضارات الي اشتباكات الأعراق). وكتب في مجلة الكلمة عدد يوليو 2013 قائلا: (تبرهن هذه القصص القصيرة للدكتور حامد فضل الله عن خبرة راسخة في الكتابة القصصية، وعن تمكن من الأداء السردي بلغة مرنة تنجز الفعل التواصلى مع القارئ دون صعوبة .وهي إذ تتصدى لمشكلة الاَشتباك الحضارى والعرقى بين الطبيب السوداني الأسمر وأهل برلين من الألمان وسواهم، فإنها تحقق هدفها بمهارة وحذق مثيرين للاهتمام فتثبت أن القصص القصيرة تتسع لطرح القضايا الكبرى بشكل يثير الإعجاب)
ثلاث شخصيات تحتل حيزا مؤثرا في الخارطة الأدبية والفكرية الداخلية للكاتب هم الأديب العالمي الراحل الطيب صالح، د. أمين محمود العالم و د. سمير أمين. وقد تركت هذه الشخصيات بصمتها المميزة في موضوعات هذا الكتاب. ولم ينس الكاتب موطنه الأصل (السودان) حيث قام بترجمة وعرض رسالة أكاديمية عن النزاع السوداني كنموذج للتناقض بين الدولة والثقافة. كما قام أيضا بترجمة تقرير حررته د. أنيتا فيبر الخبيرة في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية ببرلين عن إحتقان الأوضاع في جنوب السودان بعد عامين من تأسيس الدولة الجديدة.
ازدان الكتاب شكلا وموضوعا بلوحة الغلاف التي آثر مبدعها ومصممها أن يستخفي بأسمه عن النشر، وهي لوحة تصميمية أتخذت من الترميز لغة وإيحاءا لأنها تعبر عن حالة الثورة والتحرر والانعتاق. إذ اشتملت علي الصورة التاريخية لسقوط حائط برلين، وكذلك صورة بوابة برلين التاريخية كشفا لخصوصية المكان الذي تضمنه عنوان الكتاب.كما أبرز الغلاف حالة التمازج والتوحد اللوني للعلمين الألماني والسوداني كناية عن حالة الإرتباط التاريخي والوجداني للكاتب وفخره بجذوره التاريخية وانتمائه الي عالمين ثقافيين وقدرته علي التوليف بينهما.
هذا كتاب يستقى من ميسم إبداع الكاتب، وخبرته المتراكمة في معمعان العمل الثقافى في ألمانيا، وناشطيته الحقوقية، ويتلفع بحسن إختياره وترجمته لموضوعات وقضايا تفاعلات الإسلام والهوية وتحديات الإندماج في أوروبا عامة وفي ألمانيا علي وجه الخصوص، مستقصيا ومتتبعا أفكار النخبة الأكاديمية والفكرية الألمانية وإسهامها في تأطير الجدل، وبلورة الأفكار والمناهج لدراسة الظاهرة الإسلامية وتكييفها وفقا لمقتضيات السائد في مناهج البحث العلمي والثقافة الأوروبية. تمثل برلين للكاتب (عبقرية المكان) ومسرح الحياة النابض الذي تشكلت منه بؤرة الحدث والمعني، وأخرجت منه هذا الحس الإستثنائى كمثقف عضوي صميم. إن إستثنائية الكاتب كمثقف عضوي تنبع من أصالته الإبداعية، وحسه الأدبي الرفيع، وروحه الإنسانية الشفافة، وعمق اختياراته الفكرية، وحسه الترجمانى، ومنهجية حجاجه،وناشطيته الخلاقة وأساليب تحققه العلمى، وحقيقة وعيه الذاتي بنفسه ودوره في المجتمع. فخرج إلينا هذا الكتاب (أحاديث برلينية) في ترميز كثيف المحتوى لجدليات القضايا التأسيسية، وحالة البدء والميلاد وأستنشاق الأكسجين النقي والخروج الي الأضواء، فأتي مجدولا من حبال الفكر، ومنسوجا من قماشة التدبر ومغسولا من نزعة الإنكفاء والتكلس، وسائغا من عصارة التأمل لذة للقارئين.
إنتزعنا كتابا..ولكن ربحنا كاتبا، وضميرا وقلما وإنسانا.
كاتب، وأديب سوداني.