يقدم الناقد المصري هنا قراءة لرواية بلورت نبض الواقع واستشرفت انفجارة 25 يناير، ويتناول بنية السرد فيها وقدرتها على خلق ذاكرتها التاريخية الداخلية التي تكشف بكل ما جرى فيها عن إيقاعات التردي والهوان، من تعديل الدستور وحريق مسرح بني سويف ومظاهرات العمال الغاضبة، والشباب الهاربين عبر البحر.

إحباط الواقع وانتظار المستقبل

قراءة في رواية «قميص سماوي»

محمد عبد الباسط عيد

لعل أهم سمات النص الروائي أنه لا يكتب إلا بعد تأمل عميق في مختلف التفاصيل التي قد لا ينتبه لها الإنسان العادي، ولا يقع ذلك على نحو عشوائي، بل وفقا لرؤية محددة، وهذا الاختصاص يحدّ من قدرة الرواية على مواكبة الحدث، فلا يمكن قياسها، من هذه الزاوية، على القصة القصيرة فضلا عن الشعر أو الأغنية. الرواية تأتي دائما في أعقاب الحدث، تكتنه أعماقه الغائرة، حيث تنسجم التفاصيل وتتبدى أبعادها الخافية أو التي خفيت على الرَّصد المباشر، ومن هنا تتشكل تجربة الإنسان ويتحدد وعيه بالحدث بكل ما ينطوي عليه من علاقات مختلفة متنوعة مركبة.

وإذا كانت الرواية بطبيعتها تتسم بالتأني والتعمق، فهذا يفتح أمامها مجالا آخر أكثر رحابة في التعامل مع الحدث أو مع الأحداث الكبيرة، فقد يعز علينا أن نتحدث عن الرواية وثورة يناير[i]، ولكننا – في المقابل – لا يعز علينا الحديث عن وعي الخطاب الروائي في عمومه بالحدث الثوري والتبشير به، والدفع في اتجاهه، ولا يقتصر هذا على الرواية الجديدة بأجيالها الأقرب للحدث الكبير، وهل يمكننا أن نغفل – تمثيلا لا حصرا- "ملحمة الحرافيش"، خاصة حلقتها الأخيرة "التوت والنبوت" التي انتهت بثورة حقيقية، امتلك فيها الشعب زمام أموره، رغيف الخبز مع النبوت، الآمال يجب أن تكون بيد الشعوب، ولا يجب أبدا أن ترتبط بزعيم مهما علا قدره واستقام فكره، اندفعت الحشود: "كانت معركة لم تُسْبَق بمثيل من حيث عدد من اشترك فيها. فالحرافيش أكثرية ساحقة. وفجأة تجمعت الأكثرية واستولت على النبابيت فاندفعت في البيوت والدور والوكالات رجفة مزلزلة. تمزق الخيط الذي ينتظم الأشياء وأصبح كلُّ شيء ممكنا".[ii] 

إن الثورة لم تغب أبدا عن النص الأدبي ظاهرة صريحة أو مضمرة مؤولة، الثورة بما هي فعل تغيير شامل، ورغبة عارمة في كنس القديم وإقامة بنيان جديد، يقوم على العدل والحرية والمساواة وهو نداء بشري أبدي لن تنتهي الثورات أبدا إلا بتحققه ورؤيته فعلا قائما على الأرض.

لم تغفل الراوية عن تناقضات الواقع المصري بتفاصيله المختلفة، فرصدت الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تبلور في الحركات السياسية ومئات الوقفات الاحتجاجية، تلك التي شكلت بتواترها النواة الأولى لهذا الزلزال الكبير. لقد كان الواقع المصري قبل الثورة موضوعا لعدد كبير من النصوص التي تؤكد، في مجملها، أن الفعل الثوري كان السبيل المنتظر.[iii] في هذا الضياء، تأتي هذه المقاربة لرواية (قميص سماوي)[iv] باعتبارها إحدى النصوص التي تناولت في مهارة فنية لافتة مجمل التحولات والتناقضات التي أصابت المجتمع المصري، في السنوات التي سبقت الثورة مباشرة.

*

تُعدُّ هذه الرواية بتقنياتها السردية رواية حداثية بامتياز، حيث تطالعنا سطورها الأولى بسرد ذاتي، يَسْتَكْنِهُ الأبعادَ الغائرةَ للراوي ومن يحيط به من شخوص، وما يحلُّ به من أماكن، كما أنها تتكئ على بنية متداخلة، تتداخل فيها الأزمنة، وتتلاقى فيها الحكايات والحوارات والمنولوجات التي يفيض بها وعي الراوي، كما تتلاقى فيها الأحداث السياسية التي سبقت الثورة بغيرها من الحكايات والخرافات التي تفيض بها ذاكرة المكان، على نحو لا يشتبك مع الواقع قدر ما يروم التقاط الجوهري فيه، فهي توظف الحلم والحكايات العجيبة، وتكسر الإيهام بالواقع عبر توجيه الخطاب مباشرة للمتلقي. ومن خلال النقاط الآتية يمكننا استظهار اختصاص هذه الرواية تقنيا، وكيف تبدى الوعي بالواقع – قبل الثورة مباشرة - حادا، في تناقضاته المختلفة، على نحو يجعلها إحدى الروايات المهمة التي أشارت بقوة إلى ضرورة التغيير بل واليقين فيه وبه.

(1)

من خلال الراوي الجامعي الذي تعسرت دراسته كثيرا في كلية العلوم، وتوزع انشغاله بين الاهتمام بالتمثيل المسرحي من خلال قصر ثقافة "شبين الكوم"، وصعلكته في شوارع المدينة، يمكننا أن نضع أيدينا على أبرز الأحداث، ومن خلال عينه الراصدة نتابع الحكايات الكثيرة لصعاليك ومثقفين ومهمشين وحوادث واقعية ومتخيلة، وأماكن قريبة وأخرى بعيدة. لقد كانت صعلكة الراوي اختيارا واضحا في بعض جوانبها، وإن تبدت أحيانا ضرورة لا مفر منها، ولعل تعريف صديقه المثقف الصعلوك "محمد الحفني" للصعلكة باعتبارها نهجا وأسلوبا في الحياة، أن يكون نصا محوريا في شخصية الراوي وما أصابها من تحول وتغير، حيث يقول:

«الصعلوك في عُرْف شبين هو فنان أو مثقف يتحايل ليأكل، ويتحايل ليجد مكانا يبيت فيه، لكنه لا يسرق ولا يخون، يلازم الآخرين ويعرفُ أدقَ أسرارهم، ومن الضروري جدا أن لا يكون عند الصعلوك ما يخجل منه أو يخبّئه، فهو مشاع مثل هذه الشوارع .. هو كل الناس إذا جلسوا في المقهي يتكلمون عن المعايش ... إذا قرر الصعلوك بعد فترة أن يفتش في ذاكرته فلن يجد إلا الآخرين».[v]

يرادف المقتبس السابق بين مفهومي الصعلوك والمثقف، فالصعلوك يحيا للناس، لا يطمع في شيء، إنه ملك لغيره مثله مثل الشوارع. يعيش الراوي حياتين متقابلتين تقريبا، الأولى هي حياة الصعلكة التي قضاها في مدينة "شبين الكوم" وفيًا لأصدقائه وفقا للتعريف السابق، والأخرى هي حياة الوجاهة التي بدأت بسفره إلى السعودية، ولم يتيسر له سبيل ذلك إلا بنقض مبادئ التعريف السابق.

ترتبط حياة الصعلكة بالقميص السماوي، هذا القميص الذي يرتديه الراوي صيفا وشتاء، حيث يغدو بتكرار الإشارة إليه في مختلف السياقات – على نحو ما سنشير - دالا على حرية القول والفعل، وحين يخلع الراوي هذا القميص تبدأ حياته الأخرى التي تتبدل فيها الملابس وتتناثر فيها أسماء الماركات العالمية للسيارات والنظارات .. الخ. لكن الراوي يكتشف بعد هذا التحول والتغير أنه فقد حريته، لقد كان ثمن هذه الحياة هو أن يتحول، رغما عنه، إلى مرشد للضابط "فهد الكاشف" هذا الضابط الذي تقرَّب لدائرة مثقفي قصر الثقافة كي يجعل منهم عيونا على بعضهم البعض، لقد أرشده الرواي إلى أصدقائه، وهذا ما نجده في هذا المونولوج الداخلي الذي يموج به وعيه حين شاهده صديقه القديم "خالد علام": «قبيل سفري بساعات قليلة كنت أركب معهم البوكس، وأشير إلى البيوت التي تختبئون فيها، لن أنسى ما حييت صورتك يا خالد وأنت تفرُّ من أمين الشرطة، والخبز يسَّاقط من يديك. سافرت بعد ذلك بساعات، قضيتم أنتم أسبوعا قصيرا في الحبس، ولو تعلمون...لقد قضيت بعدها أسابيع في جهنم»[vi]

كانت خيانته فاصلة في حياته وفي علاقته بأصدقائه، فعليه – بعد أن اكْتُشف أمره- أن يقبل بما سبق له أن رفضه، وهو الزواج من أرملة عقيم مصروعة تعيش حدادا لا ينتهي مع خيالات زوجها الراحل الذي ورثت عنه ثروة كبيرة، لقد كان ضروريا – فيما يرى الراوي - أن تتزوج رجلا ضعيفا لا أهل له حتى يحاسبوه ولا يحاسبهم.[vii] لقد رفض هذه الزيجة في البداية، ولم يقبل أن يقايض حريته بشيء آخر، لكنه بعد اكتشاف خيانته لم يكن أمامه اختيار آخر، «تم كل شيء بسرعة وبدون منطق تماما مثل هلاوس الحلم».[viii]

(2)

تنهض البنية الروائية في "قميص سماوي" على حكاية إطارية، هي حكاية الراوي، التي تتداخل معها حكايات أخرى كثيرة، لأصدقاء داخل الوطن وخارجه، وهي بهذا تلتقي مع البنية الحكائية لـ"ألف ليلة وليلة"، ولكنها - من جانب آخر – تتجاوز هذا الإطار الموروث؛ فحكاياتها وأماكنها متصلة غير منفصلة، مشدودة كلها إلى الحكاية الرئيسية/ حكاية الراوي، متداخلة بها في سرد أشبه ما يكون بوحدات الأرابيسك، التي لا قيمة لأي وحدة فيها بمعزل عن الأخرى؛ فكل حكاية لا تكتمل إلا بغيرها، كما أنَّ غيرها لا يكتمل إلا بها؛ فحكايات الأصدقاء هي حكاية الراوي نفسه أو جزء منها، "كلما حكيت عن غيري أجدني أستوفي حكايتي دون قصد".[ix] قد تقدم الحكاية مرة واحدة – وهذا نادر - حين تكون من خارج دائرة أصدقائه،[x] ولكن حكايات أصدقائه والمدن التي حل بها تتسم بالاستمرار، حيث يروي منها قطعا ثم يعود ليستأنف حكايتها مرة أخرى، الحكايات كلها تلتقي في هذه البنية في حلقة واحدة، وكأنها في التحليل الأخير حكاية واحدة متعددة الأبعاد، بل إن الحكاية الواحدة قد يتقاسمها راويان:

"أخذ خالد دور الراوية وحكى بالنيابة عني ولدهشتي كان الواقف أمامي هو الدكتور مصطفى خال زوجتي...
- لا يا خالد ليست له علامة السجود.
- آسف خلطت بين حكايتك وحكايتي.. دعني أكمل".[xi]

*

تتأسس بنية الرواية – من زاوية أخرى- على منطق التقابل، بين حاضر المدينة وماضيها، بين حاضر الشخوص وماضيها، وما بين القطبين ترصد البنية التحولات الاجتماعية والتاريخية والمعمارية التي أثَّرت في الإنسان وفي المكان، وهو منطق يتسم بقدر من الوضوح تتجلى به الرسالة قوية، دون أن يقلل ذلك من تنوع المستويات الدلالية والوحدات الروائية للنص؛ فبنية التقابل مشفوعة بمنظومة من التقنيات السردية التي تجعل التقدم الأفقي في النص مرهونا – إلى حدٍ كبير – بإدراك أعماقه وأغواره، حيث تستحيل الشخوص – مثلا - رموزا تتسع لما هو أكبر منها، بعضها تكبر دلالته وتعمق إشارته حتى يغدو بحجم الوطن أو جزء منه. فمنذ السطور الأولى نجد أنفسنا إزاء عملية ترميز كبيرة لقيم معنوية شديدة التركيب والتعقيد، ومتعددة الأبعاد الإنسانية والوطنية، يطالعنا السطر الأول بحوار مقتضب بين الراوي وزوجته التي عدَّ زواجه منها انتحارا: 

"-اترك هذا القميص السماوي.
- أنا أحبه يا شيماء.
- ستقابل الدكتور مصطفى ورجالا مهمين، البس البدلة الجديدة".[xii]

يمكننا عَدُّ "القميص السماوي" أيقونة للماضي الحُرّ، حيث الوطن والأصدقاء والعزة، فهو الرداء الذي عُرف به الراوي في مدينة "شبين الكوم" يرتديه صيفا، ويلبس تحته كل فانلاته في الشتاء، قد يكون القميص السماوي فقيرا في هيئته، لكنه اكتسب دلالته على حرية القول والفعل والانتماء والإخلاص، وهذا ما جعله مقابلا للبدلة الجديدة، باعتبارها أيقونة للحياة الجديدة، حيث الغربة والخيانة، ومن ثم كان من المستحيل الجمع بينهما في حقيبة واحدة، "كانت قد تبقت ساعات قليلة على ميعاد الطائرة، وحقيبتي كانت جاهزة ووضعت من فوق كل شيء قميصي السماوي ... وبما أنك لم ترجع وبقيت هناك في السعودية فالأكيد أنه هددك أو أغراك".[xiii]

(3)

تتسع دائرة الترميز وتتعمق دلالاتها مع كثير من الشخوص؛ بداية من الراوي نفسه الذي لا نعرف له اسما أو وصفا إلا عبر القِرَان بغيره من الشخوص، إنه مجرد صوت، راوٍ، يحكي حكاية أصدقائه التي هي حكاية المكان نفسه: "إنني لا أتميز بشيء تقريبا سوى أني تعرفت على كل هؤلاء، وكل هذه الأسماء هي شبين الكوم نفسها".[xiv] لا يمتاز الراوي بشي، بل إنه لم يفلح أبدا في التمثيل المسرحي ولا في الإخراج ولا في كتابة الشعر، حتى لقبه أصدقاؤه "جوقة الخشبة" في إشارة إلى هامشية دوره وفقر موهبته، إنه فقط يسرد امتيازات غيره ممن عشقوا المكان وأحبوه، تقترب المسافة بين الراوي المكان على نحو يجعل القِرَان بينهما عملا مشروعا. فهناك تَوَحُّد بين الراوي والمكان، فهو يقول: "صِرْتُ بعد فترة أكثر من مجرد صعلوك، أمسيت واحدا من تفاصيل الحالة ... بل إن بعض هذه التفاصيل يغيب ويتخلف أناس عن الحضور، وأبقى أنا والعصر وشجرتا الفيكس من أهم سمات المكان".[xv] 

قلنا إن الحكايات في هذه الراوية تتناسل من بعضها، وهذه الظاهرة انتبه لها النقد خاصة مع الرواية الجديدة، وأطلق عليها مصطلح "تناسل الحكايات" أو توالدها، ويرى "تودورف" أن هذه البنية تعتمد على على عاملين هما: التضمين والشخصية، "وقد ربط بينهما بأن جعل شرط ظهور أي حكاية جديدة مرهون بظهور شخصية جديدة في فضاء السرد، وأن الحكاية الجديدة يتم تضمينها مع الحكاية السابقة لها".[xvi] وهذا بالضبط هو ما نجده في "قميص سماوي"؛ فلا توجد حكاية منفصلة عن الراوي، وسوف نتوقف هنا إزاء حكايتين أفرد لهما السرد مساحة كبيرة وحَمَّلهما طاقات دلالية وتأويلية خاصة:

الأولى: حكاية الدكتور صالح (لاحظ دلالة الاسم) الذي اضطر الراوي إلى العمل معه تحت ضغط الحاجة أو كما يقول: "بعد أن توقفت شبين عن ترك عشائه في ورقة جورنال"، عمل الراوي مساعدا للدكتور صالح الذي جعل صيدليته مكانا للعلاج وصرف الروشتات معا، فقد كان نابغة في تحضير أدوية خاصة، يؤمن أن هناك طريقا آخر للتداوي يمكنه أن يُحدث ما يسميه بالتآلف بين الذر، فالكيمياء الحديثة في رأيه "تؤطر الجزء غير المتآلف حتى لا يستشري في بقية أجزاء النسيج، لكنها خلال ذلك تنشر بقعا سوداء من التنافر ... أنا أريد أن أنصت إلى نسب التآلف التي يمليها علي الكيميائي الأعظم".[xvii]

للدكتور صالح صفات متعددة لا تخلو من تقابل؛ فهو يجمع بين الذكاء والمهارة الشديدة في إعداد الخلطات والوصفات بنسب محددة، هذا بالإضافة إلى معرفته بالكيمياء الحديثة، لكن هذه المعرفة لم يتيسر لها أن تمتدَّ وتنتقلَ منه إلى غيره؛ فتجاربه كلها في رأسه، فلم يهتم أبدا بتدوين أوزان الرموز الكيميائية، حتى إن تجاربه كانت تفشل حين يحاول إعادتها مرة أخرى، فهو شديد النسيان بشكل "لا يمكنه من القيام بأمور نفسه"، يضع قدما في الطب وأخرى في التصوف، ويحرص على تذكير مرضاه بضرورة الصلاة، زاره "سليم الطبال" صديق الراوي عقب إصابته بالدرن، فلم يقدم له واحدة من خلطاته فحسب بل أسَرَّ له بكلمات جعلت سليم الطبال يخرج من عنده باكيا تائبا وهو يقول: "أنا كنت ميتا وهذا الرجل أحياني".[xviii]

لم يتمكن الدكتور من إحداث التآلف المطلوب، فقد غلبته مواجيد التصوف وأحواله، وخاض صراعات أخرى في مكافحة البدع الدخيلة على التصوف، وانتهى به الحال مجذوبا مسجونا مقطع الملابس يُحَدِّث خيالات على الجدران.[xix]

الثانية: حكاية غادة السيسي، وهي – بمعنى ما – تعد المقابل الموضوعي للدكتور صالح، حيث تضم مستويات تأويلية مختلفة، فهي زوجة عادل المصري، أحد أصدقاء الراوي، الذي كان موهبة كبيرة في الغناء، أضاعها بإدمانه المخدرات والنساء. فـ"غادة" نموذج للجمال، فهي كما يقول الراوي "ليست كبقية النساء، تغوي العابد في صومعته، وتخبل النساء قبل الرجال بمشيتها".[xx] بدأت علاقتها بالراوي بحاجتها إلى مدرس لابنها الوحيد الذي تريد له أن يدخل كلية الطب، وهي عازمة على ذلك، ومن أجله قطعت إعارتها إلى السعودية.[xxi] تتطور العلاقة بين غادة والراوي على نحو ينقلنا من هذه الدلالة الواقعية إلى الدلالة الرمزية، التي تجعل من غادة أحد تبديات المكان وتحولاته، حيث تتناثر العبارات التي تقرن بينهما؛ فالراوي عاشق لشبين وعاشق لـ"غادة"، يجيد وصف شبين كما يجيد وصف "غادة": "أنا أحسن وصفها لك، صدقني كنت أحسن ذلك لدرجة أنها كانت تحب أن أصفها لنفسها".[xxii] تهرب "غادة" مع محام شاب أسست معه مكتب سفريات وهمي جمعت من خلاله أموالا كبيرة، هربت كما تهرب شبين في البحر بعد كل مصيبة، على حد وصف الراوي للمدينة.

إن هروب غادة/ أيقونة الفتنة والجمال خارج البلاد، يوازيه هروب الدكتور صالح/ أيقونة الأصالة وإنكار الذات إلى عالم الدروشة، يعضد ذلك كله سفر الراوي خارج البلاد، وهروب شبين نفسها عقب كل مصيبة تحدث، وهذا الهروب كاشف بذاته عمق الأزمة وشمولها، على نحو ما سوف نشير.

*

إذا تجاوزنا الشخوص السابقة ألفينا طائفة كبيرة من الشخوص التي تشير حكاياتها المختلفة إلى تفاصيل التحول الاجتماعي والفساد الإداري والسياسي الذي طال كل شيء، وسنكتفي هنا بالوقف على ثلاث، هي:

- الأستاذ هاشم العدوي

 المخرج المسرحي بقصر ثقافة شبين الكوم، ويظهر في وحدتين سرديتين الأولى، هي مواجهته المحافظ عقب رفضه تمثيل المسرحية، وتقديم فرقة الرقص الشعبي عليها، "اتجه إليه بملابس الإحرام ولحيته البيضاء المستعارة ... نظر إليه المحافظ في استنكار لهيئته ... وقال: من هذا الأراجوز؟ [xxiii]

يختفي الأستاذ هاشم سنوات، ليعود بعد ذلك في وحدة سردية أخرى لكنه يعود بلحية حقيقية، وحوله ممثلين معتزلين من ذوي اللحى، يقدم الأستاذ نصا مسرحيا مخيبا لكل التوقعات لرجل يحمل هذا التاريخ، وحين يبدي الراوي رأيه فيه، يهاجمه الأستاذ بشدة:

"- تعلَّم قبل أن تجادل.

- السفسطة والهلفطة ضيعتنا.

- هل هكذا تخاطب الأستاذ يا خشبة الجوقة؟".[xxiv]

يخرج الراوي من القاعة مطرودا، ويخرج معه بعض أصدقائه، ليكتشف أنهم أيضا يشاركونه الرأي، لكنهم خافوا أن يتكلموا: "ألم تر لحاهم الطويلة؟ هذا فشل جماعي. البلد كلها تفشل"، لم يكن نص الأستاذ بعيدا عن المناخ العام الذي بات مشبعا بهذه الثقافة التي تقف إزاء القشور دون الجواهر، تفتت ولا تجمع، بل إن دعاتها قد استغلوا التكنولوجيا الجديدة كي يزيدوا من انتشارها؛ "أخرج أحمد نعيمه أسطوانات مدمجة كلها لشيوخ لحاهم طويلة: (العازف والأغاني)، (الشيعة وسبّ الصحابة)، (إسلام عفريت من الجن)، (فضائح من داخل الكنيسة يرويها قسيس سابق)، (الحجاب قبل الحساب)".[xxv]

- محمد الحفني:

طالب كلية التربية والممثل الموهوب، صديق الراوي وأحد الصعاليك الكبار، لم يحلم بأكثر من الدراسة في معهد الفنون المسرحية، واستكمال ذلك في إيطاليا. يتخرج حفني، ويسافر إلى القاهرة للعمل في محلات التوحيد والنور، ذات الراتب الكبير والجهد المضني، فصاحب العمل لا يسمح له بالجلوس طوال الاثنتي عشرة ساعة التي يقضيها في العمل، حتى أصيب بدوالي الساقين وخلل في فقرات الظهر.[xxvi]

يسافر "محمد الحفني" هربا إلى إيطاليا ليعود بعدها مغموما، يحكي عن الموت الذي أفلت منه على السواحل الإيطالية، وعن مهانة الترحيل من ميناء إلى آخر، يرجع حفني ليلقى حتفه في محرقة خشبة المسرح ببني سويف.[xxvii] شَكَّل مقتل "الحفني" بداية لعمل تظاهرة مسرحية التقي فيها الممثلون بتظاهرة عمال مصنع الغزل الذين سرحهم المستثمر الهندي، بل كان بداية لتعرية الأمن وكشف عيونه المندسة بين المثقفين.[xxviii]

- العقيد فهد الكاشف:

وهو ممثل السلطة، "هبط على شبين فجأة في وظيفة غير معلنة"،[xxix]، لديه ميول أدبية، يروم كتابة قصة عن شبين، يكون الراوي بطلها، لكنه يرى أن الراوي ملغز وغامض، ومن خلاله يزداد التعالق بين الراوي وشبين الكوم "أنت بطل لا يمكنه النهوض برواية وتحريك أحداثها، بل تتحرك كأنك الأحداث ذاتها".[xxx] كان "فهد الكاشف" (لاحظ الاسم ودلالته) مدربا على تهيئة المسرح قبل الأحداث الكبيرة، وكانت شبين على موعد مع زيارتين للرئيس، سوف يعلن في الأولى تعديل بعض مواد الدستور، وسيعلن في الأخرى ترشحه لرئاسة الجمهورية، وتتضح وظيفة "الكاشف" في حواره مع الراوي:

"الأيام القليلة القادمة ستكون شبين محط أنظار العالم كله، وأنا لا أريد أن أفاجأ. أريد أن أسمع شبين وهي تتنفس، وهي تخرف في نومها؛ حديث المقاهي والأسواق، كلام المثقفين وشطحاتهم. وكل ذلك مخبوء في عينيك التي تشبه القبر".[xxxi]

يستخدم "فهد الكاشف" كل أداوات القمع التي توفرها له السلطة على مستويين:

المستوى الأول: ويخصُّ به المثقفين والمعارضين، وهؤلاء يمارس عليهم الترغيب والترهيب والتضييق في الرزق؛ فقد "عشَّم الكثير منا بوظائف، وهدَّد آخرين وضيق عليهم حتى اطمأن لقبضته فوق رقابهم".[xxxii]

المستوى الثاني: ويخصُّ به عموم الناس، فقد كان الكاشف مدربا على صناعة الخوف والرهبة قبل كل حدث كبير، ولما كانت شبين على موعد مع حدثين كبيرين فقد حرَّك رجاله لينتشروا في كل مكان؛ كي يحدثوا ضوضاء عظيمة، "تتحول بعد أسابيع قليلة إلى عملاق أخرس يتحاشاه الناس، وحين يرحل العملاق من شبين يخرج الناس من بيوتهم مطمئنين للمدينة وللصمت الطويل".[xxxiii] لم يك "الكاشف" ممتنعا تماما، فقد تكررت عمليات اختراقه؛ فقد اكتشف الراوي أحد أعوانه، كما تمكن أحمد نعيمه من النصب عليه والفرار بماله الذي اقترضه منه، وخرجت المظاهرات دون أن يعلم بها.[xxxiv] وهذه وغيرها مؤشرات دالة على أن العقبة التي تقف أمام التغيير ليست صلدة قوية كما قد يُظن. 

(4)

قلنا إن المقابلة هي البنية الأساسية التي يرتكز عليها النص في رصده لتغيرات الواقع وتناقضاته، فكما كانت الشخوص، خاصة شخصية الراوي، منقسمة بين حياتين، كذلك نجد المكان "شبين الكوم" موزعا أيضا بين حياتين، حيث تبدو هذه المدينة الصغيرة فاعلة في كثير من الأحيان، إنها أكبر من مجرد مكان يُحبه المرء أو يكرهه، إنها ذات وجود مستقل قادر على الفعل: 

"أنا أعرف شبين جيدا... أعرف متى تبتسم شبين، شبين كانت تجمع لي عشائي في ورقة جورنال لحين عودتي وأنا منهك من اللف في شوارعها... فقط عليك الصمت وانذر لشبين عمرك وهي التي ستقشر اللوز لك وتصب الخمر لك، بل ومن أجلك تقتل وصدقني حين أقول تقتل...".[xxxv]

وإذا كان المكان يمتلك كل هذه الفاعلية بشكل عام، فهو بالنسبة لصعلوك يقضي الشطر الأكبر من حياته في رحابه أكثر قربا، وكم بدت "شبين الكوم" معشوقة كبيرة، بل إن الراوي كثيرا ما يصر على تشبيهها بالمرأة التي فتن بها. المكان مثل الكتاب يمكن تعلم أبجديته ولكم تمنى الراوي لو أنجنب كي يعلم ابنه هذه الأبجدية:

"قل معي يا بني: بعد الرَّي نادي الجمهورية، النجدة، قصر الثقافة، الإستاد، الرمد، مسجد الغفار، ومدرسة المساعي، ثم مبنى المَحْلَجٍ مهجور أسفل الكوبري العلوي، هكذا تقرأ سطرها الأول من اليمين".[xxxvi]

تبدو الأماكن التي تمثل السلطة مقابلة لأماكن العامة، فهي معزولة بعيدة؛ فمنزل المحافظ "يحوطه سور عال كأسوار السجون، وأمامه ينحصر جزء من النهر قبل أن يهرب من نفق تحت الشارع الرئيس إلى الترعة ... عجيب هذا المنزل، فعلى الرغم من المساحة التي يشغلها يبدو مفصولا عن المدينة مثل كلمة مشطوبة في رسالة من حبيبتك".[xxxvii]

للمكان ذاكرته التي تمكنه من استيعاب الجديد وصهره، أو لفظه بعيدا حين يرفض قيم المكان وثقافته أو يتمرد عليهما، لقد ارتبطت شخوص الراوية بالمكان على نحو مدهش، فبعض الشخوص تتعمق دلالاتها الرمزية حتى تستوعب ماضي المكان أو حاضره، لكن المكان غدا محاصرا من كل ناحية وسيطر الخوف والرهبة على كل شيء، كنت "أراقب من النافذة ذلك الشبح الذي ينتظرني عند ناصية الشارع، لا يبدو منه سوى ذيل جلبابه وحذائه المدبب"...دائما تلك الأقدام تلاحقني وعند المساء تنتظرني".[xxxviii]

كان كل شيء يؤذن ليس بالتغير، ولكن بالانهيار والسقوط، "لم يكن في مقدوري شيء لم أفعله وأنا أتابع ذلك الانحدار السريع نحو الهاوية، كل ما حولي كان يبشر بذلك"، لقد سقط الجميع، منهم من هرب، أو ومنهم من مات، ومنهم من خان، كانت المصائب تتوالى، كل شيء ينهار، حتى شبين نفسها، " خرجت كالمجنونة تكسِّر المصابيح وتهرب كالعفاريت في النهر. فجأة تخلت عن كل محبيها وسلكت مسلك العاهرات، باعت كل شيء، كل شيء يا شبين".[xxxix]

لم يسلم المكان كما لم تسلم الشخوص من التصدع؛ فقد تكاثر المشردون في "شبين، وظهرت الخوازيق المعمارية العالية بين المساكن البسيطة، وسيطر الطابع الاستهلاكي على كل شيء فقد امتلأت "الفراغات بمعارض السيارات والسوبر ماركت ومحلات التجميل".[xl] لقد تغيرت المدينة، ولم يعد لها "ذلك السحر الذي كنت أجده فيها".[xli] تغيرت وظيفة المقاهي؛ تحول (مقهى السنترال) من مكان يتجمع فيه المثقفون والمسرحيون والمطربون يؤدون مسرحياتهم وأغانيهم، يشاركهم في تلقيها رواد المقهى وسكان العمارات المطلة على المكان، تحوَّل مقهى "السنترال" - بعد سفر الراوي للعمل في إحدى شركات الأدوية بالسعودية وعودته - إلى مكان آخر، تُعْقَد فيه الصفقات، بل ويُقنن فيه الاتجار بآلام البشر، حيث يغدو المريض زبونا والدواء سلعة، وينزاح كثيرا مفهوم الصعلوك الذي يسير على قدميه عاشقا للمكان في ذاته إلى معنى جديد، تغدو فيه الصعلكة سبيلا لجمع المال، هكذا ألقى الراوي درسه على مجموعة الشباب التي يقودها مستغلا معرفته أو صعلكته السابقة.[xlii] 

(5)

تتداخل الخطابات في "قميص سماوي" بما يجعلها في هذا الجانب أحد الأعمال المعنية بما يُعرف بـ(تهجين السرد) وهو سبيل روائي يروم البحث عن اختصاص سردي عربي عبر تهجين السرد الحديث بأشكال من السرد التراثي، ولقد بلغ ذرته مع أعمال "أميل حبيبي" خاصة في روايته الذائعة "المتشائل"[xliii]، ولعل "قميص سماوي" سماوي أن تكون تنويعة على هذا المسلك؛ فقد وظفت عدة أنماط من الخطابات السردية وغير السردية، منها:

أولا: ألف ليلة وليلة، لقد سبقت الإشارة أعلاه إن البنية الكلية لهذا النص تتعالق مع البنية الإطارية لنص ألف ليلة وليلة، ولا يقتصر ذلك على البناء الإطاري وحده، بل يتسع ليضم وحدات سردية وأشكال أسلوبية وإيقاعية، لبعض الحكايات أو لجزء منها، وسنكتفي بمثالين على ذلك:

1- التعالق الإيقاعي والأسلوبي، يقول الراوي في وصف شجار زوجة الباشا مع عروسه الصغيرة الجميلة "عالية الشامية":

"فلما رأت شعرها للأرض ممدود، وصدرها قصرين عليهما نوافذ سود، ومن بينما أخدود ... تركت الهانم الكرباج من يدها ... ثم نامت لليلتها ولم تر الصباح ولا الجنايني يجمع التفاح".[xliv] 

والملاحظ أن هذا الوصف التراثي لم يستخدمه النص إلا مع حكاية "عالية الشامية"، التي هي جزء من ماضٍ بعيد، ورغم أن العمر قد طال بها إلا أنها ظلت تعيش في قصرها التراثي الذي يشذ عن باقي معمار المدينة شاهدا على عمقها التاريخي.

2- تأويل حكايات ألف ليلة، تنزع الراوية أحيانا إلى تأويل بعض الوحدات التي يزخر بها تراث ألف ليلة، مثل "الخاتم" و"العفريت"، فبدلا من أن يجلب الخاتم السرور يأتي بالنقم، فالخاتم في "قميص سماوي" هو خاتم الزواج الذي جلب للراوي المال والعذاب وخيانة أصدقائه، خلع الراوي خاتمه من يده ووضعه على الطاولة في مقهي أبي "يوسف" التي كان قد اعتاد الجلوس عليها مع أصدقائه، بدا الخاتم شديد اللعمان حين انعكست عليه أشعة الشمس ولما بدأ الراوي في سرد حكايته مع أصدقائه الصعاليك القدامى جاءت فتاة سمراء سرقت الخاتم، وحين قبض عليها أحد المخبرين منحه الراوي الخاتم "لمحت الخاتم مسودا تحت ظله الجاثم عليّ، تذكرت فهد الكاشف وخيانتي، لولا هذا الخاتم ما هزمني فهد الكاشف".[xlv]

ثانيا: النص الشعري: يبدو النص معنيا إلى حد كبير بتوظيف النص الشعري، حيث تتواتر نصوص لشعراء كثيرين، قدامى ومعاصرين، من الشعر المكتوب بالفصحى والمكتوب بالعامية، ومن نافل القول أن أن نشير هنا إلى أن ذكر هذه النصوص أو استدعائها مرهون بوظيفتها السردية، فأحيانا تأتي النصوص الشعرية لتشير إلى تحول اجتماعي معين، مثل التشدد الديني أو الفساد الإداري ... الخ

ومن هذه النصوص هذان البيتان اللذان يغنيهما المداح الشعبي ياسين التهامي:

"(أحبابي) أخاطر في محبتكم بروحي/ (نعم) وأشرب كاسكم ولو كان سما/ وأجوب في هواكم كل صعب/ (نعم) وأركب بحرَكم، إمَّا وإمَّا".

يدخل الراوي عقب سماعه هذه الأبيات في حوار مع زوجته:

-"حرام عليك تسمع الكفر. - أي كفر؟ - ياسين التهامي والمداحين. - ...الشيخة أم إياد قالت عنهم كفرة.

- أم إياد حمارة وإياد جحش. - تشتم ناس ربنا؟ - واحنا ناس مين؟ لا إله إلا الله".[xlvi]

وقد يأتي الشعر معبرا عن فساد الإدارة وانحطاطها، من ذلك النص الذي يردده الراوي بعد أن ألغى المحافظ اللواء عمران ياسين مسرحية عن فلسطين، وأحل محلها فرقة الرقص الشعبي في اليوم الوطني لمحافظة المنوفية، الذي يتزامن مع ذكرى حادثة دنشواي، كان الراوي ومعه الصعاليك يرددون قول الشاعر أحمد الصعيدي: "عَوْدًا، وف كل عام، يتقام الصوان فدداين، للطبالين والرقاصين، وعواهر الوطنية، وبيَّاعين الوطن، والعفن، وسواقط الثوريهْ، وجنرالات الخُطَبْ، والرُّتَبْ، والسُتَر محنية بالنياشين".[xlvii] يظهر الشعر هنا المفارقة بين جلال المناسبة وانحطاط القائمين عليها، وكيف جعلوا- وهم العسكريون -حدثا مثل دنشواي مناسبة للرقص! من الضروري هنا أن نشير إلى أن النص يذكر نصوصا عادة لشعراء معاصرين مثل أحمد حجازي وأحمد الشهاوي، وشعراء مدينة شبين الكوم مثل عصام عيدة، وأحمد الصعيدي، يحضرون بأسمائهم وبنصوصهم الذائعة، وهذا بحد ذاته يفتح النص الخيالي على واقع حي معيش يلمسه المتلقي أو يعايشه.

ثالثا: الأفلام السينمائية والنصوص الروائية:

يتوسع النص في توظيف الأفلام السينمائية العالمية والمحلية التي تمنح الوحدات الروائية مزيدا من الرهافة الدلالية تفتح النص على آفاق من التأويل أرحب، فيوظف أفلاما مثل "العرَّاب" و"البوسطجي" و سينما "عاطف الطيب" وشخوصا روائية مثل "الجبلاوي" في رواية "أولاد حارتنا"، ويتنوع، بلا شك، المدى السردي الذي تشغله هذه الأفلام/ النصوص، وتختلف تقنيات تعالقها النصي. فنجد شخوص الراوية – على سبيل المثال  – يتعالقون نصيا مع شخوص فيلم "العراب" عبر تقنية "الحلم"؛ حيث نرى "غادة" تعمل نادلة في كازينو إيطالي، والراوي يلبس المريلة البيضاء فوق قميصه، وينظر بصبر نافذ إلى معاكسات "فيتو كورليوني" لـ"غادة"، وحين ينفد صبره يخرج من خلف الخوان شاهرا سكينة، لكن "مارلون براندو" يضحك ويربت على كتفه ويقول له" صدقني حتى "فيتو كورليوني" كان ليترك كل شيء من أجلها، أنت محظوظ" وفرقع بإصبعيه فدخل كل من سيد جابر ومحمد الحفني وهما في زي رجال العصابات ... وأخذ سيد جابر يغني أغنية مضمونها: "الحب ينتصر يا ليل يا عين".[xlviii]

يبدو هذا التعالق النصي السردي والسينمائي نوعا من التعاشيق التي تمزج بين فنين على نحو مركب، تتجلى به مكانة غادة ورمزيتها، ولعل مجيئه عبر تقنية الحلم هو ما جعله مقبولا منسجما مع الاختصاص السردي. وهذا بخلاف ما نجده في توظيف فيلم البوسطجي الذي يلعب شكري سرحان بطولته؛ حيث يأتي هذا الاستدعاء في حوار بين "محمد الحفني" والراوي، حين بدا "الحفني" يائسا، نصح الراوي بالهرب من المدينة قبل أن يصدق نفسه "ربما لا يسعدك أن تعرف المدينة كما ترغب.. فلا تتورط مثل شكري سرحان الذي ظل على ما يرام إلى أن تجرأ وفض المظاريف، بدأ الأمر معه بلعبة وانتهى بكارثة".[xlix]

رابعا: الأغاني المتداولة   

توظف الراوية الأغاني الذائعة في السياقات المختلفة، وهي تروم من ذلك إنجاز أمرين، أولهما منح النص مزيدا من الحضور لدى المتلقي الذي يعرف – في الغالب – هذه الأغاني، والآخر، تدعيم الدلالة السياقية ونقل الأبعاد النفسية المختلفة للراوي، وربما إظهار موقفه من بعض القضايا، فحين يسمع الراوي في السعودية صوت فيروز يصدح بـ" يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك".[l] تجسد الأغنية شعور الراوي العميق بالحنين إلى شبين الكوم، وحين يصدح كاظم الساهر بأغنيته:

زيديني غرقا يا سيدتي إن البحر يناديني/ زيديني موتا، علَّ الموت/ إذا يقتلني يحيني".[li]

حيث يأتي هذا النص في سياق إقبال الراوي على الاندماج الكلي في عمله الجديد مندوبا لشركة أدوية في السعودية، وحرصه على إغفال كل القيم التي تعلمها من الدكتور صالح في شبين.

من الواضح أن الخطابات المختلفة قد أضفت على النص بعدا دلاليا لا يمكن إغفاله، ومن المهم هنا أن نلحظ وظيفتها التداولية أيضا، هذه الوظيفة التي تفتح النص الراوئي على تجربة المتلقي الخاصة. 

*

لقد استطاع الخطاب الروائي في "قميص سماوي" أن يلتقط العناصر الجوهرية في تناقضات الواقع المصري قبل ثورة يناير، فالتقى فيه، على نحو مدهش، الخيال الروائي بالأحدث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التقى فيها تعديل الدستور بحريق مسرح بني سويف بمظاهرات العمال الغاضبة، بالشباب الهاربين عبر البحر أو الهاربين إلى الماضي البعيد بالمدينة الهاربة المشوهة التي سلكت مسلك العاهرات فباعت كل شيء، وهو وضع ما كان له أن يستمر.

 

الهوامش والإحالات


[i] - من ذلك مثلا أن رواية توفيق الحكيم "عودة الروح" المعبرة عن ثورة 1919 كانت طبعتها الأولى 1928م ، والأمر نفسه ينطبق على ثلاثية "نجيب محفوظ" التي كانت طبعتها الأولى في 1957م. 

[ii] - نجيب محفوظ ملحمة الحرافيش، مكتبة مصر، (1987) ص558

[iii]- لقد كتبت نصوص كثيرة في فورة الحماسة الثورية، شعرية وروائية، وسيرة ذاتية، لشعراء وكتاب مثل: حسن فتح الباب، وحلمي سالم، وعبد الله السمطي، وإبراهيم عبد المجيد، وغيرهم. وهي نصوص حاولت – في عمومها – إدراك الحدث الاستثنائي، ولا يمكن بأي حال اعتبارها نصوص الثورة على مستويات الأسلوب والدلالة والرؤية والوعي الجديد الذي ولد مع الثورة، وهو بدوره وعي مغاير لما كان سائدا، أو أن هذا هو المفترض.

[iv] - محمد عمرو الجمال: قميص سماوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011م

[v] - السابق، ص44 

[vi] - السابق، ص 33

[vii] - السابق، ص 317

[viii] - السابق، ص 331 

[ix]- السابق، ص202

[x] - حكاية "ثريا" أخت الدكتور مصطفى خال زوجته ص90

[xi] - السابق، ص160

[xii] - السابق، ص9

[xiii] - السابق، ص 159- 161

[xiv] - السابق، ص 202

[xv] - السابق، ص 131

[xvi] - سامي عبد اللطيف الجمعان: تناسل الحكايات في ألف ليلة وليلة، مجلة الراوي، ع(18) مارس 2008م ص105

[xvii] - قميص سماوي، ص 278

[xviii] - السابق، ص302

[xix] - السابق، ص324

[xx] - السابق، ص223

[xxi] - السابق، ص84

[xxii] - السابق، ص262

[xxiii] - السابق، ص47- 48

[xxiv] - السابق، ص 248

[xxv] - السابق، ص249

[xxvi] - السابق، ص171

[xxvii] - السابق، ص335

[xxviii] - السابق، ص 337

[xxix] - السابق، ص312

[xxx] - السابق، ص261

[xxxi] - السابق، ص311

[xxxii] - السابق، ص313

[xxxiii] - السابق، الصفحة نفسها.

[xxxiv] - السابق، ص230

[xxxv] - السابق، ص11

[xxxvi] - السابق، ص58

[xxxvii] - السابق، ص57

[xxxviii] - السابق، ص280

[xxxix] - السابق، ص 244

[xl] - السابق، ص255

[xli] - السابق، ص151

[xlii] - السابق، ص62

[xliii]- لقد نجح" إميل حبيبي" إلى حد مدهش، في توظيف أجناس القول المختلفة، حتى اعتبرت المتشائل – في رأي كثير من النقاد - علامة مائزة في تاريخ الرواية العربية، ولقد حاول حبيبي بعد ذلك أن يستثمر هذا المنجز في "روايتيه: "إخطية" و"سرايا بنت الغول"، وإن كنا نرى أن إنجازه فيهما لا يرقى إلى ما أنجزه في "المتشائل"؛ فقد تحولت "إخطية"  إلى محفل يضم الكثير من الخطابات التراثية التي يعز على المتلقي – في غير قليل منها – أن يوجد الانسجام بينها أو يؤول دلالتها، بل إن من النقاد من اعتبر هذه الخطابات غير المنسجمة نوعا من الثرثرة، التي لا تغدو أن تكون مجرد لصق لاقتباسات شعرية ونثرية على جسد النص. انظر: فخري صالح: قبل نجيب محفوظ وبعده، ط(1) الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة2010م ص210

[xliv] - قميص سماوي، ص 145

[xlv] - السابق، ص206

[xlvi] - السابق، ص39

[xlvii] - السابق، ص47

[xlviii] - السابق، ص187

[xlix] - السابق، ص226

[l] - السابق، ص110

[li] - السابق، ص101