هذه القصة حدثت في الظلام. ولو قدر لي ان أكتبها مرة أخرى ، لكتبت فقط ما أطلق حينها من صيحات فزع و تلك الاصوات الأخرى الغامضة التي رافقت المجرزة. يصلح قسم مهم من القصة لعمل اذاعي تجريبي. أكيد أن غالبية القراء ترى القصة مجرد تلفيق قام به كاتب قصصي او قد تكون مجازا متواضعا عن الرعب. لكنني لا أجد أن هناك حاجة الى أن اقسم كي تصدقوا بغرابة هذا العالم . حاجتي هي كتابة هذه القصة ، كلطخة خراء في قمصان النوم ، ولربما لطخة على شكل زهرة برية.
في صيف عام 2000 كنت أعمل في بار وسط أسطنبول. أعانتني هنا لغتي الانكليزية الركيكة ، فزبائن البار كانوا من السياح ، واغلبهم من الالمان الذين كانوا يتحدثون بانكليزية مضحكة ايضا. كنت هاربا حينها من جحيم سنوات الحصار الاقتصادي. لاخوفا من الجوع ولا من الديكتاتور، بل كنت هاربا من نفسي . ومن وحوش أخرى. كان الخوف من المجهول في تلك السنوات القاسية يضاعف من طمس هوية الأنتماء الى الواقع المألوف ويدفع إلى السطح بوحشية كانت مطمورة تحت حاجات الأنسان اليومية البسيطة. في تلك السنوات شاعت قسوة حيوانية دنيئة سببها الخوف من الموت جوعا. كنت اشعر بأنني مهدد بالتحول الى فأر.
جمعت نقودا من ذلك العمل ودفعتها لمهربي مواشي الشرق البشرية الى مزارع الغرب . كانت هناك طرق للتهريب تختلف أسعارها :سفر جوي بجواز مزور إلا أنها تكلف كثيرا. هناك المشي مع المهرب عبر غابات وأنهار الحدود، وهذه أرخصها . هناك طريق البحر وطريق الشاحنات الذي كنت قد فكرت فيه. رغم انني كنت قلقا بسبب حكاية الجهاز الذي تستخدمه الشرطة في قياس ثاني أوكسيد الكربون في الشاحنات لكشف أنفاس من يختبأون فيها. لكن ليس هذا الجهاز قد دفعني الى التخلي عن فكرة العبور بالشاحنة ، بل حكاية علي الأفغاني و مجزرة شاحنة برلين. كان الأفغاني كنزا من كنوز حكايات التهريب. سكن عشر سنوات في اسطنبول بصورة غير قانونية. عمل في التزوير وبيع المخدرات لينفق مايجمعه على العاهرات الروسيات ورشوة الشرطة. بعضهم سخر مني لتصديقي حكاية شاحنة برلين. في الحقيقة لدي أكثر من دافع الى تصديق مثل هذه الحكايات. فالعالم بالنسبة لي هش جدا ومخيف ولاانساني ، وهو لايحتاج إلا الى رجة صغيرة ليخرج فظاعاته وأنيابه البدائية. بالطبع أنتم تعرفون قصصا تراجيدية كثيرة عن مثل هذه الهجرة ورعبها من وسائل الاعلام التي تركز قبل كل شيء على غرق المهاجرين . وأنا أجد أن مثل هذا الغرق الجماعي هو مشهد سينمائي ممتع شبيه بتايتانيك جديدة لدى الجمهور. فمثلا لا ينقل الاعلام اخبار قصص الكوميديا السوداء ومثلما لا تصلكم أخبار ما تفعله الجيوش الأوربية الديمقراطية حين تمسك ليلا ، في غابة عملاقة ، مجموعة من البشر المذعورين ، والمنقوعين بالمطر والجوع والبرد. شاهدت كيف ضرب جنود بلغار شابا باكستانيا بالمسحاة حتى فقده الوعي . ثم طلبوا منا جميعا ان ننزل في ذاك الزمهرير الى نهر شبه منجمد . حصل هذا قبل أن يسلمونا الى الجيش التركي.
يقول علي الأفغاني إنهم كانوا خمسة وثلاثون شابا عراقيا . شبان حالمون أتفقوا مع مهرب تركي لنقلهم بشاحنة مغلقة لتصدير الفواكه المعلبة من إسطنبول حتى برلين. كان الاتفاق بهذه الصورة : يدفع كل واحد أربعة الاف دولار، على رحلة أمدها سبعة أيام فقط . والشاحنة تسير في الليل وتتوقف في النهار عند مدن حدودية صغيرة. وكل من يريد أن يتغوط عليه أن يفعل ذلك في النهار ،أما التبول فمسموح به أثناء الليل داخل الشاحنة في قناني الماء الفارغة. ممنوع حمل أي هاتف خلوي أثناء الرحلة. على الجميع أن يلتزم الهدوء وأن يكتم أنفاسه أثناء التوقف في نقطة حدودية او أشارة مرورية وأن لا يحصل أبدا أي شجار . لكن ماكان يقلق مجموعة شاحنة برلين الحكاية التي تشرتها قبل أيام الصحف التركية حول مجموعة من الأفغان الذي دفعوا لمهرب أيراني مبالغ كبيرة لنقلهم في شاحنة الى اليونان. سارت الشاحنة بهم ليلة بكاملها . وقبل بزوغ الفجر توقفت الشاحنة ، وأمرهم المهرب بالنزول بهدوء وأعلمهم أنهم قد وصلوا الى مدينة يونانية حدودية. نزل الأفغان وهم يحضنون حقائبهم بأحاسيس هي مزيج من الفرح والخوف ، وجلسوا تحت شجرة عملاقة. قال المهرب انها غابة يونانية صغيرة ، وكل ما عليهم الانتظار حتى الصباح ، وحين تصل الشرطة اليونانية ، عليهم ان يتقدموا فورا بطلب اللجوء. في الصباح نشرت الصحف صورة الأفغان الجالسين في حديقة عامة وسط إسطنبول. لقد دارت بهم الشاحنة طوال الليل في شوارع إسطنبول ولم تخرج حتى الى ضواحي المدينة. ومثل جميع قصص النصب والاحتيال ، أختفى المهرب وشاحنته وزج الأفغان في سجن الترحيل.
لكن جماعة شاحنة برلين لم يكن أمامها خيار آخر سوى المغامرة. فالخوف من حكايات النصب، يعني الشلل وضياع الأمل والعودة الى بلد يخنقه الجوع والظلم. ثم أنهم اعتمدوا على سمعة المهرب الشهير . قالوا لهم انه أفضل المهربين في تركيا كلها و أشدهم نزاهة. و لغايتها لم يلق الفشل كما لم يخدع أحدا. إنه رجل ملتزم بدينه، و حج ثلاث مرات ، لهذا كانوا يلقبونه بالحاج ابراهيم.
انطلقت شاحنة الحاج أبراهيم من اسطنبول ليلا، بعد أن تزود (الزبائن )بقناني الماء والطعام. كان الظلام و الحر شديدين داخل الشاحنة ،وكان الهواء يتسرب الى الداخل من ثقوب صغيرة غير مرئية. كان الخوف من نفاد الهواء، يدفع الشبان للتنفس بسرعة مثل من يستعد للغطس في نهر. بعد خمس ساعات من سير الشاحنة، كانت رائحة الأجساد والجوارب المتعفنة والطعام المتبل الذي كان يلتهمونه في الظلام، يضاعف الاختناق . لكن الليلة الأولى كانت ناجحة. في الصباح توقفت الشاحنة في مرآب في قرية حدودية ،و فتح باب الشاحنة الخلفي، تنفس الزبائن وتجدد الأمل في صدورهم. كان المرآب عبارة عن زريبة سابقة. وأشرف على عملية التغوط شابين. لم يكن مسموحا حتى النزول من الشاحنة الى الزريبة، ولا السؤال عن مكان القرية وفي أي بلد هي . أحد الشابين يأخذهم حسب الدور الى مرحاض صغير وقذر للغاية في زاوية الزريبة . و الآخر كان يشتري لهم الماء او الطعام ، ويعود في اخر النهار.
في الليلة الثانية كانت هناك سيارة مرسيدس تسير على مسافة بعيدة من شاحنة برلين لتأمين الطريق وتزويد سائق الشاحنة بالمعلومات. سارت شاحنة برلين طوال الليلة الثانية بسلام ولم تتوقف الا ثلاث مرات لوقت بالغ القصر . في النهار ادخلوهم هذه المرة مرآبا كبيرا به شاحنات اخرى. وكان سهلا سماع ضوضاء المدينة.
سيارة جيب عسكرية كانت تسير أمام الشاحنة في الليلة الثالثة لتأمين الطريق. لم تقطع شاحنة برلين في رحلتها الليلية هذه المرة ،سوى خمس ساعات، فقد توقفت فجأة و أستدارت الشاحنة وعادت أدراجها بسرعة جنونية. انقبضت قلوب الشبان في ظلام الشاحنة وأحسوا بارتباك سائق الشاحنة من خلال قيادته الجنونية. اخذوا يهمهمون وقرأ بعضهم الأدعية والآيات القرآنية في سره أو بصوت خافت. كان هناك شاب صغير أخذ يعيد قراءة آية الكرسي بصوت مسموع، كان صوته جميلا خدشته نبرة بكاء وضاعف من هلع المسافرين. سارت الشاحنة بتلك السرعة مايقارب الساعة ثم عادت وتوقفت من جديد. بعدها بربع ساعة استأنفت الرحلة بسرعة متوسطة ، لكن اتجاه السير التبس على الشبان الذين انقسموا بين مؤيد لفكرة ان الشاحنة تعود أدراجها وبين من يعتقد انها تواصل الرحلة. كان الشبان على اعتقاد بأن مافايات التهريب هي التي توجه سائق الشاحنة عبر الهاتف الخلوي حسب ظروف الطريق ومخاطره مثل دوريات الشرطة. شعر الركاب بان الشاحنة اخذت تسير على طريق ترابي متعرج. توقفت الشاحنة فجأة وأطفأ السائق محرك السيارة وعم صمت مريب وغامض داخل شاحنة برلين. صمت شيطاني سيفرخ معجزة وحكاية لا تصدق.
أنتظر الشبان الخمسة والثلاثون أكثر من ثلاث ساعات في ظلام الشاحنة. كانوا يتهامسون عما حدث . أراد بعضهم التلصص من خلال الثقوب البالغة الصغر قرب باب الشاحنة الخلفي . كانت ساعاتهم اليدوية تشير الى السابعة وعشرة دقائق صباحا. وكان وقت التزود بالماء ، فمازال هناك ما يكفي من الطعام ، لكن الماء ينفد بسرعة ثم أن هناك الحاجة الى التغوط . وهكذا بدأ التذمر . أخذ بعضهم بركل جدران الشاحنة ومناداة من كان خارج الشاحنة. أعترض ثلاثة شبان وطلبوا من البقية الهدوء. كانت رائحة شجار عالقة في ذاك الهواء الشحيح والمكهرب. كان يتحادثون حسب مصدر الصوت. ويرى بعضهم بعضا مجرد ظلال داكنة. وعند منتصف النهار كان الجميع تقريبا يطرق على جدران الشاحنة وبابها الخلفي وهم ينادون ويستغيثون. كان هناك من تغوط في أكياس الطعام. وكانت الرائحة الفظيعة تتراكم داخل الشاحنة مثل طبقات من الحجر، و تشبه أنفاس الشبان مجتمعة كأن وحشا يتنفس بصخب في الظلام. وهزمت الرائحة والخوف أعصاب الجميع. فقد نشب شجار و عراك بالأيدي في الظلام، ثم إتسعت دائرة هذا العراك.وبعدها بساعة واحدة هدأت الحال. فالعطش أعاد الهدوء. وجلسوا يتهامسون ويتكهنون بأصوات خفيضة وكأنهم خلية من النحل . وبين حين وآخر كان أحدهم يطلق شتيمة او يركل جدران الشاحنة. كان أغلب الشبان يحرص في تلك اللحظات على ان يخبأ ماتبقى له من طعام وماء في داخل الحقائب،
رغم الظلام الأسود الذي لم تميز فيه الوجه عن القدم قام هذا وذاك بأفعال لايمليها ما كان يحدث : واحد يربط حذاءه و ثان ينزع ساعته اليدوية ويخبئها في جيبه وثالث يغير قميصه في مثل ذلك الظلام . هكذا هي مخيلة الانسان . تنشط بغرابة في مثل هذه المواقف متحولة الى جرس انذار وحبوب مهلوسة.
في نهار اليوم التالي كانت هناك فوضى عارمة. أراد شبان صغار فيهم مايكفي من الطاقة للتشبث بالحياة ، كسر باب الشاحنة ، وأخرون استمروا بالصراخ و الطرق على الجدران . واحد توسل وإستغاث من أجل جرعة ماء . أصوات ضراط وشتائم . آيات قرآنية وادعية قرأوها بصوت عال. بعضهم أصابه اليأس وجلس يفكر في حياته مثل مريض يحتضر. اما الروائح فكانت لاتطاق وكفيلة بإبادة أكثر من سرب واحد من الطيور التي كانت تحلق فوق رؤوسهم . أنا لا أكتب الآن عن تلك الأصوات والروائح التي أطلقت واختفت في دروب الهجرة السرية ،بل عن تلك الصرخة المدوّية الوحشية التي دوّت بغتة في الفوضى. بدت كأنها قوة مجهولة جعلت من صخب الشاحنة وفوضاها طبقة قاسية من الجليد. خيّم صمت كثيف لزج يسمح لك بسماع دقات قلب كل مسافر، كانت صرخة خارجة من كهوف لم تفك أسرارها . بعد سماعهم الصرخة أرادوا تخيّل مصدر هذا الصوت اللانساني ، كما اللاحيواني ، والذي زلزل ظلام الشاحنة.
أخذت الشاحنة تهتز بعنف في مكانها ،وأنداح الصراخ و الرعب من جديد. بدوا أفواها لإنسان عملاق شبت فيه النار . نعم ، بدت أصوات الاستغاثة والوجع تلك مثل حمم البراكين هذه المرة . بدا الأمر كأن قسوة الانسان والحيوان ووحوش الحكايات الخرافية قد تكثفت واخذت تعزف لحنا جحيميا مشتركا.
عثرت الشرطة الصربية بعد أربعة أيام على الشاحنة عند أطراف مدينة حدودية صغيرة تحيط بها الغابات من كل الجهات. كانت الشاحنة داخل حقل مهجور للدواجن. ليس مهما الآن ما حدث للمهربين. فهذه قصص متشابهة. ربما علم المهربون بمراقبة الشرطة لتحركاتهم وارادوا الاختباء لبضعة ايام او لسبب تافه اخر له علاقة بخلافات بين مافايات التهريب حول النقود .
حين فتح رجال الشرطة الباب الخلفي للشاحنة، نط شاب ملطخ بالدماء من داخل الشاحنة وركض كالمجنون صوب الغابة . طاردته الشرطة. لكنه توارى في تلك الغابة العملاقة . في الشاحنة كانت هناك أربعة وثلاثون جثة . لم تمزقها السكاكين أو أي سلاح آخر بل كانت أجسادا عملت بها مخالب ومناقير نسور وأنياب تماسيح وأدوات مجهولة أخرى. كانت الشاحنة مليئة بالخراء والبول والدم والأكباد الممزقة والعيون المقلوعة والأحشاء تماما كما لو أن ذئابا جائعة كانت هناك. تحول اربعة وثلاثون شابا الى عجينة كبيرة من اللحم والدم والخراء.
يانكوفتش الشرطي الصربي العجوز لم يصدق أحد روايته ، بل سخروا منه .ومن كان معه هناك لم يدعم شهادته. بل أتفقوا معه فيما يخص ذاك الشاب الملطخ بالدماء والذي هرب الى الغابة.. وكانت الصحف الصربية قد تساءلت عن أسباب اختفاء الشاب لكن الشرطة ادعت بأنه عبر الحدود الى هنغاريا.
في السرير يقول يانكوفيتش لزوجته و هو ينظر الى السقف : لست مجنونا يا أمرأة ... أقول لك للمرة الألف ... ما أن دخل الشاب الى الغابة حتى أخذ يعدو على أربع ثم تحول الى ذئب رمادي قبل ان يختفي فيها...