الدبلوماسي خالد موسى دفع الله، أديب رشيق العِبارة، وكاتب فصيح البيان، يحسن الانتخاب ويجيد النقد، له ملكة في اختيار الموضوعات الثقافية والسياسية كاملة الدسم، وفضيلة في ذكر مناقب عمال الحركة التنويرية. وتصدع نبرة هذا الألق الفكري في تقديمه الجامع المناع لكتاب الدكتور حامد فضل الله، "أحاديث برلينية: حول قضايا أوروبا والإسلام والأدب والفكر" الذي صدر عن دار دليل للطباعة والنشر (برلين)، 2013م. واختار خالد لتقديمه عنواناً جاذباً "تأملات في حياة مثقف استثنائي"، مبتدراً ذلك التقديم باستهلال رفيع المقام وعميق المقال: "هذا جليس ماتع الصحبة، أنيس الرفقة، شيق المطالعة، متنوع المحتوى، رحيب المبنى، وعميق المعنى؛ لأنه منخول ومستل من معاني جليلة الأثر، وأن موضوعاته في عمقها الفكري تتناول قضايا اندماج الأقليات في ألمانيا، وتفاعلات الإسلام في أوروبا من خلال تراجم بعض الأعمال الهامة لكبار المثقفين والمفكرين والخبراء الألمان. وهي موضوعات شديدة الحيوية، عميقة الفاعلية والجاذبية، ما تزال تصطخب بكثير من الجدل بين المثقفين، والمفكرين، والساسة، وصناع القرار في أوروبا." بهذه المهنية في السرد أجاد خالد توصيف المحتوى، وأحسن نعت المؤلف بـالمثقف الاستثنائي، وعاضده الرأي الأديب الدبلوماسي جمال محمد إبراهيم، وصفاً ابن فضل الله بالسفير الشعبي، "كامل الاعتماد سفارةً، وعَلَماً، ورسالةً، فضلاً عن أنه نطاسي بريع، وأديب "صادق العبارة بَهيّها، عميق الانتماء لوطنه، غيوراً."
والمقارنة بين نطاسية ابن فضل الله وتفرد عطائه الأدبي المنبسط على سفوح المواقع الاسفيرية، تذكرني بكلمات أديبنا الراحل الطيب صالح: أن "الأطباء على وجوههم شيء ما، كأنهم يعرفون سراً لا يعرفه بقية الناس، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة والموت." ويبدو أن ابن فضل الله قد رأي تلك التقلبات في غرف انعاش تخصصه المهني، وفي مسارات حركته العامرة بالترحال في فضاءات الزمان والمكان والفكر، والاختلاط بشعوب الأرض المختلفة لساناً ولوناً، والمثابرة في الاطلاع على متون الإبداع الفكري، والمداومة على حوار الآخر، بعقل منفتح لا تحده سياجات نحن وهم. كل هذه الفضائل والمعارف الواسعة تتجسد في عنوان هذا الكتاب المؤنس: "أحاديث برلينية: حول قضايا أوروبا والإسلام والأدب والفكر"، الذي يحمل بين دفتيه مفردات نصوص متنوعة من حيث الموضوعات، والمواقف، والمشاهد، والصور المقلوبة لأصحاب الانتماءات السياسية والنخب العربية والمسلمة.
راجع "أحاديث برلينية" وعلَّق عليه نخبة من القراء والأدباء النابهين، أمثال الأستاذ الدكتور كاظم حبيب، والكاتب الفلسطيني محمد شاويش، والدكتور حيدر إبراهيم علي، والدكتور محمد بدوي مصطفى. فالذي يقرأ تقاريظ هؤلاء، تطرأ في ذهنه مأثورة أسماء بنت عبد الله العذرية: "لا عطر بعد عروس" لذلك لا أود أن أعيد كرة التقاريظ والإطراءات على المُؤلِف والمُؤلَف، رأفةً بالقارئ الكريم، بل أجهد نفسي لأجد لقلمي موطن سطر بين المعاني والمواقف التي يحملها الكتاب بين دفتيه، علها تعين في استنباط أو استنتاج بعض الدروس والعبر التي تعكس طرفاً من الخيوط الناظمة لمحتويات أحاديث برلينية، والقيم الإنسانية الناسجة لشخصية مُؤلِفه الفذ.
العلاقة التكاملية بين النص والمؤلف
عندما يتنقَّل القارئ بعدسات عينه الفاحصة بين ثنايا "أحاديث برلينية"، يطرأ في ذائقته المعرفية سؤال مشروع: هل "أحاديث برلينية" شذرات من سيرة ابن فضل الله الذاتية لم تكتمل بعد؟ أم حوليات مثالية عن أحداث ومواقف عاصرها المؤلف؟ في إجابتي عن هذا السؤال المزدوج أميل إلى الجمع بين الاثنتين (السيرة والحوليات)؛ لأن الدكتور حامد استطاع أن يرصد طرفاً من تجاربه الحياتية، ويكشف عن مكنونات سرها المجهول، مع إدراك راشد لطبيعة دور الفرد في إطار الجماعة، وعند هذا المنعطف تبرز شبكة الصلات الجامعة بين السيرة الذاتية والحوليات المثالية، والمزج بين الحسنين يعطي قراءة أحاديث برلينية طعماً ومذاقاً خاصاً. وفي الطرف الذاتي وثق حامد مراحل حياته التعليمية، بدء بكلية الأقباط بالخرطوم، وانتهاءً بالحياة الجامعية بألمانيا، مع الإشارة إلى بعض جوانب حياته العملية والاندماجية بمعناها الواسع في ألمانيا. ومن خلال هذا المسار الحياتي المملوء بالتحديات والانجازات السامقة، يلمح القارئ إصرار ابن فضل الله على تحقيق غاياته المنشودة، وفضيلة تسامحه مع الآخر، وإقراره بأن الحفاظ على المبدأ الفكري والسياسي يجب أن لايفسد للود الاجتماعي الإنساني قضية.
ويذكرني هذا الانبساط الفكري في حياة المؤلف بتصنيف روزفلت إلى العقول الإنسانية إلى ثلاث طبقات: عقول كبيرة تناقش الأفكار، وعقول وسيطة تهتم بالأحداث، وعقول وضيعة لا يتجاوز أفقها الفكري الانشغال بسلوكيات الناس الشخصية. فعقل ابن فضل الله أقرب إلى العقول الكبيرة التي تهتم بعالم الأفكار؛ فلذلك جمع في ثنايا مؤلفه بين الدكتور حيدر إبراهيم والأستاذ خالد موسى، رغم "الجغرافية الفكرية المتباعدة" بين العلمين. ويؤكد ذلك أيضاً دفاعه عن كتاب الدكتور محمد محمود الموسوم بـ "بـنوة محمد: التاريخ والصناعة: مدخل لقراءة نقدية"؛ لأن ما يراه الآخرون قطعيات في نموذجهم الفكري واعتقاداتهم الدينية، لا يجوز تجاوزها البتة، يصنفها صاحب أحاديث برلينية في دائرة القضايا الظنية، ونسبية الاجتهاد البشري القابل للخطأ والصواب؛ ولذلك نلحظ أنه أقرَّ برسوخ قدم الدكتور محمد وقيع الله من الناحية المعرفية، ولكن قدح في شخصنته لأدبيات الحوار، عندما قال: "قام د. محمد وقيع الله بجهد مقدر في مراجعته لكتاب محمد [محمود]، ولكنه جنح إلى التجريح الشخصي السافر والصريح، وإلى الكلمات المسيئة، وخاصة فيما يتعلق بالدكتور حيدر في عدة مقالات، بالرغم من أن القضية تدور حول كتاب د. محمد محمود، وكأنه يترصد الفرصة للهجوم على حيدر، مما يقدح في مصداقيته، ويجعل القارئ ينظر إلى كتاباته بكثير من الشك والريبة. ود. وقيع الله كاتب غزير الانتاج، واسع الاطلاع، جيد العبارة، لولا مسحة التزمت والتشنج التي يغلف بها أحياناً أسلوبه، فلماذا يضحي بسمعته الأكاديمية من أجل هدف آني، وضجة إعلامية ... اتمنى أن لا يقوم محمد محمود وحيدر إبراهيم بالرد على د. محمد وقيع الله، احتراماً للنفس، وارتقاءً بأدب الحوار، فلقد تعلمنا: أن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال." (ص: 305-306). وهنا تكمن نقاط الالتقاء والافتراق بين ابن فضل الله والآخرين، بدليل أنه يفضل مقارعة الفكر بالفكر، والحجة بالحجة، ما دامت هناك نسبية في المعرفة الإنسانية كما يقول الحسن بن هانئ (أبو نواس):
"فقل لمن يدعي في العلم فلسفة *** حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء"،
وبهذا الالتزام المعرفي والأدب الحواري يستطيع المثقف الثبت أن يترفَّع عن ترهات المسائل الشخصية.
وأما فضيلة الإصرار على تحقيق الرغبات والتطلعات الذاتية فتتجسد في تعلق الدكتور حامد بتعلم مهنة الطب، واقتناء قسط من الثقافة العامة؛ لذلك هجر التعليم بكلية العلوم-جامعة الخرطوم، مفضلاً الرحيل إلى قاهرة المعز؛ إذا كانت البعثات التعليمية المصرية المخصصة للسودانيين تفي طرفاً من تطلعاته الذاتية، لكن المنح الدراسية المخصصة للسودانيين في ذلك العام (1955م) وُزعت على أبناء الختمية والتجار الموسرين، فكان نصيب حامد مقعداً في كلية الطب البيطري دون إعانة معيشية. أخيراً عاد حامد إلى السودان، حيث حصل على منحة دراسية لدراسة الطب البشري في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية)، وبعد سني دراسته في مدينتي لايبزج وهالة تخرج طبيباً عموماً، ثم مارس مهنة الطب في السودان (أمدرمان- وجوبا)، وبعدها عاد إلى إلمانيا ليتخصص في مجال طب النساء والتوليد. وأكتملت هذه الخطوات بتأسيس مركز صحي للتوليد في مدينة برلين، بالرغم من معارضة السلطات المحلية، لكن القانون وقف إلى جانب الدكتور حامد فضل الله، الذي أمضى أربعة عقود في هذه المهنة الإنسانية إلى أن تقاعد عن العمل المهني في العقد الأول من هذه الألفية، متفرقاً للعمل الطوعي والانشغال بقضايا الثقافة، ومشكلات الجاليات السودانية والعربية في ألمانيا.
أما البُعد الثالث للعلاقة التكاملية بين النص والمؤلف فيتمثل في معالجة ابن فضل الله لإشكالية الاندماج في المجتمع الألماني في ظل الخشية المضخمة في أذهان العرب والمسلمين من فقدان هويتهم العربية، أو الإسلامية باندماجهم في المجتمع الألماني. يرفض الدكتور حامد هذا الاحتراز الرهابي، ويميل إلى الاندماج، محتجاً بأنه الطريق الوحيد للعيش والعمل المشترك، والتفاهم، والتفاعل، والتلاقح، أو التأثير المتبادل بين الثقافة الوافدة وثقافة أهل الأرض، دون أن يؤثر ذلك سلباً على طرفي المعادلة. وتحقيقاً لهذا الاندماج يقدم ابن فضل الله جملة من الآليات المساعدة، التي يأتي في مقدمتها اتقان اللغة الألمانية كتابة ومخاطبة، والتسلح بالعلم المهني والإنساني النافع، واحترام الثقافة الألمانية بمفهومها العام القائم على العادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات، وبناء العلاقات الشخصية مع الألمان، ثم التفاعل الإيجابي مع مؤسسات المجتمع المدني بضروبها المختلفة. وهنا يكمن أسَّ الربط بين حوليات المؤلف تجربته الشخصية التي تقدم نموذجاً حيَّاً لقضية الاندماج في المجتمع الألماني مع الحفاظ على الهوية القومية والدينية في آن واحد. وبناءً على هذا المبدأ يتحرك الدكتور حامد في ثلاثة فضاءات متداخلة، تشمل الفضاء السوداني، والفضاء العربي-الإسلامي، والفضاء الألماني، حيث حقق نجاحات منقطعة النظير، ولدرجة دفعت صديقه الدكتور كاظم حبيب أن يصفه باستقلالية عالية في التفكير، وكفاية في اتخاذ المواقف والقرارات المناسبة، واستخدام فطن للوسائل المتاحة ومعطيات اللحظة في حل المشكلات الآنية التي تواجهه في إطار محيطه الوافد، أو واقعه المعيش.
البعد الفكري وانعكاسات على الواقع السوداني
يجد القارئ المتمعن في أحاديث برلينية أنه يقف أمام مثقف استثنائي، بمواصفات انطونيو غرامشي وخالد موسى دفع الله، فضلاً عن أنه كثيف القراءة، ومجيد الانتخاب في الشعر، والنثر، والأدب الروائي، وله ذائقة عالية في التاريخ، وعلم الاجتماع، والسياسة. يهتم بقضايا المجتمع السوداني على المستوى الفكري، والسياسي، والاجتماعي. ومن شواهد الاهتمام الفكري، حرصه الدائم على مشاركة السودانيين في المحافل الدولية والمؤسسات العلمية في ألمانيا، ونذكر منها حديثه عن معهد الدراسات العليا ببرلين، إذ يقول: "هذا المعهد يقدم منحاً دراسية لمدة عام لأساتذة الجامعات والعلماء في جميع التخصصات؛ ليتفرغوا لأبحاثهم. وهناك الكثير من العرب والأفارقة الذين حصلوا على هذه المنح، بل بعضهم أكثر من مرة، ولم يكن بينهم سوداني واحد. وعندما تحدثت مع المسؤولين محتجاً، قالوا إنهم لا يعرفون الكثير عن السودان، ولم يقدم أي باحث، أو عالم من السودان للحصول على منحة. فقمت من جانبي بالاتصال بثلاثة من علمائنا، والذين تنطبق عليهم شروط المعهد؛ ولكن لا حياة لم تنادي. لماذا هذا الكسل وعدم الاهتمام." (ص: 72).
ومن جانب آخر نلحظ اهتمام ابن فضل الله بالشأن السوداني ينعكس في الرسالة التي بعثها إلى الدكتور حيدر إبراهيم عندما أصدر مركز الدراسات السودانية بالقاهرة العدد الأول من مجلة كتابات سودانية، قائلاً: "تلقيت العدد الأول من المجلة بفرح يعادل فرح الوالد الذي يستقبل مولوده الأول، وكنت قد سمعت بفكرة إصدارها من صديق قادم من السودان." ثم يمضي في اتجاه الهدف الذي تنشده كتابات سودانية، ناصحاً: "إذا أردنا كتابة التاريخ والفكر السوداني فعلينا أن نفعل ذلك بشجاعة، ودون مجاملة، وأن نتعرض للأحزاب السياسية جميعها، ولدور المثقفين السودانيين الأعضاء في هذه الأحزاب، وخاصة تلك التي لا تمتلك برنامجاً سياسياً، ولا خطة للحكم، ولا ديمقراطية داخلية، ولا تناضل، بل تجري فقط وراء السلطة، وعندما تنالها تمارس السفه فينا." وهنا يظهر طرف من التوافق الفكري بين حيدر وحامد؛ لأن الأول كتب على الغلاف الخلفي للمجلة: "بالكتابة نهزم سلطة البياض وعقل المشافهة، بالنقد ننقض بلادة المؤسس والمستقر، وإعادة الفكر نقدياً في الواقع والفكر السوداني ... وتوثيق الثقافة السودانية بكل تنوعاتها." (ص: 368).
إنَّ إيمان ابن فضل الله بأن حرية الفكر لا تسود إلا في مناخ ديمقراطي، وأن الأبداع لا ينشأ في كنف أنظمة الحكم التسلطية، جعله يقرظ العطاء الأدبي والفكري للأستاذ خالد موسى، الوزير المفوض بسفارة السودان ببرلين، من طرفٍ؛ ويعتب عليه من طرفٍ ثانٍ، قائلاً: "خالد ليس موظفاً فحسب، وإنما أيضاً مثقفاً، وكاتباً، ومبدعاً. وأنا لا أريد هنا إثارة قضية العلاقة بين المثقف والسلطة، فهذا موضوع إشكالي، ومتشعب، ولكن اتساءل: كيف يستطيع خالد التوفيق بين توجهات النظام وبين أفكاره ومعتقداته، والتمييز بين السلطة والعدالة؟ هل يدفع خالد ثمناً باهظاً من قناعاته، وقيمه من أجل الولاء؟ ... تربطني بخالد صداقة، أعتز بها، مصدرها إلى جانب بشاشته، وابتسامته الصافية، وتواضعه الجميل، وهواية الأدب والثقافة عموماً. وكعلماني فكراً وممارسةً أمتلك القدرة على الفصل بين الخلافات السياسية، والفكرية، والعقدية، والأيديولوجية، وبين العلاقات الإنسانية. ولكن عندما يقول لي صديق عزيز، بأنك تتذرع بكلمة الإنسانية، وتستخدمها بانتهازية صارخة؛ لتبرير علاقتك مع مَنْ يُوظف مقدرته في خدمة نظام يرسِّخ سلطة الاستبداد، ويقهر المواطن السوداني سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، لا استطيع أن أنكر وجاهة المنطق ودفعه، وربما تأتي الإجابة عن محلل نفسي في قامة مصطفى صفوان، التلميذ النجيب لجاك لاكان، وخير من يمثل مدرسته؛ ليكشف اللاوعي الفردي فينا، وإمكانية اكتشاف حقيقتنا الذاتية." (ص: 368-369).
لكن للدكتور حامد فضل الله رصيد حافل من المواقف الثابتة التي تخرجه من قفص الانتهازية، ونذكر منها انتقاده لقرار وزير الثقافة والإعلام بإغلاق مركز الدراسات السودانية في الخرطوم، بفِرية "تهديد الأمن القومي". وهنا يتساءل حامد: "لماذا تُغلق مؤسسات ناجحة، لا تكلف الدولة شيئاً، وعائدها يعود إلى المواطن الذي تخلت عنه الدولة، بينما المؤسسات العديدة والمراكز (المستودعات) الفكرية التي كونتها الحكومة، مدعومة مالياً من الدولة بقوة، بهدف دعم الحياة الفكرية والسياسية في السودان، ومساعدة الدولة في اتخاذ القرار السياسي، مردودها ضعيف جداً، ليس له أثر يذكر في الواقع المعاش، ولكنها رغم ذلك لا تزال تتلقى الدعم، ويهدر المال العام، رغم النقد الحاد الذي يقدمه أعضاء من داخل التنظيم يطالبون بحلها." القضية يا صديقي ليست لها علاقة بالأمن القومي، كما تعلم، ويعلم غيرك، القضية ترتبط مفاصلها بانتقادات الدكتور حيدر إبراهيم لرموز النظام، وللشخصيات السياسية والفكرية المهادنة على الظلم والاستبداد والفساد السياسي والمالي في السودان. مشكلة حيدر الأساسية أنه لا يعرف المواربة، ويجيد السباحة عكس تيار التملق والزيف، والشاهد على ذلك تخلفه عن حضور حفل العشاء الذي أعدَّه الأستاذ علي عثمان محمد طه، النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية، لضيوف مركز الدراسات السودانية بالخرطوم، معللاً عدم تلبيته للدعوة إلى أنه منذ عودته إلى الخرطوم "لم يرحب به أي مسؤول، ولم تقدم له في السابق أي دعوة، فلماذا الآن." وهنا مربط الفرس.
أنها كما يرى الدكتور حامد فضل الله "عزة النفس، واحترام الذات"، ولذلك هجر الدكتور حيدر إبراهيم الخرطوم عندما أُوصدت أبواب مركز الدراسات السودانية، مفضلاً السكن في شقة بالإيجار في قاهرة المعز، ليواصل اسهاماته التنويرية، التي تجسد جديدها في أربعة كتب، هدية للشعب السودان، وعناوينها تشهد على مواقف حيدر المعارضة للنظام: "الأمنرقراطية وتجدد الاستبداد في السودان؛ السودان الوطن المضيع؛ التجديد عن الصادق المهدي: الإشكالات والاختلالات؛ مراجعات الإسلاميين: خسارة الدين وكسب الدنيا." ولكن دعوني هنا استأنس بشهادة الأستاذ خالد موسى دفع الله: أنَّ "الدكتور حيدر إبراهيم شديد الحرص علي ترسيخ مبدأ استقلاله الفكري، واستطاع بفكره وجهده وقدرته على التمايز، أن يحفر لنفسه عميقاً، مركزاً في دائرة فوضى الحواس في التجربة السياسية والفكرية في السودان. فهو رغم التماهي الفكري مع التيار العروبي القومي، والانتماء إلى اليسار الليبرالي العريض؛ إلا أنه أيضاً يقدم أطروحات نقدية لهذين التيارين، بدعوى نشدان الموضوعية والعقل. والذي يطالع انتاجه الفكري، وما يتضمنه من صرامة في الفكر والمنهج يقدح في قدرته علي التدفق الإنساني، ومن يقرأ سيرته الذاتية التي خطها بقلمه يدرك أن له ينبوع متدفق من الحس الإنساني الشفيف، والقدرة على السرد، واجترار المفارقات والاحتفاء بالأصدقاء. ومن يكتب سيرة تطوره الذاتي لا شك يختزن لنفسه صورة يعبر عنها من خلال التوثيق والسرد والكتابة."
ألم يحن الأوان للساسة في السودان ودعاة "العقل الاسترايتيجي"، كما ينعتون أنفسهم، أن يرجعوا البصر كرتين في قراراتهم الفطيرة التي يدفع ثمنها الشعب السوداني، بالأمس القريب أداروا ظهورهم للأديب الراحل الطيب صالح على خلفية مقاله الشهير "من أين جاء هؤلاء الرجال؟"، ومنعوا تداول إصدارته الأدبية في السودان، وبعد فوات الأوان سمحوا لشركة زين للاتصالات أن تصدر جائزة سنوية عالمية باسم الأديب الراحل الطيب صالح؛ وكذلك الحال بالنسبة الشاعر الراحل محمد الحسن سالم (حميد)، الذي نعتوه بالانحياز لليسار دون يقرأوا روائعه الشعرية في عشق الوطن: "سوقني معاك يا حمام" و"أرضاً سلاح". مهلاً يا هؤلاء! الدكتور حيدر إبراهيم اتفقنا، أو اختلفنا مع منتوجه الفكري، فهو باحث مبدع، ومثقف غرامشي، من حقه أن يعيش في السودان، وأن يفكر كما يشاء، ومن واجبنا نحوه، أن ننادي بعودته وعودة مركز الدراسات السودانية إلى الخرطوم، فإذا كانت الدعوى هي دعوى الحفاظ على الأمن القومي، فالأجدر أن يكون المركز مقيماً بين مقرن النيلين بدلاً عن فرعي دمياط ورشيد. علماً بأن حيدر، كما يرى الدكتور حامد، "لن يستسلم ... وأمثاله من المثقفين المبدعين، وهم ليسوا قلة في بلدنا، سيشعلون النور من جديد، ويقومون بدورهم المقدس في الدفاع عن حرية التعبير، وحرية النشر، وحرية الرأي والعقيدة. فإغلاق مركز الدراسات السودانية، وأعقبه غلق مركز الخاتم، ثم منع ندوة اتحاد الكتاب السودانيين حول مفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، سيعقبها مصادرة الكتب، ثم حرقها، والذي يحرق الكتب، سيحرق الناس، كما يقول الشاعر الألماني الكبير هاينرش هاينه." (ص: 301). فعودة الدكتور حيدر والطيور المهاجرة من أمثاله تعني عودة الحرية، "لتجاوز الخواء الفكري، والجدب الثقافي، والتخلف الموطد، وخداع السياسة، والتسطيح المبرمج الذي يخيم على وطننا الآن. فلا بد من التضحية، ودفع الثمن، والصمود مهما بَعُدَ الطريق، واشعلت النار، وتصاعد الحريق." (ص: 305).
هكذا يفكر مؤلف "أحاديث برلينية"، فله منا التهنئة الصادقة على إصدار هذا الكتاب القيم في موضوعاته، التي تجمع بين فن السيرة الذاتية، وكتابة الحوليات المثالية، التي تدوَّن من الذاكرة، أو المذكرات، ولذلك يقول ابن فضل الله: "أنني أكتب عن تجربة شخصية، وعن شخصيات التقيت بهم على درب الحياة، وربطتني مع بعضهم علاقات وطيدة، وحميمة أعتز بها، بعضهم الآن في رحاب الله، يرقدون في مثواهم الأخير في أمان؛ وبعضهم لا يزال على قيد الحياة، يواصلون النضال كل على طريقته، وحسب رؤياه، من أجل مستقل واعد وزاهر للوطن، وبما أنني أكتب عن فترة طويلة، وكغالبية المثقفين السودانيين من الذاكرة، فأنبِّه منذ البداية، وأطلب المعذرة إذا كان هناك ثغرات في السرد، أو خلط في الأسماء والسنين." (ص: 75).