فى ثلاثة كتب (مختلفة العناوين، موحدة النهج والغايات) قدم لنا الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق ثلاثيته للتأريخ الإنسانى، فجاء الكتاب الأول بعنوان "المهمشون فى التاريخ الإسلامى"، والثانى بعنوان "المهمشون فى التاريخ الأوربى"، والثالث والأخير بعنوان "المهمشون فى التاريخ المصرى". وإذا كان الكتابان الأولان يؤرخان لمجموعة دول يوحدها الإسلام أو يجمعها قارة، فإن الكتاب الثالث خصصه الكاتب فى التاريخ المصرى منذ القِدم حتى العصر الحديث. ورغم اهتمامه بالتاريخ الإسلامى - فى أغلب كتبه ومحاضراته - فإن د. محمود إسماعيل يتجول فى ثلاثيته هذه عبر عصور وأماكن مختلفة، مما يدل على موسوعية المؤرخ وعلمه الغزير، بل ودقة كتاباته المؤرخة لعصور مختلفة، وهو ما لا نراه - للأسف - فى معظم أساتذة التاريخ فى الجامعات العربية، لانغلاقهم على تخصصهم الضيق فقط.
كان الهدف الرئيسى لهذه الثلاثية التاريخية الرائعة، هى عرض بانورامى تاريخى منصف عن نضال المهمشين عبر عصور التاريخ المختلفة ضد الغزاة من الخارج والطغاة فى الداخل، من أجل تبصرة المهمشين والمستضعفين فى الأرض بإمكانية الكفاح، رغم ضراوة الخصوم وتعقد الظروف التاريخية.
ففى كتابه الأول، يهدف محمود إسماعيل إلى تقديم تاريخ لحركات المهمشين في صورة مقالات مبسطة للمثقفين العاديين لنشر الوعي التاريخي والذي يؤكد الكاتب على أهميته في قراءة حاضرنا المعقد والغامض. وهو هنا يرصد للحركات المجهولة والمشوهة في التاريخ الإسلامي المدون، وهو ليس كتابه الأول في هذا المجال؛ حيث سبقه كتاباه "فرق الشيعة"، "الحركات السرية في الإسلام".
ويهدف د. محمود إسماعيل أيضًا - فى الكتاب الثانى - لتقديم تأريخ بانورامى للفكر الاشتراكى وتطبيقاته وتجاربه، بهدف استشراف مستقبل الاشتراكية فى ظل الصراع الراهن.
وأخيرًا يهدف - فى كتابه الثالث - التأكيد على أن الصيرورة التاريخية لا تتم دون حركة، وأن الفعل الرشيد يصنع المعجزات، وأن ذلك ليس على المصرى بغريب ولا على الله بعزيز، وهو ما ظهر جلياً بعد 3 سنوات فى ثورة 25 يناير عام 2011 من تحرك المصريين الرشيد لإسقاط نظام فاسد طاغٍ وإزالته. ويرتبط هذا بتسليط الكاتب الضوء فى نهاية هذا الكتاب على المهمشين المصريين حديثاً، ويتنبأ بثورة 25 يناير من خلال المقدمات الممهدة لها والدافعة لقيامها، فيقول "ونحن فى غنى عن رصد تدهور أحوال المصريين آنيًا؛ محليًا وعالميًا؛ الأمر الذى فجر الغضب الشعبى العام والذى اتخذ - ولا يزال - صورًا شتى؛ كالمظاهرات والإضرابات فى كافة القطاعات العمالية والفلاحية والقضائية والتعليمية والصحية وغيرها؛ كنتيجة للتردى العام الذى مس بحدة أساليب العيش وأساسيات الحياة. وقد تمثل رد الفعل فى قيام حركات دينية متطرفة تعتمد العنف أسلوبًا للمواجهة؛ نجحت السلطة فى قمعها بوحشية وضراوة. ونظرًا لإفلاس الأحزاب السياسية دون استثناء - نرى أن ثورة الجياع فى طريقها إلى الاندلاع". وهنا نلاحظ نقطتين، أولهما: وصف الكاتب المبكر لجماعة الإخوان (التى حكمت مصر بعد ذلك فى عامى 2012، 2013) والجماعات الإسلامية الأخرى بإنها حركات دينية متطرفة، تعتمد العنف أسلوبًا للمواجهة، وهو ما ظهر فى الآونة الأخيرة جلياً. ثانياً: إنه يلقى بالمسئولية على الوضع المتأزم إينذاك - وبدون أن يدرى الأسباب لما تشهده مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013 - على إفلاس الأحزاب السياسية - دون استثناء - مما سيؤدى إلى قرب قيام ثورة للجياع. وهنا نؤكد أن ثورة 25 يناير التى مهدت لها ما سبق ذكره، لم تكن ثورة جياع، بل ثورة شعب ضج باستبداد حاكمه وفشل حكومته، ولكن - كما يؤكد بعض الخبراء - فالثورة التالية ستكون جياعًا لو استمرت الظروف الاقتصادية المتدهورة فى مصر بدون علاج.
يعرض المؤلف في كتابه "المهمشون فى التاريخ الإسلامى" لبعض الحركات والثورات التي قامت ضد الأنظمة العسكرية والإقطاعية الإسلامية كثورة الزنوج، وغيرها من الثورات التي اعتبرها المؤرخون بأنها لا تعدو كونها فتنة آثارها بعض الرعاع والسوقة مارقون سفلة، ووصفوا قوادها بالإباحية والزندقة. وفضلا عن ذلك قامت حركات معارضة أخرى تزعمها الفقهاء المستنيرون، إلا أنها لم تنجح نظرًا لادعاء زعمائها القول بالمهدوية، هذا فضلا عن عدم التجانس بين شرائحها. والثورات التى يرصدها فى الكتاب هى : ثورة الزنج (الأولى- الثانية) - ثورة الخشبية بالعراق - ثورة الحدادين بالأندلس - ثورة عمر بن حفصون بالأندلس - ثورة حميم المفتري بالمغرب الأقصى - حركات العيارين ( وهى من الحركات الحرفية) في العراق - حركات الأحداث في الشام - حركة الحرافيش في مصر - حركات الفتاك في آسيا الوسطى - حركات الصقورة في المغرب والأندلس - حركات " الفتوة " في الشام والعراق.
يرصد الكاتب بعض الأسباب الي أدت إلى ظهور مثل هذه الحركات ومنها تفشي الفساد الإداري والاقتصادى الذي شاع في تلك الفترة والرغبة في إصلاح الأوضاع. ويذكر لنا د. محمود إسماعيل أهم أسباب فشل بعض هذه الحركات بأنها قامت عشوائية دون تنظيم، كما يرجع الكاتب قصور الوعي الذي شاب معظم حركات المهمشين في بعض جوانبه إلى غياب دور البرجوازية، والتي وصفها بأنها "عاجزة وهزيلة دافعت عن وجودها والحفاظ على مصالحها، بمهادنة الحكومات القائمة وليس بالثورة عليها وتقويض حُكمها"، وقد أرجع هزال البرجوازية وعجزها إلى عوامل "جغرا - تاريخية" تتعلق بطبيعة المجتمعات الإسلامية الزراعية الرعوية أساسًا، وبالتالي فلم تتخلق طبقة وسطى قوية وقادرة على الصراع مع الإقطاع العسكرى، بل هونت من هذا الصراع وخففت حدته، الأمر الذي أتاح للنظم القائمة الدوام والاستمرار.
ولم يعن فشل هذه الحركات إلى عدم نجاح بعض أهدافها، وهنا يدحض الكاتب الاتهامات التي ألصقها بعض المؤرخين حول هذه الحركات، فذكر أثر تلك الحركات في إجبار الدولة على الإصلاح وحل المشكلات الاقتصادية، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية وتطبيق الشريعة الإسلامية، فقد نجحت بعض هذه الحركات – كما يرى الكاتب - بالفعل في إقامة دول مستقلة نجحت في تحقيق مبدأ العدالة وتطبيق الشريعة. ويشير إلى ثانوية دور المذاهب الدينية في الصراع الطبقى.
ورفض الدكتور محمود إسماعيل نظرية بعض المثقفين المغاربة حول حدوث قطيعة بين المشرق والمغرب الإسلاميين، وبالتالي فقد ضمن الكاتب خمسة نماذج لحركات قام بها المهمشون في المغرب الإسلامي والأندلس. استدل على هذا التشابه التشابه بحركة "عمر بن حفصون" التي قامت في الأندلس. وخصص الكاتب الفصلين الأخيرين لبحث وضع مصر من المد الثوري في التاريخ الإسلامي، والإنتاج الأدبي والإبداعي للمهمشين . ففى الفصل المعنون " حرافيش مصر والنضال باللسان"، ناقش الكاتب الانتفاضات الاجتماعية في مصر، حيث تساءل عن سر إحجام المصريين عن النضال المسلح في صورته الثورية؟!، وقد فسر هذه الظاهرة إلى أسباب " جغرا - تاريخية " فحواها كون المجتمع المصرى – أساسًا - مجتمعًا زراعيًا بامتياز، ومعلوم أن سيكولوجية الفلاح – المستمدة من طبيعة عمله – تجعل منه " تواكليًا " " قدريًا " " زاهدًا " في متع الحياة، أو بالأحرى تجعل من الفلاحين احتياطًا. وفي الفصل الأخير أشار الكاتب إلى ثقافة المهمشين، مستعرضًا الوسائل الثقافية التي استخدمها المهمشون في صراعهم الطبقي مع السلطة الإقطاعية.
فى كتابه الثانى "المهمشون فى التاريخ الأوربى"، يقسم د. محمود إسماعيل كتابه إلى موضوعين : الاشتراكية (البابان الأول والأخير "السابع")، والمهمشون (الأبواب 2- 6) . ويصف الكاتب الاشتراكية بأنها "مطلب إنسانى عام شكل هاجس البشرية فى العدل الاجتماعى، وأن التاريخ شهد على تلك الحقيقة سواء على الصعيد الفكرى أو الواقع العيانى". ويبدأ حديثه بالتطرق إلى الوضع الحالى للاشتراكية، والصراع بينها وبين الرأسمالية، ثم يعود بالحديث إلى تأريخية الاشتراكية، من خلال وجودها فى العقائد السماوية والوثنية، ما عدا اليهودية. وإذ تأثر الفكر السياسى الإسلامى الإسلامى بجمهورية أفلاطون (المنطوية على أفكار اشتراكية جرى تطبيقها عملياً فى مدينة إسبرطة) فكان من البديهى أن يتأثر به المفكرون الأوربيون فى القرون الوسطى (16 - 17م). وارتبطت بلورة الأفكار الاشتراكية فى كتابات هؤلاء المفكرين، وازدياد الوعى الطبقى عموماً وعند الطبقة العاملة على نحو خاص، نتيجة ما عانته من شظف العيش والبطالة وارتفاع الأسعار وتدنى الأجور، وما نجم عن ذلك من تردى الأحوال الاجتماعية وفساد الأخلاق، وهى أسباب معظم ثورات المهمشين فى العالم كله .. فى جميع الأزمنة. ولهذا نجد أن ثورات 1848 فى أوربا أسفرت عن تعاظم الحركات العمالية، إذ طرحت النقابات العمالية آمالها فى إنشاء حزب شعبى اشتراكى، فأسس "الاتحاد القومى لنقابات العمال"، وكان أول من استعمل مصطلح "الاشتراكية" فى خطابه، كما بلور فلسفة اشتراكية متماسكة. وفى الفصول التالية (5- 9) يستكمل كاتبنا تاريخ الاشتراكية فى أوروبا إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتى فى تسعينيات القرن العشرين. وينتهى فى الباب الأول إلى القول بأن الكثير من اليسارين العرب اعتقدوا موت الاشتراكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، ونجاح الإمبريالية (الاستعمارية) فى القضاء على معظم التجارب الاشتراكية. ويخلص الكاتب من عرضه لتاريخ الاشتراكية إلى عدة حقائق:
1- البعد الإنسانى فى الفكر الاشتراكى بجميع اتجاهاته وتياراته فى مختلف عصور التاريخ، بحيث عبر عن طموحات الأكثرية المستضعفة ضد الأقلية الجائرة المسيطرة (ونعتقد أن هذا هو أهم ما كان يرغب الكاتب فى إيصاله لقارئ الكتاب، بأن الاشتراكية هى صوت المهمشين "المحور الرئيسى لكتبه الثلاثة").
2- تاريخية الفكر الاشتراكي، وانبثاقه من واقع المجتمعات عبر تطورها، ومن ثم كان استجابة لتحديات قائمة تستهدف تصحيح المسار بإقرار العدالة الاجتماعية.
3- إن المجتمعات الشرقية تعايش أنماط إنتاج مختلفة رغم تناقضها، حكمت على الصراع الطبقى بالميوعة؛ بما كرس الاستبداد الشرقي - المدعم بتأويلات غير بريئة للدين - الأمر الذى أفضى إلى تخلفها إلى اليوم، ولكنها قابلة للتطور وفقًا للقوانين العامة للمادية التاريخية.
4- إن الاشتراكية العلمية تشكل الإطار الأيديولوجى لحركة التغيير، إذا ما جرى فهم قوانينها العامة بعيدًا عن الدجمائية والمراهقة الفكرية. ومن ثم وجب فهم المجتمعات الحالية كأساس للإفادة من الفكر الماركسى فى التعامل معه.
5- الموقف من الدين لا يعنى - حسب الماركسية - أن يكون معتنقها ملحدًا، فالثابت أن معظم الفلاسفة والمفكرين خلال القرن 18 كانوا من الطبقة البرجوازية، لهذا فالماركسية لا ترفض الدين أساسًا، بل تعارض تأويله - من قِبل الكهنوت - لتكريس التخلف والخمول وتضبيب الوعى؛ لذلك لا تناقض ألبتة بين الإسلام والماركسية، نظرًا لطبيعة الإسلام الثورية الداعية إلى الحرية والعدل الاجتماعى.
ويحكم محمود إسماعيل على التجارب الاشتراكية فى الوطن العربى، فيذكر أن هذه التجارب (الناصرية - حزب البعث العربى الاشتراكى - وغيرهما)، وإذ حكم عليها بالإخفاق، فإن مرده "فوقانيتها" من ناحية، ووقوعها فى أخطاء ناجمة عن ضبابية الوعى (مقولات لا علمية)، كالقول "تحالف قوى الشعب العاملة" و "الرأسمالية الوطنية". ورغم ذلك، فقد أنجزت هذه التجارب تحولات تقدمية على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، ومن ثم وجب مراجعة تلك التجارب وتحليلها ومعرفة أسباب الإنجاز وعوامل الإخفاق.
ويتحدث الكاتب عن تأثر حركات الإصلاح البروتستنتى فى العصور الوسطى بالإسلام، عن طريق (الحروب الصليبية - صقلية - الأندلس) ويتضح هذا التأثر فى عدة نقاط، منها:
1- تأثر مارتن لوثر بالإسلام بخصوص حرية الاعتقاد "لا إكراه فى الدين"، فيقول "إن الإيمان أو الكفر مسألة ترجع إلى ضمير كل إنسان؛ لأن الإيمان عمل يتم بحرية ولا يكره عليه أحد".
2- تأثر "أرزمس" رائد الإصلاح الدينى - فى هولندا وبلجيكا - بالإسلام فى مسألة ختان الذكور، ورفض وجود "كهنوت" ليكون واسطة بين الله والإنسان، كذا تأثر ببعض المتصوفة فى تفضيل "التجربة الدينية الباطنية على الشعائر"، وغيرها.
3- حملة "مرسيليوس البادوى" ضد "الإكليروس" وأخذه بمبدأ الشك يرجع إلى الفيلسوف الإسلامى الأندلسى ابن رشد.
ويهدف الكاتب من عرض نقاط التأثر بين الإسلام وحركات الإصلاح البروتستنتية إلى الدعوة إلى خطاب دينى يتبنى إصلاحًا حقيقًا، وذلك بالعودة إلى مبادئ الإسلام العليا. وهنا يذكر أن الأديان قاطبة (السماوية والوثنية) تدعو إلى عبادة الله، بما يشكل قاسمًا مشتركًا بين البشر كافة وما يحفز على السلام ونبذ الخصومة والعنف. كما أن الأديان جميعًا تدعو إلى التسامح، ومع ذلك عانت البشرية أهوال الحروب الدينية، ولهذا تحول الدين إلى دعوة مثيرة للبغض والصراع، خاصةً بعد إقحام الدين فى السياسة. واستخدامه كوسيلة لتبرير الاستبداد في الداخل، وشن الحروب في الخارج. وقد حاول الكاتب إبراز تلاحم الأديان السماوية بينها، ولهذا نراه يرفض مقولة "صراع الأديان"، ويصفها بإنها أمر يند عن البيان فى عصر بلغ فيه العقل طور فتوته، ويرى أن الدين قد هوى من عليائه السامى إلى أداه لتكريس الاستبداد والتخلف، وغطاء لمشروعات توسعية، ووسيلة للهيمنة الأمريكية المتحالفة مع الصهيونية العنصرية. ولهذا يقدم العلاج لمواجهة هذا "الطوفان الجارف" بحركة إصلاح دينى حقيقى لا زيارات مكوكية دورية للفاتيكان لعقد حوار بين الأديان، "أشبه ما يكون بحوار الطرشان".
وينهى الكاتب كتابه "المهمشون فى التاريخ الأوربى" بعدة ملاحظات موجزة، وهى:
1- إن الأديان السماوية - خاصةً الإسلام والمسيحية - تنطوى على مبادئ عامة ذات سمة "هيومانية" إنسانية واضحة، كالحرية والإخاء والمساواة؛ قبل إعلانها إبان الثورة الفرنسية يمكن استلهامها لصياغة إيديولوجيا تقدمية.
2- ونتيجة لذلك، يرفض الكاتب المقولات المتواترة عن "استاتيكية " العقائد وجمودها؛ بما يشكل عائقًا أمام التطور والتقدم.
3- إن الجمود العقدى مرجعه إلى القراءات اللاهوتية السلطوية التى تعمل على تثبيت الوضع الراهن من أجل تكريس الاستبداد ومن ثم التخلف.
4- إن الاشتراكية هى حلم البشرية فى تأسيس "فردوس أرضي"؛ باعتبارها النقيض الموضوعي للرأسمالية الجشعة، والاستجابة الذهبية لتحدياتها.
يتناول الكاتب فى كتابه "المهمشون فى التاريخ المصرى" عرض بانورامى تاريخى لنضال المصريين المهمشين عبر عصور التاريخ ضد الغزاة أو الطغاة (العصر الفرعونى - البطلمى - الرومانى - البيزنطى - الإسلامى - العثمانى - الاحتلال الفرنسى - ضد حملة فريزر سنة 1807- الثورة العرابية - الاحتلال البريطانى - ما بعد ثورة 1952)، والذى اتخذ صور متعددة للمقاومة الشعبية (اللسان – السنان).
يجمل الكاتب فى الفصل الأول من الباب الأول من كتابه "المهمشون فى التاريخ المصرى"، الشخصية المصرية، فيذكر أن الشعب المصرى شعب بناء وتشييد، لا تخريب وهدم، وأن الشعب المصرى لم يقف مكتوف الأيدى أمام غزاته أو حكامه الطغاة، فقد ناضلوا باللسان (توظيف "التبكيت والتنكيت" كدلالة على الفرض والسخرية/ التظاهر وغيرهما) والسنان (الانتفاضات والثورات المسلحة وغيرهما). ورغم الغزوات المتتابعة على مصر، لم يفقد المصريون خصائص شخصيتهم الوطنية، بل جرى تمصير لكافة الحكام الغزاة (الإسكندر، البطالمة، وغيرهما). كما اتسمت الشخصية المصرية بالتشبث بحقوق المواطنة (تآخى المصرى المسلم مع نظيره المسيحى ضد الغزاة). ودافع د. محمود إسماعيل عن تهمة وصف المصريين بالمذلة والاستكانة للغزاة والطغاة، ورفض مقولة بأن المجتمع المصرى "مجتمع فلاحين" وأن الفلاح يتسم بالاستكانة والخنوع لإيمانه وتسليمه بحكم "القضاء والقدر". ولهذا يرى الكاتب أن المصريين ناضلوا الغزاة والطغاة بكافة السبل ولم يستكينوا لهما، ورغم أن سفك الدماء كان شرًا مرذولا فى ضمير الشعب المصرى، ولكنه استخدم القوة إذا اضطر حين لا يفلح "اللسان" فى ردع الغزاة والطغاة.
ونلاحظ فى الكتاب، أثر العقيدة الدينية على الشخصية المصرية، والتمازج بينهما. فعند ظهور المسيحية فى مصر، واعتناق الكثير لها، اتخذت المقاومة الشعبية منها زادًا روحيًا للخلاص من الحكم الرومانى، ولهذا يرى الكاتب أن المسيحية فى مصر ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالنضال الوطنى؛ وهو ما ظهر واضحًا فى العصر البيزنطى. والذى إكتسبت فيه الشخصية المصرية ملمحًا جديدًا زادها إشراقًا بفضل اعتناق المصريين المسيحية، التى أضفت مصر عليها روحها الحضارية الخاصة وقدمتها للعالم فى صيغة نضالية ثورية. كما أعطت المسيحية مصر طاقة جديدة حفزتها على تحقيق الوحدة الوطنية فى مواجهة الغازى الأجنبى. وأسفر العطاء المتبادل عن ظاهرة الرهبنة التى أثرت فى حياة المصريين فى العالم أجمع؛ وإلى اليوم. وغزا اللاهوت المصري السكندري كنائس بيزنطة نفسها شمالا، ونشر المسيحية فى النوبة وتحقيق تبعية كنيسة الحبشة لكنيسة الإسكندرية جنوبًا. وعلى صعيد الوحدة الوطنية، صارت اللغة القبطية رباطًا يجمع المصريين فى وادى النيل؛ وتم إشاعة الثقافة الدينية بعد اندحار الوثنية لتوحد مسيحيي مصر. إذ ظهر أدب مسيحي متميز؛ يتسم بالبساطة والحكمة حاملا قيم المسيحية السمحة ومثلها العليا إلى الشعب، الذى حوله بدوره إلى أدب شعبى نضالى.
وبالفتح العربى الإسلامى لمصر عام 21هـ، اكتسبت الشخصية المصرية صورتها النهائية، فكان هذا الفتح نقلة حضارية أسفرت عن تعريب المصريين وتمصير لسكانها من العرب (القادمين مع الفتح وبعده). وأصبحت اللغة العربية لغة المصريين إلى الآن، فاضطلعت مصر – حينذاك، وإلى الآن ومستقبلاً - بدور فعال في الحركة العلمية والثقافية، بما كفل لها الإسهام الإيجابى فى بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية.
ويجمل لنا د. محمود إسماعيل فضل مصر عبر العصور المختلفة، فيذكر أن الحضارة الفرعونية فى مصر تمتعت بمكانة خاصة فى تاريخ الحضارة الإنسانية، حيث كانت القاعدة الأساسية التى انطلقت منها الحضارات المعاصرة لها واللاحقة بها فى العالم القديم. وفى مصر المسيحية، ناصرت مصر وحمت سيدنا المسيح والسيدة العذراء من اضطهاد اليهود، ونافست كنيسة الإسكندرية كنائس القسطنطينية وأنطاكية وروما على مكانة السيادة. أما في العصر الإسلامي، فمصر هي التي رسخت صيغة "إسلام معتدل"؛ لذلك تحاشت الصراعات بين المذاهب والفرق، لتهدى العالم الإسلامى ظاهرة التصوف الفلسفى، وهى التى نشرت الإسلام فى بلاد المغرب، إلى جانب كونها "جسر عبور" للتواصل الحضارى بين مشرق العالم الإسلامى ومغربه. وورث "بيت الحكمة" ثم "الأزهر" دور مكتبة الإسكندرية (أهم مراكز الحضارة الهللينستية) فى الحفاظ على العلوم الدينية، وإبداع الكثير من النظريات فى العلوم الدينية.
وينصف د. محمود إسماعيل الثورة العرابية، فيقول عنها "كانت ثورة شعبية عبرت عن طموح المصريين فى الخلاص من حكم أسرة محمد على المدعم من قِبل فرنسا وانجلترا الطامعتين فى احتلال مصر، والمبنية لطموحات الطبقتين الوسطى فى الانعتاق من سيطرة رأس المال الأجنبى والمحلى فى آن واحد. كذا الطبقة العاملة من فلاحين وحرفيين". وعن ثورة 1952 نلاحظ عدم نقد الكاتب لها، والاكتفاء بذكر مميزاتها - التى لا ينكرها أحد، ولكن المنهج التاريخى يقتضى ذكر الإيجابيات والسلبيات، وهو ما قام به الكاتب فى تقييمه لعهد السادات، ولم يفعله فى تقييمه لعهد جمال عبد الناصر، وكلاهما له مزايا وأخطاء.
وفى الخاتمة، نؤكد أن ثلاثية الدكتور محمود إسماعيل عن المهمشين لا تزال تحتاج إلى قراءة أكثر وتعمق أكثر، مما جاء فى هذا المقال الصغير، ولهذا أدعو الباحثين لقراءة هذه الثلاثية التاريخية من جديد، ولكن بعمق، فإن كتابات الكاتب تمتلئ بالأفكار المباشرة وغير المباشرة، تمتلئ بالتحليلات العميقة ذات المنهج العلمى الدقيق، قد نختلف معها أحياناً، ولكننا لابد من قراءتها لنفهم أكثر عن تاريخية المهمشين فى التاريخ الإنسانى