أيها المسرحيون المبعدون، أيها المبدعون المنفيون، داخل الوطن وخارجه، أيها المثقفون المنبوذون، أيها الفنانون المقصيون، أيها الصادقون الأيتام في مأدبة اللئام، تأكدوا بأن صمتكم لن يفيدكم في شيء، تماما كما لا يمكن أن يفيد الحركة المسرحية المغربية حاليا، والتي أصبحت اليوم في كف عفريت، وإنني أدعوكم إلى مقاطعة وزارة ليست وزارتكم، وأن تعلنوا في وجهها (العصيان الثقافي) وتذكروا أن مجد المسرح المغربي في السبعينات، وأن مجد الأغنية الغيوانية الشعبية أيضا، ومجد الأندية السينمائية كذلك، لم يصنعه وزير أو وزارة، ولكن صنعته الإرادات الحرة والمستقلة، وأسسته العبقرية المغربية المبدعة، لذلك فإنني أقول لكم:
دعوا الوزير وحزبه ورهطه يصنعون مسرحهم الرسمي والمخزني، وتعالوا لنواصل تأسيس المسرح المغربي الحقيقي، وضعوا في أذهانكم أنه لا وجود في هذا المغرب الجديد لأي شيء يمكن أن يسمى وزارة الثقافة، وما هو موجود هو مجرد ملحقة تابعة لحزب سياسي، وذلك في هذا المغرب الغريب، والذي أصبح يقترب من أن يكون لكل عشيرة فيه حزبها الخاص، وغدا سيحاسب التاريخ هذا الوزير، وسيسأل كل المسئولين على جرائمهم التي اقترفوا ضد ضد الثقافة المغربية والعربية والإنسانية.
ساعة الخروج إلى العلن
لقد ترددت كثيرا قبل أن أخرج غضبي هذا إلى العلن، والذي كان موجودا منذ تأسيس هذه الحكومة الجديدة، وكنت أعرف بأن الذين تربوا تربية ستالينية لن يسمحوا لنا بالحق في الاختلاف، وأنهم سيعتبرون الحرية الفكرية ترفا بورجوازيا، ولكنني مع ذلك فقد (غالطت) نفسي، وانتظرت أن تتحقق المعجزة، وأملت أن يهدي الله إخواننا الرفاق، وأن يترفقوا بنا وبالثقافة المغربية، وأن يستحوا مما يفعلون، وأن يكون لهم شيء من النخوة المغربية، وأن يعرفوا بأن هذا البلد ليس (فيرمة/ شركة) خاصة، وليس إقطاعية مسيجة، وليس ملكية باسم التقدم والاشتراكية، وأنه أكبر منكم، ومن أي حزب كبير.
أغبى من وزارة الثقافة المغربية، كلمة قلتها وكتبتها في الفيس بوك، وعلق عليها واحد من أحباب الثقافة وقال متسائلا: وهل هناك ما ـ و من ـ هو أغبى من وزارة الثقافة المغربية، وقلت نعم، هناك من هو أغبى منها، وأمامك العديد من الأمثلة الحية على ذلك، وماذا يمكن أن تسمي الذي ـ بثقافته المحدودة جدا ـ يؤمن بأنه يمكن أن يكون وزيرا للثقافة، أي لكل الثقافة المغربية والإنسانية، والتي لا يمكن أن يحدها الحد؟
مثل هذا المخدوع لا يمكن أن يكون إلا غبيا بامتياز، وفي هذا المغرب الغريب، جيء مرة برجل تاجر وقالوا له كن وزير الثقافة، فصدقهم وأصبح وزيرا على الورق وفي التلفزيون، وصار في وزارته يصول ويجول، وأخذ يكلم المثقفين من وراء ألف حجاب، وبعد طبخة انتخابية مشبوهة، جاءوا بمعلم حساب، وأقنعوه بأنه من الممكن أن يكون وزيرا للثقافة، ولأنه يفهم في الأرقام، ولا يعرف شيئا عن الكتابة والكلام، فقد اختزل الثقافة كلها في (الشكارة) واختزل كل علمه وهمه في توزيع الإكراميات على المريدين والتابعين وعلى الحواريين وتابعي التابعين، وعلى االحداثيين والتقدميين والاشتراكيين، وكان هذا السخاء برائحة الرشوة مرة، وكان بطعم الرقابة على الفن والفكر مرة أخرى، وتم إقصاء المغرب الشرقي من هذا الدعم، إما لأنه بعيد جغرافيا، أو لأنه ينتمي لما تبقى من ذلك المفهوم الاستعماري القديم، والذي كان يصنف المنطقة إلى المغرب غير النافع.
ألف مرة قلت وكتبت، وفي أكثر من مناسبة، بأنه من الغباء أن يكون للثقافة وزارة، وأن يكون لها وزير من الناس، وأن تكون هذه الوزارة متحكمة في أرواح وعقول ونفوس الكتاب والفنانين، وأن يكون هو المدير الذي يدير الأحاسيس في النفوس، وأن يكون هو صاحب كل المتاجر التي تبيع الثقافة في الأسواق، وأن يكون لهذا الوزير ـ المدير مصانع للإنتاج الثقافي، وأن يكون له مسوقون ومروجون، وأن يكون له عسس وحرس، وأن تكون له مليشيات من المرتزقة ومن المنتفعين ومن المصفقين ومن الهتافين ومن السماسرة ومن (البراحين)، وأن يكون من مهام هذه المليشيات أيضا، أن تحمي العلامة (الثقافية) من المزورين ومن المزيفين ومن المرتدين ومن المنشقين ومن المنحرفين ومن المحرفين، وأعتقد أن السيد الوزير يصنفنا في هذه الزمرة الضالة والمضلة..
في البدء كان الخطأ التراجيدي
مصيبتي في مملكة رب العالمين أنني لست أعمى، وأنني لا أستطيع أن أغمض عيني عند (اللزوم) وبأنني ـ بالمقابل ـ أستطيع أن أرى الأخطاء الظاهرة والخفية، وأن أعرف المخطئين والخطاءين، وأن أسميهم بأسمائهم الحقيقية وأن أبحث عن الدوافع والأسباب التي تصنع هذه الأخطاء، أما جريمتي الكبرى فهي أن الله أعطاني عقلا ـ من غير أن أطلبه ـ ولقد أوصاني بأن أشغله في التفكير، وفعلا فكرت، تماما كما تفكر هذه الحيوانات العاقلة والمفكرة والمبدعة، والتي تقاسمنا الجغرافيا والتاريخ، والتي تنتمي كلها إلى بني الإنسان وليس إلى بني الحجر ولا إلى بني الخشب أو إلى بني الحديد أو الرصاص، وأعتقد أن هذا العقل ـ في ذاته ـ لا يشكل أية خطورة، خصوصا إذا كان في رؤوس الخوافين والجبناء، والذين يشطبون على كل ما لا منفعة ولا مصلحة فيه، وأرى أن الخطورة الحقيقية تكمن في الإعلان عن تفكير هذا العقل، وفي كتابته ونشره وإذاعته في الناس، ولقد ابتلاني الله باقتراف هذه الجرائم الكبيرة والخطيرة، وجعلني ـ ومن حيث لا أدري ـ في خصام وعداوة مع أعداء العقل والتفكير، ومع سدنة الجمود على الموجود.
وبمناسبة صدور هذا البيان، وزيادة في منسوب التبيين المبين فيه، فإنني أريد أن أعترف أمامكم بذنوبي الكثيرة التي (أهلتني) للعذاب والعقاب من قبل وزارة الثقافة المغربية ومن قبل كل ذروعها الأخطبوطية الضاربة، تصوروا بأنني فعلا تجرأت، سواء في التفكير أو في الكتابة، وأنني قد أكدت كثيرا على إنسانية الإنسان، وأكدت أيضا على مدنية المدينة، وكل هذا ضدا في الوحش والمتوحش في المدينة، والتي يمكن أن تصبح غابة أسمنتية مشوهة، وأن تحتكم بذلك إلى شريعة الغاب، وباسم هذه الإنسانية التي اعتنقتها، وباسم تلك المدنية التي اخترتها أو اختارتني، فقد انتصرت دائما للجمال، سواء في معناه المادي أو الرمزي، وبالنسبة لمن يدافع عن القبح والوساخة باسم الحرية والحداثة، فإن من ينتصر للأخلاق لابد أن يكون مذنبا، وأن يكون مؤهلا لأن تفرض عليه القيود، وذلك حتى لا ينقل إلى المجتمع قيمه الجميلة والنبيلة، وحتى لا يصيبه بمرض الحق والحقيقة، وحتى لا ينقل إليه عدوى الحوار الهادئ والمتسامح، هذه إذن، هي بعض ذنوبي التي أغضبت مني وزير الثقافة، والذي يرى أن الحرية التي لا تصل إلى حد الوحشية ليست حرية، وأن التقدمية التي لا تفيد الخروج من الذات ومن التاريخ ومن الجغرافيا ليست تقدمية، وأن الاشتراكية التي لا تفيد الاشتراك في معاداة القيم الإنسانية الخالدة ليست اشتراكية، وأن المسرح الذي لا يصل إلى الكباريه والنادي الليلي ليس مسرحا، وأن المسرحي الذي يدافع عن نبل الكلمة وعن شرف الفن لا يمكن أن يكون مسرحيا حقيقيا، وبهذا المبرر تم إخراجنا من بيت المسرح المغربي والكوني، وتم نفينا إلى جزيرة الواق واق.
ويعرف الجميع، في كل الوطن العربي الكبير، أننا ما دخلنا المسرح إلا لنكشف عن عورة هذا المجتمع، فكريا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، أما ممارسة التريبتيز الجسدي، باعتباره فعلا لإثارة الغرائز الحيوانية والوحشية، فإن ذلك ليس من اختصاصنا، ولا نظنه يمكن أن يكون من اختصاص هذا الذي نسميه المسرح، والذي هو علم وفن وفكر وصناعة، وهو مؤسسة تعليمية وتربوية وأخلاقية وتهذيبية في نفس الآن، ولقد كانت هذه المؤسسة عبر التاريخ موازية للمدرسة والمسجد والكنيسة والمعبد، أما ذلك الشيء الذي يدافع عنه وزير الثقافة في المغرب، فهو بالتأكيد شيء آخر، له أسماؤه الأخرى، ولا أمكنته المختلفة، وله طقوسه المغايرة، وله رواده الذين لسنا منهم، وأرى أن هذا الشيء الآخر ليس من اختصاص وزير للثقافة، والذي هو وزير يفترض فيه أن يكون مؤتمنا على العبقرية المغربية، وعلى النبوغ المغربي، وأن يكون إلى جانب ثقافة هذا المجتمع الذي يصرف له ماهيته من المال العام، وأن يكن إلى جانب قيمه الحضارية والفكرية والأخلاقية التي أكدت فاعليتها وحقيقتها ومصداقيتها عبر التاريخ.
والآن، هل أدركتم سبب غضبة السيد الوزير على المدعو برشيد عبد الكريم؟
فاس في 8 يونيو 2014