يدعونا الباحث الجزائري في شهر رمضان الكريم إلى أن نتذكر بعض أهم القيم الفلسفية والإنسانية من سنن الكون وشروطه، وأن ندرك أن التعصب الذي ينتشر في كل مكان من أرضنا العربية غريب عن روح الإسلام، ومنافٍ لها. ففيه تعطيل السنن الكونية التي تجعل من الاختلاف والتسامح ضرورة حتمية لا تستقيم الحياة إلا بها.

الاختلاف، التواصل، الحوار، والتسامح

من سنن الكون وشروط توازنه

بوبكر جيلالي

 

1- سُنّة الاختلاف بين نقمة التعصب ونعمة التسامح
من حكم الله وسننه الماضية في خلقه حكمة التواصل بين أجزاء الكون الفسيح، بين الله ومخلوقاته وبين المخلوقات بعضها مع بعض، وسنّة التواصل في حياة الإنسان لها ما يميزها عما هي عليه في بقية الكائنات، فهي عند الإنسان واعية وذات مسعى حركي اجتهادي دءوب، ليست حركة أعجمية رتيبة، بل هي عملية في قمّة الوعي الإنساني، تجمع بين النظر والعمل وفق إستراتيجية تربط الهدف بأصوله وبالمناهج والوسائل المؤدية إليه، وتجمع بين أبعاد الإنسان في الزمان، فتحفظ الماضي في الحاضر وتخترق المستقبل، وفي هذا تكمن قوّة هذه الحركة باعتبارها خاصية إنسانية أسست لسلطة الإنسان في الوجود، وسمحت له بتحريك دواليب التاريخ وببناء الحضارة وبتحقيق التوازن والتعايش في وفاق وسلام، وهي شروط لا تستقيم الحياة إلا بها.

وإذا كان التواصل الإنساني المفعم بالوفاق والوئام والتفاهم حكمة إلهية كونية منتهاها التعايش في سلام، فإنّ الأمر لا يكون دوما كذلك، لأنّ الصراع بين التواصل والفرقة وبين السلام والحرب وبين التفاهم والاختلاف هو الآخر ماض فيما خلق الله وأبدع وصوّر، والسرّ في الصراع هو قدرة التواصل الإنساني باعتباره حركة جمعت بين الفطرة والاجتهاد والكسب في التغلب على أسباب ومظاهر الفرقة والحرب والتعصب والاختلاف المؤدية إلى العنف، والظفر بحياة يملؤها التعايش في تماسك وتفاهم وسلام.

 ومما خصّ به الله مخلوقاته الاختلاف، فعلى الرغم من التشابه بين أفراد النوع الواحد وبين سائر الأنواع في الكون، فإنّ التباين قد يقلّ أو يكثر، يزيد أو ينقص بين جميع الموجودات، وبين أفراد النوع البشري في اللّون واللّسان والحجم والفكر والاجتماع وسائر الأحوال. قال تعالى:"ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين".[1]. وقال تعالى:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم".[2]

 الاختلاف فعل إلهي صبغ به خلقه ككل وخلقه الإنساني لحكمة التواصل والتعارف وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[3]. الاختلاف أمر طبيعي في بني البشر، على غرار الموجودات الأخرى في الجماد والنبات والحيوان، ونفيه نكران للطبيعة والفطرة والنظام والحياة، وإقرار بحكم غير الطبيعة وغير الفطرة وبسلطان الفوضى والموت والهلاك، فالاختلاف حالّ وبشدّة في الإنسان أفراد وجماعات وأمم، فالمفكر والصوفي الإسلامي الشهير " محي الدين بن عربي" "كان عصّيا على التحديد إذ ينفر من خاصية التميّز الفردية. وهو إذ يقدّم نفسه، فمن خلال تعددية الذات، إنّه واحد بصيغة الجمع"[4]. وهو حال تركيب الشخصية الفردية، نجد فيها الوحدة تجتمع مع الكثرة والثبات يتآلف مع التغيّر من غير تناقض، ولعلّ ما عبّر به "محي الدين بن عربي" يدل على هذا فيما جاء في هذه الأبيات:

 "لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان

 وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن

 أدين بدين الحب أنّى توجّهت ركائبه فالحب ديني وإيماني"[5]

 والاختلاف في الرأي حق مصان شرعا وعقلا وواجب تأييده ضرورة إنسانية يقوم عليها توازن واستقرار واستمرار الحياة الفردية والجماعية، الأمر الذي يؤكده المفكر الإسلامي "محمد سعيد رمضان البوطي" بقوله: "مجمل ما انتهيت إليه هو: أنّ الاختلاف، وتعدد الوجهات في المجتمع الإنساني سنّة ماضية من سنن الله عزّ وجلّ في عباده، فهي غير خاضعة لأي تحوير، كما أنّ سنن الله سبحانه وتعالى لا تقبل أيّ تبديل. ثم إنّ الإنسان، إما أن يقوم بوظيفته، التي كلّفه الله بها فيُسيّج هذه الاختلافات الماضية في عباد الله عزّ وجلّ بسياج من نظام الإسلام ويظلّها بمظلّة من حقيقة المجتمع الإسلامي القائم على الدعوة والتبليغ بعد أن يعي هذا المسلم معنى الإسلام تماما وعندئذ تصبح هذه الاختلافات أنشطة فكرية داخلية تغني المجتمع ولا تتحول إلى خطر عليه."[6]

 فالتواصل والاختلاف والصراع وغيرها من السنن الكونية لم تقم صدفة أو عبثا أبدا بل لغائية أرادها الله، ولحكمة يعلمها، وبالناس رأفة ورحمة، أمام الكثرة والوحدة، وفي اتجاه الثبات والتغير والتراكمية اجتهادا في النظر والعمل، فكان الاختلاف في المنظور والمقول والمعمول وفي كل ما يتصل بالإنسان وبحياته عامة، اختلاف في الأفكار والتصورات، وفي الأذواق والميول والرغبات، وفي سائر الأحاسيس والمشاعر، وفي الاتجاهات الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسة والفلسفية وغيرها، الاختلاف في حياة الإنسان ارتبط كما لاحظنا من قبل بالتواصل وبقيم إنسانية واجتماعية أخرى لا تستقيم الحياة الاجتماعية إلاّ بها، أبرزها الحوار والتماسك والتفاهم والسلام والتعايش وغيرها في مقابل التشتت والتعصب الإقصائي المتبادل والعنف والاقتتال والتناحر، ويسجل القرآن الكريم و كل من التاريخ والواقع صور الحالتين المرتبطتين بالاختلاف معا، ما ارتبط بالاختلاف صوب الحوار والتسامح والسلام والإبداع والحضارة، وما اتصل به نحو التطرف والإقصاء والعنف والسقوط في الهاوية.

أخطر ما في الإنسان توجّها في الفكر والسلوك والحياة عامة ويرتبط بالاختلاف ويقف في وجه التفاهم ويمنع الحوار والتسامح والتعايش، التعصب على المستويين المعرفي والسوسيولوجي، حيث يتجه العقل إلى المطلق أو التابو الفكري والديني والاجتماعي وغيره، ونحو إقصاء الآخر ورفض فطرة التباين وسنّة التغيير والنقد، وتعطيل الحركة الاجتهادية التي وجد العقل لأجلها، والسقوط في الدوجما والانغلاقية، وحالة التعصب هذه تنبعث في الإنسان وعيا وكثيرا ما يدفع بها اللاوعي الذي يكشف عن عجز الإنسان الكامل عن التغلب على التابو فتسيطر القوى الدوغماتية الدفينة واللاّمعقولة في اللاّوعي الإنساني، وينتقل التعصب عبر مستويات تختلف في الدرجة والخطورة، فمن الاضطلاع بالمطلق فكرا وتاريخا واجتماعا والانغلاق على ذلك، يشتد عند معارضته ويتصلب فيصير استعبادا مفضيا إلى الدفاع باستعمال كل ما هو متاح مع شرعنة العنف وإقصاء الآخر وتصفية كل ما ينتج عنه فكريا ودينيا واجتماعيا.

كثيرا ما يخرج الإنسان عن الطبيعة البشرية ممجدا أحادية الرأي والمنهج والهدف على حساب التنوع والتعدد والاختلاف، فهو يحاول "دون طائل القضاء على الاختلاف، وتحويل التعدد المتمثل في الآراء والمذاهب إلى رأي واحد قفزا فوق الإرشاد والحوار والتبليغ وعندئذ لابد أن تتحول هذه الاختلافات إلى صراعات مستشرية وإلى تناقضات حادّة ولابد أن تتفتّح من ذلك الثغرات التي تدع العدو يتسلل ويتصرف فيستغل هذه الاختلافات لمصلحته ويجعل من المختلفين أسلحة لحربه".[7] فنكران الآخر رأيا أو مذهبا مبعثه الولاء للطابوهات والأصنام عرقية كانت أو دينية أو سياسية أو غيرها وما أكثرها.

تزداد درجة الولاء الإنساني للتابو مهما كان نوعه وتزداد معها المواقف تصلّبا وتحجّرا كلما اشتدت المعارضة وتلقّى التابو النقد وكثُر خصومه في الطبيعة من فطرة وعقل ووحي وغيرها، ويتحول التعصب إلى العنف في أشكال شتى ويأخذ طريقه علنا وخفية تحطيما للآخر لا لشيء سوى فرض الأحادية وإلغاء التعددية التي من صميم الفطرة ومن الروح الكونية، من دون اعتبار منهج منطق العقل الراشد وقوانينه وأحكام الفطرة في حياة الإنسان، وهي أحكام مؤيدة كلها لضرورة العيش المشترك في وفاق ووئام في جميع مستويات الحياة، على أساس أن مخالفة الفطرة في أي صعيد ليس من وجوه الحق، وثبت ذلك بالقصص القرآني خاصة في جانب العقيدة وفي صلة الإنسان بالسماء، وتأكد في التاريخ، فمحاكمة التعصب لثورة الحق هي التي خلّدت نكبة سقراط للأجيال تتدارسها وتستلهم منها العبر وأعدمته ليكون شهيد التعصب وشاهدا عليه، والتعصب هو الذي صنع أتون حرب دامت أكثر من أربعين سنة بين قبيلتين عربيتين في العصر الجاهلي هما عبس وذبيان، وحروب كثيرة شهدتها الإنسانية على مرّ التاريخ ومازالت تشهدها في الحاضر، والعصبية الفكرية أو الدينية أو الاجتماعية هي وراء إباحة الوقوف إلى جانب الباطل والظلم ونصرة الاستبداد في وجه العدل والحق واحترام الآخر، فما ما كان من وراء ذلك سوى التشدد في المواقف والفرقة والشقاق بين الأفراد والجماعات، كل حزب بما ليدهم راضون بل متعصبون، لا مكان للفطرة السليمة، للحوار والتسامح والتعاون والأمن والسلام والتعايش، بل للعنف والحرب التي تأكل الأخضر واليابس، وتنتهي بإخفاق الإنسان تماما وخيبة أمله كليا في تحقيق القوامة وأداء الرسالة وتجسيد الخلافة التي لولاها ما عرف نور الحياة.

إنّ روح التعصب في كل الحالات روح سلبية خالية من الإيجابية التي هي من صميم الروح العلمية ومن أسسها فطرية تطور الحياة الإنسانة ببذل الوسع، ونسبية الفكر والمعرفة لدى الإنسان في مقابل رفض الطبيعة والفطرة للفراغ والسكون وتأييد حركة العقل الواعي والوجدان السليم بعيدا عن كل ما من شأنه يزرع بذور العصبية، وهي دوغماتية شرسة لا يهمّها سوى تقديس التابو والاضطلاع بأدوار سلبية غاية في الخطورة على الإنسان وعلى العالم الذي يعيش فيه، أبرز هذه الأدوار تعطيل الفطرة الإلهية والسنن الكونية التي تجعل من الاختلاف ضرورة وحتمية لا تقوم ولا تستقيم الحياة إلا بها، الاختلاف بين الموجودات وفي الأفكار والاتجاهات وغيرها، التنوع يضفي على الحياة زينة ورونقا يكسر النمطية والأحادية التي تتجه إليها العصبية، وتُحطم على صخرة التعصب كل قوى العقل وتُعطل ملكاته في التفكير والإبداع وجوهر ذلك فطرة التغيير، التغيير الثقافي والتنوع الفكري والتحول الاجتماعي والحراك التاريخي والبناء الحضاري والاجتهاد والإبداع في كل ذلك، كل هذا عرفته الإنسانية عبر تاريخها الطويل ومازال قائما لم يكن بالدوغماتية بل باعتبار الاختلاف مصدرا للتوجيه على سبيل الاجتهاد والحوار والتسامح لا سبيل الاستبداد وقمع الآخر وممارسة العنف المشحون بالتعسف والكراهية.

وفي جو العنف والعنف المضاد تتسع أفاق الأحقاد والضغائن وتختفي مظاهر النظام والتواد والتراحم والتعاون وفي ذلك خروج عن الفطرة السليمة التي ارتضاها الله لخلقه، خروج يحيل بيئة الإنسان إلى تجمع حيواني متوحش شرس القوي فيه يأكل الضعيف، وأبرز مظاهر هذا الجو الحرب بمختلف صورها، حتى أنّ الدول المعاصرة جميعا لم يعد يهمها بالدرجة الأولى سوى أمنها القومي، وكل دولة تجدها خرجت من الحرب ضعيفة منهكة أو في حالة حرب أهلية أو خارجية تنخر كيانها أو تجدها تستعد للدخول في الحرب بالحرص على التسلّح والاستقواء العسكري على حساب حاجات ومطالب شعبها الأساسية، وهو الأمر ذاته مع الطوائف المختلفة التي تتغذى على العصبيات القبلية والعشائرية والعرقية والدينية والمذهبية وغيرها.

وبفعل التعصب اتجه العالم المعاصر بعد توقف الحرب الباردة نحو القطبية الأحادية والتمركز لصالح جهة بعينها، على الرغم من النجاح الذي حققه الإنسان في مجال العلم والتقنية أي تفسير الكون وتسخيره لخدمة مصالح الإنسان، مازالت المركزية مع الأحادية تفرض النمطية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بقوّة الحديد والنار مع تجاهل ظاهرة التعدد والتنوع في الأفكار والأديان والثقافات وغيرها، وأنّ هذا التنوع والاختلاف طبيعي لا تستوي الحياة إلا به، والإخلال به نتائجه عكسية، فنقمة التعصب ورم غاية في الخبث ينخر جسم المجتمع البشري ويفكك روابطه مهما بلغت من القوّة والمتانة بعد تحطيم دور العقل في الوعي والترشيد وإماتة كل أمل في التسامح قبل ميلاده.

إنّ اجتهاد الإنسان في الحياة من دون توقف وتعصب هو صمام أمان التغيير الإيجابي بعيدا عن السلبية والموت، وهو شرط البناء التاريخي والتطور الاجتماعي والأساس الذي يقوم عليه هذا التطور وهذا البناء هو فعل التغيير وحركة التحوّل التي تجري في النفس الإنسانية أولا. يقول تعالى في سنّة التغيير: "لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"[8]. والتاريخ إنتاج الإرادة الإنسانية والوجود الإنساني تعكسه حياة متغيرة بصورة دائمة، والحياة نضال مستمر، وحركة التاريخ لا تتوقف دأبا على التحول وحفظا لذلك وتسجيلا له، وهي حركة لا تتوقف عند نهاية العالم بل تستمر وتتواصل إلى ما بعد نهاية العالم، وقدرة الإنسان على التغيير تعني القيام بالبناء الأول تغيير الأنا ثم البناء الثاني تغيير العالم والربط بين الاثنين، ولا ينبغي الفصل بينهما لأنّ في ذلك منع للحركة التاريخية والاجتماعية والحضارية.

 فالصلاحية التاريخية والحضارية كما تدل عليها أحكام الفطرة في العقل والوحي وبالمسار الحركي الاجتهادي في مستوى الذات الإنسانية وكل ما يخص هذا المستوى ومستوى الوجود الخارجي تختل عند الركون إلى التعصب بسائر درجاته وأنماطه ومجالاته، وتفسد عند سيطرة أحد الطابوهات بمختلف أشكالها وهو الأمر الذي يُفسد على التاريخ مساره المستقيم في عمارة الأرض وتدوين العمران البشري ضمانا للاقتداء والتأسي والاعتبار وعلى الحضارة تكوينها المبدع الرائع وعلى الوجود تحرّكه الإيجابي وعلى الأنا ما وجد ويسعى لأجله، ويصوّر لنا القرآن الكريم هذه الوضعية في الآية الكريمة:"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولىّ سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد".[9] إنّ الإنسان الذي يقوم على تغيير الذات والوجود بمقتضى السنن المقررة في العقل والوحي وعلى تحريك التاريخ وفق هذه السنن وعلى بناء الحضارة بعدما يضمن لنفسه تحقيق التكامل بين عناصر وجوده بروح التواصل والحوار والتسامح وبعيدا عن للاستسلام لمنطق العصبية والعنف وتجاهل الآخر هو خليفة الله في الأرض.

إنّ المتأمل في الصورة النقيضة للتعصب وما يحدثه وللدغماتية وما تنتجه وللجمود وما يفرزه من مظاهر سلبية شتى تشمل حياة الإنسان ككل والطبيعة وجميع مظاهر الكون، هي صورة التواصل من غير صراع سلبي، وصورة التعايش من غير اختلال في العلاقات ومن دون انتهاك للفطرة، وصورة التماسك والترابط والوحدة والتكتل من غير شقاق وفرقة، وصورة الاختلاف والائتلاف من غير رغبة في إتلاف الغير أو الانتقام منه، وصورة الحوار بين الأنا وذاته وبين الأنا وأنا الآخر وبين الأنا وسائر الموجودات في الكون الفسيح من دون سقوط في الأحادية والتشدد والإقصائية والعنف والعدوان وسائر مظاهر العصبية السلبية، وصورة السلام التي تلف جميع صور الحياة والطبيعة والكون ككل، فتخترق إرادة الإنسان المألوف في النظر والعمل لتقفز عليه وصولا إلى الإبداع شرط الحضارة والرقي والازدهار، الإبداع الذي ينتجه الاختلاف في الفكر والنظر وسائر الأعمال ثراء وغنى على خطى التواصل والتلاقح والتكامل، لا على دعم التباين لذاته المفضي إلى السكون والجمود التخلف.

 لقد ثبت للإنسان عقلا وتاريخا ووحيا وواقعا معيشيا أنّ أيّة حركة في الوجود الفردي أو الاجتماعي أو في الكون عامة تصدر عن الإنسان تضاد الفطرة وتسير في التيار المعاكس للتاريخ في إيجابيته لا تجلب سوى الهلاك، فتحويل سنّة الاختلاف عن مسارها الطبيعي الذي وجدت به ولأجله دوما أبدا وهو الاجتهاد وبذل الوسع بدون توقف في إطار التنوع والثراء ابتغاء التغيير والتطور والازدهار والحضارة للجميع إلى طريق لا يعرف سوى الأنانية ورفض الغير وركوب موجة الاستبداد والتوجّه صوب العنف الفتّاك بكل أمل في النجاة من جحيم الفتنة وهي أشدّ من القتل، هذا التحوّل البشري السلبي المفسد لسنّة الاختلاف والخالي من كل ما ترضاه النفوس والعقول السليمة، منتهاه بالضرورة ولا محالة فساد الحياة ككل وعجز الإنسان عن القيام بعمارة الأرض والخلافة عليها، وهو لا يعرف الحياة الدنيا إلا مرة واحدة، فيتخلّف عن أداء الرسالة المنوطة بوجوده وكما أرادها له ربه الذي خلقه وكلّفه ويحاسبه، إما فوز ورضوان وإما غضب وخسران.قال تعالى: "وأنّ ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى"[10]. وقال تعالى:"إنّ الأبرار لفي نعيم وإنّ الفجّار لفي جحيم"[11].

 يمكن التأكيد على أنّ سبيل صرف سنّة الاختلاف عن نقمة التعصب وما ينجر عنها من مهالك وتوجيهها بالحوار في سياق التواصل الإيجابي والتعايش في سلام هو التسامح بمعناه الواسع. فالتسامح عدل ورفق ورحمة ورأفة وعفو ومغفرة وحلم وكرم وغيره من الله سبحانه وتعالى نحو عباده، يقبل توبة المذنب ويعفو عن المجرم ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه وينصف المظلوم ويدعو إلى الصلح والصفح والألفة، وإلى كل ما يدفع البغضاء ويجلب المودّة والخير للناس جميعا، ويحث على الجماعة ترسيخا للغيرية في النفوس ودرءا للأنانية والفردية الضيقة ولكل مظاهر العصبية، وهو غني عن العالمين.

 التسامح من صميم الذات الإلهية تحملها أغلب صفات الله وتحتويها أسماؤه حتى الأسماء والصفات التي اقترنت بالقهر إحقاقا للحق والعدل والإنصاف، وتتجلى بقوّة في الإبداع والنظام والجمال في الكون، على الرغم من الاختلاف بين أجزاء الكون وموجوداته ليس فيه اختلال وتفاوت أو فساد، ويقوم الصراع في الكون على التوازن لا على الحرب ومنطق الإفناء، والتوازن من روح التسامح الذي هو من روح العدل الإلهي، وتكوين الخلق وبنيته وحراكه لم يكن ذلك كله على نحو الصدفة والعبث، بل يجري وفق نظام محكم مطرد لا يتخلف ولا يتبدل نحو حكمة ارتضاها الله له، والنظام والحكمة والجمال في الكون من العدل الإلهي، عدل شمل الحياة ووسع كل شيء فيها وزيّنه بالتسامح صبغة الله في الكون والإنسان.

إذا كان التسامح مقترنا بالحق والصدق والخير كلّه فهذا "جون لوك" يقول عنه: "أنني أنظر إلى التسامح على أنّه العلامة المميّزة للكنيسة الحقّة"[12]. فالتسامح فطرة في الكون الفسيح فهو في عالم الإنسان مستمد من التسامح الرباني، تضمّن معانيه الوحي الإلهي ونشر قيّمه سائر الأنبياء والمرسلين، كما دعا إليه العقل السويّ وتمثّله الوجدان الطيّب والذوق السليم واتجهت إليه الروح المطمئنة التواقة دوما إلى الأفضل والأكمل، فالتسامح روحاني يستمد روحانيته من الخير الأعلى المطلق الذي لا ينضب بنضوب حياة الإنسان، لكنه يبعث الأمل الدائم في النفوس للاجتهاد في طلب التسامح وتمثله إيمانا وفكرا ووجدانا وعملا في الحياة الفردية والاجتماعية، وتقديمه على كل أسباب ومظاهر اللاّتسامح من بغض وكره وعنف واستبداد وانتقام وعصبية قاتلة، ولمّا كانت روح الإنسان الخيّرة في أصلها وبفطرتها السليمة قد أولت العناية الكاملة للعفو والصفح والرفق والصلح على الانتقام والغلظة والفظاظة والشدّة في القول والعمل والمعاملة، ونموذج قمّة التسامح مع الاختلاف النموذج المحمدي في شخص النبي عليه الصلاة والسلام وفي نبوته قبل البعثة وبعدها، فأخلاقه صلّى الله عليه وسلم في معاشرته الناس من أصحابه وغيرهم من أخلاق ربه، إذ ينعته ربه بعظمة الأخلاق وطيب ولين المعاملة ولو كان ذا فظاظة وغلظة ما بقي معه أحد.

لم يتحول اختلاف الناس في حياتهم الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية وغيرها واختلافهم في الألسن والأجناس والألوان وتباينهم في التاريخ والجغرافيا إلى مصدر للشحناء والبغضاء والتعصب والعنف بل إلى منبع للتسامح والعيش المشترك في وفاق وسلام، وإلى مصدر للاجتهاد وإعمال العقل وللثراء الفكري والعلمي وللتنوع الثقافي والإبداع الحضاري في سياق التعاون والتكامل، واستطاع الإنسان أن يسمو على أنانيته وعلى كل مظاهر الروح الانتقامية، ويعيش التسامح في أبعد صوره ومعانيه من خلال مشاهد إنسانية كثيرة رواها القصص القرآني ودوّنها التاريخ وعرفها واقعنا المعاش على مستوى الأفراد والجماعات، فنموذج دولة النبوة المحمدية كفيل بإبراز دور التسامح في سياق الاختلاف، اختلاف عميق ومتعدد عرف انصهارا كاملا في الجسم الإسلامي وروحه، انصهار أنتج الوحدة من الكثرة، والإبداع والتغيير والتجديد من الجمود والثبات والتقليد، وروح التسامح من العصبية والنعرة القبلية، والنظام والعدل من الظلم والاستبداد والفوضى، وأنشأ الحضارة والمدنية والتقدم والازدهار من البداوة والتوحش والانحطاط، وبفعل التسامح أنسن الإنسان وجوده ككل.

يمكن القول بأنّ التعصب في سياق الاختلاف ضعف أمام قوّة الحجة وعجز عن استيعاب الثراء في النظر والعمل وسلب لحق الغير في التواجد والعطاء وانتهاك حرمة خلق السامح وتعطيل للاجتهاد والحركة نحو التعايش والحضارة وإبطال لصبغة الله. أما التسامح فقوّته وعظمته من قوّة وعظمة الله تعالى. يزداد به المرء قوّة وتمكينا في الأرض، قوّة الفرد بسماحته وعطائه واقتصاده وسبقه إلى الخير، وقوّة المجتمع بنظامه وازدهاره لما ينطوي عليه أفراده من تسامح وسماحة.

2- التواصل، الحوار والتسامح من سنن الكون
إنّ الطابع الإنساني الاجتماعي للتواصل يقتضي عقلانيته وانتقاله من الفردي إلى الجماعي، " فالتواصل في أصله الاشتقاقي يعني تعميم رمز أو علامة أو شيء ما، أي جعله عاما ومشتركا بين مجموعة من الأفراد، وبالتالي فالتواصل في مبدئه يفيد الانتقال من الفردي إلى الجماعي. وبذلك يعدو شرطا مؤسسا لكل حياة اجتماعية".[13]

 إن الحديث عن التسامح في حياة الإنسان عامة وفي حياة المسلمين خاصة ومن الوجهة الدينية بصفة عامة والوجهة الإسلامية بشكل خاص يقتضي ربط التسامح بنقيضه، وهو اللاّتسامح والتعصب وروح الانتقام وسائر الحالات التي تغذي مشاعر الحقد والغل والكراهية والبغضاء والشحناء واختيار طريق العنف بمختلف صوره في مواجهة الآخرين بعيدا عن العفو والصفح والتراحم وعن كل ما من شأنه يجمع ولا يشتت، يقبل الآخر ويحبه ويصغي إليه ولا يقصيه، يتسامى فوق كل ما هو سفيه تافه، ومادامت دلالات وصور وسلوكيات اللاّتسامح منبوذة عقلا وشرعا وواقعا في حياة الفرد والجماعة على الرغم من أن الإنسان مارسها ولازال يمارسها على نحو يشذ عن حاجة الإنسان الدءوبة صوب التسامح باعتباره سبيل ارتياح الإنسانية فرديا واجتماعيا وأمميا، وإمكانية تصنع عالم الأمان والسلام وتُصرف الإنسان إلى الاشتغال برسالته في الحياة وعلى الأرض خلافة وتعميرا وتحضرا.

 الرسالة العظيمة أمانة عظمى تحمّلها الإنسان لجهله بمعنى التسامح وبآثار اللاّتسامح، فكثيرا ما يختار مالا يسمح بأداء الرسالة على أكمل وجه، فينزاح عن الفطرة السليمة التي جُبل عليها وعما يوافق السنن الكونية في الطبيعة والإنسان من فكر وسلوك، ويحيد عن الحق باعتباره سبيل النجاة في الدنيا وطريق الخلاص في الآخرة، ومسلك الخير مبني على التواصل والمحبة والحوار والتسامح والتعايش والسلام وسائر القيم العليا السمحة في مقابل القيم الدنيا وأبرزها اللاّتسامح.

 إذا كان الحديث عن التسامح يحيلنا بالضرورة إلى التفكير في معاني اللاّتسامح لأن دلالات التسامح تتضمن معاني اللاّتسامح والأشياء كثيرا ما تُعرف بأضدادها، فإنّ موضوع التسامح لا تقوم له قائمة من دون موضوعات أخرى ترتبط به ويرتبط بها ارتباطا سببيا أو غائيا أو منهجيا أو أخلاقيا واجتماعيا. أبرز هذه الموضوعات التواصل الذي يؤسس للاجتماع البشري ويحققه في مستوى أرقى من كل المستويات التي عرفتها المخلوقات على وجه المعمورة، لما للإنسان من تفرد وتفضيل بالتكريم الإلهي له، فالتواصل سنّة كونية وهبة طبيعة في البشر تتضمن أسباب اندفاع بني الإنسان إلى بعضهم البعض نحو العيش الجماعي والنفور من الفردية وتجنب الاعتزالية باعتبارها شذوذا عن الطبيعة التي تؤكد حيوانية الإنسان في اتجاه الاجتماعية والمدنية، وهي طبيعة وضعت الإنسان في أعلى مراتب سلم ترتيب الكائنات الأرضية في الدرجة والقيمة تأثيرا وتأثرا وفعّالية، فالتواصل يحوي دواعي الارتباط الإنساني في كل مستوياته وفي مختلف أشكاله وصوره، ويزرع حراك التواصل المفعم بالخلود والأبدية بذور التقارب والتفاهم الإنساني في الفكر والسلوك فأنتج وينتج الاجتماع الإنساني بأشكال شتى عرفها التاريخ عبر عصوره الطويلة وإلى الآن، الأسرة والعشيرة والقبيلة والمجتمع المدني والدولة والأمة والمجتمع الإنساني، الاجتماع الإنساني الذي لا يقوم ويستمر ويحقق كل ما يحتاج إليه لضمان هذه القوامة والاستمرارية في غياب التواصل أولا ومن دون التسامح ثانيا، لأنّ التواصل المنتهي بالتفاهم يهدف إلى " الوصول إلى نوع من الاتفاق يؤدي إلى التذاوت المشترك وإلى التفهّم المتبادل وإلى التقارب في النظرات والآراء وهذه الأبعاد من التذاوت تقابلها ادعاءات للصلاحية تتمثل في المعقولية والحقيقة والدقة والصدق والتي يستند عليها كل شكل من أشكال الاتفاق ومن ثم فإنّ التفاهم هو العملية التي من خلالها يتحقق اتفاق معين على الأساس المفترض لادعاءات الصلاحية المعترف بها باتفاق مشترك"[14]. وحسب "يورغن هبرماس": "إنّ التجربة التواصلية تأتي من العلامة التفاعلية التي تربط شخصين على الأقل داخل العالم المعيش وفي إطار التوافق اللغوي التذاوتي ومن ثم فإنّ كل شخص أو فاعل يملك القدرة على الكلام والفعل يمكنه أن يشارك في التواصل وأن يعلن عن ادعاءاته للصلاحية شريطة أن يراعي مقاييس المعقولية والحقيقة والدقة والصدق"[15].

ويرتبط التواصل بالعقلنة كميزة بشرية "ذلك أنّ العقلنة لا ترتبط بامتلاك معرفة ما ولكنها تتوقف على الطريقة التي يعبّر بها الأشخاص القادرون على الكلام والفعل عن هذه المعرفة.. أنّ العقلنة في استعمال القضايا تتجلّى في شكلين اثنين:عقلنة معرفية أداتية تتأكد في المقاييس النفعية للنجاح وفي التحكم التقني بالقياس إلى غاية، والعقلنة التواصلية المستندة إلى قوّة الإقناع وإلى الخطاب البرهاني لخلق إجماع بدون ضغط ولا سيطرة"[16]. والعقلنة التواصلية توجد بالضرورة التحول من الفردية والذاتية في اتجاه الجماعية والأممية والعالمية، ذلك "إنّ التواصل، إذن بحكم كونه يفيد الانتقال من الفردي إلى الجماعي يؤسس لكل حياة جماعية. حيث يخلق سياقا تبادليا للمعاني وللمضامين، للعلامات وللأشياء. ولذلك فإنّه يولد تفاعلا يسهم في ظهور أنماط مختلفة من السلوك سواء ذات منحى ائتلافي أو اختلافي، المهم أنّ أساليب تحريك التواصل وإيقاعه في المجتمع يؤثر على نظرة الإنسان لذاته وللآخرين وعلى وعيه بالواقع وبالزمن"[17]. "وذلك خلافا لما يراه شبنجلر من أنّ كل ثقافة هي تركيب عضوي من نوع خاص لا صلة له بالثقافات التي جاءت قبله أو الثقافات التي تجئ بعده"[18].

فالتواصل يجمع بني الإنسان ويشد بعضهم إلى بعض بطريق شعوري ولاشعوري يقوم على التجاذب الطبيعي في حدود الطبيعة البشرية التواقة إلى الأفضل والكمال والمفطورة على الخير، الناهدة دوما إلى الأعلى في مقابل الشر وكل ما يعكر صفو حياتها ويحول بينها وبين مراميها، أما التسامح هو المادة الأسمنتية التي تضمن قوة ومنعة واستمرار وديمومة التماسك بين العناصر المكونة للاجتماع البشري أيّا كان تكوينا وبنية وحركة وفعّالية.

 لقد منح التكريم الإلهي الإنسان القدرة على الحركة التواصلية، وفي فعاّلية حركة التواصل ونجاعتها ينتج الاجتماع البشري في أرقى الصور التي تعرفها المعمورة، فيحتاج البنيان الاجتماعي إلى التسامح ليقوى ويشتد عوده تأسيسا للحضارة والعمران وضمانا لخلافة الإنسان على الأرض، لكن بلوغ هذا المسعى يشترط تأصيل التواصل وتأسيس التسامح على مسلك الحوار في صورتيه الذاتية والغيرية، بين الأنا وذاته من جهة وبين الأنا والغير من جهة أخرى، الحوار المجسد للفطرة الإلهية والمعبر عن الحقيقة الإنسانية في أرقى صورها، الحوار الذي يتخذ أشكالا عدّة، وأول هذه الأشكال المحاورة الذاتية التي تجري في النفس الإنسانية مجرى الدم في العروق، وتحيي الروح والعقل حياة كل شيء بالماء، إنّها حركة التفكير التي لا تتوقف ولا تنقطع إلاّ في حالات النوم والإغماء ونحوها.

إنّ التفكير بسائر ملكاته ووظائفه حوار، هو أول ما ينطلق من الذات باعتبارها موضوعا مفكرا فيه يثري الحوار والتفكير، وتمثل الذات الإنسانية عالما داخليا ذاتيا غاية في التعقيد والعمق والاتساع، عالم هو مادة خصبة للتفكير والتأمل والحوار مع الأنا في المستوى الأول الذاتي الداخلي، إلى جانب المستوى الحواري الثاني الموضوعي الذي يخص العالم الخارجي ويشتغل فيه التفكير والحوار باستمرار، ومادام الحوار ظاهرة إنسانية طابعها فردي واجتماعي، فهو على المستوى الإنساني الاجتماعي ميادينه شتى تشكل جميع مجالات الاجتماع البشري، وبصفة خاصة مظاهر الثقافة وتجلياتها، الثقافة عامة وثقافة الحياة اليومية والعلم والدين والسياسة والأخلاق والحضارة وغيرها، وصورة الحوار دوما تقوم على إثبات الأنا والاعتراف بالغير وعدم إقصائه والتعاطي معه إصغاء وسماعا، ووصولا إلى التوافق في حده الأدنى أو الأعلى أو عدم التوافق، وتكتمل صورته بالاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة، فيأخذ الحوار مكانه في شبكة العلاقات الاجتماعية في بنيان الجماعة البشرية المؤسسة على التواصل، في سبيل حمايتها من التفكك من خلال حماية التواصل ذاته واستثمار قيم التسامح ذاته الذي هو جوهر نجاح الحراك التواصلي وسر فلاح الفعل الحواري في أي عصر وفي كل مصر.

أما الصورة السلبية للتواصل والحوار والتسامح تظهر عند اجتماع مضادات الفطرة الإلهية وموانع السنّة الكونية، مضادات وموانع تمنع التواصل وتلغي الحوار بإقصاء الأنا أو الغير أو الأنا والغير معا وتسد كل منافذ التسامح من دون أمل في فك الحصار عنها، في هذه الحال تتغلب الفرقة وتسيطر على الوضع فتشق طريقها في داخل المنظومة الاجتماعية عاطفيا وفكريا واجتماعيا، وتقوى الفرقة ويتسع مجال التشتت باستقواء مشاعر الأنانية والانتقامية وما يصحبهما من مظاهر سلوكية تجنب الإنسانية ما وجدت لأجله، فينحدر الإنسان صوب الأسفل ويفقد كرامته والتكريم الذي خصه الله به وسقط في هاوية البهيمية التي يقودها شرع الغاب وتحكمها مقولة السمك الصغير له الحق في أن يسبح والسمك الكبير له الحق في أن يأكل ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها فطرة التواصل ومنهجه الحوار المبني على التسامح.

أما الصورة الإيجابية للتواصل في ارتباطه بالحوار والتسامح داخل الاجتماع الإنساني يصنعها الحراك الإرادي من خلال إقصاء كل ما من شأنه يعارض الفطرة الإلهية ويمنع السنّة الكونية من أن تتحقق في حياة الإنسان، فيتجه الحراك الإرادي إلى تجميع كل ما من شأنه يضمن التواصل الذي يستخدم الحوار ويفضل التسامح على غيره وفي كل الأحوال، وذلك من خلال استلهام المعاني والقيم العليا من التاريخ والثقافة بمختلف مظاهرها ومن الواقع المعاش بواسطة إعمال العقل والتدبر في الكون، وهو أمر مطلوب وضروري لتحقيق الدور الرسالي الخلافي المنوط بالإنسان وبوجوده الفردي والاجتماعي، هو ما أكدت عليه وتدعو له الاتجاهات الفكرية والدينية والاجتماعية وغيرها صاحبة الذوق الرفيع والوجدان الطيب والمنطق السليم.

فالاستلهام التاريخي لدلالات ومعاني دعم التواصل وتكريس الحوار وتعزيز التسامح يحيلنا بطريقة مباشرة وغير مباشرة وفي مصادر شتى إلى التتالي الحضاري والتعاقب الثقافي وإلى تلك التراكمية الحضارية الثقافية الإنسانية المفعمة بمواد ومحتويات حضارية وثقافية شتى ذات ألوان زاهية لم تحد عن الفطرة ولم تبغ غير سنّة الدور الرسالي الإنساني الممجد، والأمر ذاته مع الاستلهام العقلي الذي استقى هو الآخر من خلال التواصل مع ذاته ومع محيطه كل ما تحتاج إليه ظاهرة التواصلية من شروط ومن دون أن يعود إلى الاستعانة بغيره، فاجتهد من خلال المحاولة والخطأ وشيّد عوالم إنسانية بلغت من السمو والرفعة درجة كبيرة وبلغ أصحابها من السؤدد درجة أكبر، والأمر أكبر وأوسع وأعمق مع الاستلهام الثقافي والثقافة لسان حال الحضارة تشملها وتعبر عنها، فمن خلال الدين والعلم والفلسفة والسياسة والأخلاق والعرف والتقنية وغيرها كل هذا شكل منابع وقدم مسارات وقاد الإنسانية والعقل وسائر مقومات التثقيف والتحضر وجميع قيم الإنسان العليا نحو تجسيد مهام الخلافة وتأكيد أداء الرسالة، ويتأكد باستمرار الاستلهام التاريخي واستلهام العقل واستلهام الحضارة والثقافة بسائر مظاهرها باستلهام الواقع كل من جهته في عصره وفي مصره، إذ لم يعد خفيا على أحد في واقعنا المعاش في كافة الأصعدة أن من الناس يعيش البؤس واليأس والقنوط ومنهم يعيش الرفاهية والأمل والسعادة.

ففي الحالة الأولى يجافي الإنسان الفطرة ويجحد النعمة ويُدبر عن كل جدّ واجتهاد، متهاو في حضيض الأنانية ونكران الغير، مشبع بروح الانتقام والتعصب والضعف والانهزامية وانكسار الإرادة وعدم الثقة في النفس، مشغول بالانقضاض على ما ينتجه الآخر قيّما وأفكارا وأشياء للاستهلاك ومن دون أدنى حركة في سبيل تحكيم الفطرة والتسلح بقوّة العزيمة لخوض معركة الحضارة والتأسيس للخلافة وأداء الرسالة. أما في الحالة الثانية فالإنسان مُدبر عن كل ما يسيء إلى السنن الكونية ومقبل تماما على كل ما من شأنه يضمن قوّة الحراك التواصلي وقوّة الحوّار وقوّة التسامح ومن وراء ذلك قوّة الإرادة ودماثة خلق حب العمل وبذل الوسع في ذلك بروح عالية شامخة في قبول الآخر والتعاون معه، إذ أن الجميع يستفيد من الجميع والكل يحترم الكل، والجميع مشغول بالأنا استقامة وعملا واجتهادا وبالغير احتراما وتعاونا وبالمجتمع استنهاضا وتطويرا وازدهارا وبالحضارة إنتاجا وعطاء وبالتاريخ استلهاما للقيم والعبر.

لقد تأكد للإنسان عبر التاريخ وبالعقل والشرع والواقع أنّ القوامة الحضارية تقوم على استقامة الفعل الإنساني الفردي والاجتماعي، والاستقامة في الفعل الحضاري تعني كلما تحلّى الفعل في حراكه الذهني أو المادي وهما معا بمعان وقيم هي محل إجماع العقول والشرائع والاتجاهات الدينية والفلسفية والاجتماعية والثقافية وغيرها في خيريتها وإيجابيتها وفي أفضليتها وأولويتها على غيرها، وقد لا تُقبل عليها بعض الاتجاهات في السر والعلن فكرا وسلوكا لكنها عاجزة عن رفضها صراحة ومقالا لأن في ذلك مجلبة لعدائها وخطر عليها، فالتواصل بين الناس بمختلف صوّره وأساليبه فطرة فطر الله الناس عليها، وسنّة كونية لا تنمحي ولا تتحول ولا تتبدل، وضرورة تاريخية لا يتوقف حراكها ولا تتقطع مساراتها، وحتمية إنسانية اجتماعية تحرك الناس نحو بناء الجماعة ونحو السعي إلى المحافظة على أواصر الترابط والتماسك والوحدة فتعددت أشكال الجماعة وتعددت مطالبها، وضرورة حضارية، فما كان للإنسان أن يصنع المدنية والتحضر وسائر منتجات الحضارة وتتناقلها الأجيال من عصر إلى آخر لولا التواصل، وأصل التحضر تواصل الإنسان بخالقه الذي علّمه ما لم يكن يعلم وتواصله مع أخيه الإنسان بعد ذلك.

إن معاني التواصل وإفرازاته لا تقوم لها قائمة في غياب دلالات الحوار ونتائجه، باعتبار الحوار الأسلوب الوحيد الذي يضمن تبادل الفكر والسلوك والمواقف والاتجاهات بين بني البشر، والواقي من منطق الإقصاء والأحادية والتسلط والهيمنة المستبدة بصاحبها وبمن معه، والكاشف لقيّم التواصل ولكل ما يضر أو ينفع نظرا وعملا من أراء وفهوم شتى لا الرأي الواحد، والمفضي إلى سداد الرأي ورشاده الذي لا يخرج عنه إلا صاحب زيغ وظلال، ويكون الحوار إيجابيا كلما تمثل حقّا وفعلا روح التسامح في رقتها ولينها ولطفها وعفوها وإشفاقها وفي سائر محامدها، وكثيرا ما يفشل التواصل في غياب الحوار الإيجابي، وكثيرا ما يفشل الحوار في غياب التسامح، وفي كثير من الحالات لا يجد التسامح مرتعا له في عالم اللاّتواصل واللاّحوار واللاّتسامح.

كثيرا ما يُقال أن الطبيعة تأبى الفراغ وتنفر من العنف والعدوان، فهي تتجه نحو الحركة بدأب وديدان، وتنكشف مخزوناتها وتتعرى طاقاتها وتنفجر في حدود الإرادة الإنسانية وما تبذله من جهد واجتهاد بإيمان قوّي بقدرة الإنسان على التغيير وعلى خوض معارك البناء الحضاري من دون يأس وخيبة أمل، هو العلا الأعلى كما يسميه البعض، لكن حسم المعركة لصالح الإنسان لا يتم إلا بالتواصل والحوار المبني على التسامح، فالمعركة محسومة لغير العلا الأعلى في جو الفرقة والشقاق والتشتت، وفي سيطرة منطق الإقصاء والعنجهية والأنانية وواحدية الرأي، وفي السقوط الحر في بحر أمواجه طوفانية تدفع باتجاه الكراهية والبغضاء والضغينة، فيقتحم الإنسان عالم اللاّتسامح والعنف الذي تتعدد أشكاله، وكثيرا ما ينتهي العنف بالتناحر والاقتتال، فلا تقوم للتعايش قائمة قي غياب الأمن والسلام.

ورد في الأثر الطيب أنّ أحد الحكماء عُرف عنه كثرة العلم، وغزارة الفطنة، والصدق في القول والعمل، يحاور ويهزم، لم ينكسر قط فيما ناظر وحاجّ، فتعجب أهل العلم والحجاج لذلك، ورأوا في الأمر سرّا، وذات يوم سأله أحد تلاميذه عما يفعله قبيل الشروع في المناظرة، فأجابه قائلا: ما ناظرت أحدا قط في حياتي إلاّ سألت الله بيني وبينه أن يّظهر الحق على لسانه هو وليس على لساني أنا. فالتواصل في هذا المشهد عرف الحوار في قمة التسامح. فأين نحن من هذا؟.

3- ملكة الحوار بين الجمود والاستثمار
يكفي الإنسان شرف تكريمه وتفضيله على كثير من الخلق الإلهي، بما أوتي من قوّة بعد ضعف، وقدرته على مغالبة الشدائد وتحقيق الانتصارات، مستلهما قوّته وانتصاراته من مصدر التكريم والتفضيل، الله خلقه ورزقه من الطيّبات وأودع فيه ما لم يُدعه في العديد من مخلوقاته، فبثّ فيه من الملكات ما يتيح له التفوق وبلوغ الرفعة والسؤدد في عالم مليء بالمصاعب والأخطار، مثلما هو مشحون بالحركة ومفعم بالتجدّد والفرص فيه لا تعرف النضوب، فالإنسان بكيانه المتفرد في التكوين والمتميز في البنية وهو من عدل الله وحكمته دخل معترك الحياة في عالم قمّة في الغموض والتعقيد، عالم الطبيعة والإنسان وسائر الظواهر الكونية، عالم الغيب والشهادة، العالم الأصغر وهو الإنسان والعالم الأكبر وهو الكون، عالم الحياة في الدنيا وعالم الآخرة.

دخل الإنسان عالم الحياة بروح واعية قويّة واثقة من نفسها بملكات العقل وقوى النفس وبروح الجماعة المفطور عليها الروح الفردية، فهو يفكر ويدرك ويحكم ويستدل ويحلل ويركب وينقد ويستنتج، وهو يحفظ ويثبّت ما يحتاج إليه ويتذكره عند الحاجة وعند غيرها ويوصل ماضيه بحاضره وبمستقبله، وهو يتصور ويتخيل ويبدع فأضاف عالم الحضارة إلى عالم الطبيعة من الطبيعة ذاتها المتأصّلة في كيانه الإنساني والمتجذّرة في العالم الذي يعيش فيه، الطبيعة كما شاءت لها أن تكون صبغةُ الله وسنّتُه ولن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لصبغة الله تحويلا، والإنسان ينفعل فيفرح ويغضب ويأمل وييأس ويحب ويبغض ويقلق ويهدأ ويشجع ويجبن ويتعاطى مع أحوال ومشاعر شتّى مما يميل ويفضل أو مما ينفر ويدبر، ويتداخل في الكيان الإنساني المركب العقلي مع النفسي الروحي مع البيولوجي مع غيره فيزيده تعقيدا ويصعب تكشّفُه، ويزداد الحال غموضا تعقيدا والإنسان يتفاعل مع العالم الذي يعيش فيه تأثيرا وتأثرا سلبا وإيجابا.

مع قوة العقل وقوة النفس وقوة البدن وقوة التأثير والتأثر في العالم الخارجي يتمتع الإنسان بملكات عظيمة تؤهله لامتلاك سائر مقومات وقيم الروح الجماعية التي وراء تكوين الجماعة البشرية بمختلف أشكالها، فمنظومة قيّم الجماعة وشبكة العلاقات الاجتماعية وأصول الاجتماع البشري ومنطلقاته ومساراته ومبتغياته ومنتهياته كل ذلك بذور تكوينه وعناصر بنيته حالّة في الإنسان الفرد، تنبع من الفطرة الإنسانية العاقلة والشاعرة الميّالة صوب الجماعة تأثيرا وتأثرا واندماجا وتكيّفا، تحقيقا للمشيئة الإلهية ويحددها التواصل في إطار الاختلاف والتباين، لا على سبيل الإقصاء والتدابر والتناحر بل على خطى التعارف والتعاون والتكامل.

وسبيل التواصل في إطار الاختلاف لا يضمن إيجابيته في حدود الأنانية والأثرة المفرطة وإلغاء الغير وصراع المصالح الضيّقة في حدود الغرائز والشهوات والتكالب على الدنيا والتناحر والاقتتال في سبيل ذلك، بل التعارف الإيجابي يتحقق في حدود الفطرة السليمة الخيّرة والمشروعية عقلا وشعورا وأخلاقا واجتماعا، بواسطة الرغبة في العيش المشترك واحترام الآخر وقبوله والتعاون معه نحو النظام والتعايش في أمن وسلام تحقيقا للقوامة وتجسيدا للخلافة على أرض الله، والسبيل إلى النظام والإبداع والحضارة في سياق التواصل والتعايش والتعارف الإيجابي وهي مقومات القوامة والخلافة الحوار، الحوار باعتباره المسلك الذي ارتضته الفطرة الطيّبة في الإنسان والطبيعة والكون ككل لكونها عوالم ارتبطت بقّوة السببية دافعا وغاية ولها من الفعّالية ما لا يُحصى ولا ينضب، ولم تكن ذات منحى عشوائي عبثي هزيل، والحوار ارتضاه الله لعباده منهجا لعمارة الأرض وإحكام السيطرة على صلتهم وفق الفطرة السليمة البينية وغيرها، والتفوق في ذلك عن جدارة واستحقاق استثمارا لكل القوى الموجودة واستغلالا لكل الفرص المتاحة، في مقابل الإخفاق الذي كثيرا ما ينتهي إليه الإنسان اجتهادا أو إهمالا على الصعيدين الفردي والاجتماعي أو على صعيد العالم الخارجي أو فيما يخص عالم ما بعد الموت.

يشكل الحوار قبل كونه ملكة في الإنسان ومنهجا في حياته اقتضاء كونيا اقتضته ظاهرة التعدد والاختلاف في مقابل الوحدة والثبات ، وتأرجح حركة الإنسان الدءوبة بين الاثنين، للخروج من الصراع الضيق والتناقض والجدل السلبي إلى رحابة التواصل الإيجابي والنظام والتكامل، فتجتمع الوحدة مع الكثرة ويندمج التغيّر مع الثبات في وفاق ووئام زمن غير اختلال، وبُثّ الحوار في جميع عناصر الكون وبين كل ما تتطلبه الحياة من شروط وضرورات، فالطبيعة وأجزائها وسائر الظواهر الكونية يديرها نظام قمّة في التناسق وغاية في الانسجام والتناغم ومن غير تفاوت ولا اختلال، فكل ما في الكون له مصدر ومسار وموصل، لم يأت جزافا وعبثا بل في أتمّ الدقة والحساب، ومخلوقات الله في أكوانه يحاور بعضها بعضا في دأب وديدان لا تكل ولا تمل، هذا الحوار الكوني من نوع خاص ليس كالحوار بين بني البشر، وهما من مصدر واحد ومسار واحد وغاية واحدة، فالحوار في الأكوان بين سنن هذه الأكوان على اختلاف أنواعها ومراتبها، تتمثلّه سنن الخلق في التكوين والبنية والحركة والدور.

يجري الحوار في صور شتى لا حد لها من الاتساق والانسجام والنظام بعيدا تماما عن الاختلال والتفاوت، ولولا الاتساق المبثوث بين عناصر الكون ووحداته وهو من صور الحوار لفسد الكون وفسدت الحياة، ومن حكمة الله وعدله أنّه خلق الخلق وبث فيه الحياة التي تتخذ من سنّة الحوار منهجا تتعدد وتتنوع صورها بتعدد وتنوع صور الحياة بين حاضرة وغيبية وجامدة وحيّة وبين فردية واجتماعية وبين دنيوية وأخروية وغيرها ما نعلمه وما لا نعلمه، والحوار آية من آيات الله في مخلوقاته يعبّر عن حالة الإبداع والجمال والروعة التي وّجدت عليها سنن الكون وظواهره ما ظهر منها للعيان وما خفي، وعرفها نظامه البديع الجميل الرائع المركب من هذه السنن ويدل على الدرجة العظمى التي بلغتها جميع مخلوقات الله في الدقة والترتيب والإحكام والنظام والجمال والروعة من حيث التكوين والبينة والحركة، يقف أمامها الإنسان صاحب الجبلة السويّة عقلا وشعورا ووجدانا مستلهما إيمانه القويّ الراسخ بقوّة وعظمة وحكمة بديع الكون وواجد النظام والتواصل والحوار، ولا ينكر ذلك إلا الجاحد.

أما الحوار لدى الإنسان فهو ناطق وواعي، فلا تقوم للإنسان قائمة في الحياة على المستوى الفردي أو الاجتماعي وعلى صعيد ارتباطه بالعالم الذي يعيش فيه وسائر ظواهر الكون ومن جهة اتصاله ببديع الكون جلّ جلاله إلاّ بالحوار أداة لتبادل التأثير والتأثر بين وحدات الوجود وهي الله جلّ جلاله والكون والإنسان مع بعضها بعضا وبين عناصر وأجزاء كل وحدة من هذه الوحدات وما أكثر هذه الأجزاء وأنظمها وأعدلها، فمن جهة حياة الإنسان الفردية المتميزة بالذاتية والخصوصية وبالتعقيد والغموض في محتوياتها لدى صاحبها ذاته ولدى الناس عن بعضهم البعض.

يعقد الكثير من المفكرين المعاصرين في العالم العربي والإسلامي أمالهم على الحوار والحوار فقط في حاضر الأمة ومصيرها، هذا "حسن حنفي" يقول: " والحوار الفكري مقدمة للحوار السياسي، والحوار بين المفكرين إنّما يمهد الطريق للحوار بين القادة والزعماء،فالفكر يسبق الفعل، والتصور يأتي قبل الممارسة،هذه ليست مثالية تعطي الأولوية للفكر على الواقع في حين أنّها عين الواقعية في المجتمعات التراثية التي مازال فكرها بديلا عن واقعها وماضيها ممتد فوق حاضرها"[19]. ويقدم "الجابري" رأيه في المسألة قائلا: " والقضية الأساسية بالنسبة إليّ ليست الدفاع عن هذا التيار أو ذاك ولا إعلان الولاء لهذه الجهة أو تلك...كلاّ، إنّ قضيتي الأساسية، وأعتقد أنّها قضية كل مثقف عربي في الظرف الراهن، هي البحث عن "نقاط الالتقاء" التي تجعل في الإمكان وفوق الجميع في "كتلة تاريخية" لمواجهة المصير المشترك: مصير الأمة العربية والأمة الإسلامية ومصير الأمم المستضعفة أيّا كان دينها وقوميتها. ذلك لأنّ القضية التي ستكون قضية الغد ليست أن تكون ماركسيا أو سلفيا أو ليبراليا...بل هي أكبر من ذلك وأعظم"[20]. ويقول آخر:" متى تعدد المجتهدون وتباينت أراؤهم كان الحوار وسيلة للتقارب وأسلوبا للتفاهم وأداة للتلاقي. وتبادل الفكر هو طبيعة البشر وسنّة الحياة الإنسانية، ولا شيء يمتنع فيه الحوار، ولا أحد يتأبّى على الحوار، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والعقلاء يسعون إلى الوصول إلى الحق دون مكابرة والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها ولا يضرّه من أين خرجت"[21].

تجري الحياة الفردية الذاتية في سكونها وحركتها في كل الحالات وفق الحوار الذاتي الداخلي، فكل الصور والعمليات التي تعرفها الحياة العقلية الذاتية وأصلها التفكير والتأمل من إدراك وإحساس وتذكر وتصور وتخيل وما يرافق ذلك من تحليل وتركيب ونقد وتقييم واستنتاج، وكل الحالات التي تشهدها النفس الإنسانية ومصدرها الانفعال من لذات وألام وميول ورغبات وعواطف وأهواء وسائر المشاعر والأحاسيس الشعورية واللاشعورية السوية والمرضية الظاهرة والباطنية السلبية والإيجابية من حب وكراهية وفرح وحزن وتسامح وتعصب وجبن وشجاعة وغيرها كثير، كل هذا على المستوى العقلي والنفسي يتحرك أول ما يتحرك في شكل حوارات وصورة منولوغات داخلية ذاتية وخاصة لا يعيشها سوى صاحبها، على الرغم من كونها تترك آثارا بيّنة على سلوك صاحبها الظاهر وعلى المحيط الذي يعيش فيه.

لا يمكن بأي حال من الأحوال للإنسان أن يعيش من غير الحوار في ذاته ومعها، فهو يمارس الحوار في كل الحالات حتى في حالات النوم عن طريق الأحلام وفي حالات أخرى كاللاشعور والحالات المرضية وغيرها، فالحوار الإنساني الذاتي الداخلي ميزة وخاصية إنسانية، تدل على قوّة الإنسان وتفرّده في الوجود، وتشكل لديه مدخلا لوعي وجوده الخاص الفردي الذاتي ولا يقاسمه في معرفته غيره من بني جنسه، وتمثل وسيلة للتواصل مع وحدات الوجود الأخرى معرفة وتأثرا وتأثيرا ولبناء صلاته بها، ولتحريك التاريخ وبناء الحضارة من خلال تحقق القوامة والخلافة على الأرض.

من الحوار الذاتي ينقل الإنسان الحوار إلى العالم الخارجي الإنساني الاجتماعي وغيره، فالحوار الإنساني الاجتماعي ضرورة إنسانية اجتماعية يقتضيها الاجتماع البشري في جميع صوره وفي كل العصور والأمصار لتكوينه وفي بنيته وفي حركته، وأول صورة من صور الاجتماع الإنساني اجتماع اثنين من البشر اجتماع المرأة والرجل وهما يشكلان طرفي الكيان البشري الإنساني في منطلقه التكويني البنائي (أبونا آدم وأمنا حواء)، أول ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التحاور بين طرفيه لضمان التواصل والتعارف والتفاهم والوصول إلى التعايش بعد ذلك، وقد يصل الحوار بهذا الاجتماع إلى التنافر والتعارض والتناحر، والأمر نقسه مع كل أشكال الاجتماع الإنساني.

ففي غياب الحوار لا تقوم الحياة الاجتماعية أصلا، لأنّ هذه الأخيرة تتأسس على المحاورة الفردية الذاتية التي تنطوي على بذور تشكيل مكونات شبكة الحياة الاجتماعية وعناصر تكوين المجتمع، فحاجة الجماعة بصورها المتعددة في النشأة والدور إلى الحوار كحاجة عالم الأحياء إلى الماء والهواء، فالحوار وراء المجتمع تأسيسا وبنيانا ونشاطا، ووراء تحريك التاريخ وإنتاج الحضارة وصنع المجد والسؤدد من طرف الإنسان الاجتماعي المدني لا الإنسان الفردي البيولوجي، يدلنا كل من الوحي الإلهي والتاريخ والواقع الإنساني المعيشي فرديا واجتماعيا متخلفا كان أو متحضرا إلى أنّ الحوار كائنا ما كان هو مبدأ وأصل كل تحرّك إنساني في ذاته أو نحو غيره، ومنهجه في اتجاه البناء الشخصي الذاتي المطلوب طبيعة ووضعا وشرعا، أو صوب البناء الاجتماعي المرغوب فيه تعايشا وحضارة، وكل ذلك في سبيل التكامل بين عناصر الوجود جميعا.

إذا كان الحوار شرط التكامل بين وحدات الوجود فإن ذلك يبدأ في الإنسان الفرد أولا ثم يشيع بعد ذلك بين جميع أفراد بني جنسه البشري، ويتّخذ طريقه البنائي في الإيجابية تواصلا وعرفانا وبيانا وحضارة أو يسير في الاتجاه المعاكس فينتهي إلى التعصب والفرقة والشقاق والتخلف، وفطرة الحوار السليمة تنبع من نظام الكون في التناغم والتوحيد والتكامل بين مختلف أجزائه في سياق التباين والاختلاف الذي هو من سنن الكون، والتناغم في الحوار يؤسس له التسامح المفضي بالضرورة إلى الوفاق والوئام والعيش في سلام، وتهدمه كل محاولة في اتجاه التعصب اعتقادا وفكرا وعرقا ولغة ومذهبا وغيره كثير، التعصب لأحد الطابوهات المُعطل للحوار شرط الجد والاجتهاد والذي يقود إلى التغيير والتطور والازدهار في مقابل ترسيخ ودعم الجمود والتحجر والتخلف والانحطاط، فالمحاورة إما بنّاءة لها أسسها ومسارها وأهدافها المنشودة وإما هدّامة لا أفق لها مبنية على التصور الضيق في حدود لا يسمح التطرف باختراقها افتراءا على الجبلة الطيّبة وصدفا عنها.

تتجلى كل من صورة الحوار الإيجابية البنّاءة صورة بيضاء خيّرة في منتهى الطيب والجمال، وصورته السلبية الهدّامة صورة سوداء في منتهى القبح والسوء داخل حياة الإنسان في مستويات عديدة، فبين الأديان والمذاهب والطوائف إما تعايش وسلام وإما تناحر واقتتال، وبين الثقافات والفلسفات وسائر الأفكار إما تواصل وتنامي وتطور وازدهار وإما انغلاق وتقوقع وتحجر وجمود وتخلف، أو انتشار واختراق وهيمنة من جهة الأقوى وتقلص وانصهار وذوبان وزوال من قبل الأضعف بعد الغسيل الذي يتعرض له، وبين الحضارات إما إقبال متبادل ونهم متواصل وأخذ وعطاء وإما إعراض وإدبار فينتهي الأمر إلى التراجع والاندثار، وبين الأحزاب والتشكيلات السياسية وبين برامجها إمّا تواصل سلمي إيجابي يصب في قوّة الحكم والدولة والمجتمع تنظيما وتماسكا وتطورا وإما تصارع سلبي فارغ من المحتوى عنيف ينتهي بالمجتمع والسلطة إلى الضعف والاقتتال والانهيار، هذا ما يفعله الحوار بين الإنسان والإنسان، فالحوار الملفوف بمكارم الأخلاق خاصة التسامح والاحترام المتبادل في إطار الندّية منتهاه البناء والتعمير أما الحوار المُغذّى بروح التعصب والانتقام فمنتهاه الهدم الدمار.

 والحوار ليس مطلوبا بين الإنسان وأخيه الإنسان لعمارة الأرض والتمكين للخلافة فيها فحسب، بل ضروري بين الإنسان والكون بسائر أجزائه، وإذا كان الكون مستقلا عن الإنسان تكوينا ونظاما وبنية وأثرا فالاتصال بينهما قائما تأثيرا وتأثرا، وحالة التأثير المتبادل هي عين الحوار، يحاور الإنسان الكون بالسعي الحثيث إلى معرفته وتفسير ظواهره واكتشاف النظام الذي يحكمه بواسطة العلوم ومناهجها وسائر الوسائل والتقنيات التي تسمح باكتشاف خيراته وطاقاته وتسخيرها لخدمة حاجات ومصالح الإنسان، تحويل الكون من صورة غير نافعة إلى صورة نافعة تنفيذا لإرادة الإنسان المستمدة من إرادة الله في تواضع ومن غير كبر وافتراء.

ويجري الأمر نفسه بالنسبة لتنفيذ إرادة البشر على نفس المنوال والوتيرة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية حتى لا يختل نظام الحياة الذي يقوم على التكامل، فالحوار الاجتماعي بصوّره المتعددة يجد ضالّته بالحوار مع الكون من خلال التقدم العلمي والتقني وتطور وسائل التأثير في الطبيعة وتحويل ظواهرها صوب تحقيق ما يحتاجه الإنسان ويوفر له الراحة، ويشمل ذلك الحضارة بجميع منتجاتها والثقافة بكافة مظاهرها، أما عدم محاورة الإنسان ظواهر الكون عقلا وبحثا واكتشافا وتحويلا وتسخيرا فهو حال البداوة الخالي من القوامة الإنسانية في الوجود كما كُتب لها أن تكون، ومعارضا لضرب الإنسان في الأرض وسعيه في الحياة، وفي هذا تعطيل لإرادة الإنسان التي هي من إرادة الله في تحقيق الفطرة والاكتساب والتكيف مع الإنّية والغيرية الكون، وضمان التكامل بين السماوي والأرضي وبين المادي والروحي وبين الدنيا والآخرة وبين الله والإنسان، توحيدا وتعبدا ورغبة ورهبة، ابتغاء الوصول إلى برّ السلام والنجاة، إلى رضوان الله تعالى.

الحوار في أعظم صوره ذلك المتبادل بين السماء والأرض، بين الله والإنسان، ويكون في منتهى إيجابيته نزولا وصعودا، على سبيل الوحي المنزّل لإنارة دروب الحياة في الكون الفسيح في عالم الدنيا وفي عالم ما بعد الموت، وفي اتجاه الاسترشاد بتعاليم الوحي والتوجيه بأوامره ونواهيه، ومن خلال لطف الله وعفوه وفضله وكرمه ورحمته التي وسعت كل شيء، وبإيمان الإنسان بربه وتصديقه لحقائق الدين وتعبده بما أبانه الله له، وبتنفيذ سائر أحكام الله في النفس والمجتمع والكون، بعيدا عن الافتراء على الله والإخلال بسننه، أما إذا اتجه الحوار نحو السلبية صعودا ونزولا بالتمرد عن الله والخروج عن شرعه وامتد إلى مجابهة القدر وإلى الصدف عما أراده الله لخلقه وأودعه فيه من خير وإبداع وجمال، فما يكون من غضب الله وسخطه أقوى وأعظم، فالحوار بين العبد وخالقه إما روح وريحان وجنات نعيم وإما خزي وندامة وجحيم.

فالحوار مرتبط بالتواصل والاختلاف في مختلف صوره وميادينه يفقد إيجابيته تماما عند كل من لا يعرفها أو يتجاهل قيمتها أو يجحدها ويكابر عليها، ونتيجة ذلك اختلال حياة الإنسان وفساد صلاته بوحدات الوجود، وفي ذلك إهدار للوقت ومضيعه للأمانة والرسالة التي وُجد لأجلها ولولاها ما وُجد أصلا، وهي خلافة الله على الأرض، فما بال العبد في تقربه من سيده ليصبح خليفة له على الأرض، وهو مطلب يستحيل تحققه في المجتمعات العبودية التي عرفها التاريخ. وتحقق نعمة الحوار إيجابيتها وخيرها وجمالها إذا انبنت على مكارم الأخلاق وعلى رأسها مكرمة التسامح وإذا اخترقت الإنسان والطبيعة والكون وإذا تحققت في مستوى الإيمان بالله والاسترشاد بهداه فتتأدّى الرسالة وتتحقق الخلافة ويتم اكتمال صلة الأرض بالسماء وينعم الإنسان برضوان الله تعالى.

 

الهوامش:

1-    سورة هود: الآية 22

2-    سورة هود: الآية 118.

3-    سورة الحجرات: الآية 13

4-    ابراهيم محمود: صدع النص وارتحالات المعنى، مركز الإنماء الحضاري،حلب، سوريا، الطبعة الأولى، سنة 2000، ص 182.

5-    محي الدين بن عربي: ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، لبنان، طبعة 1966، ص 43،44.

6-    محمد نفيسة: الحوار سبيل التعايش- أشغال ندوة فكرية- دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1995، ص 27،28.

7-    المرجع السابق: ص 28.

8-    سورة الرعد: الآية 11.

9-    سورة البقرة: الآية 204-205.

10- سورة النجم: الآية 40، 39.

11- سورة الانفطار: الآية 13 ،14.

12- جون لوك: رسالة في التسامح،المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ص 19.

13- محمد نور الدين أفاية: المتخيّل والتواصل، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1993، ص 164.

14- www.ebn-khaldoun.com/les_lecons.php

15- المرجع نفسه

16- محمد نور الدين أفاية: الحداثة والتواصل، أفريقيا الشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1998 ، ص220.

17- محمد نور الدين أفاية: المتخيّل والتواصل، ص 178.

18- سعد الدين السيد صالح: التواصل الحضاري، دار الصحوة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، سنة 1994، ص 9.

19- حسن حنفي ومحمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1990، ص 8.

20- المرجع السابق: ص 30،31.

21- محمد أحمد المسيّر: الحوار بين الجماعات الإسلامية، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، سنة 1997، ص 13.