الحبّ علاقة موصولة بالزمان أكثر من المكان أو أيّ شيء آخر. أنه يحدث في أي مكان وفي أي وقت، وتحت أية ظروف. الشيء الوحيد الأكيد أنه يحدث، أو أنه قد حدث. ولولا أنه (قد حدث) لما كنا مدينين له، في أي وجه من الوجوه. بعبارة أدق، ذلك ما يتركنا هنا، أعني على قيد الحياة. ننتظر ذلك الذي (حدث)، أن يحدث مرة أخرى، ثانية وثالثة وعاشرة وألفاً. علاقة مستحيلة الارواء، وعصيّة على اليأس. وهذا ما يجعل للحبّ، مفهوماً متفردا (unique)، مغايرا للمفاهيم الاقتصادية والمعرفية الأخرى. أنه لا يكرر نفسه. وفي كلّ مرة يحدث، يجدد نفسه، في معادلة دموزية متواصلة.
"من حانة جلجامش على البحر، وأسئلتها الأولى، إلى حانة في باريس، أو عدن، أو مراكش، يواصل البشر رحلتهم الطويلة العجيبة.. رحلة البحث عن مكان يلتقون فيه أحراراً، ويفترقون أحراراً، مستمتعين، بألفة مستمدة من علائق المكان ذاته، حيث تنبعث ذواتهم وتتألق باهرة، في سياق اجتماعي مفتوح".*
ان إعادة استقراء التاريخ في صورة (حانات).. لا بدّ يستند إلى منطق استنتاجي معين اقتضته مرجعية أو جملة مرجعيات هزيمية لا تدعي قلب الصورة، قدر سعيها للتراجع إلى نقطة البداية الحقيقية للاشياء .. للحياة.. "حيث تتقرر مصائر الكون.. (الحانة الكون)"* الحانة ليست مبتدأ الحياة .. انما هي موضع سؤال جلجامش الأول، ملجأ حيرة الإنسان الأول .. الإنسان الذي لما يزل حائراً. الحانة هنا مغزى وجودي مطلوب منه الإجابة على سؤال الحياة الغامضة، الذي يلخص كل أسئلة الهزيمة .. كل هزائم السنوات المغتصَبة.
الحانة مكان .. كما تشير المقدمة كذلك .. مكان للتأمل .. للتفكر في.. لمراجعة سيرورة الأشياء. العودة إلى مبتدأ الشيء .. أصل الشيء .. منشأه .. البراءة الأولى. الحانة إزاحة عبء العالم .. التخلي التام والإزاحة الكاملة والصليب المطلق، وصولا إلى الانبعاثة الجديدة. انبعاثة الذات والتألق السرمدي. الحانة عملية تفريغ المخ ومنح العقل استراحة مفتوحة حسب تأويل الرصافي، لمواجهة فوضى المنطق وعبث الوجود. الحانة عملية اغتصاب الحان (حان/ آن).. حيث لا وقت لتضييع الوقت .. لا وقت للانتظار .. حيث لا شيء يستحق الانتظار .. لا شيء غير العبث يليق باللاجدوى. حين لا تصل سيرورة الحياة إلى (shabatha) منطقي.. يقرر العقل الباطن اغتصاب السبت للدخول في بيت الراحة. "في كل حانات العالم.. جمعت ما كتبته عن الحانة بين 1959 و1993، وكان متناثرا في عشرين ديوانا.. لقد جاءتني الفكرة في فجأة داهمة" .. هذه الفجأة استغرقت حوالي ستة عقود من العبث وما يزيد عن ثلاثة عقود من الاحتراق لكي تقع في نقطة تقاطع الوعي مع الزمن .. نقطة التقاطع هذه تحققت في المكان.. المكان هو الحانة.. الحانة هي مركز الكون. وليس الكون في عمومياته حسب رؤية عبد الأمير الحصيري. نقطة انفصال الوعي عن الوجود يعني الولادة. لأن الولادة هي العري. العري هو البدء. وكل بدء هو سؤال. والسؤال كلمة. و(في البدء .. كان الكلمة ...الخ)*. الحانة .. الاشراقة .. الانتظار.. الراحة .. الهدوء.. هدوء النعجة قبل القربان المقدس .. خروف الفصح العريس .. الدخول في اللا وعي من أجل ولادة دموزية جديدة (Recarnation)، حسب فلسفة الكارما (The Power of the Karma).
لغويا.. لملفوظ (الحانة) دلالة سيميائية عميقة داخل الزمن مشتق من دالة (الآنية). ولفظ الحان ليس سوى تنغيم صوتي حسي لملفوظ (الآن). الحان الآن .. الآن الحان.. دالتان على الانية الملزمة.. وعبارة [(حانَ الآنَ) =(وقتُ الحانة)]. جملة فعلية قائمة على الظرفية الراهنية لا تحتمل التأخير.. وكما سبق القول.. اقتضت ست من العقود.. لتحكم الضرورة. والرقم (6) هو الرقم اللاهوتي المقدّس .. حيث استغرق خلق العالم ستة أيام*.. لتقتضي الراحة في اليوم السابع. فالحانة هنا هي اليوم السابع .. يوم الراحة .. الهدنة مع الذات .. الرؤية نحو الداخل. التخلي بالمعنى الصوفي والاعتذار من الجسد.. للذوبان في السديم.
إهدأ الآن
أهدأ.. ولو ساعة
واترك للشراييين عاداتها..
....
أنتَ أرهقتَها
وهي لا تحتمل..
...
أرهقتَها
فاهدأ الآن..
....
مسّد غضون الجبين التي ارتسمت منذ عشرين عاماً
ولا تلتبس في سؤال
ولا تلتمس- جلنارا بوادي الرمال
أنتَ لن تبرأ الكون من طين كفيك
لن ترسم النجم )أحمر فوق البيارق(
لن تغتذي بالرحيق..
...
اتئذ
واهدأ الآن
وانظر إلى مطر الياسمينة أبيض
انظر إلى الظلّ
قبل فوات الأوان.
(عمّان 23- 10- 1996)
تحاكي القصيدة حالة نفسية من الاجهاد أو الانفعال الحادّ. استدعت من رفيقه استخدام لغة غايتها التخفيف من وطأة الضغط النفسي الذي يستثير القلق. والحالة المقابلة للقلق هي (الهدوء). وهو ما يأخذ صيغة الطلب الحميمية (إهدأ الآن) في لغة الاتصال (communication). المخاطِب هنا ليس ندا مناوئا، أو مختلفا مع (المخاطَب)، وانما هو منسجم معه ويخشى عليه من تبعات الانفعال المرضية على صحته. وإذ يحس بصعوبة اقناع المتلقي ، يلجأ إلى توسله (اهدأ ولو ساعة)..
العلامات المرضية المستقرأة في القصيدة وحدّة الانفعال تشير إلى أعراض ضغط الدم والسكري التي تتأثر بالعوامل الظرفية الخارجية بسهولة. ولكن القصيدة نفسها تمثل مرحلة (الما بعد)، مكتفية بالتركيز على الوضع النفسي الصحي (اللحظوي) دون الواقعة المادية السابقة للانفعال. فالقصيدة هي لحظة مستقطعة من هيولى حياة ملغزة، يتم تركيزها في وعاء نفسي باطني، ومعالجتها بأدوات وأساليب فكرية وفنية حسب مكتبة الشاعر. فالقصيدة ليست الحياة، وانما هي عينة مركزة منها في مختبر الشاعر. ليست وظيفتها توصيف الواقع قدر أئتمانها على ترجمة جوانيات الوعي الانساني أو دوافع الشعور بالمصطلح النفسي. القصيدة لا تشي بهوية الشخص (المتكلم الوحيد) في القصيدة، والذي يتقمصه الشاعر في لغة الخطاب، بينما (البطل) المعني والمخاطَب صامت (مغيب فيزيائيا) في نسيج الشعر رغم موقعه المركزي في اللقطة/ اللحظة ووسمه جوّ القصيدة بظلّه. القصيدة الحوارية هذه تتكون من صوت واحد منفرد، بينما تظهر ملامح الصوت الثاني ضمنية مستعارة داخل الصوت المتكلم، ترشح ملامحها في المقطع الثالث (النصف الثاني من النص)..
مسّدْ غضونَ الجبينِ التي ارتسمت منذ عشرين عاماً
ولا تلتبسْ في سؤال
ولا تلتمسْ- جلنارا بوادي الرمال
أنتَ لن تبرأ الكون من طين كفيك
لن ترسم النجم (أحمر فوق البيارق)
لن تغتذي بالرحيق..
أما هوية المتحدث وصلته بالمعني بالخطاب، فهي اشكالية جدلية، لما يكتنف لغة القصيدة من تداخل وانسجام وحميمية، يدفع للاعتقاد، بكون الشخص أو الصوت المتكلم في النص، ندا نفسيا داخل الشخصية الرئيسية وبما يقارب حالة الديالوج الذاتي (الداخلي)، ويمكن الاستدلال على ذلك، إضافة لما سبق، عبر نبرة اللوم المحببة..
اتركْ للشراييين عاداتِها..
أنتَ أرهقتَها
وهي لا تحتمل..
أرهقتَها
فاهدأ الآن..
مسّدْ غضونَ الجبين التي ارتسمت منذ عشرين عاماً
لغة تمتزج فيها العقلانية بالعاطفة، والقصدية بالحنان، والتقريع بالاحتياج الروحي. وما أشدّ حاجة المرء للغة المشاعر الحميمية والعاطفة الانسانية النبيلة التي جففت منابعها مفاهيم الاغراض الضيقة.
في البعد السيروي تؤرخ القصيدة (1996) لتجاوز سنّ الشاعر الستين عاماً (ولد 1934)، ومقاربة غربته عقدها الرابع خارج الوطن (البصرة). في عين الوقت، تؤرخ القصيدة ضمن بقية مكونات مجموعة (حانة القرد المفكر) لمدينة أخرى (عمان) من المدن التي تنقل بينها الشاعر منذ (1950) مؤرخا لكل منها، أو مسجلا سيرته من خلالها في مجموعة شعرية أو أكثر. سعدي يوسف في ارتباطه الشعري وانتمائه النفسي لمدائن الغربة الناضحة في أجواء قصائده وعناوين كتبه الشعرية، يمثل ظاهرة مميزة وسابقة في حركة الشعر العربي المعاصرـ ينماز بها عن آخرين ارتبط شعرهم بالرمز أو الأسطورة أو المسميات الأدبية والبلدانية العابرة.
قراءة قصيدة (هدوء) لوحدها يجعل منها قطعا في فراغ، مما يحتم اعتبارها واحدة من لوحات (مشاهد/ مناظر) متعددة تشكل ملحمة/ سمفونية المجموعة، وبما يتناسب والنمو النفسي والدرامي داخل القصيدة. وهنا تبدو قصيدة (سفارة) الأقرب إليها دراميا ونفسيا. يؤيد هذا التواؤم الكائن بين نهاية قصيدة/ لوحة (سفارة)..
ثم تهجس أنك قد لا ترى ما لا ترى
قد ترى الغلق يطبق في لحظة
قد تقرر أرشكيجال التي عبست فجأة..
..
ثم ماذا؟..
أليس السفر
ينتهي بجواز السفر!
مع مفتتح مشهد (هدوء) المكون من تكرار الصوت
إهدأ الآن
إهدأ ولو ساعة..
واترك للشرايين عاداتها..
ويبدو من خلال مقارنة تواريخ النصين أسبقية (سفارة) [عمان 17-3- 1996] على نص (هدوء) المؤرخ في [عمان 23- 10- 1996].
فالتوتر النفسي بين النصين وما بينهما من صلة موجية تعاقبية، إضافة لما يعرف عن الشاعر من ارتباط شعره بتفاصيل السيرة الذاتية لشخصه ويوميات المكان، يسجل مقطعا من تاريخ الألم العراقي المتواصل على مدى التاريخ، عبر استعارة دلالات الرموز السومرية في النص. وعلى رغم أن تاريخ قصيدة (سفارة) يشير إلى (17-3-1996)، فأن دلالة السفارة ترتبط بحضور الشاعر المؤتمر الثاني عشر لاتحاد الادباء العرب الذي انعقد في عمان في ديسمبر 1992، مستضافا ضمن لائحة وفد الكتاب الجزائريين. يومها تردد في دهاليز المؤتمر خبر تجديد جوازه لدى سفارة بلده في عمان وما أكتنفه من غموض وتوجس انعكس على إقامة الشاعر القلقة وسفره المبكر. تنقل القصيدة صورة صادقة عن ولوج (دهليز) قلعة السفارة العراقية ببوابتها العالية واجوائها الهتشكوكية المريبة، التي بلخصها التعبير العراقي الأثير (الداخل مفقود والخارج مولود). وعقب ذلك فاحت روائح كثيرة من ذلك المبنى المسكون بينها أثر قضية حسين كامل وملابساتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• سعدي يوسف- كل حانات العالم.. من جلجامش إلى مراكش- شعر -المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1994- بيروت- المقدمة
• سعدي يوسف- حانة القرد المفكر- شعر - دار النهار للنشر 1997- بيروت.
• التوراة- تكوين (2: 2-3) " فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدّسه."