الحلم قرين الإبداع وتوأم الشعر، إذ بالحلم يعيد الإنسان الدورات الإيقاعية الحيوية لاكتساب التوازن الوجودي والحيوي له؛بالإضافة إلى كون الحلم ضرب من التنفيس والتعويض عن الرغبات اللامتحققة واقعيا في حالة الوعي واليقظة، وتصريف المكبوتات على حد تعبير"سيغموند فرويد" وأنصار مدرسة التحليل النفسي؛ غير أن المدارس النفسانية اللاحقة مافتئت تكشف عبر إنجازاتها البحثية المتواصلة عن وشائج القربى بين الحلم والنتاج الإبداعي عموما وضمنه الإبداع الشعري.
لقد اعتبر الحلم في عرف التحليل النفسي آلية لاواعية ولاإرادية قوامها الصور والتكثيف والرمز، وغايتها، إن وجدت لها غاية، مقاومة إحباطات الواقع ومساعدة الإنسان على تجديد إيقاعاته الحياتية، ومن ثم اعتبر الحلم إبداعا بيولوجيا، يتم نقله من الحلم الصوري المشاهد والمعيش عيانيا إلى حلم محكي من خلال سرد الحالم؛ والذي خضععبر التاريخ الإنساني لأنواع من التفسيرات والتحليلات والتأويلات المختلف بشأنها كظاهرة إنسانية تتنازعها وجهات النظر والمرجعيات المختلفة، والتي قد يخونها القياس العلمي وإن خضعت للتجارب الإكلينيكية..
في حين عرف الشعر بكونه نتاجا إبداعيا أدبيا معرفيا وجماليا ينشأ عن وعي وإرادة، يلتقي مع الحلم على مستوى المادة واللغة والتكثيف والرمز، حيث تعتبر الصورة مادة الاشتغال الأساسية في كليهما معا، وإن كانت الصورة في الحلم دلالة ًذات َ تكثيف يصل حد اللامعنى والانفلات من دائرة المنطق، بينما يتوسل الشاعر بأحلام اليقظة ومخياله إلى ارتياد عوالم وأكوان جديدة لتصريف رؤاه، وبعث رسائله للمتلقي عن الإنسان والحياة والوجود .
وبما أن الشاعر الحديث لم يعد مكتفيا بمقروئه الأدبي فحسب، بل غدا ملاحا يبحر في محيطات وخلجان المعرفة بحثا عن قيم مضافة جماليا وموضوعاتيا لخطابه الشعري، فقد قاده هذا الطموح الجارف إلى الغوص في مرافئ المعرفة العرفانية لأهل التصوف، حيث سيعثر على مفهوم الرؤيا أو الحلم باعتباره تجربة وجدانية ووجودية يعيشها ويعايشها يكتبها وينكتب بها كل من المتصوف والشاعر.ولذات الأمر كان أهل التصوف ميالين للشعر بغية التعبير عن شطحاتهم وإشراقاتهم العرفانية من جهة، واتخذت الحداثة الشعرية العربية الرؤيا مفهوما مركزيا لها وإن على المستوى النظري إبان مراحلها الأولى من جهة ثانية .لذلك يمكن القول بأن الشعر والحلم والرؤيا كلها تتعيش على الخيال والصورة، وتنحدر من جذر لغوي واحد هو التصور، ولذلك شاع التعريف القائل بأن الشعر" ضرب من التصوير".
تأسيسا على هذه المطارحة النظرية تروم هذه المقاربة النقدية قراءة موضوعة الحلم والرؤيا من خلال ديوان "ما أراه الآن " للشاعر خليل الوافي، عبر مساحة ورقية تغطي خمس وثمانين صفحة من القطع المتوسط، وتضم عشر قصائد شعرية مقسمة إلى أربعة عناوين رئيسية بالإضافة إلى عناوينها الفرعية، بينما اختار الشاعر عنوان القصيدة السادسة لتسمية الديوان.(1)
يتشكل عنوان النص من جملة خبرية "ما أراه الآن" ، يتصدرها اسم الموصول المبهم "ما" الدال على العاقل وغيره وهي موضوع الرؤيا، متبوعا بجملة فعلية في موقع الخبر "أراه" وتحمل دلالة الرائي، وتنغلق الجملة بظرف الزمان "الأن" دلالة على فضاء الرؤيا . ويستشف من قراءة العنوان كعتبة أساسية للديوان كونه نصا جامعا لعناصر الموضوعة ذات الهيمنة في المتون الشعرية لهذه المجموعة، و مؤشرا على موضوع الرؤيا والرائي وفضاء الرؤيا، كما يتعالق مع المدونة المعجمية للديوان والموزعة بين حقلي الحلم والرؤيا؛ فما بين عنوان أول قصيدة في الديوان "لاأحلم كما أشاء" وبين آخر مقطع من آخر قصيدة:
أنا العربي الغاضب
أسخر منك يا موتي
حين لا أجد في جيبي
وطنا يقرضني ساعة
للحلم(2)
يحضر فعللا الرؤيا والحلم ومشتقاتهما والمفردات والكلمات الدائرة في فلكهما بشكل متواتر في أغلب نصوص الديوان، محمولة على هودج المتكلم/ الحالم/ الرائي، باعتباره ذاتا منكتبة في ثنايا النصوص تعايش الحلم مدا وجزرا، وتتدثر بالرؤيا الليلنهارية احتماء من صقيع الواقع وآلامه، واقتناصا للصور البكر المنفلتة من بين أستار الليل، باحثة عن نجم شارد أو قمر يغازل صفحة الماء. (3)
ومن خلال تواتر علامة الحلم/ الرؤيا لحظات عيش يعيد الشاعر صياغتها في صور استعارية تتجاوز المعاني الظاهرة توقا لانكتاب الباطن وانبلاج الحقيقة الكامنة وراء حجب الواقع المثخن بالمآسي والحروب والمثقل بهموم الذات والعالم المحيط:
قالت:
ـ "هي الحرب
والركاب خاوية من صهيل الخيل
وأنت... يا صغيري
تلامس حجر الجدار
اقترب...
اقترب...
يا ضوئي في الاشتعال
لا أصدق الرؤيا
فيما أراه الآن
أوصيك يا بني بالصمت"(4)
ولأن الشاعر صانع لغة على لغة فإنه لا يذعن للصمت تحت طائلة وصية العرافة، ولايستكين لصوته الأوحد في فلوات الهم العام، فإنه يستدعي أقتعة مختلفة لآدرمة dramatisationالنص الشعري والتعبير عن صراعه في الصعود إلى معراج الرؤيا المشتهاة والحلم الموعود، لذلك تحضر أقتعة سيف بن ذي يزن وعنترة وطارق بن زياد ويوسف ويعقوب والعرافة سجاحباعتبارها رموزا تحبل بدلالات الصراع والكشف عن المغيب والمستور واللامرئي والباطن، لذلك تتماهى الذات مع رؤيا يوسف المنبثة في أكثر من نص من قصائد الديوان، إذ يقول الشاعر في قصيدة "عندما تتكلم الأوراق" :
أحلم بالماء وردا
وعلى صدري جراح تخاطبني
أتوارى من نفسي
أخبئ في معطفي القديم
سبع سنبلات
نسمات صبح
حكايات جدتي
أقرع أجراس الذاكرة(5)
ويقفي على ذلك بقوله في قصيدة " ما أراه الآن ":
ينتصر الحلم ثانية
في صدر طفلة
بدت تفاحتان على وشك النضوج
أرى يوسف
يحمل هم أحد عشر كوكبا
والطير تأكل من رأسي
ويعقوب قد ارتد بصيرا...(6)
فمن خلال الحلم المستعاد تنبلج الرؤيا من غياهب الذاكرة وحكايا الجدات، فيما يشبه العدول الصوفي من الظاهر العياني أي الحلم الأول والثاني إلى الكامن والباطني، فمع استحضار رؤيا يوسف ستنزاح اللغة الشعرية عن معانيها القاموسية القديمة، وتفرغ من مدلولاتها المعجمية لتمتلئ بشحنات ورموز جديدة، ويلتبس الحلمي بالرؤيوي وتتضاعف ثنائية الدال والمدلول وترتفع درجات في مدارج التأويل . إذ يتم اختراق الرؤيا وتحويل دوالها للتعبير عما يعتمل في صدر الذات المرئية أو المحلوم بها .
هذا الانتهاك لبنية اللغة المعطاة سلفا بغية إنتاج الكلام الشعري لايخلو من صراع متعدد الأوجه، بين مقصدية ووظيفة اللغة المعجمية واللغة الشعرية التي تشتغل لحسابها الخاص كتمظهر أولي وأساسي، وتمظهر ثان يجاهد من أجل تحويل لغة الحلم االصوري المرئية والتصويرية بطبيعتها إلى لغة شعرية تتجاوز محدودية التعبير المفهومي للألفاظ والكلمات إلى توليد الصور الدالة على القول الشعري، ومن ثمة تصبح المنطقة الفاصلة بين الحلم االصوري المشاهد العياني واللاإرادي والحلم المحكي أو المسرود ساحة صراع باللغة وضد اللغة ومع اللغة، ذاك لصراع الذي يتردد صداه بين ثنايا العديد من نصوص المجموعة، من مثل قول الشاعر:
تغيب الصور عن الذاكرة
(لم تسعفني تفاصيل الحكاية
حين لاأروي كل الأشياء
عن جرح الشجر(7)
هكذا يتموقع الحلم المسرود ما بين الذاكرة والنسيان، وتجاهد الأنا الرائية في إيجاد لغة طفولية بحروف بدائية غير جارحة لإعادة سرد حلمها كما كان، غير أنها (...تخسر جنودا في مناحي اللغة)، بتباعد الحروف وتناثرها في متاهات السؤال، وتآكلها في زوايا القصيدة؛ وكأنما الأنا الحالمة تعترف بهول أسئلة الرؤيا وضيق أجوبة العبارة(8):
يتردد الورق البري
في اكتشاف نفسه
أمام مداد بحر(9)
ولأن الحلم والرؤيا ينفلتان من أسر فضاء الوعي ويفران من الأحياز الضيقة فإن أحلام ورؤى الأنا/ الحالم/ الشاعر تنزاح عن الفضاءات المغلقة إلى الفضاءات المفتوحة ممثلة الزمن الداخليفي سيادة الفعل المضارع الدال بطبيعته على الحاضروالمستقبل والمنفتح على استمرارية الحركة، وعلى مستوى الزمن الخارجي يرخي الليل سدوله منضدا بالنجوم والقمر وانزلاق الأضواء وضمور أشعة الشمس، فيتخلق بذلك زمن آخر يتخطى شروط الزمن الواقعي إلى زمن حلمي رؤيوي يتيه في اللامتناهي .
بينما ينهض الفضاء المكاني على ارتماء الذات في فضاءات البحر والغابة والصحراء والحدائق والأنهار والمحطات والمطارات مؤثثة بالسماء والسراب والقمر والشمس والنجوم، ووسط هذه الأفضية لا يحضر الجسد إلا كعلامة شبحية بدون تحديد لأية ملامح "أراك عارية" "يا امرأة الليل" أو عبر علامات جزئية دالة كالكف واليد والخصر والصدر والعينين..وبذلك تخترق الأنا الحالمة العالم المعطى بإعادة مزج عناصره وفق رؤية تتشظى من خلالها الذات داخل عالمها الرؤيوي في شبه حلول صوفي، تنشد حريتها في عذرية الفضاء، حيتئذ تنمحي الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال والشعر والحلم والزمان والمكان والسائل والجامد والظاهر والباطن والملفوظ والمرئي والذات والعالم وفق تبادلية للأدوار لتشكل صورا شعرية تتوق لتجاوز وتخطي عذابات ومآسي الأنا في صراعها مع مقصلة الواقع .
ولمواجهة اندثار المسافة بين الذات والعالم وحتى لا تتورط الأنا في تذويت أناها تجاهد ك "أنا" رائية ومفارقة للذات في موضعة حلمها، تارة من خلال الأقنعة والرؤى التراثية، وأخرى من خلال مضاعفة الحلم، كأنما هي لعبة تمسرحية théâtralisationتقوم على التأطير الداخلي أو المسرح داخل المسرح، حيث نفي النفي إثبات، فبالحلم والرؤيا ترفع الحجب عن الواقع الأكثر واقعية.
لئن كان الشعر، أي شعر، يستند إلى أحلام اليقظة والتخييل لصياغة خطابه عبر الصور والكلمات والرموز والاستعارات، فإن ديوان"ما أراه الآن" كما يدل على ذلك عنوانه ومتونه الشعرية قد جعل الحلم والرؤيا آلية وموضوعة للقول الشعري في مزيج خيميائي ولغوي وتصويري من مفردات الحلم وميكانيزمات تشكله كمادة، وبين البعد الروحي والثقافي للرؤيا كمنظور روحاني ينهل من المعرفة العرفانية لأهل التصوف، باعتبار الرؤيا هي "مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات"(10)
من هنا إذاُ ً يمكن تلمس الإضافة النوعية لتجربة خليل الوافي من خلال ديوانه "ما أراه الآن"، باستلهامه للمأثور الثقافي العربي وأدبيات الحداثة الشعرية، وتشغيله للأدوات السردية في بعديها الجمالي والوظيفي لتحديد منطقة التماس بين السارد والمسرود له، أي بين الآنا والذات، حيث يتم نقل حركة الذات عبر النصوص الشعرية كذات منكتبة ترصدها الأنا من غير ما تدخل في مواقفها وتفاعلها مع العوالم المحلوم بها، انسجاما مع مبدأ مفارقة الحلم للواقع، والأنا الرائية للذات المرئية، في موقف رمادي يبتغي تحييد الأنا عن موضوعها ، وفي تطابق تام مع المحتوى الرؤيوي وقالبه المشكل من تدرج الرماديات ما بين خليط الأبيض والأسود، تلك المادة اللونية الأساسية للحلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
*ـ خليل الوافي: ما أراه الآن، نصوص شعرية، الطبعة الثانية 2014، مطبعة دار القلم، الرباط
1. انظر المرجع السابق ذكره، ص 86
2. المرجع السابق ذكره، ص 84 و 85
3. وردت مفردتي الحلم والرؤيا في نصوص عديدة من الديوان منها:
حقل الحلم لا أحلم كما أشاء ص 7 على شرفة حلم...ص 12 أفرك حلمي ص 19 أحلم بالماء وردا ص 23 هو الحلم النازف ص 33 وأنا أتوسد أحلاما ص 35 من حلم فاسد..ص44 يوقظ فراشات حلم ص 51 ينتصر الحلم ثانية ص 52 أراك في الحلم... ص 58 يرقد الحلم بعيدا ص 66 ينتصر الحلم ثانية ص 69 تجرحني الكلمات وأحلامي.. ص 73 صورة الجنود لا تفارق حلمي ص 83 ..وطنا يقرضني ساعة حلم ص 85
|
حقل الرؤيا أراك تتسللين ص 9 أراك عارية ص 10 أراني أحمل...ص 10 كي أرى نفسي ...ص 16 أرى البحر وحيدا ص 17 أرى صورتي...ص 17 أراك سيدتي ص 25 وتراني أمسح... ص 27 تراني في جبين ...ص 37 تراني أقرأ...ص 37 لا أرى وجها...ص 41 أرى وجه أمي ص 44 ما أراه الآن ص 47 عن ما تراه عيني ص 49 تكبر الرؤيا ص 50 أرى يوسف ص 52 أرى ضوء القمر ص 58 أراك في الحلم ص 58 أرى طاحونة الزمن ص 60 لاأصدق الرؤيا فيما أراه الآن ص 65 تراني أقلب أسرا رالحجر ص 66 أراك شامخة ص 67 و أنحني لأرى... ص 68 لا أرى اسما يليق بي ص 82 |
4. انظر المرجع السابق ذكره، ص65
5. انظر المرجع السابق ذكره، ص 23
6. انظر المرجع السابق ذكره، ص 52
7. انظر المرجع السابق ذكره، ص 66
8. انظر المرجع السابق ذكره، ص 11 و6 و50 و73
9. انظر المرجع السابق ذكره، ص 66
10. ابن خلدون: المقدمة، الرؤيا، طبعة دار الكتاب اللبناني،ص 178