برؤية واضحة وأسلوب علمي أكاديمي في بناء التصورات النظرية، وإنتاج القراءات التأويلية والتفسيرية للنصوص الأدبية، يستمر الناقد المغربي الميلود عثماني في رسم معالم مشروع نقدي جديد يبتغي لنفسه الفرادة والتجديد باعتماد آليات منهجية وثقافية جديدة في تشيد قراءات منتجة للمعنى في النصوص الروائية. ويؤسس لفهم جديد للأدب، والبحث في قضاياه النقدية والمعرفية. وفقا لهذه الرؤية، وضمن هذا الإطار أصدر لعثماني بعد أبحاثه في الشعرية البنيوية، والتوليدية التحويلية وما تطرحه من أسئلة معرفية ومنهجية؛ كتابه النقدي المعرفي الموسوم ب: العوالم التخييلية في روايات إبراهيم الكوني.
ضَمنَ لعثماني كتابه رؤية نقدية للتصورات السائدة والنمطية للنص الروائي، تؤطرها أسئلة جديدة، تسعى إلى استنباط وبناء مفاهيم وآليات أخرى، لقراءة وتأويل المتخيل الروائي العربي في علاقته بالفلسفات الكبرى. وتزاوج في منحى الإجابة عن أسئلة الكتاب بين تحديد مفهوم العوالم التخييلية وسياقات نشأته والتأصيل له. وتحليل النصوص الروائية للكوني بحثا في عوالمها التخييلية وأساليب تشيدها.
إن الأسئلة الإشكالية للكتاب تتناسل بدءا من سؤال لماذا العوالم التخييلية؟ ولماذا روايات ابراهيم الكوني؟ ثم تتعدد وتتنوع موازية لأقسام الكتاب وفصوله على نحو يشدنا ويستدرجنا للمشاركة في صياغة تصور جديد لتحليل النص الروائي، يَعْتَبر التخييل بناء ومتعة ومعرفة، ووسيطا بين الممكن والمستحيل، الواقعي والخيالي. وينظر إلى "النصوص الأدبية بوصفها آليات سميائية لبناء عالم ما"، فيبحث في: كيف يتشيد عالم النص التخييلي؟ وما محتوياته؟ وما شكل الصوغ الأسلوبي الذي يميزه؟.
تتصل بهذه الأسئلة التي يعتبرها لعثماني المحورية والإشكالية التي تقيد قراءات الكتاب من بدايته إلى خلاصاته، وتٌلْزِمه الإجابة عنها، أسئلة أخرى شكلت الخلفية النظرية للبحث صاغ إجاباتها في قسمه النظري والمتمثلة أساسا في سؤال تحديد مفهوم العوالم التخييلية. وكيف تنشأ؟. وهل لكل نص روائي عوالمه؟. أم أن العوالم التخييلية نتيجة فعل القراءة للنص الروائي.
القسم النظري للكتاب: من العوالم الممكنة إلى العوالم التخييلية
يعرض الناقد في خمسة فصول تٌشكل في مجموعها القسم النظري للكتاب، نشأة مفهوم العوالم الممكنة وتياراته، بهدف التأصيل لمفهوم العوالم التخييلية باعتباره مفهوما فرعيا أثمرته نظرية العوالم الممكنة. بعد بحثه للإشكالات النظرية والمنهجية التي تحول دون اعتماد هذه الأخيرة (نظرية العوالم الممكنة بما تحمله من محتوى لاهوتي) آلية ومنهجا للقراءة والتأويل. والانتقال منها إلى مفهوم وليد أكثر واقعية يَعْبُرُ بقراءة النصوص الأدبية وتأويلها إلى التناول والمعالجة النصية الخطابية للتأليف الأدبي عموما والروائي على وجه الخصوص.
وفي هذا المنحى يقدم د/عثماني وصفا دقيقا لطبيعة العوالم التخييلية ومكوناتها ومواضيعها، منتهيا إلى أن العوالم التخييلية: هي نتاج الخيال البشري الفردي والجماعي يتم التعبير عنها بوسائط مختلفة ومتنوعة لفظية، وبصرية، وإشارية. تشكل في النهاية أبنية ثقافية يتوقف وجودها على إنتاج وتأويل المواضيع التواصلية (النصوص /اللوحات الرقصات...)، دون أن يغفل تحديد مقولة التخييل والمقصود بها، والعالم وما يحمله من دلالات في النص النقدي، والأسلوب وطرائق تشكله في العالم التخييلي، وعمليات صياغة التخييل وما تقتضية من الأديب من مهارة حرفية. مما يؤكد خبرة ومعرفة الناقد بصنعة كتابة البحوث الأكاديمية وما تستلزمه من: بناء للمنهج، وتدقيق للمصطلح كما المفهوم، وإحاطة بالموضوع.
لا يفوتنا في هذا الإطار أن نشير إلى كون الناقد في سياق بناء وتقديم آليات اشتغاله. قدم نقدا واضحا وصريحا للتصورات والمفاهيم والمناهج التي تناول بها الناقد الأدبي النصوص الروائية لما يزيد عن قرنين من الزمن معتبرا لها أنساقا فكرية كاسحة وماحقة للتخييل، بدءا من العقلانية التي اعتبارها محض بناء عقلي جاف وجامد، إلى اللغوية النصية التي جعلت المجهود التخييلي للأديب مجرد أبنية لغوية، مرورا بالتداولية التي احتقرت الفعل التخييلي وعدته تمثيلا لا قيمة له كقوة فعل كلامية( illocutionary) وصولا إلى التفكيكية التي تفقد النص نظامه، وَتُفْرِغه من قيمته الدلالية ومعناه.
القسم التطبيقي: عوالم الكوني التخييلية
يبحر لعثماني بقارئ القسم التطبيقي لكتابه في نصوص إبراهيم الكوني الروائية بِعُدَة نظرية أحكم بنائها، باحثا في عوالم النصوص عن مكوناتها، وأساليبها، جامعا بين الوصف والتحليل والتأويل في كشف تشكلاتها ودلالتها، منطلقا من اعتباره روايات الكوني تستمد قيمتها من ترجمتها لعوالم ميتولوجية خاصة ومشتركة محلية وكونية، مما يجعلها مجالا لاختبار نظرية العوالم التخييلية، خاصة وأن الروائي حقق تراكما كميا وكيفيا - يجمع عليه أغلب النقاد- يتعدد ويتنوع في محكي النصوص ولغته وبلاغاته، ويتوحد في موضوعه.
وقد انتقل عثماني في مقاربته لنصوص الكوني بين ثلاث مراحل أساسية: الأولى وصفية للنصوص للروائية والثانية تفسيرية أظهر فيها فاعلية وإجرائية مفهوم العوالم التخييلية في قراءة النصوص وتأويلها، ثم منتقلا إلى المرحلة الأنثربولوجية والتي اهتمت برصد علاقة نصوص الكوني بواحدة من المجموعات الاثنية الأصلية (الطوارق)، مستنتجا أن روايات إبراهيم الكوني تستلهم البدائي وتستثمره في تشخيص الكوني الإنساني والشامل، مؤسسة لنفسها عوالم تخييلية تُحيِنُ ما دمره التاريخ، وتَميِزُها عن غيرها، بوضعيتها الحكائية، والأنتربولوجية واللغوية الخاصة بها، وباستنطاقها لدواخل الشخصيات عابرة المتحول فيها، إلى الثابت لتعبر عن أصالتها وتفردها "في طلب الخير وتجنب الشر والسعي إلى الحرية كهم وجودي وأساسي".
يمكن أن نسجل في نهاية هذه الورقة التي نريدها تقديما للكتاب نثير به انتباه القارئ والباحث في الدرس النقدي النظري والتحليلي، والرواية العربية، إلى الكتاب وأهميته التي تتمثل في تقديمه تصورا جديدا لمقاربة النصوص الروائية وتأويل عوالمها. باشتغاله بمفهوم العوالم التخييلية إطارا نظريا متكاملا، استطاع أن يصف به المتن الروائي لأحد أبرز الروائيين العرب، وتَبَيُن خصوصيات متخيله وروافده المعرفية والثقافية. وبذلك يشكل إضافة للمكتبة النقدية العربية، وللدرس النقدي الأكاديمي العربي على وجه الخصوص باسعافه الباحث بعدد من المفاهيم والإجراءات المنهجية والنظرية عن طبيعة العوالم التخيلية وفاعليتها في وصف وتأويل النص الروائي.
*إحالة الكتاب: الميلود عثماني: العوالم التخييلية في روايات إبراهيم الكوني؛ بحث في الطبيعة والمحتويات والأسلوب، دمشق سوريا، دار النايا، الطبعة الأولى 2013.