رغم العلاقة الوطيدة التي تربطني بالشاعر محمد حلمي الريشة، ورغم أن معظم أعماله الشعرية قد أهداها لي، لم أستطع أو أجرؤ على تناولها، ولا أدري ما هو السبب وراء هذا الإحجام؟ رغم أني أعتبر كتابات محمد من الاستثناءات التي تمنحني الراحة والتأمل كما هو حال في كتابات الشاعر أدونيس والشاعر يسنين، فهؤلاء الشعراء أعود إليهم باستمرار وبشكل دائم، وبالأمس القريب ذهلت برواية "زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصر الله ولم أجرؤ أيضاً على تناولها، فهل يعني ذلك، أن تناولها بالنقد والتشريح يعني فض بكارة النص كما تفض بكارة الأنثى، من هنا أريد لهذه الأعمال أن تبقى عذراء أنظر إليها بصورة عظيمة!
بالأمس جمعنا منتدى التنويري الفلسطيني في مدينة نابلس فيلم "الحب في زمن الكوليرا" وبعد الفيلم كان هناك حديث شيق مع الشاعر، وكان هناك شبه تظلم من أن الشعراء والأدباء في وطننا لا يأخذون حقهم، فرغم وجود العديد منهم قد فرض وجوده على مستوى الوطن العربي وحتى العالمي، إلا أنهم في فلسطين أو حتى في مدنهم التي نشأوا فيها لا يأخذون أدنى اهتمام، من هنا جاء الدافع لتناول هذه السيرة الشعرية عند محمد حلمي الريشة.
لست من الذين يجاملون عندما يتعلق الأمر بالتحليل الأدبي، فنحن أمام نص مجرد، سنحاول أن نتحرر من العلاقة التي تجمعنا- قدر الإمكان- بالكاتب لكي نعطي النص قبل الشاعر حقه.
لقد سمى الكاتب عمله باسم "قلب العقرب" مستفزاً به القارئ، حتى أن المقدمتين التي وضعهما كلاً من "علي الخليلي" و"محمد سمير عبد السلام" تناولتا العنوان وما يثير من أفكار ورمزية، من هنا كان لا بد من تناول العنوان قبل أن ندخل إلى قلب الشاعر محمد حلمي الريشة.
باعتقادي الشخصي أن العنوان يمت إلى جوهر النص، فالنص كان حنوناً يغدق عاطفة على كل من ساهم في تهيئة الطريق أمام الشاعر وما وصل إليه من مكانة، أو حثه على السير بهذا الخطى الأدبية، كما هو الحال مع "علي الخليلي" و"فدى طوقان" وزوجته "فاتن"، كما أنه شديد البطش بكل من عمل على الحد من انطلاقته أو عمل على تقويضها كشاعر، أو المؤسسة التي يعمل فيها "بيت الشعر" والمجلة التي يصدرها "الشعراء". من هنا كان محمد حلمي الريشة يمارس طريقة العقرب في تعامله مع كلاً من الأحباب والأصدقاء من جهة، والمثبطين والحساد والمخربين والأعداء من جهة أخرى، فيعامل هؤلاء بطريقة مغايرة تماماً، تتمثل في النيل منهم، وتلقينهم درساً قاسياً، فكل من عمل على إعاقة أو ضرب المسيرة الشعرية والثقافية التي يعمل بها ومن خلالها الشاعر تعرض للدغ، وأعتقد من هنا جاء اسم الكتاب "قلب العقرب".
أما بخصوص إضافة "سير شعر" وليس سيرة ذاته، فنحن نقول بأن الشاعر الريشة في أعماله الشعرية والأدبية دائماً كان يسعى إلى اعتبار الشعر والأدب وكأنهما عالم منفصل عن حياته، من هنا اختار "سيرة شعر" وليس "سيرة شاعر" وهو أقرب إلى المضمون من "سيرة شعر"، لأن الشعر كلمة عامة وتتعلق بكافة الشعراء في العالم، ورغم أن الشاعر وضع في كل عنوان جديد مقولة أو كلمة لأحد الشعراء أو الكتاب العالميين، إلا أن ذلك لم يكن ليجعل من العنوان الذي وضعه يتفق مع المحتوى، ولو أنه وضع "شاعريتي" أو "سير الشعر عندي" لكن أقرب إلى المضمون من هذا العنوان.
يعترف الكاتب بأن هذه السيرة هي سيرة شاعريته عندما قال: "بل كان معظم زملائي كذلك، وما تركيزي على ذاتي، إلا لأنني أخط سيرة شعر/ي." (ص234)، ومن هنا نجد بأن عبارة "سيرة شعر" تحمل تعميماً، بينما عبارة "سيرة شعري" تحمل الخصوصية، وهنا يكون المعنى أقرب إلى المضمون وأكثر تطابقاً.
الكتاب من إصدارات "بيت الشعر"، فلسطين، عام 2014، وبعدد صفحات (354)، حجم متوسط، هناك علاقة بين تصميم الغلاف وما ذهبنا إليه عندما قلنا بأن المضمون يتفق مع طبيعة العقرب الحنون والشرس، من هنا كانت "قلب العقرب" قد كتبت بالخط الأحمر، بينما اسم الشاعر و"سيرة شعر" كتبت بالخط الأبيض، لون الغلاف بني يمت إلى لون الأرض التي يعيش بها الشاعر.
الكتاب مقسم إلى ثلاثة أجزاء، في الجزء الأول يتناول الكاتب البدايات التي ساهمت في انطلاقته نحو عالم الشعر، فكانت مجلة "البراعم" التي فتحت أمام (الطفل) عالماً آخر غير الذي يعيشه، فأصبح بعدها ينهل من الكتب، التي فتحت له عالماً شاسعاً مترامي الأطراف، لا يمكن الإمساك به أبداً، فكانت مكتبة بلدية نابس هي المكان الذي قصده لكي يرتوي من جوع المعرفة: "هكذا وجدتني، فجأة، أنشد إلى القراءة، على الرغم من أنني شغوف باللعب، (...) قرأت المجلة مرة/ مرات: ما الذي يحدث لي؟ لم صرت أبحث بشغف عن مجلات وكتب أدبية وغيرها، (...) كيف صرت أقضي ساعات ما بعد الدوام المدرسي في المكتبة.." (ص38 و39).
من أهم المسائل في تطور الأفراد والمجتمعات عملية لقراءة، حتى أن علماء الاجتماع اعتبروا أن توفير السكن- الاستقلالية- والطابعة- الكتاب- كانا أهم حدثين في تاريخ تطور الكائن البشري، فبدونهما لم يكن للإنسان أن يصل إلى ما وصل إليه من تطور وتقدم، وهذا الأمر يؤكده الشاعر من خلال تجربته.
أعتقد بأن العنوان الذي وضعه الشاعر لهذا الجزء: "في البدء.. كانت القراءة" (ص39) له ارتباط بما جاء في الكتاب المقدس: "في البدء خلق الله الأرض" فكما كانت الأرض هي من بدء بها الخلق، بدأت القراءة في خلق الشاعر.
فيروز وحضورها
من يستمع إلى فيروز لا يسمع أغاني وحسب بل يستمع أيضاً إلى الشعر، إلى فكرة يتداخل بها الحي مع الجماد، الطبيعة بكل تشكيلاتها، إلى التناغم بين الصوت البشري والموسيقى، فهي أكبر من أن نصفها بالمغنية، هذا التأثير لعب دوراً بارزاً في حياة الشاعر وفي تطوير موهبته على التشكيل اللغوي والخيال الخصب: "وقد كنت أستمع إلى أغاني جارة القمر فيروز، فتشدني اللغة/ الصور الشعرية بموازاة وتماه مع الموسيقى الحريرية وصوتها الملائكي،" (ص41)، وإذا تتبعنا بقية السيرة الشعرية في الكتاب نجد بأن الشاعر قد ذكر فيروز، بطريقة الوعي وغير الوعي، دليلاً على تأثيرها في الشاعر وتأثره بها، بحيث أمست في اللاوعي عنده: "وقبل أن نغادر، خبأت/ زرعت قصيدتي لها في كراستها، كما خبأت/ زرعت (فيروز) وردة حبيبها في مخدتها." (ص81)، فهنا كانت مخيلة الشاعر تأخذه إلى ما كونته فيروز من عواطف وصور عاطفية في وجدانه، ومن هنا نجده يطابق ردة فعل محبوبته مع ما جاء في أغنية فيروز. من الطبيعي أن يترك أثراً في عقل الإنسان ـ الظاهر والباطن ـ ما يستمع له من أقوال وكلمات وغناء، وما يقرأه من كتب، إن كان هذا التأثير سلباً أم إيجاباً، مسألة طبيعية جداً، لكن أن يأخذ الجانب الجميل منحى البشع والبغيض، فهنا يكون التأثير قد أخذ شكلاً مزدوجاً ومركباً ومتداخلاً في نفس الإنسان، هذا ما فعلته فيروز في عقل ووعي ولاوعي الشاعر، فيقول عنها أثناء الاجتياح الذي تعرض له في مدينة البيرة: "أردد هذه العبارة من أغنية فيروز، مع تغير كلمة فيها: "نحن والبقر جيران" (ص259)، حيث ينسب كلمة "البقر" للمحتلين الذين كانوا يطلقون النار على البنايات، بهذه الكيفية تركت فيروز تأثيرها وبصمتها على الشاعر.
الكتابة وفعل المخاض
من يتابع العلاقة بين الشاعر وما يكتب، يجد بأنها كعلاقة الأم بوليدها، بمعنى أن الكتابة كالمولود، له أسباب خروجه للحياة، فبعد الولادة/الكتابة، تكون مستقلة- إلى حد ما- عن الشاعر- الأم، لكن هناك- في نفس الوقت- ارتباط وعلاقة روحية بين النص/ المولود والشاعر، كما أن عملية خروج القصيدة أو النص له آلامه، فهو لا يخرج بسهولة، بل هناك أوجاع- لكن بلذة- تواكب عملية إخراج النص إلى الحياة، يقول الشاعر عن بدايات الكتابة لديه: "كانت كتابة مشاعر، ولم تكن كتابة شعر، هكذا تكون/تجيء بدايات الشاعر من ألم، وخفق، وقلق، وتوتر، ويأس، وتمرد، واكتشاف جزئه الآخر، وتكون بمعجم لغوي فقير، مدرسي أغلبه، تريد توصيل ذاتها/ وصول هدفها/ تحقيق غايتها، بمعنى قليل التأويل، وببراءة رؤى، كما لو أنها مخاطبة بين شخصين فقط، وبدون إدراك "أن القصائد ليست، مثلما يحسب الناس، مجرد مشاعر، بل تجارب. فإنك وصولاً إلى قصيدة واحدة، لا بد أن ترى مدناً كثيرة، وناساً كثيرة، وأشياء كثيرة، لا بد أن تفهم الحيوانات، ولا بد أن تشعر كيف تحلق الطيور، وتعرف أية إيماءة تقوم بها الوردة لحظة تتفتح في الصباح. (راينر ماريا ريلكه)" (ص64)، بهذه التركيب المتداخل والمتلاحم، يتم إخراج القصيدة، فكل العناصر، المشاهدات، التخيلات، والإمكانيات اللغوية والفنية تتداخل وتتلاحم في الشاعر ليكتب قصيدته.
كما أن هذه المولود ليس مجرد (بويضة يتم تلقيحها)- كلمات ولغة وصور- فهو بعد الخروج كائن آخر مختلف تماماً عما تشكل منه، فهو قبل التشكيل والخروج، يختلف تماماً عنه بعد التشكيل والخروج، رغم تشكله من عنصرين- البويضة والحيوان المنوي- /اللغة والكلمات/ لكن بعد ذلك لم يعد بويضة أو منوياً، بل كائناً مستقلاً وكاملاً وجميلً، هكذا هو المولود/الكتابة، القصيدة.
المباشرة والتورية
الشاعر محمد حلمي الريشة يعترف بأنه- يهرب- من المباشرة في قصائده، فهي تشكل حاجزاً أمامه، وتشوه الجمال في الكائن/القصيدة، من هنا كان أحياناً كثيرة يتعرض لعسر ولادة عندما يتعلق الموضوع بالحدث المباشر (الانتفاضة): "إذاً: ماذا فعلت للقصيدة آنذاك، وقد راودتها عن نفسها كثيراً، وكدت أقد ثيابها من قبل؟ بل وماذا فعلت هي بي، وقد راودتني عن نفسي أكثر، وكادت تقدني روحاً وجسداً؟ لا شك أن كل واحد منا حاول الآخر، لكن دون جدوى لكثير من الوقت، بعده (نجحنا) في (التزاوج العرفي) أملاً أن يرتاح الواحد منا من مطاردة الآخر حافياً على بقعة ساخنة جداً، فأنجبنا "أبابيل"؛ القصيدة الأولى التي عادلت شمس كانون أول بالحجر، بعد حمل استمر زهاء أربعة أشهر على الرغم من أن المولود لم يكن سوى كائن بسيط خرج من رحم الشعر مزهواً بانفعالاته الغاضبة." (ص96)، بهذه المشاعر والأحاسيس يتم إخراج القصيدة، قد يبدو للبعض أن عملية الكتابة تعد أبسط الأمور، ويستطيع- من يتقن الكتابة- أن يكتب ما يشاء وكيفما شاء، لكنها في حقيقية الأمر تأخذ جهداً فكرياً، روحياً، معرفياً، لغوياً كبيراً جداً، فليست الكتابة شيئاً بسيطاً، بل هي فعل مركب ومتشابك ومبني ومتداخل، من هنا هي من أصعب الأعمال التي يقوم بها الإنسان.
إذا كانت هذه الأوضاع واكبت الشاعر في الانتفاضة الأولى، فإنها تعود إليه مرة ثانية عندما حاول أن يكتب عن حادثة استشهاد محمد الدرة، فعنون الموضوع بـ"قصيدة في الحلق" يقول فيه: "ثم قصائد تظل في الحلق تصعب على الشاعر فيّ ابتلاعها، أو إخراجها، حيث لا تمكنه أن يخرج قصيدة تحاول أن تبسط جناحيها على الورق، على الرغم من شدة إلحاحها، وقبل أن تمل الانتظار لانشغال الشاعر عنها بأمور أخرى، فتهربها عذريتها وبراءتها وكبرياؤها، فهي لا تعرف العذر، ولا تقبل الاعتذار." (ص173)، إذن لم ولن تكون كتابة القصيدة بالأمر اليسير أو السهل، فهي عملية صراع، ألم، بين الشاعر ونفسه، من جهة، وبين الحدث وأهميته وحيويته والشكل الذي/يجب/ أن يخرج به إلى الوجود، فالمباشرة وكشف النص عاريا دون- ستر عورته- يعد تشويهاً وقتلاً للنص وللحدث معاً، من هنا لا بد من- اقتناص- الفرصة/الشكل الأدبي، لإخراجه حياً جميلاً زاهياً، فالسرعة الزائدة والتمهل المتكرر يقتلان النص ويشوهانه، من هنا لا بد من جعل الأمور تأخذ كفايتها وحاجتها من التأمل.
يقول الشاعر في بداية ممارسته للكتابة ما يفسر لنا هذا الصراع الذي يتشكل داخله عندما يكتب: "أن الشعر عدو المباشرة، وأن له لغة لا يعرفها إلا الشعراء، وأنه يجب أن يكتب بها مهما كانت عادية الموضوع أو كان ذا قدسية" (ص75)، إذن الكتابة الأدبية تختلف تماماً عن البيان السياسي، ففي الأدب لا بد من وضع الجمال واللغة والإحساس والفكرة بطريقة تتناسب وتنسجم مع طريقة كتابة الأديب والكتابة الأدبية.
تعدد التأويل للنص يعد أمراً حيوياً، للنص وللمتلقي معاً، بالنسبة للنص يعطي ذلك دلالة على الحيوية التي يتمتع بها، بحيث تتفق مع الأمزجة المختلفة والأفكار المتباينة للمتلقين، وبالنسبة للمتلقي فهو يجد في- النص- ما يجعله يؤكد فكرته ورؤيته، وثم يرتاح ويستمتع بما يقرأه من نصوص، "فلكل قصيدة بكارتها التي تكنزها لقارئها كأنثى لم تمس من قبل." (ص201).
بهذه الطريقة يتم تشكيل النص المنفتح، بحيث يرضي ويقنع- شكلاً ومضموناً- الأفكار والأمزجة المتباينة والمختلفة- اجتماعياً وفكرياً- ليس على صعيد الوطني وحسب بل يتجاوز ذلك إلى العالمي، وهنا تكون ذروة الإبداع الأدبي والفني: "هكذا انتبهت، مبكراً جداً، إلى فكرة تأويل النص من حيث تعدد قراءاته." (ص86).
اللغة، الحاسوب، الحبر والورق، ترجمة النص
الشاعر يقدم لنا أقوالاً بليغة تصل بدقتها إلى الحكم، فمن يستطيع أن يمخر إلى هذا المستوى من بحور القصيدة، لا بد أن يكون قد وصل إلى- صفة- الحكيم، وهذا كان أمراً حتمياً بالنسبة للشاعر محمد حلمي الريشة، الذي أطلق عليه لقب "الناسك الشعري".
اللغة عند الكاتب لها مدلول خاص متميز، فهي المادة التي يتشكل منها وبها النص الأدبي/ القصيدة، من هنا لها مدلول: "ولكني لم أومن، يوماً ما، بضرورة الانحدار باللغة إلى ما دون مستوى الشعرية، التي هي أوكسجين دم القصيدة." (ص266)، فليس كل ما يكتب هو أدب/قصائد، فاللغة هي الشرط الأهم في الكتابة الأدبية والشعرية، وبدونها لن يكون هناك أدب، بل كلام عادي، أو بيانات سياسية.
الصراع بين التقليدي والحداثة العصرية يعد مسألة ملحة وتواجه الإنسان بشكل يومي، من هنا يعد الحاسوب واستخدامه شكلاً لهذا الصراع، صراع الكاتب الذي ألف الكتابة على الورق، واستنشاق رائحة الحبر، والتفنن في استخدام الخط الذي يعشقه، وبين الحاسوب، الناشف، الذي يخرج الكلمات عن طريق الضرب- النقر- وليس الانسياب الهادئ والناعم على السطح الورق الأبيض: "بالطبع يمكن أن نستبدل الآن سن القلم بكرة فأرة الحاسوب، لكن الحديث عن سن القلم أكثر رومانسية في تقديري. أليس كذلك؟ (...) وطاقة التفكير هذه التي تتركز في سن القلم تعبر عنها الكلمات، فالحروف تنقل فكرة، والورق هو حامل ووسيط، أما القلم فسيظل دوماً ملك الكاتب وصاحبه المقرب، عليه أن يعرف كيف يستخدمه." (ص138)، إذن رغم ما يقدمه الحاسوب من خدمات وتسهيلات للكاتب، إلا أن الحنين والعاطفة تتجه إلى القلم والورق، فهنا علاقة حميمة تشكلت بين الكاتب وأدواته الإبداعية لا يمكن لأي تطور أن يلغيها، مهما بلغ من تفان وإتقان.
الترجمة الأدبية تتباين تماماً عن الترجمة العلمية أو السياسية، ففي الأدبية هناك ما يسمى بروح النص وخصوصية النص، فلكي تتم الترجمة بأمانة أدبية لا بد من مراعاة هذه المسائل: "حيث أرى بعض المترجمين العرب، حتى من الشعراء، يعربون النص ولا يترجمونه، فيبدو جلياً كأنه نص عربي أصلاً، وهذا يفقد حتى روح النص الغربي الأصل." (ص165)، من يقرأ النصوص المترجمة يجد الفرق الهائل والهوة السحيقة التي تفصل جمالية وأدبية وخصوصية ترجمة هذا المترجم عن ذاك، فكأننا أمام نصوص متباينة- شكلاً ومضموناً- فالترجمة الأدبية لها خصوصيتها التي يجب أن تراعى.
التكفير عن الخطيئة
من يتابع أعمال الشاعر الريشة، يجد بأن كافة أعمالة الأدبية وضع في بدايتها كلمة إهداء، باستثناء ديوان "معجم بك" وكأنه يتهرب من هذا الإهداء أو البوح عما في صدره من مشاعر لتلك المرأة، التي سرقته، أو ضاع معها في غياهب- الحب- أو التفريغ، ومن يقرأ هذا الديوان يجد حالة الوله التي مر بها الشاعر، وأقولها بصدق، بعد أن قرأت الديوان أول مرة قلت للشاعر: "كيف تطيق/تتحمل زوجتك أن تكتب مثل هذا الديوان، يجب أن تطلقك، ففيه انعطاف حاد نحو المرأة الأخرى، وتجاهلاً وتناسياً للمرأة الأولى والحب الأول.
أجتهد: بأن الشاعر في هذه السيرة عمل على التكفير عن خطيئته الفعلية، من خلال التقدم مرة أخرى إلى المرأة التي أحبها وتزوجها، من خلال ذكر/وتذكيرها بالقصائد الأولى، القصائد البكر، العذراء التي كتبها لها وبها، فجعل غالبية الملحق الذي وضعه في نهاية الكتاب "قلب العقرب" قصائد لهذه المرأة القريبة منه وعليه، يعد تكفيراً عما كتبه عن تلك، في ديوان "معجم بك" فعسى أن ترضى وتغفر له زلته التي سبب له- عملية قلب-.
أفكار جديدة للمفكر الشاعر
الكتاب في المجمل يعد استثنائياً، لما فيه من مواقف وآراء حول العديد من القضايا المختلف عليها مثل "قصيدة النثر" التي يوضحها الشاعر بطريقة علمية فيقول عنها: " القصيدة بالنثر، وليس قصيدة النثر" (ص144)، كما أنه يعتبر بعض (الشعراء) الذين يكتبون (الشعر) بأنه "نظم" وليس شعر، فالشعر عند الريشة هو: "ليس مسألة مشاعر، بل هو مسألة لغة تخلق المشاعر" (ص265)، ويقول عن كمال النص الشعري: "فالقصيدة تكتمل بنقصانها، لأن كمال القصيدة باعتقادي، ليس أكثر من شعور يقنع الشاعر بتوقف نزيف عذرية كانت لتجربة ما على بقعة بيضاء من قماش الحياة" (ص203)، فمثل هذا الآراء تعد بحد ذاتها منطلقاً فلسفياً ومعرفياً لكتابة النص الشعري وأيضاً وسيلة للدخول إلى عالم النص الشعري.
* ناقد وكاتب من فلسطين.