حين قرأت رواية "الآن هنا"(1) للروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف، وقد كان ذلك مند سنوات قليلة -ستة سنوات تقريبا- ربما أكون قد قرأتها بعاطفة وانفعال، لكن عندما عُدت اليوم إليها استرعى انتباهي وشدّني بعمق حوار الجلاوزة (الجلادين) والسياسي. ويا له من حوار حين تكون لغة الصمت ورغبة الإصرار وأسلحة الصمود. هي أكثر الأشياء حضورا في حضرة الغياب، حين يصير الصمت صراخاً يخترق كل الحواس، "الصمت لغة خطيرة وشديدة التعبير"، هكذا يستطرد السياسي قائلاً: فـ"السلاح الذي أستطيع به مواجهة الآخرين، وربما الانتصار أيضاً: الصمت"، وكأنّ به عارف بسراديبهم وما تحويه من أساليب قذرة كوجوههم، "الصمت ولا شي غير الصمت". أنتم تريدون كلاماً وأنا ليس لدي ما أقوله، من هنا سيبدأ الحوار.
لقد كان الجلاوزة بساديتهم(2) المشبعة بالحقد، والتي تتغذى من العنف وتكسي روحهم العفنة بمشاهدة الآخرين يتألمون، كانوا حينها يشعرون بالفرح وفي أحيان كثيرة يشعرون بالندامة لأنهم فشلوا في كسر إرادة الإنسان الداخلية؛ أخذوا دمه، لحمه، حتى روحه أخذوها، أحلامه وحدها ظلت عصيّة عليهم "فما أوسع هذا العالم وكم فيه من الصراع الدامي".
كانوا ينتظرون لحظة تُهزم فيها الإرادة، لكن الإصرار كان أكبر، ولأن "الفرق بين السقوط والصمود لحظة"، فهم انتظروا تلك اللحظة واعتقدوا أنها اقرب حين رأوه حالماً متألماً، لكن عادوا في كل مرة خائبين هائمين على أنفسهم يجرّون أذيال الخيبة والهزيمة. كانت رغبتهم جامحة في اختراق عوالم السياسي فقالوا حين انهزموا، قالوها بحزن، بمرارة، بتعب، بنهم، بجرح، بحقد .. قالوها مرغمين، قالوها صامتين، قالوها حين حاصروا ما اعتقد أنه العالم الوحيد الذي يعيش فيه السياسي، قالوا: "لدى البشر الكثير من الجنون ورغبة الحياة، وهذا وحده كفيل بإيجاد عالم جديد". إنها روح بروميثيوس الخالدة في كل البشر.
الآن .. هنا
درس في اللغة "هذه العاهرة التي يتداولها الجميع"، درس في الحياة وفي الموت هذه "اللعبة المضطرين للاشتراك فيها، وما دمنا كذلك فلا مانع أن نحاول الإخلال بقواعدها، أن نتدخل في تغيير المسارات وزحزحة الأفلاك وأن نستولد المرأة ما نريد أو ما نعتبره أفضل"، درس في الحرية "فلا يمكن أن يتحرر هذا الشعب قبل أن تتحرر لغته"، درس في المبادئ والقيم، درس في الإرادة والصمود، درس في الحب وفي كل شيء، في الكلام، في الصمت، في الحزن، في الفرح والمعاناة، درس في الحرية "الحقيقة التي يجب أن تكون ملك الجميع، لأنها وحدها قاربنا الأخير للإنقاذ"، درس في الإنسان الذي "يجب علينا أن نعرف كيف نتصرف لكي نحميه في داخلنا، حتى لا يسقط" في السفح السيزيفي الرهيب، تعلمت درس الصمت وكان بالنسبة لي أهم الدروس على الإطلاق.
إنهم الجلاوزة كالضباع، كالوحوش البرية، ككل الحيوانات الانتهازية الخبيثة التي تنتظر لحظة تسقط فيها الشجاعة ويستسلم الأمل لنزواتهم، لكن هيهات فـ"من العار بعد الإذلال والعذاب، أن أقدم لهم لحمي عشاء شهيا، يتمتّعون به، ثم: أنا أدافع عن قضية عادلة وبسيطة؛ حقي وحق الآخرين في الحياة والحرية، وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين ولذلك يجب آن أكون أقوى منهم لأن قضيتي هي المشروعة" هكذا كان الرد مفعما بالأمل بعد لحظات ضعف حاول اليأس أن يتسلل إلى داخله.
لقد كانوا كُثر، أما هو فكان وحيدا بإرادته وبقناعته وإيمانه المبدئي. لقد اعتقدوا في غفلة من أنفسهم أنهم الأكثر شجاعة وهم السجن والزنزانة والسور العالي، وهم البرد والحرارة والجُراد والعقرب والكلب الأسود الحقود، هم كل تلك الأيام القاسية التي امتزج فيها الليل بالنهار، هم المرض هم السرداب، وهم تلك الطاولة اللعينة، والحبل الأبدي، والنوم حين يغيب والموت حين تحضر، هم تلك السنوات هم الوادي هم كل شيء وفي النهاية هم لا شيء، فـ"أية شجاعة في أن يقتل الألف واحدا، إلا إذا كانوا جبناء ويخافون منه؟!
هيّئوا نخب النصر، واعدّوا كل شيء لنحتفل ونحن ننظر إلى اليد التي أمسكت بالقدح المملوء بأحقادهم وأوجاعهم وخوفهم من الحرية. فأي لحظة هذه التي تقول مرة أخرى للتاريخ: هناك "حالات يصبح معها الموت شغفا ورغبة، وأجمل الموت أن يجعل الواحد أعداءه تعساء". فلا أتصور شوقا، حبا، رغبة، حنينا، جنونا، يشبه تلك اللحظة فقد عاشت الفلسفة حين مات سقراط ، أما السياسي/ بروميثيوس، فروحه الأبدية خالدة في كل آن وفي كل هُنا.
الهامش
(1) عبد الرحمان منيف: الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرّة أخرى.
(2) مرض نفسي يسعى من خلالها المريض إلى تحقيق اللذة وتجنب الألم من رؤية الأخر وهو يتعذب ويتألم، وهو مرض له خلفيات جنسية حسب نظرية التحليل النفسي.