(إلى روح الفقيد العزيز، الأستاذ المهدي المنجرة)
تشرئب أنظار الكون حاليا، صوب دولة البرازيل، بمناسبة تنظيمها لمباريات كأس العالم، الحظوة التي ظفرت بها وقد نافست الولايات المتحدة الأمريكية التي تزعم حملتها الرئيس أوباما شخصيا. أيضا، وبعد سنتين من الآن، أي عام2016، ستنظم البرازيل تظاهرة لا تقل رمزية عن الأولى، يتعلق الأمر بالألعاب الأولمبية، بحيث توجت ريو دي جانيرو بالاستحقاق، بعد صراع شديد مع مدريد، لتشكل بذلك أول رقعة جغرافية في أمريكا الجنوبية، تقام فوقها احتفال من هذاالحجم.
لو عدنا بعقارب الساعة إلى الوراء، وتوقنا بالزمان تحديدا عند أقرب نقطة من الآن، أي نهاية عقد التسعينات، فلعل ذكر اسم البرازيل يحيل بسهولة على قواسم ثابتة تتمثل في الشرور الكبرى: الديكتاتورية، الفقر، الدعارة، الجريمة، التفاوت الطبقي الصارخ، أطفال الشوارع. هكذا، كان يكفي متابعة فيلم وثائقي عن "ساو باولو" أو"ريو دي جانيرو"، لإدراك طبيعة الجحيم الذي يحيط بمن لم يكن برازيليا منتميا إلى جماعة أغنياء البلد، وهم بالمناسبة أقلية.
غير أن التراث الحالك، سرعان ماتحول عند هؤلاء إلى مجرد كابوس ليلة غير عادية، أو سحابة صيف، لاغير. ثم، لم يكن بوسع البرازيل أن تحظى دقيقة واحدة بتقدير العالم واحترامه لها، لو لم تعلن نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة(2003)، عن فوز مرشح اليسار ورئيس اتحاد النقابات العمالية "لولا دا سيلفا"، الذي تسلم مقاليد حكم بلد يشرف تماما على الإفلاس: ساكنة يقارب تعدادها 200 مليون نسمة ينخرها الجوع والجهل والعنف، تضخم مالي، ارتفاع مستويات الدين العام، عصابات المخدرات المناهضة لكل إصلاح حكومي، تردي أحوال المدرسة، النقص الحاد في تزويد مناطق كبيرة بالكهرباء .. ، وضع لم يخول وقتها لأي مسؤول برازيلي كي يجرؤ على مجرد تحريك شفتيه، توقا لاستضافة تظاهرة رياضية كبرى، لأن ذلك يعتبر من علامات انفصام الشخصية، سيخلق لدى الملاحظين مبررات معقولة للسخرية.
فقط في غضون ثمان سنوات من قيادة "لولا" العبقرية، تغيرت الأمور رأسا على عقب نحو الأفضل طبعا، فكانت الحصيلة خيالية بكل المقاييس، تظهر بوضوح أن كل شيء ممكن إذا توفرت الإرادة الصادقة، في سبيل بناء الأوطان، والاشتغال وفق موجهات الرؤى الكبرى الجوهرية: نهاية2011، ستعلن البرازيل بأنها أصبحت سادس قوة اقتصادية في العالم، بل تتقدم على بريطانيا. بالتالي، كان لازما على "لولا"، إخباره الصحافيين، فيما يشبه الوصية، مباشرة بعد الإعلان عن تصويت اللجنة الأولمبية: "أعترف لكم بأني لو مت الآن، ستكون حياتي ذات معنى وقيمة، بحيث لايمكن لأحد الآن التشكيك في قوة الاقتصاد البرازيلي، وعظمتنا الاجتماعية، ثم قدرتنا على تقديم خطة ناجحة".
الرئيس لولا دا سيلفا، ظاهرة كاريزمية فريدة من نوعها، يوشك أن يكون مبعوثا سماويا، تحتاج الإنسانية إلى انتظار مائة سنة أخرى، كي تنجب ثانية في منطقة ما، لأنه لايحدث روتينيا وبنفس الطريقة. بيد، أنها مدهشة حقا، تلك المنظومة من الدول التي نعتت قدحا دائما بالباحة الخلفية للبيت الأبيض أو جمهوريات الموز، وإن انتمت البرازيل جغرافيا إلى أمريكا الجنوبية، فإن روحها السياسية والثقافية، عالقة بتلك المميزة لجارتها أمريكا اللاتينية.
هذه المجموعة البشرية، بقدر ما أخرجت من مستنقعات غاباتها المترامية، أكثر الديكتاتوريات بطشا وقذارة على امتداد التاريخ، نورد في هذا المقام فقط اسم الجنرال بينوشي، لكنها بالموازاة، وكأنها تريد باستمرار التكفير عن خطيئتها تلك، فقد أغنت الحس الإنساني بأرقى وأسمى ممكناته القيمية والجمالية: من هي الأجيال التي بمقدورها محو ذاكرة الثوار اللاتينيين؟ وهل بوسع أي كائن آدمي التدرب على أبجديات تهذيب ملكته الاستيتيقية، بغير انكبابه على نصوص أدباء تلك المنطقة؟
لذلك فـ"لويس ايناسيو لولا دا سيلفا"، الشهير بـ"لولا"، سيظل من أنفس الهدايا النادرة، التي انبجست ترياقا للمحرومين، من عمق المكابدة الوجودية، فالرجل الذي كتب في مذكراته، مايلي: "إن الشيء الوحيد الذي أتذكره عندما يسألني أحد عن طفولتي، هو أنه لم تكن لدي طفولة، فمن الصعب أن يتذكر ولد فقير، لا بل شديد الفقر، طفولته، قد نتذكر الأشياء الجميلة في حياتنا، أما تلك القبيحة فننساها، وهو أمر لا ينطبق على فقراء الشمال الشرقي من البرازيل فحسب بل على أبناء العالم قاطبة، وما أذكره هو تناولي الأرز للمرة الأولى لأنني مرضت، والأرز في بيتنا من المستحيلات السبع والنوادر"، أضحى بعد عقود مريرة من النضال أكثر الشخصيات تأثيرا، وأشهر رجل في العالم حسب تصنيف لمجلة التايم الأمريكية، وهو ماعكسه تصريح أوباما: "يعتبر لولا، السياسي الأكثر شعبية على وجه الأرض".السند المطلق، الذي برر مشروعية إقرار كهذا للرئيس الأمريكي، يعود إلى المنجز الهائل لزعيم البرازيل على المستوى الداخلي والخارجي.
جميع العوامل الموضوعية قبل الرئاسة وأثناءها، تموضعت بنيويا ضد "لولا''، ربما سلاحه الأول والأخير، كي يتأتى له تليين ما استعصى، يكمن في حيثيات الدرس الأخلاقي الكبير لوالدته: "لقد علمتني أمي كيف أمشي مرفوع الرأس وكيف أحترم نفسي حتى يحترمني الآخرون".
نشأ هذا القائد الأسطوري المحبوب حد الثمالة من طرف شعبه، بين أحضان أسرة فقيرة جدا تنحدر من الشمال الشرقي للبرازيل، تتكون من سبعة ذكور وبنات، تخلى عنهم الأب الذي هرب صحبة عشيقته، فاضطرت العائلة إلى الاحتشاد داخل غرفة واحدة خلف ملهى ليلي، لا يتوقف عن بعث موسيقى صاخبة مشحونة بلعنات المعربدين. غادر حجرات المدرسة مضطرا، كي يلتهمه الشارع وسط مسالك مدينة من حجم متاهة ساوباولو، ثم مع أحسن حالات حظه، مجموعة مهن شاقة.
الطفل، الذي اشتد عوده مع الشدائد وتصلب بشكل يكاد يقترب من القديسين، فصار الأمريكي اللاتيني الوحيد، المدرج اسمه ضمن قائمة تضم خمسين شخصية تعتبر الأكثر نفوذا في العالم، أقول، بأنه اشتغل ماسحا للأحذية وفي محطة وقود وحرفيا في ورشة وميكانيكيا لإصلاح السيارات وبائعا للخضر ثم عاملا في التعدين، هذه المهنة الأخيرة وشمت جسده إلى الأبد، بحيث بترت إحدى أصابع يده اليسرى، فكان الحادث بداية انضمامه إلى الحركة النقابية ومن تم أخد نضاله وجهته المؤسساتية.
الرئيس "لولا" القادم من العمق المجتمعي بشفافية وبراءة، رغم المحن التي عاشها، تؤكد تجربته ببساطة أن الفقر لا يعرف مرارته إلا من عضه على أرض الواقع، لذلك فور فوزه بأول ولاية، كأول رئيس منتخب منذ إنشاء الجمهورية البرازيلية سنة1889، سيشرف على التفعيل الصارم لمخططه الاجتماعي الشهير المعروف بـ"بولسا فاميليا"Bolsa familia ، الذي استطاع من خلاله انتشال ملايين البرازيليين من براثن العوز، معيدا للمجتمع شيئا اسمه الطبقة الوسطى، فصار نموذجا تقتدي به كبرى الهيئات الدولية كالبنك الدولي.برنامج، توخى تقديم مساعدات مالية للكادحين، لكن شريطة التزامهم بإرسال أطفالهم إلى المدرسة وكذا احترام مواعيد حقنهم بالأمصال الوقائية.
بطل الفقراء كما نعته البرازيليون، خلال مدة رئاسته، الذي أشرف على ثروة البلد خلال ثمان سنوات، ثم نجح في توفير 60 مليار دولار للارتقاء اجتماعيا بالفقراء، وصعد بفضله اقتصاد البرازيل نحو المراتب الأولى، ثم من المحتمل أن يتفوق على نظيره الألماني والياباني بحلول عام 2040 كما تتوقع الدراسات، ووفر للخزينة العامة مايزيد عن 200 مليار هو عينه الشخص الذي سيطرق أبواب أصدقائه بعد مغادرته الحكم، كي يقترض بعض النقود من أجل ترميم كوخه الريفي.
كان بوسع "لولا"، استثمار شعبيته الهائلة ويقدم على تغيير الدستور، حتى ينال فترة ثالثة للحكم، خاصة وأن الجماهير هي التي طلبت منه ذلك ونزلت إلى الشارع معبرة عن تمسكها به دون غيره، لكنه رفض رفضا باتا مجسدا بشكل صوفي انسجامه التام مع قناعاته السياسية: "لقد ناضلت قبل عشرين سنة ودخلت السجن لمنع الرؤساء من البقاء في الحكم أطول من المدة القانونية، فكيف أسمح لنفسي أن أفعل ذلك الآن؟". ثم خفف عليهم وقع الرفض بطريقة دبلوماسية: "أنا أغادر الرئاسة، لكن لاتعتقدوا أنكم ستتخلصون مني لأني سأكون في شوارع هذا البلد للمساعدة في حل مشاكل البرازيل"
(المغرب)