يسم القاص المصري بلغة قصصية مكثفة معاناة الصعيدي البسيط حينما يضطره شظف العيش إلى الاقتران بسائحة إنكليزية عجوز بعمر أمه من خلال رصد العالم الداخلي لشخصيتين الأم المستنكرة بصمت هذا الزواج وعامل الحفر ومعاناته لحظة الإقبال في الفراش وما يحيط بهذه القصة من بيئة اجتماعية ونفسية.

أرض العجائز

عبد السلام إبراهيم

لم يعتقد العزب الغِرباوى أن أمه ستكون فى تلك الساعة المتأخرة من الليل منتظرة، تستقبل أجنحة النائحات المرئيات وغير المرئيات،

تغلق بعينيها- بعد المغرب مباشرة- مقابر وادى الملوك الصخرية. كادت أجسادهن الافتراضية تعرقله، وهو يمسك زوجته أثناء دخوله البيت القديم. قبل أن يأتى بليلة واحدة. كانت تلقى بهواجسها مع وقيد الفرن، وتضرم فيها النار قبل أن تراها النساء اللاتى جلسن هناك بداخل سقيفة البيت.

يحكين عن البيت الذى سيُعاد بناؤه بالطوب الأحمر، بل بأعمدة خرسانية، ويعلو حتى يصير عمارة من خمسة أدوار، وعن رداء الحج الأبيض الذى سترتديه وهى تستقل باخرة، بل طائرة، لكى تطوف حول الكعبة.

كانت المفاجأة بالنسبة له مزيجا من التوتر المصحوب بالبلاهة التى يصادفها المرء عند كل حدث جديد، أما ما شكَّل مفاجأتها، أنها كانت تعرف ما سوف يحدث وتمنته، لكنها فى نفس الوقت كانت تدعو سرا وجهارا ألا يحدث. رأت بعينيها اللتين خفت نورهما امرأته الأجنبية التى عبقت رائحتها الغريبة البيت.

الصمت الذى تولد من نظرات كل منهم للأخر أوجعهم جميعا، فأمه صعدت إلى وجه امرأته الأجنبية بساقيها النحيلتين، وراحت تعاين تجاعيده ومنحنياته التى حفرتها سنوات طويلة باردة. لكن المرأة الأجنبية التى اصطدمت عيناها الخضراوان الباهتتان بتجاعيد أمه السوداء، فراحت تفردها وتسويها بسهول الوجه الضئيلة، فنشأ بينهما صراع بصرى حتى وصل إلى اشتباك طويل شهده فناء البيت الذى يستظل بتمثالى ممنون. انتهى الصراع بعينيى المرأة الأجنبية، وهما تتقافزان فوق الزير والفرن. القطة العجوز البائسة التى شعرت بقوة خفية تشدها من خلايا جسدها الهزيل، فرفعت عينيها مرحبة بصاحبة البيت الجديدة. 

كان خروج العزب من لجة الحيرة صعبا للغاية، ولم يدرك أن أمه ستقف حائرة هكذا أمام زوجته التى قضى معها ليلة واحدة فى الغردقة. تلك اللحظة التى سفكت فيها أمه دماء الحيرة أمام امرأته التى فاقتها فى العمر، كادت تحول الفرحة التى ضخت دماء الحيوية فى المرأة الأجنبية إلى مذبحة لولا أنها جذبته من ذراعه، وصعدا لغرفتهما فى الدور العلوى، وتركا أمه تخوض فى خيبة الأمل التى أغرقتها تماما.

وضعت أمه ذقنها فوق ركبتها بجوار الفرن، تحاول ألا تسمع توجع المرأة الأجنبية من اللذة، ومحاولات ابنها المكتومة لإنهاء تلك الحالة الفريدة التى تسربت إلى الأم الرابضة بالأسفل، فكادت تفرغ محتويات معدتها. قامت بمحاولات مضنية لكى تنسى ما حدث، لكن صورة زوجة ابنها كانت تتدحرج من فوق السلم وترتطم بوجهها، فتغمض عينيها، فتجدها فى قاع عينيها ممزوجة بدموعها الجافة.

تطايرت صورة المرأة الأجنبية بتجاعيدها فوق فرن الخبز البلدى المهدمة والكانون الذى لم يُعد عليه الطعام منذ سنوات. فكانت الصورة حائرة ما بين احتراقها نسيج البيت القديم جدا، وبين وجه أمه حتى تتطابق التجاعيد فيحدث التطبيع الذى كان يتمناه العزب. أو تختفى ملامحها من الصورة وتعود إليها ملامح الشباب بعد الليلة الأولى لزواجها. جربت الليلة المجانية التى كانت بمثابة امتحان لقدراته كزوج فحل.

حاولت أمه أن تخلد إلى النوم عدة مرات، لكن تأوهات المرأة الأجنبية وصرخاتها حالت دون سكونها، فراحت تجوب البيت وهى تعوى، تعاين حظيرة الطيور الخاوية، تحاول محو صورة المرأة الأجنبية من عقلها.

كأن اليوم الذى دخل فيه العزب لغرفة نومه مع امرأته الأجنبية كان يومه الأول معها، نظر إلى وجهها الذى نبتت فيه فجأة التجاعيد التي تمر من خلالها سنوات طويلة، رأى لأول مرة انحناء ظهرها، وجسدها الذى صار كالشحم الأبيض الملتصق بقطع اللحم، أبصر بعينه السنوات الطويلة التي أمضتها في الحياة قبل أن يقابلها. عندئذ تراجع عنها، وكاد يفر من أمامها لولا أنها أشارت إليه فانصاع لأمرها، جلس منها مجلس الدخول، ارتطمت صورة أمه التي تسلقت الجدران فدخلت من خلال جحر الثعبان القديم بوجهها فدخلت فيها، فأصابه الذعر. قالت له وشفتاها تهتزان مع أطراف خديها المتدلية بجوار ذقنها " تآلى هبيبى" فصرخ. لم يجد أمامه إلا زجاجات الويسكى والبيرة يختبئ وراءها، فراح يحتسيها الواحدة تلو الأخرى بنهم شديد، فتلاحقت كتل السحب فى عينيه، أعقبتها أدخنة سوداء ملأت مقلتيه، تعلقت اللزوجة بأهدابها فشدتها للأسفل  فأُغمض عينيه.

يعرف العزب تماما أن انسحابه من موضعها المقدس الذى أنفقت من أجله الآلاف حتى الآن قد يمحو أحلامه، ربما يكلفه انهاء علاقتها الزوجية معه، والتى أنفق هو أيضا، من أجل ذلك، ليلة مجانية باعدت ما بينه وبين موروثه الدينى. مما يجعلها تكفر به. عندئذ يعود لوضعه القديم كعامل حفر فى الطرق السريعة. شاهد من خلال فوهة زجاجة البيرة لقطات قديمة، عندما كان يعود إلى أمه ولم يجد عندها عشاءا، حينئذ كان ينام وبطنه يهتز من الجوع.

تقدم نحوها ورأى صورة أمه ممزوجة بصورتها، فابتلع ما تبقى من الكأس حتى يفصل صورة أمه منها، بذل جهدا حتى ينزع صورة وجه أمه الأسود من وجهها الأبيض، لكن صورة أمه القديمة جدا اشتبكت مع صورتها، ودخلا فى صراع قصير، انتصرت صورة زوجته أخيرا بأن ابتلعتها، صارت هى الوحيدة أمام العزب. أدرك أن جسده القوى مقبل على امرأة طحنها الزمن، فشعر بالبرودة تسرى فى جسده، تيقن تماما أن اهتزاز ساقيه وليونتهما لن يجدى معه مجال الرؤية الفاضح، فآثر أن يطفئ النور.

هى أيضا رأت صورتها وهى تعيش وحيدة فى شقتها بشارع "ومانهود" بلندن يعالجها الصقيع والوحدة، تكدست أمامها الليالي الموحشة فهزمتها ببصيص أمل نبت بداخلها عندما وصلت لمطار الأقصر الدولى، وما لبث أن تحول إلى وميض يتوهج كلما رغبها شاب من شباب البر الغربى.

  عادت القوة إليه عندما عرف أن صورة أمه قد لفظتها وبصقتها بجوار الباب، وهربت من تحته، طاردها حتى نزلت إلى غرفتها. تقدم نحوها بقدميه الثقيلتين، تراجع عنها بعقله وإحساسه أميالا. جاء دوره فى أن يقوم بالفعل المرجو منه فى تلك اللحظة، فراح يركض للأمام بوجهه، وساقاه تركضان للخلف. وجد أن تلك المسافة التى رجع بها للوراء فى عقله لن تعود بسهولة، إلا إذا استدعى عقله وإحساسه اللذين اختفيا فى ظلام الخمر والبيرة. التقط خصلات من إحساسه الذى تسرب من جسده. عندئذ راح يتحسسها بيديه المشلولتين، عندما لمسها شدته نحوها، ابتسم قليلا عندما أدرك أن الظلام سيمحو آثار التجاعيد، وآثار السنين من فوق امرأته، فامتزج معها، وتطارحا الغرام حتى وجد نفسه خائرا، فكلما كانت آثار البيرة تتبخر من عقله كانت آثار التجاعيد تعود لوجهها، ينكمش فى الفراش فيصير طفلا لم يبلغ الحلم.

كانت أمه تنتظر فى اليوم التالى أمام الفرن كعادتها، فوجد صورتها التى طاردها الليلة الماضية ملتصقة بالفرن، تتقاطر منها ملامح من وجه زوجته المترهل، لكنه لم يستطع أن يفصل لون زوجته الأبيض من لون وجه أمه الأسود. لما رأته وقفت بصعوبه بالغة، أمسكت به تتحسس ذراعيه وظهره، فاقشعر بدنه، ابتعد عنها قليلا. أزاح بيده وجه امرأته الذى يدنو منه فأوقعها من فوق الفراش. كانت تتكلم وعيناها تتسعان ويتغير لونهما، ويترهل خداها فتتدلى أجنحته فوق شفتيها، عندئذ حاول أن يستدعى صورة قديمة من صور الصباح حتى تبتعد عنه من ذاكرته، فألقى بنظراته داخل "الكانون" فدفنها فيه. كان يتمنى أن ينتهى هذا اللقاء، لذا لم يتذكر أى شيء قالته له أمه فى تلك اللحظة. أشاح بوجهه كأنما أخذ على نفسه عهدا بألا ينظر إلى وجه أمه مرة أخرى.

هذا اللقاء الذى حدث فى تلك الليلة لم يتذكره فى الصباح، كأن أشعة الشمس الحارة التى يعكسها الجبل الغربى الذى يحتضن وادى الملوك قد أذابته تماما. لكن آثاره مازالت واضحة كوضوح الشمس، تتوجع زوجته فى نومها، ورداؤها عنها منحسر. ولما عاين وجهها وجسدها اهتزت بداخله صور قديمة جدا عن الصباحية، فقفز من فوق السرير وهبط للأسفل.

لم يكن الطفل الذى كان يجلس أمام الباب منذ عشرين عاما يشبهه، ولم تكن تلك الملامح قريبه منه، فملابسه الإفرنجية تختلف كثيرا عن الملابس الرثة لهذا الطفل. لكن الشيء المؤكد أن أمهما واحدة، مازالت ملامحها متطابقة، الذى اختلف هو زيادة التجاعيد. رأت العجائز المتشحات بالسواد أمام البيوت الخواجاية التى تزوجها العزب الغرباوى، وعرفن أن الليلة الماضية هى ليلته الأولى فى البيت.

ربما كان خروجه صباح اليوم التالى لينفث لحظات المتعة القسرية قد بخرتها نظرات العجائز الحادة، ولكى ينفض تجاعيد زوجته التى التصقت بجسده. ربما تستطيع الشمس أن تذيبها، تلك اللحظة لم يكن ينتظر حدوثها، فمن ناحيته كان يتمنى أن يجتاز حد الخجل، الحد الذى رسخته علاقته بأمه العجوز. اللحظات التى يمضيها الآن أمام الباب تتشابه تماما مع الساعات التى قضاها الليلة الماضية مع زوجته الأجنبية. هؤلاء العجائز يكتشفن أن الفتى الأسود الذى كان يخجل من النظر لإحداهن قد قضى ليلة زواجه فى الغرفة العلوية من هذا البيت.

فى اللحظات التى وقف فيها أمام الباب تمنى أن تأتى لحظة الخلاص. لو يركض نحو البر الشرقى فيتوه فى إحدى القرى البعيدة، أو أن يعود به الزمن للوراء فيفعل أشياء كثيرة. تمنى لو يهرب من نظرات العجائز اللاتى كن يسخرن منه بنظراتهن وبحديثهن المنخفض الذى كان متيقنا من سهامه الملقومة بكلام كثير. عندما خرجت زوجته ووقفت بجواره، تزايد إحساسه بالهروب، لكنه شعر بحصار رهيب. تلاحقت أنفاسه. عندما خرجت أمه تمنى فى تلك اللحظة لو ينزلق فى جسدها فيعود نطفة غير مخلقة، لكن زوجته أمسكت بيده ودخلا البيت ونظرات العجائز تصاحب نظرات أمه فحاصرن جدران البيت المهدمة.