يصور القاص المصري معاناة المواطن الحالم بالهجرة في محاولة لإيجاد حياة جديدة يتوفر فيها عيشا أفضل من خلال علاقته بالوسيط الذي سيوفر له الموفقات القانونية مقابل مبلغا من المال وما في هذه التجربة من معاناة وتعقيدات وإحباط من خلال لغة تقترب من العامية المصرية

غير متاح

صلاح شـهاب

الساعة 7 صباحا صمت رهيب يحيط بي من كل جانب، استرخاء ما بعده استرخاء، موت كامل الاركان، ولما لا فهي الساعات الأولى للإجازة الاسبوعية بعد عمل طويل وشاق، هدوء، سكون خافت، لم يدوم طويلا للاسف، فقد انقضى على اثره رنة هاتف محمول مزعجة، لعن الله التكنولوجيا ومن ابتكارها واستعملها، فهي لا تدعك تعيش في سكون ابدا، فوجئت بصوت ممل عقيم، كان محسن عفيفي، ورغم اني محتاج جدا لمصلحة هامة من الشخصية الحقيرة تلك، ولكن لم اتوقع انه سيلبي ندائي بهذه السرعة وفي هذا الوقت، فأنا بالفعل من طلب منه ان يساعدني للحصول على تأشيرة هجرة، فهو الوحيد الذي يستطيع مساعدتي في هذا الطلب، اخذت الهاتف مسرعا وقمت بالرد متململا، ليفاجئني بصوته الجهوري :

-                     صباح الخير ياسطى

-                     صباح النور، ازيك يامحسن

-                     الحمد لله يابرنس، بقولك حضرت الفلوس ولا ايه ؟

-                     يعني

-                     مش فاهم ايه يعني ديه، احنا ميعادنا النهارده بالليل ولا نسيت

-                     لا مانسيتش بس انا بحاول اجمعها

-                     بتحاول تجمعها، ميعادنا النهارده ياسطى هو كلام عيال ولا ايه

-                     يامحسن انا معايا خمستاشر، ومتفق مع الواد سالم هيجيبلي خمسة كان مستلفهم مني من حوالي سنة، هو متفق معايا على النهارده العصر، هانت يعني

-                     على شوقك، انت اللي هتبقى خسران لو ماجمعتهمش في الميعاد، الخواجه مسافر بكرا وهو اللي هيؤشر على الفيزا بتاعتك، فأنت حر

-                     لا ان شاء الله هتلائيني مستنيك بالفلوس في الميعاد على القهوة 

-                     ماشي ياريس سلاااااااام

هل تعرف معنى الحقارة، هي محفورة على وجه ذلك الوغد، هل تدري ما السماجة هي نقطة في فم محسن عفيفي، لعن الله الحثالة كلها، مديري فاضل الشناوي، وجاري المأفون سيد  خيري، وهذا الوغد المسمى محسن، اسم على غير مسمى و لكن للأسف هذا هو زمن هؤلاء، فحثالة البشر هي من تمضى على قسائم وجودك بتلك الحياة، يااااااااااه على الألم، ان يكون احتياجاتك مرهون على مداهنة ثلة من المنافقين، محسن عفيفي لم يكن يوماً صديقي، هو يعلم يقيناً بأني لا اطيقة ابداً، ولكن تلك هي الدنيا الخبيثة تجعل مصيرك بيد أزبل من فيها،،، لله في خلقه شئون .

تناولت هاتفي مرة آخرى، بصقت على اسم هذا الوقح، ثم بحثت عن رقم سالم صديقي لأطمئن نفسي بانه سيأتي محمل بمالي الذي معه  في الميعاد الذي اتفقنا عليه، سمعت صوته بعد لحظات من رنين جرسي عليه، جاء الرد باهت بعض الشيء، مما استجلب لذهني بعض الوساوس، ولكنه أكد لي بأنه سيأتي في الموعد، وأنه استطاع تجميع المبلغ، وأنه بالفعل سياتي في تمام الثالثة عصرا على قهوة برغش النمس حسب الميعاد،،، لله الآمر من قبل ومن بعد .

شرد ذهني قليلا في رد سالم الباهت وانتابني قلق، انتفضت له كامل اعضائي، فماذا لو تهرب  سالم مني ولم يأت في الميعاد المحدد، أنا محاط بإستعجال هذا القذر  الذي يكرر إستعجاله لي بحجة أن الخواجه الذي في يده الأمر سيسافر، مرة يستعد للسفر يوم كذا، ومرة سيسافر ليلة كذا ومرة سوف يسافر يعطي التأشيره لآخر جاهز قادر على دفع المبلغ، أيعقل أن يكون الآمر كله في يد حثالة  بشرية تمارس قذارتها تجاه خلق الله، قضاء الله نفذ ان يكون مصيري متعلق بين فكي الكماشة، آخر فرصة لي بأن احيي حياة كريمة وان ابتعد عن بلد الالف وجهه مرهونة بتاشيرة سياتي بها فاجر بمبلغ مع فقير باهت،،،  سبحان الله .

افقت على لسعة ضوء الشمس في حوالى الواحدة ظهراً، حيث أني غفلت بعض الشيء بعد جدل مع النفس وتفكير ممل فيمن كان وماسيكون، ولكنها الغفلة تأتي بدون ميعاد، قمت مسرعا، اخذت حمام دافيء استعداداً ليوم طويل فيه رجاء وأمل وصبر، ذهبت للقهوة مسرعاً رغم ان الميعاد لم يحن بعد، فدفعت نفسي دفعاً،،، لعله خير أن شاء الله .

وصلت لبرغش على الساعة 2:30 ظهرا، فقط نصف ساعة تفصلني على الأمل الذي طالما انتظرته كثيراً، جلست على احدي الكراسي داخلها، لم يكن بها سوى زبون واحد لطالما وجدته بها، ففي اي وقت تذهب إليها ترى عباس صبحي - رجل كهل يجلس عادة وحيداً، لدرجة تشعرك بأنه لا يرحل، جزء من ديكور القهوة، الذي هو عبارة عن لافتة متربة تكاد تسقط كتب عليها قهوة برغش النمس، كراسي متراصة على الجانبين تأكل نصف الطريق، في الداخل تجد ناصبة الشااي يقف خلفها الأسطى سيد بجوار مكتب المعلم برغش، امامه كان يجلس عم عباس دائما وأبداً، قهوة من الطراز القديم الذي عفى عنه الدهر ولكنها تفي بالغرض، شاورت لسيد ليأتيني بطلبي فقال زيادة، قلت له أكيد، أعشق القهوة الزيادة، هو تعود على طلبي وحفظه عن ظهر قلب، أتي بطلبي وصب القهوة امامي، لم افهم يوماً تلك الحركة لما لا يصب قهوته بجوار الناصبة، لماذا يصر على ان يجعلني ارى المشروب ينساب لداخل الكوب .

انتظرت كثيراً، الوقت لا يمر، كنت جالس مترقب مهموم، حزين، اخر أمل، الفرصة الاخيرة، متي سيأتي، نظرت في الساعة تعدت الثالثة والنص، أخرجت هاتفي واتصلت رد بنفس الشحوب والبهتان :

-                     ايوة انا جااااي معلش اتأخرت بس الظروف والله نصف ساعة كدا وهتلائيني عندك و سلااااااام .

كلمات مقتضبة لم افهم منها شيئاً، زادتني حيرة على حيرة، اي ظروف يتحدث عنها ونصف ساعة أخرى، جحيم آخر في بلد ميت، متى الخلاص، لا ادري، نصف ساعة من الجحيم، من القلق، من الحيرة، كلمات عبثية لواقع مر، أريد الرحيل ويأبى القدر، ليس بيدي حيلة سوى الانتظار، سأتحمل نصف ساعة  آخرى حتى الخلاص .

ظهرت القذارة ولكن هذه المرة رؤي العين لاحت صورته وصوته الجهورى، لو للسخافة عنوان ستكون محسن عفيفي، الشخص الذي لا يملك من الاحسان ولا العفة اي شئ، اسم على غير مسمى، جلس جواري  ليقاطع صمتي ويزيد جحيمي :

-                     مساء الخير ياسطى، ايه نظامك النهارده

-                     نظام ايه مش فاهم، انت جاي بدري ليه مش ميعادنا بالليل

-                     انا قولت اشوف ايه الاخبار معاك، عشان زي ماقولتلك ديه اخر فرصة، الخواجه مسافر بكرا، وبعدين بيني وبينك  في واحد فلوسه جاهزة وهيخلص، بس عيب عليك انا قولت انت اولى بردوا

-                     لا ما تقلقش ان شاء الله هبقى جاهز، ثم قمت مسرعاً، لن احتمل سخافاته اكثر من هذا

-                     رايح فين دلوقت

-                     مشوار كدا وجاي

-                     مش انت بتقول مستني سالم هتمشي تروح فين دلوقت

-                     ياعم مشوار ضروري خليك انت ولما يجي حسين خليه يستناني قوله انا راجع تاني

-                     خلاص ماشي بس انا روبعاية وهمشي انا كمان يعني ما اوعدكش يازميلي

-                     ماشي

 هربت من ذلك الوغد، اسرعت خطاي خارجاً، دون اي جهة، كنت افكر في الابتعاد عن تلك القذارة، انا جاهدت للسفر للخروج من مستنقع العفن، ولكن مع الأسف حتى تخرج من المستنقع لابد لك من المرور عبر بوابة العفن، التأشيرة لن تأتي إلا عبر ذلك القذر، حيرة أخرى، سالم على وشك المجئ وذلك الوغد اكيد مازال جالس يحتسي قذارته، انا اعرفه لن يرحل حتى يرى المبلغ يهوى في جيب بنطاله، سرت بالمنطقة عابث بوجهي، شارد في آلامي ثم رفعت يدي اليسري لمعرفة دقات ساعتي،فوجدتها فاقت الخامسة مساءاً، بهذه السرعة، لا ادري، خطف الزمان مائة وعشرون دقيقة في لمح البصر، استدرت عائداً لمجلسي، مضى على ميعاد سالم ساعة ونصف ولم يحاول ان يتصل، ترى هل هذا البغل وصل له رسالتي وجعله ينتظر،  أم تراه قابع معه ينتظر، متى تنتهي تلك الحيرة، ادعو الله ان يمر هذا اليوم على خير .

وصلت لبرغش فلم اجد اي أحد لم يكن هناك غير بضع نفر وبرغش وسيد، ناديت سيد وسالته عن سالم قال انه لم يره منذ فترة، ثم استفسرت عن وقت ذهاب محسن، قال - مشي بعدك على طول، خرجت وقد ازدادت حيرتي و اتصلت بسالم وانا عائد لمنزلي فرد معتذراً :

-                     والله انا اسف جدا ظروف هابقى احكيهالك بعدين، انا هاجي ماتقلقش اول ما هوصل هرن عليك سلااااااااام

 نفس التخبط، بنفس البهتان، حيرتي تصل لقمتها، وصلت لبيتي و انبطحت على الاريكة، لإمضي تلك الساعات، ارهاق كامل لكل الاعضاء، مصحوب بشلل في التفكير اغمضت عيني لحظات، تاه الزمن على الأريكة، انتفضت فجأة و لا اعرف من ايقظني، او كيف استيقظت،  مرعلى موتي خمس ساعت متواصلة، نوم متواصل لا اعلم سببه، هل الانهاك والتعب، ام الحيرة، ام الخوف، لا أدري نظرت في هاتفي، لعل سالم اتصل دون ان اسمعه، لم اجد شيئا، توجهت مسرعا لبرغش مرة آخرى عسى ان أجد ضالتي، لم يكن هناك سوى مجموعة المتراصين عليها كل يوم، القهوة ممتلئة عن اخرها، توجهت بنظري يمين ويساراً عسى ان اجد سالم و لكني لم اجده، اشرت لسيد بيدي مستفهماً عنه فرد بنفس الاشارة انه لم يأت، وانا احملق في المصطفين، اذ بالقذارة جالس يلعب طاولة مع بعض الرجال، نظر إلى وابتسم ابتسامة لم افهم معناها، ثم قام متجهاً نحوي وهمس في أذني برائحة كريهة :

-                     معلش يابرنس خيرها في غيرها المصلحة طارت، انت ماحاولتش تتصل بيا والراجل التاني جالي بسرعة وخلص

قالها القذر وانصرف، تركني مصدوما، ضاعت اخر فرصة،،،

هممت بالرحيل واستدرت خارجا، توقفت فجأة على صوت يناديني و إلتفت إليه، وهو يقول :

-                     انا اسف، في حاجة لازم اقولهالك سالم جيه النهارده العصر بعد ما انت مشيت وكان محسن قاعد، اتكلموا شوية وقاموا عشان يمشوا، وهما ماشيين بصلي سالم،  وقالي اقولك انه ماجاش، لو انت سالت عليه، انا قولت الموضوع مش مهم بس لما سمعت دلوقت محسن بيقولك المصلحة طارت قولت لازم اقولك، عشان تعرف صاحبك وتعلم عليه .

 كنت صامت حينما كان سيد بيهديني مصيبة اخرى لتقع فوق رأٍسي، لم اسمع بقية ماقال او ماسيقول اكتفيت من الوحل و لم يكن لدي شك فيما قال، كل المؤشرات تعطيني نفس القذارة، ابتسمت غيظأ  دون انطق له بحرف كلمة، ثم تركته ورحلت، صممت ان اهاتف الوغد الآخر لأعرف ما الذي دفع به لتلك الفعلة، رفعت هاتفي، تلك المرة لم يرد ولم اسمع صوته الباهت هذه المرة و لكن سمعت صوت مختلف برسالة اخرى غير الاعتذار المتكررفلم اجد سوى صوت صافرة معقوبة ب ... الهاتف الذي طلبته مغلق أو غير متاح، من فضلك عاود الاتصال في وقت لاحق !!!