اجتمعنا في القاعة الصغيرة الملحقة بمقر النادي. لم يكن النصاب القانوني لأعضاء الجمعية قد تحقق؛ لذا تخلينا عن مناقشة تفاصيل الإعداد للنشاط الثقافي القادم حول وضعية حقوق الإنسان في المنطقة، ثم تُهنا بدلاً منه في أشجان كلامية ربما كانت أكثر متعة من توتّرات الإعداد ذاته.
كنا ثلاثة؛ أنا وكوثر وعبد الحميد الشرقي. كوثر هي المكلفة بالإعلام. امرأة في ريعان الشباب. متزوجة ومن دون أولاد، ذات طول ممتلئ، وشعر رمادي غزير وكثيف، مصبوغ ومسرّح وفق تقليعة صارخة، بلون رمادي تتخلله شعيرات بيضاء وتموجات. تتركه ينسدل وراء ظهرها بحرية وثقة، بحيث إذا ما عاينه المرء من الخلف بدا له كما لو هو كون مستقل عن جسد ولية أمره. ثم هي، إضافة إلى كل ذلك، امرأة لا تتعب في ارتداء آخر صيحات الموضة. أنثى صاحبة عزيمة، أو هي على الأصح، بصدد بناء عزيمتها. ربما من أجل ذلك اختارت العمل الجمعوي، واشتهرت بتعدد اقتراحاتها وكثرة أسئلتها الاستفسارية. وبين الحين والحين كنت أتساءل في نشوة لئيمة:
- تُرى ما الذي تبحث عنه هذه الفتنة في جمعيتنا؟ ما الذي ساقها إلى دنيا فيها من العرق والتقشف أكثر مما فيها من البريق الأخاذ؟.
أما عبد الحميد فيظهر أنه قد وجد ذاته في مسؤوليته المالية داخل الجمعية، إلى جانب مهارته في حكاية النكت، والتعليق على المواقف الساخرة. في حين لم تكن مهمتي على جانب كبير من الخطورة مقارنة بمهام باقي الأعضاء. يكفي أن أقول إني مجرد مستشار، لا يتجاوز دوري تقديم المساعدة عند الضرورة، والقيام ببعض المهام الصغيرة، كالمراجعة اللغوية لتقارير الجمعية، أو البحث عن بعض المعلومات التشريعية أو حتى الثقافية إن اقتضاها الموقف. لذلك غالباً ما كانوا يستدعونني للحضور معهم ربما للاستئناس بي، أو حتى لإكمال النصاب القانوني. والحقيقة أني تطفلت على العمل الجمعوي لّما أن قدِمتُ من مجال آخر شديد الاختلاف؛ فأنا صاحب بزار في المدينة العتيقة. وحيث إن الصناعة التقليدية تعرف كساداً في الفترة الأخيرة؛ ارتأيت أن أحارب رتابة المهنة وطول ساعات الفراغ بالانخراط في جمعية ثقافية. أما حكاية المراجعة اللغوية ربما جاءت تلبيةً لنداءِ عشقٍ ثقافي قديم، أعْدانا به معلمونا الوطنيون زمن الحماية ونحن بعد في سن الفتوة.
لقد كان من المفترض أن نخصص جلستنا التنظيمية للإعداد لنشاط حول حقوق الإنسان كما سبقت الإشارة. وحينما جرّنا الكلام في تلك الأمسية الربيعية إلى خارج دائرة التنظيم انسابت عيني لحظة إلى قميص كوثر القاني وخاطبتها مبتسماً:
- .. ثم إن القميص يجب أن يكون ناصع البياض..
كان السيّد عبد الحميد متعوّداً التيه الكلامي الذي ينتابني بين الفينة والأخرى. تيه تعلم، بحكم المراس وطول الصحبة، كيف يؤوله ويصرفه في مجراه المناسب. لذلك لقّبني ساخراً "بالسماوي" وفي بعض الأحيان كان يضيف مبتسماً:
- السماوي.. الله يداوي..
عبد الحميد هو الوحيد في الجمعية من يعرف أن تيه بعض عباراتي متأصل فيّ، ويدرك قصد فكرتي التي قد تبدو في ظاهرها متناقضة، وخارجة عن سياق الكلام. مهما أُرسلها عبر السراديب والمنعرجات، وكانت تخلو من مسحة المنطق يُحسن هو اقتناصها والتماهي معها. أما كوثر الوافدة الجديدة على جمعيتنا فقد استغربت مني ملاحظتي الطائشة:
- ما مناسبة الحديث عن القميص؟
وبادر عبد الحميد ساخراً:
- اطمئني .. ليس المقصود قميصك الأحمر وإن حدّق فيه صاحبنا.. حتى قميص كاترين ليس مقصوداً..
انزعجت كوثر وهمت بأن تنتفض واقفة لولا أن حاول عبد الحميد طمأنتها. أحسّتْ كما لو أنها الوافد الطارئ على كتلة أصدقاء الحارة الشعبية؛ يتفاهمون فيما بينهم، متناغمين، منسجمين، بينما يستشعر هو الوحدة وغربة الحاجز.
وأضاف عبد الحميد ببعض الجدية:
- لا بد أن لسؤال السماوي صلة بتفصيل من تفاصيل النشاط المزمع تنظيمه. العبرة بالنتيجة كما سترين..
وشجعني تعضيد عبد الحميد على المضي قدماً قلت:
- في الخاطر يا عزيزتي قميص محمود درويش.
وبعد برهةِ تردّدٍ استأنفتْ كوثر:
- ومع ذلك. ما مناسبة الحديث عن درويش ونحن بصدد الإعداد لجلسة حقوقية؟. إني لا أفهم..
- سؤالك عين العقل. غير أني أرى أشياء قد تبدو في ظاهرها حماقة. وهي بالفعل حماقة..
وتدخّل عبد الحميد من جديد مبتسماً:
- هي ليست بالنسبة إليّ حماقات أيها السماوي. إذا كنتُ معك قل ما يحلو لك أنا عليّ حسن التأويل، لكني لا أضمن لك ذلك إذا كنتَ مع أجانب.
ثم تدارك كما لو يعتذر:
- كوثر واحدة منا، وسينتهي بها المطاف لا محالة إلى أن ترث مني روح النكتة ومنك موهبة التحليق السماوي. مع توالي الأيام ستألفين يا عزيزتي. ستدركين معنى "التصريح بالممتلكات لدى بعض النساء"، ومعنى "مع احتساب الرسوم" ومعنى "سمك اللوبر" ومعنى "قميص كاترين". ستضحكين عميقاً من تلك العبارات المحلّقة ومن غيرها..
وأضربتُ صفحاً عن كلام عبد الحميد واستأنفتُ موضحاً:
- قميص درويش كان دائماً شديد البياض، جيّد الكيّ. ذاك ما استخلصته من معاينة عدد من صوره الفوتوغرافية والتلفزية.
وقطبّت كوثر الجبين. كان ساقاها أحدهما فوق الآخر، كجلسة كل النساء منذ عهد أمنا حواء، ملفوفين في سروال ضيق شديد السواد. لكنها إزاء كلامي المفاجئ فتحتهما كما لو تتأهب للانطلاق في سباق أو لخوض معركة. قالت:
- وبعد؟..
- ليس هناك لا قبل ولا بعد. في بياض القميص يكمن كل شيء. كل ما يمكن أن يقال يلخصه بياض القميص. كل ثرثرتنا السابقة واللاحقة يمكن تكثيفها في بياض القميص. لا لطخة، ولا بقعة زيت أو مرق..
- ومع ذلك، اسمحا لي أن أقول إني لا أفهم..
وعندما تململ عبد الحميد في مقعده محاولاً التطوع ببعض التفسير قاطعتُه بقدر من اللطف:
- كم يهمني أن تتعود كوثر غمغمتي وتتدرب على فهمها حتى من دون مساعدتك.
ثم أضفتُ:
- سأكون سعيداً لو تعلمتْ، مع الزمن أن تساير متاهاتي من دون أن تستغرب، حتى وإن لم تدرك عمقها الذي لا أُدركه أنا نفسي في كثير من الأحيان. الرصانة هي أن يحتضن الجمال التناقضات، ثم يعبّر عنها بعد ذلك في سبائك من النغم.. كما لو هي "مواكب" جبران..
وبدا كأن كوثر لم تعد تلح على أن تفهم. لم تبتسم، ومع ذلك أحسستُ كأنها واقفة في مفترق الطرق. فقد انسابت مع كلامي حتى وإن لم يقنعها. ولكي لا أترك الفرصة الذهبية تضيع بادرت إلى القول:
- هات نكتة يا عبد الحميد..
قال مبتسماً:
- ما دام الحديث عن القمصان قد جرنا إلى الاختلاف؛ سأحكي لكما نكتة عربية.
وتهيأنا للاستماع..