من الأمور المسلَّم بها أن الدول المتقدمة في العالم بأسره قد حققت ما حققته من ازدهار وتفوق، في شتى مجالات الحياة، بفضل اهتمامها بالبحث العلمي، وحرصها على ربطه بالواقع وبالإنسان، فضلا عن تحلي مواطنيها بقيم الانضباط والإخلاص والتضحية والعمل الدؤوب وغيرها. وتزداد أهمية هذا البحث يوماً بعد آخر، ولاسيما في سياق التدافع والتنافس الحضاريين اللذين يشهدهما عالمُ اليوم بوتيرة أقوى، وسَعْيِ الدول الكبرى إلى التسيُّد والتحكم في المعمورة عبر توظيفها سلاحَ العلم لإنتاج تقنيات وأساليب حياة مغايرة ومتطورة. ولذلك، لا نعْجبُ حين ندرك حجمَ المُخَصَّصات المالية التي ترصدها للبحث والتطوير، وعِظَمَ البنيات التي توفرها لممارسة هذا النشاط الفكري العلمي، في جامعاتها ومعاهدها ومراكزها البَحْثيّة، والاعتبارَ الخاصَّ الذي توليه للمُشتغِلين بحقول المعرفة كافة دون استثناء.
إن البحث العلمي عموماً يعدّ "مطلباً مُلِحّا، وضرورة قصوى لأي مجتمع في وقتنا الحاضر لِما له من دور في التقدم والحضارة، ذلك أن تحقيق التقدم في أي مجتمع مرهون بالاستخدام الأمْثل للموارد البشرية والمادية المُتاحة بالاعتماد على الدراسات العلمية التي تُتْقِن المواردُ البشرية إعدادَها بمنهجية علمية ودقيقة، تهدف إلى تأطير كافة المعارف والخِبْرات ذات العلاقة، بصورة شاملة وواضحة تقود إلى اتخاذ القرارات الرّشيدة"(1) .
وحين يَعْمِد الدارسُ إلى مقارنة واقع البحث العلمي في العالم المتقدِّم بنظيره في الدول المتخلفة يسجل، بسهولة، عُمقَ الهُوة بين هذين المجالين الحضارييْن؛ إذ إن هذا البحث في العالم الثالث – وضمنه الدول العربية – متواضعٌ، ولا يرقى إلى مستوى تحقيقِ انتظارات أُناسه والاستجابةِ لمُتطلَّباتهم، وتقديم الحلول الناجعة لأكثر مشاكله وأزماته. وليس مؤهَّلاً، في الغالب، لإفراز جيل من العلماء يمْكنه الاشتغال من داخل العالم المتخلف لإنتاج أفكار ونظريات وتِقانة متطورة، تضْمَن له التأثير والإسهام الفاعل في رسْم صورة العالم، وتحديد مساره، واتخاذ القرارات الحاسمة في كل الميادين.
إن الأمة العربية والإسلامية – وهي أمّة "اقرأ" – لا تنقصها الكفاءات والطاقات في العلوم كلها، بل يشْهد الواقع بخلاف ذلك؛ فهي تزخر بقاعدة عريضة من الشباب الطَّمُوح المتحمِّس الغيور المُبادِر المثقف ثقافةً واسعة، ولكنه – للأسف – يصطدم بواقع غير مشجِّع ولا مُساعِد على احتضانهم وتعهُّدهم ورعايتهم، وتنمية مواهبهم، واستثمار قدراتهم وإمكاناتهم بما فيه صالحُ بلدانهم وأمتهم .. إذ لا يجد أمامه مختبَرات علمية مجهّزة، ولا أدوات عمل كافية، ولا التشجيع المعنوي. الأمرُ الذي يدفع بكثيرين منهم إلى التفكير في مغادرة أوطانهم، والتوجُّه نحو البلدان المتقدمة (مثل كندا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا) التي ترحّب بهم، وتوفر لهم كلّ ما يحتاجونه لممارسة بحثهم العلمي. وبذلك، تخْسر بلدانهم الأصلية هذه الطاقات النّيِّرة بعدما أنفقت أموالا باهظة لتعليمها وإعدادها، وتحْرم نفسَها من الاستفادة منها، ويجدها العالم المتقدم – في المقابل – هدية مجّانية جاهزة لا يتوانى في احتضانها وإغرائها بكل ضروب الإغراء. ولمّا تُهَيَّأ لهذه الكوادر والأدْمغة المُهاجِرة ظروف الاشتغال والبحث المناسبة، فإنها سَرْعان ما تعطي الثمار الوفيرة التي تستغلّها دول الاستقبال بالدرجة الأولى؛ فتحصد لها الجوائز العالمية الرفيعة، وتبدع وتقدّم التجارب الجديدة والنظريات والتقنيات المتطورة بأسمائها أو أسماء الفرق البحثية التي تنضوي تحت لوائها مقرونةً باسم البلد المُحْتضِن. وينعكس ذلك مباشرةً على تلميع صورة البلدان المُستقبِلة في المحافل الدَّوْلية، وتبويئها المراتبَ الأولى في التصنيفات العالمية على مستوى البحث والتطوير والتجديد العلمي. هذا في الوقت الذي تظل بلدانها الأصلية قابعة في مؤخِّرة تلك التصنيفات، ومتخبِّطةً في أوحال الاجترار والجمود وغياب الجودة والنجاعة فيما تعْرفه من أعمال بحثية في المجالات كلها، وخارجَ نطاق تصنيف أفضل الجامعات على الصعيد الدولي، الذي يصْدر، بصفة دورية، عن منظمة اليونيسكو.
لعل ما يمكن أنْ نصف به واقع البحث العلمي في العالم العربي، عموماً، أنه مُؤسِف حقا، وأنه مُخيِّب للآمال، وأنه يفتقد إلى النجاعة والقوة المطلوبتين ليكون في مستوى مواجهة التحدّيات، وكسْب الرِّهانات. فهو لا يشكل أولوية لدى العرب اليوم، بل يُنْظَر إليه بوصفه أمراً ثانويا، ولا تُخصَّصُ له الاعتمادات المالية الكافية، ولا توفَّر للمشتغلين به بنيات البحث الضرورية، ولا تُستغَلّ نتائجه، وإنْ قلّت، استغلالا مُعَقْلناً فعّالا. ولا يجب إنكار التطور الطفيف الذي عَرَفه هذا البحث على امتداد العقود الماضية في المنطقة العربية؛ بحيث تكشف الإحصاءات والتقارير المُنجَزة حول البحث العلمي العربي أن مردود هذا الأخير ازداد نسبياً ما بين 1967 و1995 وما بعدها، وبلغ إجمالي إنتاج هذا البحث حوالي ستة آلاف بحثٍ عامَ 1995 في أكثر من 175 جامعة عربية(2) . ولكنّ ذلك، يظل ضعيفاً جدّا إذا ما قُورن بما لدى الغرب في أوربا وأمريكا، وفي بلدان متقدمة أخرى؛ كاليابان.
ويعدّ مؤشر عدد المشتغلين بحقل البحث العلمي، بالنسبة إلى عدد السكان، من المعايير الأساسية المعتمَدَة دَوْليا في تصنيف الدول في سلم البحث العلمي. فإذا كانت أعداد هؤلاء الباحثين والعلماء في الدول المتقدمة كبيرة (بلغت 9533 عامل في البحث العلمي، بالنسبة إلى كل مليون نسمة، في أمريكا الشمالية، و2206 في أوربا؛ حسب إحصاءٍ صدَرَ عام 1990)، إلا أنها ضعيفة جدا في البلدان العالَمْثَالِثِيّة عامة، ومن بينها البلدان العربية؛ إذ بلغ عدد المشتغلين بالبحث العلمي، عربيا، حسب تقارير أممية، حوالي 363 عامل لكل مليون نسمة عام 1990، بعدما كان الرقم لا يتعدى 124 عامل عام 1970. وهو ما يشكل نسبة 1.47% من إجمالي عدد العلماء والمهندسين المشتغلين بالبحث العلمي على مستوى العالَم كله(3) . وأشارت إحْصاءاتٌ سابقة إلى أن مجموع الباحثين في الوطن العربي يقل عن 16 ألف باحث، وفي إحصاءات أخرى صدرت عن جامعة الدول العربية، عام 2006، أنه يقابل كل مليون عربي 318 عامل في مضمار البحث العلمي!
إن أبرز سبب يُفسَّر به هذا الضعف المَهول في أعداد الباحثين على الصعيد العربي هو نقص الإنفاق عليهم وعلى البحث العلمي عموماً. ذلك بأن ما ترصده الدول العربية من مخصَّصات مالية لهذا البحث لا يصل إلى النسبة المتوسِّطة المتعارَف عليها دوليا في هذا النطاق، والتي تحدِّد ما إذا كان إنفاق أي بلدٍ على البحث العلمي مُجْدياً أو غير مُجْدٍ، وقد حُدِّدت هذه النسبة في 1% من الناتج الإجمالي. بمعنى أن الإنفاق على هذا البحث، في أي بلد، يكون مجديا إذا بلغ هذه النسبة كحدّ أدنى، وإذا لم يصلها فإن إنفاقه، في هذا الصدد، يعد غير ذي جدوى. ولم تستطع أي دولة عربية بلوغ نصف هذه النسبة لسنوات طويلة، وربما كانت تونس استثناءً سنة 2007؛ حيث تجاوز إنفاقها على أنشطة البحث العلمي والتطوير عامَئذٍ عتبة 1% من ناتجها المحلي الإجمالي.(4) وتُجْمِع التقارير والإحصاءات على أن ما ينفقه العالم العربي على أنشطة البحث العلمي يظل دون المستوى المطلوب، ولا يبشّر بمُخْرَجات قوية ذات تنافسية، ولا يؤهّل لِلَعِبِ أدوار ريادية، ولا لأنْ يكون طرفاً فاعلا في اتخاذ القرار العلمي الحاسم عالميا! فقد كشفتْ إحصاءات اليونيسكو عام 2004 أن الإنفاق العربي على البحث العلمي لم يتجاوزْ 1.7 مليار دولار، بما نسبته 0.3% من الناتج القومي. وأشار تقرير اليونيسكو عن العلوم عام 2010 إلى أن الدول العربية هي الأقلّ إنفاقاً على البحث العلمي والتطوير في العالم. وحين نحاول مقارنة هذه النسبة بتلك المتحقِّقة في الدول المتقدمة يتبيّن، بالملموس، أنْ لا مجالَ لإجراء مثل هذه المقارنة إطلاقاً! ففي المتوسط، "ينفق العالم حوالي 2.1% من إجمالي دخْله الوطني على مجالات البحث العلمي؛ أي ما يساوي 536 بليون دولار، ويعمل في مؤسسات البحث العلمي في العالم ما يقارب 3.49 مليون باحث؛ أي بمعدل 1.3 باحث لكل ألفٍ من القُوى العاملة. وقد قُدِّر إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والاتحاد الأوربي بما يقارب 417 بليون دولار، وهو ما يتجاوز ثلاثة أرباع إجمالي الإنفاق العالمي بأسْره على البحث العلمي، وتنفق الولايات المتحدة سنوياً على البحث العلمي أكثر من 168 بليون دولار؛ أي حواليْ 32% من إجمالي ما ينفقه العالم كلُّه. وتليها اليابان، التي تنفق حوالي 130 بليون دولار على ذلك البحث، ثم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا. أما الدول العربية فقد أنفقت مجتمعةً، في السنوات الأخيرة، حوالي 535 مليون دولار فقط (الإمارات العربية المتحدة: 0.6% - الأردنّ: 0.3% - مصر: 0.2% - سوريا: 0.2%)"(5) . وإذا رجعْنا بضعة عقود قليلة إلى الوراء، نجد أن الولايات المتحدة قد أنفقت، خلال الثمانينيات، أزيد من 40 بليون دولار على البحث العلمي، على حين لم يتعدَّ الإنفاق العربي على هذا الأخير سقف المائتَيْ مليون دولار. ولم يتجاوز هذا الإنفاقُ، حسب معطيات حديثة نسبيا، أربعة دولارات للفرد سنويا، على حين وصل في اليابان – مثلاً – إلى 190 دولار، وفي ألمانيا إلى 230. وينمّ حجم الميزانية التي تخصصها الجامعات العربية لأنشطة البحث والتطوير والتجديد عن ضعفها وهزالتها؛ فهي ترصد لهذه الأنشطة ما لا يتجاوز، في أحسن الأحوال، عتبة 1% أو أكثر من ذلك بقليل، هذا في الوقت الذي تخصص جامعات الولايات المتحدة لها ما يفوق الـ 40% من ميزانيتها العامة، وقِسْ على ذلك جامعات عالمية أخرى كثيرة في بريطانيا وألمانيا وإسرائيل وغيرها. وقبل الانتقال إلى تناول نقط أخرى في هذا المقال، فلْنَقِفْ وقفة سريعة عند واقع البحث العلمي في هذا الكِيان الأخير. فقد بلغ حجم ما أنفقته إسرائيل على التعليم، سنة 1999، أزيد من 6.5% من ناتجها الإجمالي، متفوِّقةً في ذلك على الولايات المتحدة نفسها التي خصصت للتعليم، في السنة عيْنِها، حوالي 5.3% من إنفاقها. وبلغت نسبة العلماء والمهندسين والتقنيين في إسرائيل 76 لكل 10 آلاف نسمة، سنة 2000، ويُعْزى اهتمام الكيان الإسرائيلي بهذه الفئة المتنوِّرة من المجتمع إلى إيمانه بقيمة العلم والعلماء في صنع التقدم والتنمية، وضمان التفوق والهيمنة؛ ولهذا، بادر إلى توفير ما تحتاجه من بنيات بحْثيّة، وظروف عمل مواتية؛ فأنشأ سنة 1949 معهد الجيولوجيا، وسنةَ 1950 المعمل الوطني للفيزياء، وعدداً مهمّا من المعاهد والمراكز العلمية في مجالات الإلكترونيك والتقنيات الدقيقة والتكنولوجيا المتقدمة وتطوير السلاح وغيرها. وقد بلغت ميزانية معهد وايزمان للعلوم (Weizmann Institute of Science) السنوية وحْدَه 1.2 مليار دولار، في الوقت الذي لم تتجاوز ميزانيات جميع الجامعات والمعاهد العليا المنتشرة على صعيد العالم العربي كله 800 مليون دولار! وإذا كانت الدولُ العربية رُمَّتُها لم يتجاوز إنفاقها على البحث العلمي، كما قلنا، نسبة 0.5% من ناتجها القومي، فإن إسرائيل أنفقت على المجال نفسه حوالي 2.7%، مُقترِبةً بذلك من نسبة إنفاق الولايات المتحدة على هذا البحث (2.9%)، وكذا اليابان (3%)(6) .
إن لتبايُن حجم الإنفاق على أنشطة البحث العلمي والتطوير، بين العالَميْن المتقدم والمتخلف، انعكاساتٍ مباشرةً على واقع هذا البحث داخلهما، كمّا وكيفاً. فإنتاجية الباحث في الدول المتقدمة مرتفعة؛ إذ تقدَّر بمعدل 1.5 بحث للباحث في المتوسط، مقابلَ 0.2 بحث للباحث سنويا في العالم العربي (10% من المتوقَّع فقط). ونُشرت في الأعوام الأخيرة أزيد من 305 مليون ورقة بحث علمية في جميع أنحاء المعمورة – أقصد تلك المنشورة في مجلات علمية عالمية محكّمة ومصنفة يَجْري الاقتباس منها كثيراً – كان نصيب الباحثين العرب منها أقلّ من 1%، على حين استحوذ الباحثون الأمريكان على 34% من المنشور فيها. وكشفت دراسة أخرى أن مجموع البحوث العلمية التي تُجْريها جامعة هارفارد (Harvard) وَحْدَها يساوي مجموع البحوث المُجْراة على صعيد جامعات العالم العربي ومعاهده ومراكزه البحثية برمتها!
ومن الناحية الكيفية، نجد أن أبحاث علماء الدول المتقدمة ودارسيها تمتاز بكثير من الجِدّة والإبداع والأصالة، وتربط النظري بالتطبيقي والعَمَلي، وتسعى إلى تقديم إجابات، قابلة للأجْرأة والتنفيذ، لكثيرٍ من إشكالات الواقع والمقاولات وغيرها. ولهذا، نجد تلك الدول تستحوذ على 99% من براءات الاختراع عالميا، وتتحكم في 95% من التكنولوجيا العالمية المتطورة؛ مما يؤهّلها لحَصْد الجوائز الرفيعة دوليا (نوبل للعلوم تحديداً). وليس بمقدور باحِثِي الوطن العربي وعلمائه فرض الذات والتنافس في مثل هذا الجوّ العلمي بكل موضوعية وتجرُّد؛ إذ إنهم سجّلوا 24 اختراعاً فحسْبُ عام 1997؛ أي بما معدّلُه اختراع واحد لكل عشرة ملايين نسمة، على حين نلفي الكِيان الإسرائيلي قد سجّل، في السنة نفسها، 577 اختراع!(7) ويرتفع كمُّ هذه الاختراعات في دول أخرى؛ من مثل ألمانيا الاتحادية التي بلغت نفقاتها على البحث والتطوير، عام 1995، مثلا، حوالي 2.3% من ناتجها المحلي الإجمالي، ويبلغ الآن عدد المشتغِلين بهذا المجال فيها مئات الآلاف، الذين توفَّرُ لهم أمْثل شروط العمل، وشتى صنوف الدعم المادي والمعنوي. ولهذا لا نستغرب حصول العلماء الألمان على عشرات من جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء وتخصصات علمية ومعرفية أخرى عدة، على حين لم يحصلْ علماءُ العرب على أيّ جائزة نوبل في العلوم الدقيقة، اللهمّ إذا استثنينا تلك التي حازها المصريّ أحمد زويل، ذو الجنسية الأمريكية، عام 1999، في الكيمياء، ولكنْ من داخل معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية. طبعاً ينضاف إليها، في مجال الأدب، تلك التي نالها مواطنه نجيب محفوظ (ت 2006م) سنة 1988.
وفي الوقت الذي تنصبّ حوالي 99% من بحوث الطلاب والباحثين اليابانيين، على مستويي الماجستير والدكتوراه، على تناول مشكلات حقيقية تعاني منها الوَحْدات الإنتاجية والمقاولات والشركات الصناعية، نجد أن القسم الأكبر من أبحاث طلاب الجامعات العربية يتجه إلى تناول موضوعات يغلب عليها المَيْسَم النظَري، بعيداً عن ملامسة هموم المجتمع، وبَحْث حلول لأزماته ومشكلاته في الاقتصاد والاجتماع والعلوم البحتة وغيرها، ثم إن جملةً منها يفتقد إلى الجدة والإبداع؛ فتأتي، غالباً، مجترّة لاجتهادات سابقة، دون أنْ تستطيع تقديم إضافات نوعية إلى صَرْح البحث العلمي. وهو وضْعٌ تقف وراءه، بلا شك، عوامل كثيرة؛ منها ما يتعلق بشخص الباحث نفسه، ومنها ما يتجاوزه. ولا ننسى أنّ نسبة مهمة من الأبحاث الجامعية، أو التي ينجزها جامعيون، في العالم العربي، يكون الهدف منها، أساساً، هو الحصول على ترقية أو تثبيت في منصب؛ فتكون قيمتها متأثرة وخاضعة لهذا المطلب. هذا في الوقت الذي تقل الحوافز وأشكال الدعم لهم، سواء من قِبَل المؤسسات التي ينتمون إليها أو من قبل غيرها؛ ولهذا نجد، أحياناً، بعض أولئك الباحثين لا يملك في رصيده العلمي سوى ما أعَدَّهُ – مُجْبَراً – من رسائل وأبحاث جامعية، وبضع مقالات منشورة، هنا وهناك، في منابر صِحافية غير محكّمة وغير مصنفة عالميا، في أحسن الحالات!
وبالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه، ثمة صعوبات وأسباب أخرى تعيق البحث العلمي في الوطن العربي، وتجعله دونَ مستوى آمال أناسه وتطلعاتهم، وغيرَ مؤهَّل، بما فيه الكفاية، لتكوين نُخَب عالِمة مؤثّرة في الساحة العلمية العالمية حاليا، في الغالب الأعمّ. من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصْر:
- بُعْد الجامعات ومعاهد البحث عن الوحدات الإنتاجية (لا أقصد هنا البعد بمعناه الجغرافي)، وغياب التكامل بينهما.
- محدودية الخدمات المكتبية التي توفرها هذه المراكز والجامعات للطلبة والباحثين، وعدم مواكبتها لِما يستجدُّ من دراسات وأبحاث علمية؛ لضعف إمكاناتها المادية في أكثر الأحايين، وعدم توفرها على كوادر كُفْأة في مجال العمل المكتبي، وعلى فهارس وافية مُحيَّنة.
- عدم توفر قاعدة البيانات والمعلومات التي من شأنها أن توفر إحصاءً دقيقاً للبحوث المنجَزَة، سواء داخل البلد الواحد أو على صعيد الوطن العربي، ولِمَ لا على المستوى العالمي كذلك؛ وبالتالي تُجَنِّب الباحثين تناولَ موضوعات معينة، برؤى متشابهة أحياناً، وهدر الطاقات والأموال والوقت...
- نقص المراجع الأجنبية بلغاتها الأصلية، وما تطرحه ترجماتها من مشكلات. وعدم تمكن كثير من باحثينا من الكفايات اللغوية اللازمة لإنجاز رسائلهم وأطاريحهم، بما فيها اللغة التي يكتبون بها هذه البحوث.
- عدم استثمار نتائج البحوث عمليا؛ ذلك بأنها تظل حبيسة رفوف خزانات الكليات والمعاهد، وحين يمرّ عليها زمن طويل تصير تلك النتائج مُتجاوَزَة!
- ضعف التعاون والتنسيق بين الجامعات ومراكز البحث العربية، وبينها وبين مؤسسات البحث العلمي في الدول الأخرى. ومما يُؤسَف له كثيراً أنْ تجد مثل هذا التعاون والتواصل غائباً بين مختبرات الجامعة الواحدة ومراكزها البحثية، بل إنك لَتَجِدُ أحياناً باحثين من الجامعة نفسها لا يعْلمون بوجود معاهد ومخابر بحثية بعيْنِها داخلها! ومردّ ذلك، بالأساس، إلى غياب الإعلام والتواصل داخلها.
- مشكل النشر؛ لأنّ من الأبحاث ما يكون ذا قيمة علمية حقيقية، ولكنْ يحتاج إلى أن يُنشر في مجلات المؤسسة إذا كان لها انتشار واسع، وتتمتع بمقروئية كبيرة، وإلا فالواجبُ تسهيل نشْر مثل هذه المجهودات الجادّة الرصينة في مجلات عالمية معترَف بها، وتحمُّل مصاريف ذلك.
- تدني مساهمة القطاع الخاص في دعم مشاريع البحث العلمي ونشاطاته في العالم العربي؛ بحيث أشارت تقارير سابقة إلى أن ما يناهز 90% من الإنفاق العربي على هذا البحث مَصْدَرُه حُكوميّ. ففي مصر، مثلاً، يساهم الخواصّ بحوالي 10% في تمويل البحث العلمي، والجامعات بـ 30%، على حين تساهم الحكومة بـ 60%. وللإشارة، فإن مصر تحتل المرتبة الأولى عربياً من حيث عددُ حاملي البكالوريوس والماجستير والدكتوراه المشتغلين في مجال البحث والتطوير. وفي المقابل، نجد أن التمويل الحكومي لأنشطة البحث العلمي يتراوح ما بين 20% و30% في الدول المتقدمة، ويتحمّل الخواصّ والشركات العبء الأوفر من هذا الدعم المالي. فالقطاع الخاص، مثلا، في الولايات المتحدة يساهم بنسبة 70% في مقدار الإنفاق على البحث العلمي، وتتجاوز مساهمته في تمويل هذا النشاط البحثي، في اليابان، الـ 80%.
- غياب سياسة واضحة للبحث العلمي في الوطن العربي؛ الأمر الذي يفرز ظواهرَ مِنْ قبيل الارتجال والعشوائية وغياب التخطيط. ويعد هذا العامل من أبرز معيقات البحث العلمي لدينا؛ كما يؤكد كثيرون. يقول صاحبا دراسة "مشكلات البحث العلمي في العالم العربي: رؤية إسلامية" إن "المشكلة لا تكْمُن في فقر الدول العربية، ولا في ميزانيات الجامعات العربية، ولا في ضعف الميزانيات المرصودة للبحث العلمي، بل تكمن – بالدرجة الأولى – في غياب السياسات الموجِّهة للبحث العلمي الوجْهةَ الصحيحة، سواء على مستوى الدول أم على مستوى الجامعات. وهذا ما نعتبره أسَّ البلاء، والأساسَ الذي يمكن أن تنبثق منه جميع المشكلات المتعلقة بالبحث العلمي في عالمنا العربي"(8) .
ولعل هذا الكلام مقصودٌ به الدول الخليجية، التي تتوفر لها من الإمكانيات المادية والمالية ما يمكّنها من إمْداد جامعاتها بأرْصدة مهمة جدّا، بخلاف ما عليه الأمر في سائر الدول العربية. ويلحّ آخرون على أنْ لا سبيل إلى النهوض والرقيّ في هذا المجال، على الصعيد العربي، إلاّ بوضْع استراتيجية مُحْكَمَة فعّالة واضحة للبحث العلمي لدينا. إذ نقرأ – مثلاً – في كتاب "دليل البحث التربوي"، الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: "لا يمكن تحقيق أي تقدم علمي حقيقي من غير وضْع سياسة عامة للبحث العلمي، وتحديد أهدافه ومحاوره وموضوعاته. ويجب أن تكون هذه السياسة واضحة لدى القطاعات المُنتجة والخدمية، وتُبيِّن الأثر الذي يمكن أن تسهم به البحوث العلمية المحلية في إيجاد الحلول المُثلى للقضايا والمُشْكلات التي تعترض القطاعات الخاصة، بدل اعتمادها على الحلول الجاهزة والمُسْتورَدَة من الخارج. ومن هنا تأتي أهمية توفر سياسة تنظِّم البحث العلمي، وتضع أسسه، وتعمل على وضع الأولويات بما يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية"(9) .
- ضعف إعداد الباحثين وتأهيلهم لممارسة البحث العلمي، مما يجعل عدداً منهم غيرَ متحكِّمين بَعْدُ في مهارات هذا البحث وتقنياته، رغم أنهم من المُفترَض أن يكونوا قد درَسوا قَبْلاً موادّ في مناهج البحث وآلياته. ومن مظاهر ذلك الضعف: صعوبةُ اختيار موضوع البحث ومشكلته – نقص على مستوى التحكم في اللغات العالمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال – الارتباك في تطبيق المنهج أو المناهج المُختارة للدراسة – مشاكل على مستوى التعامل مع المحيط الوثائقي – ضعف فيما يخص الاقتدار على ممارسة مهارات التحليل والمقارنة والاستنتاج.
- أثر الاضطرابات السياسية سَلْباً على تطوير البحث العلمي، وتوفير بنياته وما يستلزمه من أشكال دَعْميّة. فمن المعلوم أن دولا عربية عدة عانت من تأثيرات هذا العامل؛ كما حصل في أثناء الحرب الأهلية في لبنان، والخلاف الذي نشب بين العراق والكويت، وتداعيات ما سُمي "الربيع العربي" على جملة من بلدان العالم العربي منذ ثلاث سنوات وما زالت مستمرة. على أن هذا العامل قد يكون محَفِّزاً على الاختراع والتطوير وإغناء حقول علمية بعينها، ونستحضر، هنا، ما وقع في فترة الحرب العالمية الأولى؛ حيث شجّعت ظروفها وما شهدته من تنافس وتصارع حادّ بين الدول الكبرى آنذاك على الابتكار واختراع أساليب جديدة في أكثر من ميدان، وأسهمت بقوة في تطوير صناعة الأسلحة ومُعِدّات الحروب، وكانت وراء تشييد كثير من المراكز والمُنْشَآت ذات الصلة؛ إذ أنشئ خلال تلك المرحلة المجلس القومي للبحوث في الولايات المتحدة الأمريكية (1916)، وأنشأت بريطانيا – قبل ذلك – هيأة البحث العلمي والصناعة...
وبَعْـــــدُ، فهذه لمحة عَجْلى إلى واقع البحث العلمي في الوطن العربي الذي يعاني مجموعة من الصعوبات والإكراهات، تجعله متخلفاً عن اللَّحاق برَكْب البحث العلمي في البلاد المتقدمة. وقد كان مُسْتَنَدي في تقديم هذه الصورة التشخيصية له مجموعة من البيانات والمعطيات الإحصائية، التي تعود إلى سنوات مختلفة، ومن الدراسات الكشْفية المنشورة... ولن يرتفع هذا الوضع إلا بإيلاء مجال البحث العلمي ما يستحقه، فعلا، من عناية، وتوفير ما يحتاجه من موارد وطاقات على اختلافها، وتشجيع الباحثين المشتغلين به ماديا ومعنويا، مع ضرورة إعادة النظر في المنظومة التربوية والتعليمية المتّبعة الآن في العالم العربي عموما؛ باتخاذ مبادرات إصلاحية حقيقية تفضي إلى تجاوز طرائق التدريس التقليدية، واعتماد استراتيجيات ديداكتيكية أخرى تقوم على تكريس الحوار، وتشجيع الإبداع والتميز، وتثمين التعلم الذاتي، وغيرها ممّا يَضْمَنُ لتعليمنا تحصيل مُخْرَجات ذات جودة وكفاءة وفاعلية في المحيطين الخاص والعام معاً.
هوامش
(1) دليل البحث التربوي، إصدار: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 2011، ص 9.
(2) نفســه، ص ص 16- 17.
(3) نفســه، ص 17.
(4) مصطفى عبد العظيم الطبيب: ضمان جودة البحث العلمي في الوطن العربي (دراسة تحليلية – ميدانية)، المجلة العربية لضمان جودة التعليم الجامعي، صنعاء، مج.6، ع.13، 2013، ص 101.
(5) نفســه، ص ص 104- 105، بتصرف..
(6) عماد البرغوثي ومحمود أبو سمرة: مشكلات البحث العلمي في العالم العربي، مجلة "الجامعة الإسلامية"، جامعة القدس، مج.15، ع.2، يونيه 2007، ص 1137- 1139.
(7) نفســه، ص 1140...
(8) نفســه، ص 1148.
(9) دليل البحث التربوي، ص 27.