ليس ثمة حاجة فكرية تجعل من الإحاطة بأنابيش الفقه الإسلامي شرطاً لازماً في معرض التأسيس لموقف نقدي من قرار عامل السلطة التنفيذية على القضاء، عباس الخليفة، والذي قضى بقتل السيدة السودانية مريم بعد أن أدانتها محكمته بجريمة ما يسمى بالخروج من "ملة الإسلام". إن مساهمتي هذه لا تجد في انطباق شرط الحد الشرعي أو اختلاله، وفي صحة الدليل القانوني أو اعتلاله، أمراً جوهرياً. إنها تتبنى موقفاً فكرياً يتعدى شخوص المتقاضين إلى مساءلة مبدأ تحاكمهم، ويتجاوز نقض الإثبات الإجرائي إلى نقد ذلك المفهوم السلطوي الذي يبرر للجماعة قتلها الفرد بجريرة الفكر المغاير والرأي المخالف والعقيدة البديلة. أباشر، من خلال هذه الورقة، تناولاً نقدياً ينزع عن حد الردة قداسته الزائفة، ويعالجه بوصفه جريمة سياسية ترتكبها سلطة وظفت أجهزة الدولة "الحديثة" في سبيل شرعنة انتهاكاتها المريعة لحقوق الإنسان ولحرياته الأساسية. إن المادة 126 من القانون الجنائي لعام 1991م، والتي أدينت السيدة مريم بموجبها، تخالف نص المادة 38 من دستور السودان الانتقالي لعام 2005م، وهي فوق ذلك تخالف نص المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966م. ورغم تخصصي في القانون الدولي إلا أن هذه الورقة لا تقف عند عتبة القانون ولكنها تستهدف مقاربة الخطاب الفكري الأشمل الذي يشكل القانون مظهراً لسلطته. ولهذا أحيل من يطلب منطق القانون إلى مساهمات وافية عالجت وجوه مخالفة المادة 126 لدستور السودان الإنتقالي وللقانون الدولي.(1(
هذه الورقة تدفع، إلى مشهد الحوار الفكري، بتأسيس نقدي ينفتح على ضرورتين. أولاً: ضرورة النظر التاريخي إلى حد الردة بوصفه عقوبة أمنية تم تشريعها من منطلق سياسي تجريمي إلا أن تحولات الفكر الجذرية المتصلة بمفهوم الحق الإنساني جعلت منها سلوكاً إجرامياً بإمتياز. ثانياً: ضرورة تأسيس نقد عقلاني لما يسمى بـ "حد" الردة، والنظر إليه باعتباره بطشاً بربرياً ما عاد يقره عقل حر أو وجدان سليم أو ضمير يقظ، وذلك بغض النظر عن ورود، أو عدم ورود، صفة هذا الحد وشرطه وحكمه في تقاليد الإرث الإبراهيمي على تباين ملله وانشقاقاته المذهبية. فمن شاء أن يستقوى بأحناف التاريخ حتى يستنقذ "إناث" المرتدين المعاصرين فليفعل. ومن أراد أن يطعن في ذمة عكرمة، مولى ابن عباس، معتمداً على مراجعات ابن عمر وابن جبير وابن أنس فليفعل. ومن أراد أن يستنجد بالنخعي وبالثوري ليستبدل قتل المرتد بدوام الاستتابة فليفعل. ومن أراد أن يستصرخ ابن الخطاب حتى يعاوض عقوبة القتل بعقوبة السجن فليفعل. أما أنا فأعتقد أن هؤلاء جميعاً إعتذاريون تدفع بهم إلى واجهة الصراع الفكري مصالح ايديولوجية ظلت الحداثة تهدد أهم مرتكزاتها، وهو النص المقدس. إنهم عاكفون على استنقاذ تأويلهم الخاص من سوء السمعة الذي يستثيره تأويل آخر أقل نفاقاً لمنطوق هذا النص الديني وأكثر وفاءً لتاريخه.
فهم يستفرغون جهدهم النظري من أجل رفع الشبهة العملية عن "إسلامهم" ولا تهمهم السيدة مريم إلا بقدر خدمتها لمناسبة تنزيه كليات الفقه عبر المفاضلة بين أحكامه. ولذلك فإن معركة هؤلاء هي معركة أخرى ظلت وقائعها المتعالية تجري، ويا للمفارقة، في واقع حضاري وفكري وقانوني يتخلف فيه أطراف المعركة جميعاً عن معايير إعزاز الحرية، ومفاهيم صيانة العدل، ومبادئ إحترام الحقوق، كما بلغتها البشرية عقلاً ووجداناً، بل وأرستها تشريعاً ونصاً. فإن اختار أصحاب النقول مخدوميتهم لنصوص الأولين، فإن على العقل الحر ألا يسترذل كفاءته الموضوعية في الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وذلك لأن الخطاب القانوني لهذه الحقوق والحريات هو مدار الولاية الفكرية للعقل الحر، بل ونتاج مباشر لوظائفه الأخلاقية. إن الرهان الإصلاحي على استراتيجيات الفقه الإسلامي، وبمناهجه الانتقائية المعاصرة كلها، لا يلبى مطلوبات صون الكرامة الإنسانية كما يفهمها هذا الخطاب. فلم تعد الكرامة الإنسانية هي ذلك الإمتياز الإلهي الذي تمتع به النوع البشري (بنو آدم) فتسامى به على غيره من كائنات، إنما أضحت الكرامة، في الوعي بها، حقاً نوعياً يلازم كينونة الفرد البشري، أي فرد، بوصفه عضواً في جماعة سياسية قد تستضعفه فتغمط حقه. لقد أصبح للكرامة الإنسانية، وبفضل العقل، ماهيتها الاجتماعية ومظهرها السياسي وتحققها الاقتصادي وتجسدها القانوني. وبذلك فقد انضبط معنى هدرها، وتميزت آليات حمايتها. فإن يكن لكل إصلاحي تواطؤه الايديولوجي مع ما يرغب في إصلاحه، فإن الحرية والعدل والمساواة (أقانيم الكرامة الإنسانية) سوف تبقى قيماً عقلية، لا أحكاماً دينية، وعلى العقل ألا يستقيل، في معرض الدفاع عنها، لمصلحة التحاكم لنقولات أهل الدين.
فإن كنتم - سيدتي الشابة/ سيدي الشاب- قد استشعرتم غربة معرفية حالت بينكم واستيعاب أحكام من تمت الإشارة إليهم بعاليه فلا بأس البتة. فليس تخيل أقاويل هؤلاء وتمحيصها شرطاً لصحة موقفكم الفكري والإخلاقي مما يحدث الآن/ هنا. إن بدهيات وعينا المعاصر قد أغنت عن تجربة هؤلاء وعما ترتب عليها من مواقف فقهية، حتى قد أكتفى الوجدان السليم وحده في رفض مبدأ إنزال العقوبة بالإنسان ترتيباً على فكره ورأيه وعقيدته. ولذلك ينبغي ألا تأخذ بكم تنطعات الشيوخ المدرسية إلى حيرة فكرية تنتهي بكم، غير عابئين، على هامش هذا الحدث المفصلي. فما تسلق على كاهلنا انتفاعيون، مثل مجلس علماء السودان، إلا لقبولنا التحاكم، عبر هذه الاستراتيجيات الفكرية، إلى عنعنات تحجر بها تاريخ التخلف، وهي تخدم مصالح الجماعة الغالبة. ففي واقع فكري/ نفسي يخلع على النص الديني حصانات الأباطرة يجب ألا ندع مناصاً لسلطة الفقهاء فتستدرجنا، عبر مصادراتها المعرفية وطرائقها المنهجية، إلى حلبة المقدس، حيث تكون السلطة وحدها هي الفكرة الصائبة. إن إحدى النتائج المدمرة لمثل هذا الاستسلام المنهجي هو تمكين حد الردة الباطش من الاحتفاظ بقناعه الديني الذي يخفي جوهره السياسي ومفهومه الدنيوي. فخلافاً لكل إنابيش الإبراهيميين، يظل حد الردة، في تاريخيته اليهودية والمسيحية والإسلامية، مجرد تدبير انتهاكي ضمن حزمة من التدابير التعسفية التي سنتها ومارستها الجماعة السلطانية. وبما أن الأمر كذلك، فإن استراتيجية مقاربتنا له ينبغي أن تستند على كفاءة عقلانية تستطيع الكشف عن التدليس في مفهومه الفكري، وعن البطش في وظيفته السياسية، وعن "الدنيا" في شرطه التاريخي، على أن تباشر هذه العقلانية عملها وفقاً لحيثيات واقع متعين، لا داخل فضاء نصوصي تتنازعه تأويلات الايديولوجيا الدينية.
دعونا نبدأ بطرح هذا السؤال البدهي: لماذا يقتل المسلمون من يفارق دينهم؟ هل يقع قتل المرتد استجابة لأمر إلهي لم يتم التحقق من علته الخفية لأن الله لم "يتكلم" به؟ هل تم النظر إلى قتل المرتد عن دين المسلمين بوصفه طقساً شعائرياً يتم التوسل به لمرضاة المعبود ومن غير محايثة لأية منفعة دنيوية؟ هل "حق الله" و"حق الملة" - التي يقتل المرتد باسمها - هما حقان متطابقان، في حكمهما الديني، إلى الدرجة التي يستوي فيها هدم أركان الإيمان، كما طورها الإسلام نفسه، وهدم أركان الإسلام حتى ولو وقع الأخير تأولاً ينحرف، قليلاً أو كثيراً، عن ثوابت السلطة الدينية السائدة؟ من المؤكد إن إجابة هذه الأسئلة جميعها هي النفي القاطع.
لقد أكد الخبر الإسلامي أن المسلمين، في مبتدأ أمرهم، لم يقتلوا المرتد إعمالاً لمبدأ إعتقادي مقدس ولكنهم قاتلوا المرتد بوصفه منشقاً سياسياً قد يضعف إنسلاخه السلبي أو إلتحاقه بالعدو، الفعلي أو الحكمي، شوكة الجماعة المسلمة. هذا الموقف العسكري/ الأمني، الذي إقتضته المفارقات العملية التي واجهها عقل ديني إنقسمت به ثنائيته الأخلاقية، إنما أملته ملابسات تاريخية معلومة أحاطت بفجر الإسلام في جزيرته العربية. فقد واجهت السلطة الإسلامية، في سني تأسيساتها الأولى، حالات تمرد سياسي نشطت به جماعات قبلية وعشائرية لم تجد مصلحتها في الخضوع لمركزية الإسلام السياسية. ففي خواتيم حياة النبي محمد تمرد بنو مدلج بقيادة الأسود العنسي الذي انفصل باليمن، وتمرد بنو أسد بقيادة طليحة بن خويلد قبل إستسلامه و"حسن" إسلامه اللاحق، وتمرد بنو حنيفة بقيادة مسيلمة بن حبيب الذي فاوض المسلمين على إقتسام السلطة ولم يتم تدمير حركته إلا إبان عهد إبي بكر. لقد عزت الرواية الإسلامية لهؤلاء ضرباً من المناوءة الدينية لسلطة النبوة المحمدية، وذلك من خلال إتهام مسيلمة والعنسي بإدعاء النبوة وإتهام طليحة بإنكار صفة الصلاة الإسلامية حيث قيل بأنه أمر أصحابه بالصلاة وقوفاً. لا يمكننا أن نستبعد عقلاً وقوع الإختلاق ذي الطابع الديني في معرض التشنيع الغليظ بهؤلاء الذين أعلنوا عصيانهم السياسي في وجه صاحب الرسالة نفسه. أما في عهد أبي بكر فقد تحرر الطابع السياسي للتمرد من إلتباسات الدين وإتسعت قاعدته الإجتماعية حتى أن أبا بكر كان قد قاتل سبع جماعات منشقة عن سلطته المركزية، وهم بنو عامر وبنو تميم وربيعة البحرين وأهل عمان ومهرة وحضرموت وكندة. هذه الانشقاقات السياسية على سلطة المسلمين المركزية كان دافعها الأساس هو رفض الإتاوة التي ضربها المسلمون على من خضع لسلطتهم السياسية عن طريق النصر العسكري المباشر أو بالصلح على مال.(2)
وكما هو شأن كافة وقائع الإسلام التأسيسية، فقد تم تنظير هذه الردة العامة فقهياً، بعد عزلها عن ملابساتها التاريخية المنضبطة، حتى يتسنى لأحكامها المرسلة أن تلعب دوراً مسانداً في عمليات الاصطفاف الذي لجأت إليه الفرق الإسلامية المتنافسة داخل إمبراطورية مترامية إعتلى عروشها الملوك قهراً ومنعة. عجزت تلك الأحكام الفقهية، ولأسباب تاريخية وايديولوجية، عن التمييز السياسي ما بين المجال العام والخاص، والتمييز الفلسفي ما بين الجماعة والفرد. وعلى الرغم من أن "الرأي" كان قد تسرب إلى خطابات بعض الفرق والنحل الدينية، وعلى الرغم من أن تأويلات المتصوفة كانت قد أنتجت "الفرد" المسلم على هوامش التجربة الدينية، إلا أن تحالف السياسة والفقه كان قد وجد مصلحته الدنيوية في انبهام الحدود العملية والنظرية ما بين الفكر والسياسة والدين، من جهة، وما بين الفرد والرعية والسلطان، من الجهة الأخرى. وتبعاً لذلك، تقدست المواقف السياسية المتنافسة بعد أن تم وضع الأحاديث النبوية عن انشقاق الفرق وعن مصائرها الأخروية، فاستبطنت كل فرقة مبدأ إرتداد إثنتين وسبعين فرقة غيرها.(3)
لقد إعتبر المسلمون، بمختلف مذاهبهم، الخروج على سلطة الخطاب الذي اصطنعوا به هويتهم انسلاخاً لقوة فعلية ورمزية قد يوهن التفريط فيها نسيج الكثرة المحاربة. وما أكثر الشواهد النصية التي تؤكد أن هذا الأساس الدنيوي العملي الذي يقف خلف مبدأ قتال المرتدين لم يغب عن فقهاء الإسلام ممن جوزوا قتل المرتد لا بوصفه حداً إلهياً، ولكن بوصفه تدبيراً عقابياً (تعزيرياً) يجد مشروعيته في ضرورات السياسة الشرعية، كما فهمها الفقه الحنفي على وجه التضييق. وبذلك يكون قتال المرتدين (ثم قتل المرتد لاحقاً) مما يقع داخل إطار تلك الضوابط الموضوعية والإجرائية التي يتخذها إمام المسلمين من أجل ضبط رعيته وتأمين نظام حكمه عليها. في ظل هذه الأجواء الايديولوجية تم ترحيل أحكام الردة العامة إلى أحوال الردة الخاصة، وتوسعت السلطة الباطشة في قتل الفرد بجريرة الردة حتى كتب الإمام شمس الدين الذهبي، أستاذ ابن كثير، في ترجمته المادحة للخليفة المهدي (127هـ - 169هـ) بأنه كان "قصاباً في الزنادقة، باحثاً عنهم"(4) .
ومهما يكن من أمر هؤلاء، فقد تهاوى، بكامله، ذلك السياق التاريخي الذي مكن ملل الإبراهيميين من تأمين حدود حواكيرها الإجتماعية عبر تجريم الردة وإسباغ القداسة على مبدئها حتى اكتسب نجاعة التدبير الحربي. فهذا المبدأ، بشقيه الأمنى العام والعقابي الخاص، يواجه الآن تحدياً جذرياً شاملاً يتمثل في بزوغ الدولة الوطنية وما استتبع ميلادها وسيرورتها من حقوق المواطنة. لم يعد تمرد الجماعة، سلمياً أو مسلحاً، خروجاً من ملة ولكنه بالأحرى عصيان سياسي لحكومة دولة وطنية تستمد شرعيتها من شعبها ولا تحوزها بالحق الإلهي. كما لم يعد تخلى الفرد عن دينه جريمة جنائية تستوجب الحد أو التعزير، ولكنه أصبح حقاً أصيلاً يقع على الدولة الوطنية واجب حمايته ضمن حقوق متكاملة أخرى.
لقد ورث الإسلاميون عبء التقليد القانوني المعروف باسم الشريعة الإسلامية دون استعداد ايديولوجي لاستكناه عجزه البنيوي، ناهيك عن التأهل الفكري الذي قد يستدرك قصوره في الإحاطة بالتحولات الجذرية التي طالت إنسان هذا العصر. وبغض النظر عن المزاعم النظرية التي تبناها الدكتور حسن عبد الله الترابي، والتي ذهب في بعضها إلى أن حركته السياسية قد "تجاوزت بفكرها الأطر المعروفة للتفقه والآثار المنقولة في الفقه، وتجاوزت بحركتها الحدود المألوفة للإسلام"،(5) إلا أن نواة الإسلام السياسي استبطنت، وطوال تاريخها الحركي في السودان، مبدأ تجريم المرتد. فقد ظل الإسلاميون يستثمرون فعالية هذا السلاح الديني كلما أحدقت بهم الخصومة السياسية، وحتى قبل أن يجعلوا من حد الردة قانوناً لدولة سيطروا على جهازها الفتاك إغتصاباً وعنوة. فقد هرعوا إلى نجاعته الايديولوجية، أفراداً وجماعات، وهم يخوضون حربهم السياسية المباشرة ضد الشيوعيين (بعد أن تبنوا شيوعية حكمية لتوسيع مظلة القهر)، وفي حربهم الاستراتيجية ضد الداعية الإسلامي الأستاذ محمود محمد طه حتى تمكنوا من قتله، آخر الأمر، صوناً لشرعيتهم الدينية المهددة، لكونها هي المصدر الكلي لأية مكاسب سياسية مرتقبة. إن المراجعات الفضفاضة التي أجرتها تمارين الترابي الفكرية على هوامش الفقه الإسلامي تقاصرت عن تجريد هذا المبدأ الاستعلائي عن صمديته القاتلة حتى وإن وقع، عند الترابي، تمييز حكمي بين المرتد الفكري والمرتد الحركي. فوفقاً لهذا الفرز السياسي، يظل المواطن الذي يخرج من "ملة الإسلام" غير قادر على تأمين حياته وضمان حريتها داخل دولته الوطنية إلا عبر إنسحابه الذليل إلى هامش المجال العام، ومن دون أدنى تمتع بالحقوق المدنية والسياسية كما يكفلها القانون الدولي لكافة مواطني هذا العصر، بغض النظر عن أية هويات تمييزية قد تلحق بهم.
إن "ملة الإسلام"، التي يرتكب باسمها القتل في هذا القرن، هي تلك الهوية الشبحية التي غزت واقع القرن العشرين، من هوامش النص المقدس وهزائم العقل الإسلامي المعاصر، وذلك بعد انهيار امبراطورية الإسلام التاريخية. أما السلالة الايديولوجية لهذه الهوية المتعالية فقد أخضع التاريخ أفرادها للموضوعية الزمنية التي تفرضها الدولة الوطنية، فلم يجدوا مناصاً من التعيش الطفيلي على فضاء وظائفها، ولكن دون اعتراف فلسفي وفكري بمفهوم هذه الدولة ومنطق عمرانها الاجتماعي. فقد شكلت هذه الدولة معضلة موضوعية وفكرية لخطاب الإسلام السياسي، فلم يقاربها إلا بوصفها واقعاً تعويقياً مقحماً على حياة المسلم، فتم إخضاعها لتوظيفات ايديولوجية شاملة من أجل تعبيد الصراط، عبر العنف المادي والرمزي، إلى طوبى "دار الإسلام". وفي سياق مثل هذه التوظيفات التآمرية على كيان الدولة الوطنية كتب الترابي: "لابد لسياسة الجنسية أو سياسة التابعية أو سياسة المواطنة من أن تتكيف تكييفاً فقهياً أكثر مرونة من حواجز الدولة الوطنية."(6)
مكنت هذه الايديولوجيا التوظيفية بعض الإسلاميين المحدثين(7) من الترويج لفرية المقايسة ما بين حد الردة وجريمة الخيانة العظمي؛ حتى يخرجوا بجريمة قتل المرتد من فضائها الديني إلى عقلنات العصر الحديث. وقد تلقف هذا المنطق المضطرب ممثل النظام الإسلامي في السودان في معرض دفاعه عن المادة 126 أمام اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في يوليو 1991م. من الواضح أن هذا التدليس الايديولوجي يخلط عمداً ما بين مفهوم "ملة الإسلام" التي تتعرف هويتها القانونية بعامل الدين وحده، فتتراتب الرعية داخل حدودها الرمزية ككتلة سياسية صماء يصونها مبدأ الإدلاء الذكوري وتسوسها إرادة الإمام الغائب، وبين مفهوم الدولة الوطنية التي تتحدد موضوعياً بعوامل الجغرافيا والتاريخ والثقافة والقانون، فتعمل على تنظيم وظائفها وفقاً لمبدأ التعدد الإنساني، وتقنن شرعية حكمها ومنهج إدارتها إعمالاً لقيم ومبادئ عقلية، وتسعى إلى الموازنة العدلية بين الواجب والحق الفرديين، وتخضع لبنية علاقات قانونية مرنة تسمح بحق الانسلاخ إلى غيرها. ودون استغراق في تفصيل هذه الفوارق الجوهرية فإن مفهوم الدولة الوطنية، في مخالفته القانونية والعملية لمفهوم الملة الدينية، هو محل إجماع عالمي بوصفه المصدر القانوني الذي يسبغ على الأفراد هوياتهم المنضبطة وينظم واجباتهم وحقوقهم عبر مفهوم المواطنة. وهكذا فإن حقوق السيدة مريم وواجباتها تتفرع، في واقعها القانوني، عن مفهوم الدولة الوطنية، ولا تتنزل البتة عن مفهوم ملة متعالية وصورية ليس في مقدورها أن تمنح السيدة مريم، لو أرادت، وثيقة سفر حتى وإن تعلق أمره بأداء شعيرة الحج. ولنا أن نتسائل، وليكن من باب المماحكة، عن ماهية تلك الحقوق التي تمنحها هذه الملة المزعومة لمواطني الدولة الوطنية حتى تتوقع منهم، بالمقابل، واجباً يشكل الإخلال به خطراً ينتهك أجدر حقوق الإنسان بالصون، وهو حق الحياة. هل حق المواطنة مريم، وأمثالها، هو حق أخروي آجل يقابله واجب دنيوي حال؟ أي، هل الجنة هي "حق" الشخص الآجل إذا إلتزم ذلك الشخص "واجب" البقاء داخل الملة؟ ومن يضمن لغيره مآلات الجزاء الأخروي حتى يعاوض به؟ أهم السلاطين أم رجال الدين؟ تتمثل أهمية هذا التساؤل في كفاءته المنطقية التي تفضح الطبيعة الاستغلالية لمبدأ تجريم الخروج من الملة، كما يكشف عن منطلقاته القهرية التي تلغي كينونة الفرد الإنساني وتنتهك ما إتصل بكرامته من حقوق وحريات.
إن تجريم الخروج من "ملة الإسلام" يتفرع، كما أشرنا، عن ضرورة عملية انبثقت عن واجب حربي كان المسلمون قد قدسوه باسم الجهاد. ولو حصرنا المعالجة على المستوى المباشر لهذه الضرورة، فإننا نجد أن تحولات العصر قد تجاوزت منطق هذه الضرورة وأبطلت كل ما ترتب عليها من تدابير فقهية. فقد تجاوز الوعي البشري ثقافة الغزو التوسعي، وترسخ مفهوم السيادة الوطنية، في العمل به والنظر إليه، حتى أحاطه القانون الدولي بحماية حصينة. أما الدولة الوطنية الحديثة فقد جعلت من الواجب الحربي أمراً كفائياً، وأفردت له جيشاً إحترافياً يلتحق المواطن بمؤسساته إن أراد، بغض النظر عن دينه، فيتلقى على خدمته أجرة معلومة. ويجدر بنا أن نلاحظ هنا بأنه لولا طغيان عنصريْ الغزو الإمبريالي والغنيمة الشخصية على طبيعة حروب الإسلام التاريخية، لوجد مفهوم التجنيد في الدولة الحديثة ملمحاً جنينياً له في جيش محمد الذي غزا به هوازن وثقيف فور أن منحه سقوط مكة، نتيجة لتداعيات الصراع القبلي بين بكر وخزاعة، سلطة سياسية غالبة. فقد أطلعنا الإخباريون المسلمون الأوائل على أن نبي الإسلام سأل الزعيم المكيّ صفوان بن أمية أن يوفر له مائة درع دعماً لمجهوده الحربي، فاستوضحه صفوان الذي سبق للنبي محمد أن أهدر دمه: "يا محمد، طوعاً أم كرهاً؟" فقال: "عارية مؤداة"، أي سلفة يلزمني ردها. لم ير النبي محمد، وهو يخوض حروبه السياسية التوسعية، حرجاً في إمداد محاربيه بعتاد هذا الكافر الخاضع سياسياً من أجل تحقيق نصر عسكري على كافر آخر لم يخضع سياسياً بعد، أي لم يسلم. بل إن هذا القائد العسكري الرسالي كان قد عمد إلى تجنيد ألفي مقاتل من قريش، أسماهم الواقدي "ناس من المشركين كثير"، حتى يقاتل بهم مالك بن عوف وهو يقود هوازن وثقيفاً. وقد كان لهؤلاء المشركين، في غزوة حنين، نصيب فاق أنصبة بعض المؤمنين والمسلمين والمنافقين من غنائم وأسلاب. إن هؤلاء المنتصرين، وبينهم صفوان بن أمية، كانوا جنوداً فرقت بينهم الديانة ولكن جمعت بينهم حقيقتان هما الخضوع لذات السلطة السياسية ثم المنفعة الدنيوية. وعلى هؤلاء الذين أعجزهم فهم منطق هذه التحالفات غير المقدسة، التي عقدها المسلمون الأوائل، أن يتأملوا مقالة صفوان بن أمية في معرض تفسيره لهذا التحالف: "إن رباً من قريش أحب إليّ من رب من هوازن، إن كنت مربوباً"(8).
هذه هي وقائع التاريخ الدنيوي، التي لا يريد لنا أهل الإسلام التقليدي أن نؤسس عليها حكماً عقلياً. فقد إختاروا أن يوظفوا ما يخدم مصالحهم الذاتية من تراث تلك الرواية المصطنعة التي أعادت تركيب وقائع فجر الإسلام داخل متن رسمي تحكمت في تبايناته الجزئية والكلية، إلى حد الإنشقاق المذهبي، طبيعة الصراعات الطبقية والعرقية والقومية التي خاضها المتنفذون في تاريخ الإسلام. وحتى تسبغ كل فئة على ما جرى وما قيل سلطة التأثير على واقعها الحاضر فإنها عمدت إلى التعالي بالوقائع وبروايتها معاً خارج سياق تجربتها المباشرة فأسبغت عليهما قداسة مطلقة. ولم تلبث هذه الإجراءات الدنيوية (التي عمق من أثرها السلبي سقوط الحضارة اللاحق وتفسخ عقلها) أن تسربت إلى كافة مناحي الحياة الفكرية حتى تشربتها معارف إسلامية مركزية مثل الحديث والفقه. وبذلك لم يتحقق نفي العقل عن مملكة النص وحدها، في آخر الأمر، ولكن تم طرده أيضاً من مجال وقائع التاريخ الإسلامي نفسه. وهكذا اكتملت قداسة كل شئ على يد اللاحقين حتى أصبح إنكار واقعة، تاريخية أو أسطورية، يستوجب إقامة حد الردة، مثلما هو الحال مع من ينكر، أو يتنكر، لسلطة نص ديني، أو يذهب إلى تأويله تأويلاً يفارق التقليد صاحب السلطان في وقته. داخل هذه الكهوف الدبقة قتل جعفر النميري محموداً وقال في تبرير قتله (إن استمرار هذا الدعي في دعواه سيعرض الأمة لعقاب الله إذا سكتت عن فجوره الفكري والسياسي وهي تحتكم لشرع الله)(9) . في هذا النص المتهافت لم تعد الردة الفكرية أو الحركية التي تهدد النظام السياسي الإسلامي هي محل التجريم والعقوبة ولكن المهمة المقدسة في دفع غضب الله عن الشعب هي مناط هذا الحكم البربري.
سبقت الإشارة إلى إعلان حسن الترابي عن تجاوزه الفكري للفقه التاريخي الذي قامت على أصوله السياسة الشرعية عند المسلمين. رغم هذا الزعم التضليلي إلا أن مسرحنا السياسي المعاصر لم يوظف قائداً حركياً شكل له قمع الصوت المعارض ضرورة بنيوية مثلما هو الحال لدى هذا الشيخ الذي أكد عدم استشعاره الحسرة على قتل الأستاذ محمود محمد طه.(10) لقد أفضى "التحليل" الديني، عبر أحاديته الإنكارية، بالترابي إلى استيهام موقف استراتيجي يتمثل في أن السودان "بلد ضعيف التاريخ والثقافة الإسلامية الموروثة"، ولذلك فهو لا يرشح حدوث "مقاومة شرسة لتقدم الإسلام المتجدد"(11) . وعلى النقيض من هذا التفاؤل الرغبوي، فإن تاريخ السودان المعاصر لم يشهد قائداً أعوزه خطابه الفكري إلى العنف المادي والرمزي كما حدث لهذا المثقف الإسلامي الكبير، بعد أن أسلمته طموحاته السياسية لانتهازية فكرية لا أخلاق لها. "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(12) ، هذه المقولة التسويغية التي سعت إلى تقديس بطش الأئمة ووصايتهم الأخلاقية، هي التي وجهت حراك الترابي الشواشي في بلد جعلت منه مكونات الاجتماع المتباينة بلداً عصياً على الهندسة الدينية، فلم يترك للترابي، وللمنتفعين به، غير مبدأ العنف المقدس وتدابير الايديولوجيا البروكوستية.
لقد صرح الترابي السياسي: "إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا، وإننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية"(13) . والإشارة إلى الملة الإبراهيمية، في هذا الحوار الذي سبق الإنقلاب العسكري، يراد منها الإيعاز بأن خطاب الحركة الإسلامية، في مستواه السياسي، لا يرتب وضعاً دستورياً على ذلك الصراع الدموي الذي جرى، ويجري، بين ملل الإبراهيميين الثلاث. بل إن الترابي الفقيه كان قد كتب صراحة: "إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه"(14) . فكيف يتسنى لنا، على ضوء هذه الفتيا المخالفة، تفسير تبني القانون الجنائي السوداني لعام 1991م مبدأ تجريم الخروج من "ملة الإسلام"، وقد صدر هذا القانون تحت هيمنة الترابي الفكرية والسياسية المباشرة على وظائف الدولة في السودان؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا ينبغي التماسها، بالطبع، عبر النكوص الايديولوجي إلى نقولات الفقهاء أو وثوقيات أهل العقيدة، ولكن يجب تأسيسها عبر تحليل سياقي لواقعنا التاريخي الملموس. ولو أننا طبقنا منهجاً محايثاً على مسألة تقنين حد الردة في السودان لاستخلصنا ماهيته الفعلية بوصفه أحد تدابير السياسة الباطشة التي إقتضتها أحوال دنيوية صرفة.
ما زالت أمامنا مهمة الحفر النقدي حول تشريع حد الردة في السودان، وهي مهمة تتجاوز الاكتفاء بإغراق مفهوم الردة في مستنقعات الفقه الإسلامي، كما أسلفنا القول. يجب أن نعيد، إذن، صياغة سؤالنا السابق على نحو آخر: ما هو الشرط التاريخي الذي يفسر قيام الإسلاميين بتقنين جريمة الردة رغم تعارضها مع مواقف فقهية أذاعها الترابي؟ إن النظر الفاحص لطبيعة الصراع الاجتماسياسي في السودان، إبان تلك الفترة، يؤكد بأن المادة 126 إنما مثلت تدبيراً استباقياً فرضه أمران: يتمثل أولهما، وهو ذاتي وداخلي، في استحواذ أقلية الإسلاميين على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري (لا عبر الإجراء الديمقراطي) ولم يكن بين أيديهم سوي ذلك الخطاب الايديولوجي الذي يعمل، ضمن وظائف مركزية أخرى، كأساس مقدس لشرعيتهم السياسية. هشاشة هذا الخطاب الشعاري وخلوه عن أية برامج عقلية وعملية قد تسوغ سيطرته على جهاز الدولة الوطنية جعلت من مهمة إكسابه القدرة المحايثة على حماية نفسه ذاتياً من أوجب مهام التأمين الاستراتيجية. ويأتي تقنين حد الردة على رأس ترسانات هذه الحماية الذاتية لتحصين ذلك الخطاب الذي لا يملك من الأهلية إلا دعاوى قداسته. أما ثاني الأمرين، وهو موضوعي وخارجي، فيتمثل في استشعار الإسلاميين لخطر التمدد الفكري الذي بدأت تحققه الحركة الشعبية لتحرير السودان عبر الحدود الجيوثقافية لشمال السودان، وهو فضاء سياسي تم استخلاصه عبر المخيلة السائدة كمجال إسلاموعروبي يستوعب ولا يفقد، يتمدد ولا ينكمش. لذلك فإن تشريع حد الردة هو، بإمتياز، تعبير قانوني عن إرهاب الأقلية الصفوية التي استبانت فقرها لشرعية جامعة، ولم تجد مصلحتها الدنيوية في تفسير الصراع الأهلي، حول وظائف الدولة الوطنية، استناداً على مفاهيم حداثية كان من الممكن أن تسمح لها بتجاوز الاختناقات المنطقية التي أصبحت تفرضها ثنائية إيمان/ كفر. بإختصار: إن تقنين حد الردة في السودان، والذي جرى تحت السيادة المدمرة لايديولوجيا الهوية، هو شاكلة من استثمارات المتدينين في المقدس استهدافاً لمنفعة دنيوية تمثلت في تحقيق التماسك الصوري لملة ظلت شعوبها ترزح في سبات الجهل والتخلف بينما نخبتها تحكم وتقتل وتغتني وتنكح باسم كتابها ودارها المندثرة.
في هذا السياق الكلي تمثل السيدة مريم، بحق، ضحية عرضية لمفارقات نظام سياسي لا عقل له. فعلى الرغم من شمول نص المادة 126 لحيثيات قضيتها إلا أن مقاصد المشرع الإسلامي كانت، على الأرجح، تفيض عن خصوص حالتها الفردية. ويجدر بنا الاستطراد هنا حتى نشير إلى أن تبرئة مريم، أمام الرأي العام، بناءً على الزعم بأن أفعالها لا تقع تحت طائلة المادة 126 هي تبرئة ايديولوجية تتفادى، على نحو ملتو، مطلوبات المساءلة الجذرية لمبدأ قتل المرتد. إن منطوق المادة 126 يبادل في حكمه التجريمي بين عنصر الترويج وعنصر المجاهرة. وبذلك يكفي الترويج في غياب المجاهرة، أو المجاهرة في غياب الترويج، لانطباق القانون. كما تستوى، في ذلك، المجاهرة بالقول الصريح أو بمجرد الفعل قاطع الدلالة. إن السؤال الذي يجب ألا يتحايل عليه أحد هو: وماذا لو ثبت في مجلس القضاء أن السيدة مريم كانت قد خرجت بالفعل عن "ملة الإسلام"؟ هل يتحقق، عندئذ، شرط قتلها فتقتل؟
ترجح قرائن الأحوال أن النظام الإسلامي أراد أن تكون للمادة 126 وظيفة ردعية عامة هدفها الاستراتيجي هو تنمية بيئة اجتماعية مستأنسة فكرياً وخانعة سياسياً. ولخدمة هذه الغاية فإن هذه المادة الإرهابية تجد فعاليتها القصوى حال وجودها خاملة بين نصوص قانون العقوبات وليس في معرض مواجهتها أمام المحاكم. ففي حالات اللجوء المنضبط إلى تحريكها قضائياً فإن فتكها الباطش سوف يقتصر على ضحايا مختارين. الشرط الذي يتحكم في هذه العملية السياسية الأمنية، التي توظف القضاء، هو أن يشكل نشاط هؤلاء المختارين خطراً من الدرجة الأولى، أي خطراً فكرياً وسياسياً يطعن في حاكمية الخطاب الإسلامي نفسه أو يهدد وجود النظام السياسي الذي "يتمتع" بشرعيتها الزائفة. إن تعريض السيدة مريم لمهزلة المحاكمة يمثل نتيجة إتفاقية لعوامل سياسية وقانونية وثقافية متداخلة لعب فيها الوعي العنصري الراسخ في السودان دوراً مركزياً. فلو أن مريم كانت قد بدلت دينها ولكنها لم تتزوج برجل من جنوب السودان، أو قد تخلت عن دينها ولكنها لم تلتحق بتقليد إبراهيمي منافس، لتغيرت ديناميات وضعها وتبدلت مآلاته بشكل جذري. لا تتفوق على محورية هذا العامل العنصري إلا حقيقة افتقار السودان لدولة لها من الاستقلال المؤسسي ما يتميز بها عن مجتمعها المدني، وينفصل بها عن حكوماته. لقد ظل جهاز الدولة الوطنية في السودان منكشفاً للتوظيف المؤقت أو المستدام من قبل الجماعة الإسلاموعروبية التي ظلت تحقق عبر استغلاله سياسياً وإقتصادياً وقانونياً منافع جماعية وفردية. هذه القابلية التاريخية التي أتاحت إمكانية استغلال جهاز الدولة من أجل إحراز منافع تتناقض مع مساواتية وظائف الدولة الحديثة، هي الثغرة المؤسسية التي استثمرها ذوو مريم من أجل الأخذ بثأرهم الخاص، كما إنها هي ذات الثغرة التي نفذت بها على السودان حروبه الطاحنة.
رغم جسامة الضرر المادي والمعنوي الذي أوقعته حكومة السودان بالسيدة مريم وأسرتها إلا إن الأدعى بالحراك الفكري والسياسي هو مناهضة المادة 126على أساس مبدئي وجذري. إن إعمال هذه المادة يشكل جريمة سياسية ترتكبها السلطة الحاكمة حين تتخلى عن واجبها الدستوري أمام مواطنيها، وتخل بعهدها الدولي الذي إلتزمت فيه أمام الإنسانية بصون كرامة الإنسان الخاضع لسلطتها السياسية. إن تواتر الشواهد يؤكد بأن حكومة السودان سوف تضطر، أمام ضغط المراكز الحقوقية وإكراهات الدوائر المسيحية، إلى التملص القضائي عن إقامة حد الردة على السيدة مريم - قال الإسلام بذلك أو لم يقل - ولكنها سوف تحتفظ بنص المادة 126 سلاحاً مدخراً لحربها الشاملة. ولذلك فإن تجريد النظام الإسلامي في السودان من هذه الآلة الإرهابية الكاسرة هو واجب هام ينبغي تحمل عبئه الفكري والسياسي والأخلاقي دون اعتذارات ايديولوجية للفقه السلطاني ولسدنته المعاصرين.
Sud4all@hotmail.com
هوامش:
(1) راجع على سبيل المثال: دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه: العلاقة بين العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والدستور والقانون الوطني هنا
(2) حسن خ غريب، الردة في الإسلام: قراءة تاريخية وفكرية في الأصول والاتجاهات والنتائج، 2000م
(3) تعددت صيغ الحديث المنسوب إلى النبي محمد، نأخذ من بينها (إفترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى إثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة).
(4) الذهبي، سير أعلام النبلاء (1/1256)
(5) حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان: التطور والمنهج والكسب، ص 246
(6) حسن الترابي، في الفقه السياسي: مقاربات في تأصيل الفكر السياسي الإسلامي، 2010م، ص 106
(7) يبرز بين هؤلاء، على سبيل المثال، السيد سابق في "فقه السنة" وعبد القادر عودة في "التشريع الجنائي الإسلامي"
(8) الواقدي، كتاب المغازي، الجزء الثاني، فصل غزوة حنين، ص 136 - 149
(9) نقله بروفيسور محمد سعيد القدال،"الإسلام والسياسة في السودان" عن صحيفة الأيام، 18 يناير 1985م
(10) حسن الترابي، صحيفة الوطن السودانية، 30 أبريل 1988م
(11) حسن الترابي، تجديد أصول الفقه، 1981م، ص 223
(12) نسبت الرواية الإسلامية هذه المقولة إلى عثمان بن عفان تارة، وإلى عمر بن الخطاب تارة أخرى.
(13) حسن الترابي، مجلة المجتمع، ع 736، أكتوبر 1985م
(14) حسن الترابي، صحيفة المحرر، ع 263، أغسطس 1994م