إن الذين كتبوا منا في المرأة الشرقية هم في نظر المرأة وأنصارها فريقان فريق سخر براعة لكتابة ما هبط عليه من سماء ميلها وهواها، فأمن سخطها وغنم رضاها، وفريق تنقصها ما شاء وحطها إلى أدنى منزلة فكان من المغضوب عليهم. أما الذين لزموا في ما كتبوه عنها خطة الاعتدال فهم معدودون في حكمها من الفريق الثاني، فلا يطمعون أن يفيدوها شيئاً بما يكتبونه عنها، ولا يؤملون أن يربحوا من خدمتهم الأدبية سوى الوعيد والتهديد.
فأقل ضرر أتاه الفريقان المتقدم ذكرهما أنهما أضاعا مزية الخدمة التي تحرى كتابنا المعتدلون أن يقوموا بها، وحرما المرأة الانتفاع بما قرروه عنها من الحقائق المفيدة. إذاً أملنا ضعيف جداً باستفادة المرأة الشرقية مما تخطه عنها أقلام كتابنا، ولهذا تراهم الآن منصرفين في توخي فائدتها إلى جهة أخرى وهي الكلام على ما بلغت إليه معرفتهم من صفات المرأة الغربية وأخلاقها وعوائدها، وكل ما يتعلق بنشأتها الحديثة ونهضتها الجديدة، لعل فتاتنا الشرقية ترى في ذلك ما يشوقها إلى التمثل بها. ومع استصوابي لهذه الطريقة واعترافي بأنها أفضل من الطريقة المتقدم ذكرها، وتعويلي عليها في هذه المقالة، أرى، عند زيارة التأمل والافتكار، أنها لسوء الحظ غير وافي بالمرام، ولا ضامنة للغاية المقصودة منها، وهذه الحقيقة مكدرة، كان من الواجب إغفالها والسكوت عنها، لولا أننا ابتدأنا بحمد الله نألف تقرير الحقائق المحزنة، ولعل هذه أحسن خطوة خطوناها في طريق الإصلاح.
أما وجه الريب في حصول الفائدة المطلوبة من تشويق المرأة الشرقية إلى الاقتداء بالغربية، بواسطة اطلاعها على ما نكتبه لها عنها، فهو أن المحتاجات من نسائنا إلى الإصلاح أكثرهن لا يعرفن القراءة فلا يستفدن شيئاً مما يكتب لهن في هذا الموضوع. وأما القليلات منهن اللواتي تعلمن في المدارس، ويستطعن أن يقرأن ويدركن كل ما يراد من الكلام في هذا الشأن، فجانب عظيم منهن لا يطالعن ما نكتبه لهن، إما لعدم استطاعتهن التفرغ للمطالعة، أو لأنهن يرين في مطالعة الصحف العربية حطة لشأن تمدنهن الجديد، أو لأنهن لا يجدن أنفسهن في حاجة إلى زيارة ما تعلمنه في المدرسة، أو لغير ذلك من الأسباب. وبين الباقيات من هن بالحقيقة غير محتاجات كثيراً إلى الوقوف على كل ما نكتبه لأنهن حاصلات على مقدار عظيم من الاستنارة والتهذيب ولا تمكنهن الأحوال من المزيد.
وعلى القارئ أن ينظر، بعد كل هذا الإسقاط والتجريد والاستثناء، ليرى كم يبلغ عدد النساء الشرقيات اللواتي يطالعن ما يكتبه لهن كتابنا، ولعله إذا أضاف إلى كل ما تقدم من الاعتبارات ما يجنيه رجالنا، حتى على تلك البقية القليلة من المطالعات لكتبنا ومجلاتنا وجرائدنا، لا يلبث أن يعتقد اعتقادي من جهة هذا الأمر، ويحكم معي بأن عدد القارئات المستفيدات قلما يتجاوز المئات، وقد يعجب المطالع من تعريضي بجناية رجالنا على نسائنا، لأنه لم يخطر بباله أن لرجالنا يداً في تأخر نسائنا الحالي. أما أنا فأقول له إن رجالنا هم علة تأخر المرأة الشرقية وآفة مجاراتها للمرأة الغربية في طريق التقدم والارتقاء، ولا أقصد برجالنا ذلك الفريق الكبير الكثير العدد الباقي نظير أكثر نسائنا على حال الفطرة والسذاجة، فإن هؤلاء براءً من هذا الذنب، مع اشتراكهم فيه، لأنهم لا يستطيعون أن يدركوا أهمية حصول المرأة على شيء هم أنفسهم له فاقدون. وإذا كانوا يعدون تعليم الرجل نكراً، فلا بدع إن حسبوا تعليم المرأة ضلالاً وكفراً، وقضوا بأن يسدل على نهاها حجاب أكثف من حجاب محياها.
ولكن الذنب كل الذنب على أخدان النشأة الحديثة وإخوان النهضة الجديدة، على الذين تخرجوا منا في المدارس الكبرى وأرضعوا لبان العلوم والمعارف، وجاروا الأوربيين في درس لغاتهم واقتباس شيء كثير من عاداتهم ومصطلحاتهم، على الذين جالوا منا في عواصم البلدان الغربية وأمهات مدنها أو طالعوا كثيراً مما كتب عن تمدن الإفرنج وسر ارتقائهم وتقدمهم، عليك أنت أيها القارئ، وعلي أنا، وعلى كل فرد من فريق الكتاب وجمهور القراء. نحن علة تأخر نسائنا وعلينا تبعة قصور المرأة الشرقية عن مجاراة المرأة الغربية.
لا ينكر أن فريقاً منا في مصر والشام بلغوا في سلم الارتقاء الحديث درجة رفعتهم عن كثيرين من باقي مواطنيهم، ولكن ماذا كان من أمر ارتقائهم هذا؟ هل زاد زيادة تنطبق على ناموس التقدم والارتقاء؟ هل تكاثر عدد المرتقين منا منذ نحو نصف قرن كما كان ينبغي وكما نرى الحال في تاريخ ارتقاء الأمم الغربية؟ ولماذا وقفنا في سلم الارتقاء فلم يزدد عددنا كما يجب، ولا ارتفعت درجتنا كما ينبغي، بل كدنا نكون الآن من حيث درجتنا وعددنا كما كنا منذ عشرات من السنين؟
هذه أسئلة يجيب عنها كل منا بما يحضره من الأجوبة والأسباب. أما أنا فأجيب -ولو خالفت كثيرين من الباحثين- بقولي: إن علة ذلك كوننا قد خالفنا في ارتقائنا السنة التي درج عليها غيرنا من الأمم المرتقية، لأننا نهضنا للتقدم ونحن أشبه بالمسافر بلا زاد والمحارب بلا سلاح، أي أننا أعددنا أرجلنا للعروج في سلم الارتقاء وحدنا، رجالاً بلا نساء. لم نهتم بأن نصعد معنا مثل عددنا أو مثل نصفه على الأقل من فتياتنا، بل تركناهن حيث كنا، وصعدنا وحدنا حتى بلغنا الدرجة التي نحن فيها الآن، نظرنا إلى أسفل- إلى الدرجات التي اجتزناها- فإذا هي خالية أو غير مزدحمة بأقدام غيرنا من أبناء جنسنا المقتدين بنا في الصعود والارتقاء، ورأينا عند أسفل السلم على الدرجة الأولى والثانية بعض الفتيان والفتيات واقفين، أو يحاولون الصعود، لكنهم لا يبلغون الدرجة الثالثة والرابعة إلا رأيناهم خاروا عزماً وضاقوا ذرعاً وهبطوا إلى حيث كانوا أو هووا إلى اسفل، وقليلون منهم الذين استطاعوا الوصول إلينا. وما دمنا كلنا تقريباً رجالاً، والنساء اللواتي بيننا لا يتجاوزن الأصابع عداً. والذين يأخذون أخذنا قليلون، فلا غرو أن لم يزدد عددنا ولا ارتفعت درجتنا، بل ليس عجيباً أن نقصنا بدل الزيادة وهبطنا عوضاً عن الارتفاع.
وهذا الخطأ الذي ارتكبناه في البداية لم نعترف به ونعمد إلى إصلاحه، بل أصررنا على ارتكابه إلى الآن، وبيان ذلك أننا عندما نلتفت إلى المرأة الشرقية ونراها أحط من رجلنا في سلم الارتقاء، لا نشعر بالضرر العظيم الذي أصابنا من جراء ذلك، ولا نطلعها على حقيقة الأمر بلسان الرقة ونمد لها يد التنشيط والترغيب حتى تقوى على الصعود وتبلغ الدرجة التي وقفنا عندها وتضافرنا على الصعود إلى ما بعدها. لم نفعل شيئاً من هذا كله، بل انصرف فريق منا نحو لومها على ضعفها وانحطاطها، وأغفلها فريق آخر عاداً إياها غير أهل لأن يعني بشأنها ولا فائدة من تكلف إصلاحها. ولذا لم يعد يروق له غير مسامرة النساء الأوربيات اللواتي هن من درجته في التمدن والارتقاء وأدعى فريق ثالث أن لا حاجة إلى ارتقائها ومجاراتها لنا في سبيل التمدن الحديث عاداً تهذيباً رأياً فائلاً أو سيفاً في يد أحمق. ولو جمعت أحد أصحاب هذه الأفكار ببعض السيدات لرأيت منه ما شئت من المضحكات المبكيات، فإنه إذا رأى أنهن من المتعلمات الصاعدات بعض درجات في سلم الارتقاء، حكم لهن بأنهن أرقى شأناً من الأوربيات، وحتم بوجوب تعليم النساء وذم الرجال الذين يعارضون في هذا الأمر العظيم الأهمية. وإذا حضر مجلساً آخر ضم بعض السيدات الأميات، صوب رأيهن في تجنب العلم وأضراره، وبالغ في ذم العاكفات على تحصيله وتخطئة الرجال الذي يحثون النساء على سلوك سبيله. وإذا رام ذام العاكفات خطبة فتاة غض النظر عن مبلغها من العلم والأدب وقصره على ما عندها من المال وما عليها من الجمال. وأغرب من هذا وذاك أنك إذا قرأت لإحدى نسائنا أو لأحد أنصارهن من الرجال دفاعاً عن المرأة الشرقية، رأيته كله على أسلوب واحد لا يتعدى ثلاثة أمور: الأول، هضم الرجال لحقوق المرأة، والثاني، الاستشهاد على فضل النساء واقتدارهن على مجاراة الرجال بالنساء الغربيات، والثالث، الاستشهاد باللواتي نبغن من نسائنا في العصور الخوالي. وهذا الأخير يمثل دفاعنا عن قصورنا في جميع الأمور التي نحن في أشد الاحتياج غليها في هذه الأيام. فإذا أردنا ذوداً أو دفاعاً عما نرمي به اليوم من القصور عن مجاراة أهل العالم المتمدن في اللغة والنساء وكرم الأغنياء وبسالة الرجال وعدل الحكام وغير ذلك من معدات الحضارة ومناقب الأمم المرتقية، أخذنا نطبل ونزمر بمشاهير فصحاء العرب وبلغائهم، ونوابغ نسائهم، وسخاء حاتمهم، وشجاعة عنترهم، وحلم معنهم وعدل خلفائهم، ولم نستطع لسوء الحظ أن نستشهد بأثر حي يحسن ذكره ويطيب نشره.
وعندي أن المرأة الشرقية كاللغة العربية في حاجة شديدة إلى الترقية والإصلاح. وتبعة قصور كل منهما علينا نحن الرجال. وقبلما نحاول رفع الحجاب عن وجه المرأة الشرقية علينا أن نرفعه عن هذه الحقيقة المهمة، ونعترف بأننا مقصرون في ترقية فتاة الشرق، ونكف عن ذمها وتحقيرها من جهة، وعن تملقها ومداهنتها من جهة أخرى، ونصرح لها على رؤوس الأشهاد أننا نفضل عملها وتهذيبها وأدبها وكمالها على زينتها وحلاها ومالها وجمالها. فإن فعلنا هذا فتحنا باب الارتقاء، وإلا فأمم المشرق صائرة إلى الفناء.
(المقتطف، أيار/ مايو 1902، ص434-437)